شريف أفندي
نبوخذنصر
عبد الحميد في سجن الآستانة
إكليل العار
بقضاء وقدر
شريف أفندي
نبوخذنصر
عبد الحميد في سجن الآستانة
إكليل العار
بقضاء وقدر
سجل التوبة
سجل التوبة
تأليف
أمين الريحاني
شريف أفندي
شاهدته على الرصيف وهو يقصد إلى إحدى شركات البواخر ليبتاع تذكرة للسفر إلى مصر، وكدت أنكره مع أني اجتمعت به مرارا بباريس، إلا أنه كان يلبس الطربوش هناك، وقد اعتاض الآن عنه ببرنيطة من الجوخ اللين شدها فوق حاجبيه، وأخفى ناظريه بنظارات زرقاء كبيرة حتى كاد يبدو مقنعا، ولكن عذوبة الصوت التي يمتاز بها أشراف الترك نمت عليه.
كان اجتماعنا الأخير منذ عام بباريس وقد جلسنا حول مائدة في قهوة «يدش» نتحدث عن الانقلاب العثماني، فشيدنا دولا من الخيال، وبنينا قصورا في الهواء، وكان هو يشرح نظرياته منفعلا! وقد أناط كبير آماله بالثورة، فاتخذ منها الأساس لأمة تركية جديدة، شديدة البأس، حديثة الأسباب في المدنية والعمران، لها من سالف مجدها ونشاط أبنائها اليوم ما يمكنها من استرجاع منزلتها الرفيعة بين الأمم العظيمة الراقية.
وقد أطلعني يومئذ على برقية جاءته من بعض أصحابه في الآستانة يطلبون منه العودة إليها، فغادر عاصمة الفرنسيس ميمما عاصمة بلاده، وقاعدة مجد أجداده، وقلد بعيد وصوله وظيفة عالية في الدولة، فبرهن فيها على صدق الوطنية والاعتدال، إلا أن أعماله ذهبت سدى؛ لأن جنود دول البلقان كانت يومئذ على أبواب الآستانة، وكان الخلل مستعصيا في العاصمة، بل كانت الفوضى ضاربة فيها أطنابها، فاستقال وعاد إلى بلاد الغربة وهو لا يزال يرجو الخير من نهضة الاتحاديين.
وها هو ذا في الآستانة ثانية وكأني به قد أعاد الكرة في سبيل أحلامه الوطنية فأخفق ثانية سعيه، بل قضي على آماله كلها فبات واليأس يباري في نفسه الاضطراب.
أجل، قد رد سلامي والاضطراب أظهر ما بدا في ملامحه، ولو لم يكن في خطر معجل عليه لما جاء بنفسه إلى «غلطا» وقد تنكر بالبرنيطة والنظارات وهو مصمم على السفر إلى بلاد بعيدة باسم منتحل.
ولما كان بيننا صلة ولاء عقدناها منذ عام بباريس دعوته لفنجان من القهوة في إحدى المقاهي الكثيرة على الرصيف، فأجاب قائلا: «لست بمأمن هنا، ولأعدائي آذان في كل مكان، على أني أقبل الدعوة وأنا مشتاق إليك وإلى حديثك إذا أنت تبعتني.»
قال هذا ومشى أمامي في دهليز ضيق مدلهم إلى حانوت في منعطفاته، فوقف هناك مبتسما وقال: «في هذه المكتبة صديقي الوفي الوحيد في الآستانة وسأعرفك إليه.»
دخلنا فإذا نحن في مكتبة صغيرة لرجل طاعن في السن، أبيض اللحية، أزرق العينين، ناصع الجبين، بادر إلينا مبتهلا حين شاهد مولاه الأمير عز الدين، وقد حاول أن يقبل يده فسحبها الأمير معتذرا.
هو شريف أفندي الكتبي المعروف في «غلطا» والشاعر المعروف في الآستانة، يبيع الكتب للارتزاق وينظم الشعر للتفريج. دخل بنا إلى غرفة وراء المكتبة فيها ديوان نظيف، ولها نافذة تشرف على صف من المطاعم الحقيرة التي يكثر فيها الشواء، والتي يؤمها طائفة من العمال في حي غلطا كل ظهر وكل مساء.
ومن تلك المطاعم مطعم قريب من الغرفة التي نحن فيها، فتخال نفسك فيه من روائح شواء تتنشقها، ومن أحاديث حول الموائد تسمعها. وقد لفت نظري بين جماعة هناك رجل أنيق البزة، بهي الطلعة، يستغرب وجوده في ذاك المكان، وقد كان جالسا إلى مائدة قريبة من الشباك المطل على الغرفة التي نحن فيها.
وما كان شريف أفندي بمبطئ في «التشريفات»، فما كدنا نخرج من مقدمات الحديث بعد جلوسنا على الديوان حتى أظلمت النافذة، وإذا هناك خارجها رجل أسود عمليق يحمل النارجيلة بإحدى يديه والقهوة باليد الأخرى، فتناولهما شريف أفندي من النافذة، وقدم النارجيلة للأمير ثم القهوة له ولي؛ أما القهوة فأحسن ما شربت في الشرق، وأما النارجيلة فكأنها من أحد قصور آل عثمان لا من مقهاية من مقاهي غلطا المشرشرة. وهاكم الأمر العجيب فيما يتعلق «بكيف الأتراك»، فنارجيلة العامل ونارجيلة الأمير واحدة، وقلما يتغير في القهوة غير الفنجان إن كان في غلطا أو في بيرا.
قال الأمير بعد افتتاح الحديث: هي مشيئة الله، أنا اليوم راحل وسيرحل غدا البادشاه. نعم، كلنا راحلون عاجلا أو آجلا ... تركيا الجديدة؟ تركيا الفتاة؟ هو حلم لا يقظة بعده. ولماذا؟ لأنه حلم حلمه السيف لا العقل والحكمة.
فتطرق إلى أولي الأمر في الآستانة خصوصا زعماء الاتحاديين، وشرع يفند أغلاطهم، وينتقد أعمالهم إلى أن قال: وليس فيمن فوقهم الكفاية ولا أمل إلا فيمن دونهم؛ في الشعب. نعم يا صاح، إن نوابغ الرجال في تاريخ الأمم نشئوا من الطبقة الثالثة؛ من الحضيض، نبغوا فيمن حملوا أعباء الظلم قرونا من الزمن، وسيقوم في بلادنا أناس من هذه الطبقة التي كانت مستعبدة، سينقذ الأمة نوابغ من أبنائها العامة لا من الخاصة؛ لا من الأعيان ولا من الطبقة الوسطى، أما نحن أعيان الترك فإثمنا على رءوسنا، وليس في رءوسنا القوة والحكمة لإنقاذ الأمة.
وبينما كان الأمير يتكلم كان شريف أفندي مصغيا كل الإصغاء وهو يمشط بأنامله لحيته البيضاء ويهز برأسه مؤمنا مستحسنا، إلا أنه وقد حانت منه التفاتة رأى في النافذة ما أدهشه؛ رأى أن الرجل الأنيق البزة، البهي الطلعة الذي كان يتناول الطعام إلى المائدة القريبة من غرفتنا قد مال بأذنه إلى الحديث يلتقط ما وصل منه إليه، فنهض شريف أفندي في الحال وهمس كلمة في أذن الأمير عز الدين، فتوقف عن الكلام وقام يودعني معتذرا.
خرج من المكتبة مسرعا وخرج شريف أفندي معه بعد أن سألني أن أبقى في المكتبة وقال: إنه سيعود في الحال.
أعجب لهؤلاء الشرقيين الذين لا ينسون الواجبات ولا يتنازلون عن المجاملات حتى في أشد الأوقات عسرا، وفي أقرب الساعات خطرا.
خرج شريف أفندي يشيع سيده الأمير، وعاد بعد قليل بصحبة رجل آخر جلس مكان الأمير وتناول النارجيلة، فشرع يدخن دون مقدمة ودون سلام وهو هادئ البال مطمئن، ثم نظر إلي نظر الجليس الأليف وقال يستأنف الحديث: هذا ما يقوله أعداؤنا يا أفندي، هذه هي التهم التي يتهمون بها زعماءنا كبار الاتحاديين. وطفق يدافع عن الحكومة الاتحادية وعن الجمعية، فقطع شريف أفندي الحديث عليه قائلا بصوت عال ليسمع الجاسوس في الخارج في ذلك المطعم: هي الحقيقة بعينها، وقد أصاب جواد بك، إي والله، أصاب كبد الحقيقة.
أدهشني وحيرني هذا الانقلاب في جلستنا، وما اهتديت إلى كلمة أقولها لشدة استغرابي بما رأيت وبما سمعت.
استطرد الرجل الكلام مدافعا عن الاتحاديين مطريا سياستهم وشريف أفندي يؤمن له: «إي والله، وتمام تمام» حتى ظهر في الباب ثلاثة رجال: شرطيان ورجل في ثوب مدني، دخل الرجل وبقي الشرطيان عند الباب، وكان جواد بك مستمرا في حديثه كأنه لم ير أحدا.
وعندما بادر شريف أفندي إلى استقبال الرجل وقف جواد بك ووقفت، فلم يكترث الداخل علينا، بل أجال في الغرفة الصغيرة نظره وسأل شريف أفندي قائلا: أين الأمير عز الدين؟
فقال شريف أفندي: أعرف الأمير عز الدين بالاسم، ولكني لم أره قط في حياتي.
البوليس السري: بل كان هنا منذ دقائق قليلة. - والنبي، ما كان هنا، وهؤلاء الأفاضل يشهدون على ما أقول. - عار على مثلك وهو قريب من يوم الحساب أن يقسم بالنبي كاذبا. - بل عار على مثلك أن يهين مثلي. اسمع يا أفندي، وثق بما أقول، لم يدخل الأمير عز الدين هذه المكتبة قط، وماذا عساه يريد هنا؟ ما الذي يجيء به إلى مثل هذا المكان الحقير بغلطا؟ لم أر الأمير. أقسم بالنبي ثانية وعساك أن تحترم يميني.
وفي تلك الآونة دخل الرجل الأنيق البزة البهي الطلعة الذي رآه شريف أفندي في المطعم المجاور لمكتبته وقال: أولا تعرفني أنا يا شريف أفندي؟ - ومن لا يعرف سموك يا مولاي؟ رأيتك مرة تجتاز بعربتك الجسر فسألت الله أن يعزك ويحميك وقلت في نفسي: هو ذا زين الأمراء، أما الآن فماذا عساني أقول وقد رأيتك في هذا المطعم تتناول الطعام مع الرعاع؟ فقد طار قلبي جزعا ... وقد تكون سمعت جواد بك يقص على الأفندي قصة أعداء الاتحاديين ويدحض حججهم مدافعا عن الحزب وعن الحكومة، ولا ريب أنك وقد سمعت ذلك تشهد أمام هذا الرجل ...
فقطع الأمير الحديث عليه قائلا: ظننت أني سمعت صوت أخي لا صوت سواه .
وخرج كما دخل دون أن يسلم على أحد، فتبعه البوليس السري والشرطيان.
فتنفست الصعداء وحمدت الله، وخرج جواد بك كما دخل هادئ البال مطمئنا دون أن يقول كلمة واحدة في الدور الذي مثله ذلك التمثيل المحكم، أما شريف أفندي فجلس على الديوان يمشط لحيته بأنامله، ويبتسم ابتسامة السخرية والازدراء، ثم قال كأنه يخاطب نفسه: الأخ على أخيه، والابن على أبيه، هذي هي ثمارك أيتها الحكومة الاتحادية، وهذا هو خيرك أيها الدستور!
ثم نظر إلي فقال بلهجة العطف والاعتذار: وكيف أخلص مولاي الأمير؟ ألا يجوز الكذب يا أفندي في مثل هذه الحال؟ إني أفدي مولاي وأعز الناس إلي بدمي، فكيف لا أخلصه بلساني وبحيلة لا تضر أحدا؟! أما الآن فعلي بخلاص نفسي، سيعود هؤلاء الذئاب، سيعودون ولا شك ليفترسوني، سيفتشون مكتبي، سيحجزون أوراقي.
قال هذا وبادر إلى خزانة فيها أوراق عزيزة جدا لديه، كيف لا وفي تلك الصفحات نبضات قلبه، ولآلئ دموعه، وأنين حبه، وصيحات إخلاصه لوطنه وزماجر نقمته؟! هي قصائده تناولها بيديه ومسح بها عينيه، ثم قبلها قبلة الوداع وأشعلها بعود من الكبريت قائلا: كما تلتهمك النار الآن لتلتهم نار الجحيم أعداء أمتي أجمعين.
نبوخذنصر
حكي أن نبوخذنصر ملك بابل كان ذات يوم يتمشى في جنينة القصر وعدوه الأكبر ذلك الذي يدعى في لغات الناس الغضب، فالغضب ونبوخذنصر وحدهما وطئا تلك الليلة ثرى البستان. مثل لنفسك الملك العابس في بستانه الضاحك وقل لي فيما إذا كان مشهد الأضداد لا يثير الشجون. هاك نبوخذنصر بين السنط والنخيل ساكنا متبسلا، بل قلقا مضطربا يحسب نفحات الورد نارا ونسمات الليل إعصارا. إن كل شيء في السماء ساكن باهر جميل، وإن كل شيء على الأرض - في قلب الملك - مظلم مضطرب.
والسبب في ذلك قصة - سأقصها عليك - حدثت في بابل قبل الميلاد بنحو سبعمائة سنة.
خرج نبوخذنصر ذات يوم إلى الصيد، فركب كعادته قاربا فخما على شاطئ نهر الفرات تصحبه حاشيته وكلابه، وبعد قليل بينما كان القارب يمخر مياه ذلك النهر المجيد قديما، الحقير اليوم ، رأى الملك أسدا مضطجعا على الشاطئ بين القصب، فأمر الصيادين بأن يرسلوا عليه الكلاب، فأفلتت من سلاسلها فسبحت إلى البر إلى عرين الأسد. وكانت وقعة بين هذه الكلاب وملك الغاب، ثم رأى الملك الفريسة تجر في النهر إلى القارب الملكي، جرتها الكلاب المنتصرة وقد تركت وراءها أثرا من الدم، وإذا أجيزت لنا المبالغة نقول: استحالت المياه دما من جروح الأسد المأسور، وإذا أذن الشعراء نقول: قد تكون من دم الأسد بين الأمواج الزرقاء بحيرات من الياقوت المذاب.
كل هذا جميل، وكل هذا يسر الملك في غير هذا اليوم، أما اليوم فلا شيء في العالم يبدد غيمة الغضب التي تعلو جبينه، لا شيء في العالم يعيد إلى صدره الراحة والسكينة.
إن شيئا صغيرا أغضب نبوخذنصر، وقلما تغضب الكبائر الملوك، أما إذا غضب نبوخذنصر فليغضب لغضبه الوزراء وتضطرب الأمة ... اللهم عونك، اللهم سترك، أزل اللهم هواجس مليكنا وهمومه، واصرف عنا وعنه شر عواقبها. تشاور الوزراء وابتهلت الأمة.
أما نبوخذنصر فلما عاد ذاك اليوم من الصيد دخل غرفته الخصوصية هو وعدوه الغضوب، ورمى بنفسه على مضطجع فخم مفروش بالطنافس الهندية، والجلود المرقطة، وحشايا الريش والحرير.
وبعد هنيهة جاء الخدم بالطعام، فحاولوا فتح شهوته بلذيذ الألوان وأنواعها وقد وضعت في أطباق من الفضة على مائدة كبيرة من الرخام.
وها قد جاءوا بالتين والعنب والليمون وبضروب من الحلوى، يعقبهم الساقي بمسك الختام؛ بخمر أرمني معتق لا ند له في غير قصر الملك.
جلس نبوخذنصر إلى المائدة والنفس منه في هواجس تضيع عندها الشهوة للطعام، نظر إلى المائدة نظرة الاشمئزاز، ثم رمق الخمر بنظرة العطف والولاء، فأكل قليلا وشرب كثيرا ثم انطرح على ديوان النشوة تحت ستار الرقاد.
فهل يا ترى ينقذه النوم من براثن الهواجس والغضب؟ هلا تشمله وهو نائم تلك السكينة التي تشمل أحقر النيام من العباد؟
خذ الجواب من الخدم والعبيد، اسمعهم وهم يتكلمون: لا راحة له في اليقظة ولا في المنام، هو ذا في عالم الأحلام يجهش ويئن، إنها لأحلام مخيفة، تراه يئن منها ويصيح، تراه يرغي ويزبد كأنه على العرش.
نعم، إن نبوخذنصر لفي عالم الأحلام، وما حلمه ظاهرا بأمر خطير، هو يحلم بشاب فلاح ذبح الفتاة التي أحبها، ذبحها لينقذها من ثالث غير كريم؛ هو يحلم ببالادان الذي ذبح معشوقته زبيبة لينقذها من الملك نبوخذنصر الذي أمر بأن تكون من نساء القصر، وبعث بخصيانه ليجيئوا بها إليه.
ولما أفاق نبوخذنصر من رقاده كانت الشمس قد مالت إلى المغيب، وأذيالها تفيض على الأفق نورا ذهبيا يوشي الضباب اللازوردي، ويحيط بالاثنين هنا وهناك خطوط حمراء من النار، فنهض من مضجعه وصعد على أجنحة هواجسه إلى شرفة عالية يطل منها على المدينة؛ على بابل العظيمة وما فيها من القصور الشاهقة، والمعابد الفخمة، والجنائن المعلقة، ومن التماثيل والجسور والأبراج.
أطل نبوخذنصر على بابل - على بابله - وهتف قائلا: ومن يتجاسر أن يغيظ سيدك الأكبر؟
ثم طوق الشرفة بنظرة من نظراته الملتهبة، فشاهد هناك الورد والياسمين والفل والمنثور نامية زاهرة في أفخر الآنية وأجملها، فتنشق من روائحها المنعشة، ولكنه لم ينتعش، ثم نظر إلى السماء فتجلى له البدر من وراء غيمة فضية الحواشي، فأنار الأرض وما فيها، وما أنار وجه الملك!
وكان بالقرب من هذه الشرفة قاعة كبيرة معدة للرقص والطرب تجيء الغيد بإشارة من الملك فيرقصن فيها رافلات بأثواب مهلهلة، ويضربن على الأعواد والطنابير فيحولن القصر إلى جنة لم يحلم بها غير نبي واحد من الأنبياء.
ولكن قلب الملك ذي الليلة في عالم لا يعرف النور والسرور، ولا محل فيه لبابل ولقيان بابل ولجنائن وعرصات بابل، لا محل فيه للقمر ولا مكان فيه لزهرة من الياسمين.
هاكه في شرفته يحترق من غيظه كأنه يقول متسائلا: «متى ينتهي العالم الذي وجدت فيه مكدرا؟»
وقف يتأمل قباب الهياكل القائمة على أكتاف الثيران، ثم الخنادق والخلجان التي يبدو ماؤها كالفضة في ضوء القمر. وما الفائدة وما الخير في عمل لا ينسيه ما هو فيه؟ خيال يمر أمام عينيه فيود لو كانت حقيقته بين يديه، وما رآها غير مرة فجاشت وما زالت تجيش في صدره الشهوات.
جدف نبوخذنصر وأقسم بأرباب آشور كلها. - أتموت هذه الفتاة هربا من شرف يغشيها؟ أيقتلها حبيبها لأني اشتهيتها؟ ونمرود العظيم!
طرق إذ ذاك أذنه وقع أقدام قريبة. ومن يتجاسر أن يقرب من الملك في هذه الساعة غير رئيس الوزراء؟
هو الوزير الأكبر جاء يكلم مولاه في أمر عرفت أهميته من اهتمام الملك له، ولكن بعد أن تكلم الوزير ازداد نبوخذنصر غضبا فقطب حاجبيه، ولمع البرق في ناظريه، وصرخ قائلا: أيحتقرني هذا العبد الخسيس؟ أيتجاسر أن يغار على الفتاة التي أحبها قلبي؟ ألا تعلم، أيها الوزير، بأن هذا الشقي أراد أن يفهمني بأن استحساني جمال زبيبة هو عار عليها؟ فكيف إذن تطلب مني أن آمر بقتله؟ أف عليك يا تفلاط. في الأمس ارتجفت يد أحد الخصيان وهو يضع على رأسي التاج، فلو أمرت بقتله لكان في ذلك شيء من العدل، أما هذا الانتقام الذي ينتهي سريعا بالموت فأي عدل فيه؟ أتريد أن أريح العبد من حياته المؤلمة؟ إنك يا تفلاط لشفوق رحيم!
كان تفلاط عالما بأن بالادان في السجن ينتظر الموت، وكان عالما بما لغضب نبوخذنصر من مثل هذه العواقب، فعجب أن الشاب الفلاح لا يزال حيا، ولكنه بعد أن سمع كلام الملك أدرك السبب؛ فزال العجب. - أنت يا تفلاط داهية في السياسة، ولكنك راسخ أيضا في علمي العقاقير والسموم، فهات إذن طريقة جديدة ننتقم بها من هذا الشقي. - طريقة جديدة؟ - نعم يا تفلاط، أنت تعرف أنواع سموم الهند والحبشة ومادى وغيرها من البلدان، وأنا أريدها لغرض الآن، فإن موت هذا الشاب موتا بسيطا لا يعجبني، لا يعجبني قطعا، هو لا يخشى الموت؛ فقد كان شجاعا جسورا في قتل معشوقته، وهو يظهر الآن شجاعة تذكر في احتماله لوعة الفراق الأبدي، فماذا يهمه بعد ذلك الموت؟ لا أسألك أن تعذبه عذابا جسديا، فهو ولا شك يحتمل أشد العذابات، ناهيك بأن العذاب الجسدي لا يقضي به إلا على المجرم الأثيم، وبالادان هذا هو أكبر من الأثيم المجرم ؛ فقد جدف على آلهة آشور في تمرده على مولاه ومليكه، إذن يجب أن يكون بين الذنب والقصاص نسبة في الهول والفظاعة.
فخضع الوزير قائلا: أمرك يا مولاي، سأباشر العمل إن شاءت الآلهة.
وفي اليوم التالي حل بالادان من قيوده، وجيء به إلى مجلس الملك، فدهش الشاب لوجوده في حضرة نبوخذنصر ملك بابل وآشور؛ لوجوده حرا. كيف لا وقد جاء ليسمع الحكم بالموت، فسمع بدله الأمر بالحياة، سمع نبوخذنصر يخاطبه قائلا: أنت حر يا بالادان.
فبأي دهشة تلقى بالادان هاتين الكلمتين؟! إنه ليصعب علينا الحكم فيما إذا كان حزنه على معشوقته أعظم من دهشته هذه، وفيما إذا كان الذنب الذي اقترفه أعظم من حزنه!
وبعد أن قال الملك لبالادان: أنت حر، وهبه قصرا يسكن فيه، وأعطاه من الملابس أفخرها، ومنحه لقبا عاليا، ثم جعله من المقربين. - إني يا بالادان أكبر الشجاعة وأجل الإخلاص، وقد أظهرت في حبك لزبيبة منتهى الفضيلتين، فاخدم مولاك بما أحببت معشوقتك.
ثم قال: ستتناول الطعام معي هذا المساء، وستجلس إلى يميني، وسيقدم لك وزيري تفلاط الخمر بيده؛ وذلك مني جزاء وفائك ومروءتك.
ومع أن هذا التعطف الملكي الكبير أثار في قلوب الوزراء البغض لبالادان والحسد منه، فقد تكهنوا في غرض الملك الخفي، وقالوا بين بعضهم: «سيسمه ولا شك، وقد تفاوض وتفلاط في هذا الأمر ... نعم، نعم سيكون لغضب مليكنا نهاية مخيفة مرعبة؛ لننظر ولنصبر.»
وكان الوزراء من الصابرين، ولكنهم سقط في أيديهم، فلا تمت النبوءة ولا تحققت الآمال.
جلس بالادان تلك الليلة إلى المائدة الملكية فأكل وشرب وقام سالما، بل هناك ما هو أعجب من ذلك، فقد قررت الإنعامات عليه فأصبح في اليسير من الأيام نديم نبوخذنصر ورفيقه المحبوب. قلت: إن هذا الشاب كان فلاحا حقيرا، وقد كان كذلك يتيما فقيرا، فتبناه أحد علماء آشور ولقنه مبادئ العلوم، وهذبه في الفضائل المدنية، فصار في مقدمة أولئك الذين يتذوقون الآداب ويتأنقون في أسباب العيش.
وكان الملك بعد أن يعود من الصيد يجلس كعادته على المضجع المفروش بالطنافس الهندية وجلود الأنمار، ويطلب إلى بالادان أن يقرأ على مسمعه أشعار الأولين، فقرأ عليه ذات يوم قصيدة لشاعر آشوري يمدح فيها الملك أزوبار، الصياد العظيم، الذي فقد في آخر أيامه صديقه الحميم هياني، وفيها يصف الشاعر شدة تأثر الملك ويقول: إنه كان يصلي إلى الآلهة، ويبتهل ويضرع على الدوام من أجل صديقه، فاستجابت الآلهة طلبته، وأجارت نفس الحكيم من النار.
وبينما هو يقرأ ذات يوم على عادته ونبوخذنصر يسمع مصغيا، ضعف صوته ثم انقطع دفعة واحدة، فنظر إلى الملك نظرة العظيم الحائر وقد اصفر وجهه وذهب النور من ناظريه. فسأله الملك قائلا: «لماذا لا تكمل القراءة؟» فأجاب بالادان مرتجفا لا متكلما، وقد حاول التكلم ثانية فكان صوته يصل إلى حنجرته ويموت هناك.
دعا الملك إذ ذاك وزيره تفلاط فحضر في الحال، وتبادل الاثنان نظرة فيها علم وفيها ارتياح، ثم قال الملك لبالادان: إنه محزون جدا لما أصيب به، وإنه سيبحث عما فيه الشفاء.
وكان الخدم يروحون لبالادان وهو مضطجع على الحشايا الدمقسية وبينها، فسأل أحدهم أن يجيئه بأدوات الكتابة، فأخذ القلم وكتب على الورق: لا تحزن أيها الملك العظيم على الحقيرين مثلي؛ أنا لا أخشى الموت ولا أخشى الحياة، قد قتلت خطيبتي خوفا من ظلمك، وقد كنت أيها الملك العظيم جميلا في حلمك فغفرت ذنبي، فلا تحزن إذن علي، بل عجل بالموت إذا كنت حقا ممن يرحمون.
وبعد هنيهة عادت إلى بالادان قواه فنهض عن المضجع مستبشرا، وطفق يتمشى في القاعة، أما الملك فبعد أن قرأ مبتسما ما كتبه بالادان خاطب الوزير قائلا: لقد أحسنت؛ فإن الشاب لا يخشى الموت ولا يخشى الحياة، فاقتل فيه الحواس، هذا الذي يسرني؛ لنروعه إذا كان لا يروعه الموت. وماذا يجيء بعد الخرس؟ العمى؟ ... - العمى يا مولاي، إن شاءت الآلهة. - الآلهة يا تفلاط؟ وما دخل الآلهة في تركيباتك الكيماوية الخفية؟ - إن للآلهة يا مولاي العلم والقوة كل القوة.
هز الملك رأسه مرتابا فيما قاله الوزير، ولكنه بعد أن أطرق قال: «إنك مصيب يا تفلاط، ومتى يجيء العمى؟» - غدا أو بعد غد بإذن الآلهة. - سأترقب قدومه، ومتى أمسى الشاب أبكم أعمى أعلمه بقصاصي وأعيده إلى السجن ليقضي هناك بقية أيامه؛ ليعش هذا الخسيس في ظلمات السجن وظلمات الحياة، ليعش هنالك طويلا فيتأمل ويتألم، كذلك يكون قصاص من يهينون بمثل إهانته سيد بابل وآشور.
خضع الوزير بين يدي الملك فلم ير ما غشى وجهه من أمارات الخوف والارتياب. وفي صباح اليوم التالي قبل أن ورد الفجر الآفاق كان نبوخذنصر يتمشى في رواق القصر، فجاءه أحد العبيد يقول: «أيها الملك العظيم، قد أصيب بالادان بالعمى.» - وأي متى كان ذلك؟ - قبل انبثاق الفجر يا مولاي غشاه العمى بغتة كما تغشى زوبعة الرمل عابر الصحراء! - عوفيت يا تفلاط عوفيت!
قال ذلك ومشى توا إلى منزل بالادان، فرآه جالسا على كرسي محني الرأس، مشحوب اللون، والعبيد واقفون حوله وبين يديه، فأمرهم الملك أن ينقلوه إلى المضجع وينصرفوا، فامتثلوا الأمر، فتقدم إذ ذاك إلى الشاب الضرير الأبكم وكلمه قائلا: اعلم يا بالادان أني لم أعف عنك قط، قلت لي: إنك لا تخشى الموت، وأما الآن وقد سلبت النور والكلام، أفلا تخشى الحياة؟ هذا هو قصاصي وعدلي، بل هذا هو حلمي، وستبقى حيا في ظلمات السجن إلى ما شاءت الآلهة. إن نبوخذنصر لا يعارض بما سيكون بعد اليوم من أمرك.
بعد أن فاه بهذه الكلمات، وبدت على وجهه أمارات الفوز، وقف هنيهة ليرى ما يكون من تأثيرها في الشاب، وقف ينظر إلى الوجه الذي وجه إليه كلامه؛ فإذا هو هادئ ساكن جامد لا يغشاه شيء من الغم، ولا يحركه شيء من الجزع! فخطر للملك إذ ذاك أن يناديه باسمه، فراح نداؤه سدى، ناداه ثانيا وثالثا فكأنه ينادي شخصا من الرخام، فدنا الملك منه وجثا عند رأسه وصرخ في أذنه كمن يصرخ في واد مناديا رفيقا تاه فيه، فما حرك بالادان شفتيه بكلمة أو بإشارة.
نبوخذنصر سيد بابل وآشور يخر راكعا أمام هذا العبد المجرم ليسمعه كلمات فيها وحدها القصاص الأكبر، نبوخذنصر ينادي بالادان وقد جثا أمامه ليسمعه الصوت الذي همسه في أذن الآلهة، وليريه القلب الذي حجبته أفانين الانتقام. أوترتاب بقوة الآلهة أيها الملك العظيم؟ إن الآلهة - على ما يظهر - أعظم منك وأطغى، وإن لهم على ما يظهر يدا عاملة قاهرة في سموم تفلاط الغربية.
أجل، أيها الملك العظيم، إن بالادان الآن أرفع منك لأنه تجرد عن الحواس التي تقيد النفس وتعذبها، إنه بعيد عن صدى صوتك، بعيد عن هول غضبك، بعيد عن ظلمات سجنك، بعيد حتى عن اليد التي ترتجف حول معصمه، الطمه بدل أن تجس النبض منه، كلمه بيدك أو بسيفك، وهو مع ذلك لا يجاوب، لا يتنازل أن يجاوب سيد بابل وآشور، هو سعيد لأنه لا يراك ولا يسمع صوتك ولا يستطيع أن يخاطبك!
بعد أن جس الملك نبض بالادان وتأكد أنه حي تعاظمت حيرته، وتفاقم وجده، فبعث يطلب وزيره الأكبر، فجاء تفلاط متأبطا ظنونه ومخاوفه وكأنه أدرك ما قد يكون لسمومه من أوابد التأثير، وما قد يجيء في تركيباته الخفية من النكبات غير المقصودة.
وقف تفلاط أمام نبوخذنصر مشتت الفكر، مضطرب البال، وعندما دنا من بالادان كلمه متجاهلا حقيقة الأمر الذي كان يتوقعه ويخشاه، ثم خاطب الملك قائلا: أيها الملك العظيم قد عصتني سمومي، وقد يكون للآلهة يد في ذلك العصيان، فتغيرت نتائج تركيباتي الخفية، أو أنها تجاوزت الحد الذي كنت أرمي إليه. أي مولاي، إن السموم التي أعطيتها هذا الشاب لتقتل فيه حاسة النظر سرت في العروق المجاورة وقتلت فيه كذلك حاسة السمع، سرت بالرغم عن علمي الواسع في ماهية ما أعطيت، وبالرغم عن الاحتياطات التي اتخذتها، وبالرغم عن العقاقير المضادة، وأخشى أن تكون سرت في عروقه كلها فتميته موتا متدرجا هادئا دون أن يشعر بشيء يذكر من العذاب.
صعق الملك، وبعد هنيهة خاطب الوزير قائلا: هل سمعتك تقول: إن بالادان سيموت موتا هادئا خاليا من العذاب؟ أهذا الذي طلبته منك؟ أهذه هي مقدرتك في مزج السموك وتركيبها؟ أهذا هو علمك في أنواعها وخاصياتها؟ يموت هذا العبد الصعلوك دون أن يشعر بشيء من الألم ويموت معه في نفس الساعة عدلي وانتقامي؟ من ذا الذي يعارض مشيئة نبوخذنصر؟ من ذا الذي حرك يدك حينما كنت تمزج سمومك الغريبة؟ من ذا الذي مزج معها خمرة الموت الهادئ؟ من ذا الذي يتجاسر ... من هو؟ من هو؟ ... تموت زبيبة لتنجو من غرامي، ويموت بالادان فينجو من انتقامي، وأنا نبوخذنصر الملك أتحرق في غضبي، وأشتعل في هيامي؟! لا والآلهة، فإما أنك خائن، وإما أنك جاهل، وفي كلتا الحالتين إنك لأثيم. - بحلمك أيها الملك العظيم، لك أن تقول ما شئت عن ضعف وزيرك وجهله، أما الخيانة - آه يا مولاي! - أتظن أن عبدك يدنس بالخيانة حياته؟ أيشوب بالخيانة شيبه؟ أيبيع ماضيه الباهر الطاهر لفلاح حقير مجرم؟ إني أعترف أمامك وأمام الآلهة بجهلي. نعم، إن جهلي أكثر جدا من علمي، وإن في الطبيعة أسرارا لا يدركها غير الآلهة. كان يخامرني في الماضي شيء من الريب بجهلي، وأما الآن فلا أرتاب إلا بعلمي. نعم، إن للآلهة وحدها كل القوة، وكل المجد، وكل العلم، ويظهر يا مولاي أن نواميس الكون لا تخدم مشيئة الملوك، فها إني أحاول خدمة هواك فترتجف فوق السموم يدي، فهل أنا الملوم؟ إذا أغمضت الآلهة جفن الفيلسوف وأغلقت دونه أسرار نواميسها، أفيعد الفيلسوف مجرما، وهل يقاص على ما يظن ويفترض توصلا إلى غرضه الذي هو غرض مليكه؟ خفف عنك يا مولاي، ووطد بالآلهة إيمانك، فلعل خلاصي وخلاصك في موت هذا المسكين على هذه الحال. - كفى، كفى. إليك عني أيها الخبيث! إليك عني واعلم أني آذن لك بخمسة أيام لتخرج من بابل؛ فإذا لم تخرج قبل انبثاق الفجر في اليوم السادس تظل أسيرا فيها بقية حياتك. - لا بأس بذلك يا مولاي، فالآلهة تدخل حتى قلوب الملوك في بعض الأحايين، فتسكن الغضب فيها، وتنير ظلمات الانتقام بأنوار الندامة، بيد أنه إذا طلبتني بعد أن تشعل الأنوار، أيها الملك العظيم، فلا تجدني.
قال هذا وخرج مسرعا، أما نبوخذنصر فظل يمشي في القاعة مطرقا، ثم وقف فجأة متنبها كأنه أوحي إليه بشيء يسر، وقد رأى بالادان يحرك رأسه ويشير بيده، فخطر له أن يكلمه بالإشارة، ونسي أنه ضرير، ثم دنا من المضجع ليحدق النظر بفريسته، فإذا بالضياء قد استحال ظلاما.
رفع الملك يده إلى عينيه لظنه أن الغشاء عليهما لا على ما حوله، وأن هناك غشاء ولكنه تحت الجفون فلا تصل إليه يد بشرية. ادلهم المكان فهم الملك بالخروج، فأحس أن في رجليه أصفادا من الحديد، ولا أصفاد هناك غير الخوف والذعر، فهل تسربت إليه سموم تفلاط؟ هل سرت في عروقه السموم التي قتلت في بالادان الحواس؟ إن الآلهة لأعلم بذلك، ونحن لا نعلم إلا أن نبوخذنصر هو الآن من أشد الناس غما وبلاء، وأن بالادان من السعداء المحبورين.
والدهر في الناس قلب. أجل، وقد دارت على الباغي الدوائر؛ كان في نفس نبوخذنصر من الغم والغضب أضعاف ما كان فيها ليلة كان يتمشى في البستان ساعة علم بما اقترفه بالادان.
وفي فجر اليوم التالي، بينما الطيور تسبح في الأفنان بحمد ربة النور والحياة، وبينما ربة النور والحياة ترسل على الأرض فيضا من بركاتها السماوية، كان نبوخذنصر واقفا في شرفة القصر يتأمل الأحداث المفجعة التي حدثت في الأسبوع الغابر، وكان تفلاط خارجا من بابل وهو آسف عليها وعلى مليكها، وكان بالادان قد أسلم الروح وعلى شفتيه الذابلتين الرضى والحبور.
ومما يجب علينا تسجيله من حقائق هذه القصة: أن وجه بالادان كان يزداد بهاء وجلاء بعد أن ماتت فيه الحواس الثلاث، كأن القوة في تلك الحواس تتحول ولا تموت، فتجري في البواطن مجراها، فتزيد بقوة ذاك الحس الخفي السري الذي لا يذكره علماء الفيزيولوجيا في كتبهم، والذي بواسطته نرى ما لا تراه العين المجردة، ونسمع ما لا تسمعه الأذن.
وكأن بالادان بعد أن تجرد بعض التجرد من المادة صار يرى معشوقته زبيبة رؤية البصر، ويسمع وهي في عالم الأرواح صوت حبها ووفائها؛ أوليس الحبور الذي يغير وجهه نتيجة ظاهرة لتلك الكلمات الذهبية التي كانت تقع من شفتي نفس بعيدة على أذن هذه النفس الواقفة في باب قفصها المادي وهي على وشك الخروج منه؟ ليس من ريب إذن أن بالادان مات سعيدا، وليس من ريب أنه في الأقل نجا من انتقام نبوخذنصر. إن أطباء القصر وعبيده يشهدون على ذلك، وهم يشهدون أيضا أنه مات وعلى شفتيه بسمة الرضى والحبور. أما القصد من التأكيد في تسجيل هذه الحقيقة فسيظهر فيما بعد.
نعم، قد مات بالادان، وقد خرج من هذا العالم مثلما خرج تفلاط من بابل، كلاهما آسف عليها وعلى مليكها العظيم. وقد جيء بالخبر؛ خبر خروج الاثنين إلى الملك وهو في شرفة القصر، فاقتبله ساكتا هادئ البال، وظل كل ذاك اليوم وقد خلا بنفسه مثلما كان في الصباح، فلم يأمر حتى بدفن بالادان، ولم يقابل رئيس الكهنة الذي جاء يخاطبه بشأن تفلاط، ولم يأذن لأحد من وزرائه بالمثول بين يديه. ولنا أن نقول: إذا كان بالادان قد نجا من انتقام نبوخذنصر، وتفلاط من غضبه، وزبيبة من شهواته، فالنفس في نبوخذنصر لم تنج من الغم والهواجس والأوهام.
إنك تعلم، أيها القارئ، بأن نبوخذنصر لا يزال أسير الغم والغضب، ولكنك لا تعلم بأنه أمسى كذلك فريسة للأوهام والأباطيل، فلا تظنه محزونا مضطربا لأنه نادم على طرد وزيره الأكبر من بابل، أو لأن ذاك الشاب الفلاح مات موتا سعيدا. لا، لا، فقد أمست جميع هذه الأمور عنده في خبر كان.
إنما الذي يقلق نبوخذنصر الآن ويشغل أفكاره ويعذبها هو شيء صغير يتعلق به وبالآلهة؛ أوليس هو القائل أن لا قوة فوق قوته؟ فلا ملوك الأرض ولا آلهة السماء تقوى على نبوخذنصر!
أما إذا قال هذا القول الآن، فالسموم تكذبه، ويكذبه كذلك الموت، فكيف تتدخل الآلهة في شئونه وتعترض مشيئته الملكية؟ كيف يغمضون جفن وزيره ويرجعون فوق البوتقة يديه؟ وما هي قوة الآلهة؟ وبأية طريقة يتدخلون في شئون الدنيا؟ ... هي الأفكار التي شغلت قلبه وذهنه كل ذاك اليوم فسلبته شهوة الأكل ولذة الرقاد.
وظل كذلك إلى أن أشعل الليل مصابيحه في السماء، فدخل إذ ذاك مخدعه ورمى بنفسه على السرير، ثم أمر الخدم بإطفاء الأنوار والانصراف. وما كانت الظلمة لتعين نبوخذنصر على الأرق، فظل يتقلب على فراش الهواجس حتى الهجعة الرابعة من الليل.
وفي تلك الساعة تراءى له طيف إلى جانب الحائط، فنهض من سريره منذهلا مذعورا ونادى العبيد، فجاءوا مسرعين، فأمرهم بإشعال الأنوار فأشعلوها، ثم أمرهم بإطفائها فأطفئت.
وانصرف العبيد، وعاد الملك إلى سريره يغالب السهاد، إلا أنه سمع وهو على وشك النوم وقع أقدام في مخدعه، ففتح عينيه وإذا بالطيف الذي تراءى له قرب الحائط قد صار في وسط القاعة، فنهض ثانية ونادى العبيد، فجاء هؤلاء مسرعين وبأيديهم المصابيح المشعلة، أما الطيف فكان قد اختفى قبل دخولهم، ثم عاد بعد أن خرجوا من القاعة، فوقف إلى جانب السرير الملكي.
فغر الملك المسكين فاه صارخا، ثم جلس مرتعبا وقد قبض بيديه على الوسادة والغطاء وجمع ما تبقى فيه من الرشد والشجاعة ليحدق في الطيف نظره.
هل في زمانك، أيها القارئ، نظرت إلى وجه ميت وقد كفن بضوء القمر؟ إذن ما رأيت قط شيئا مرعبا، وخير لك ألا ترى وجه نبوخذنصر حينما وقع نظره على نظر الطيف الواقف أمامه. وإننا من أجلك نضرب صفحا عن مثل هذه التفاصيل، ولا نقول سوى أن الملك حرك شفتيه فنطق الرعب فيه يخاطب الطيف أمامه. - ألست بالادان؟ - أنا هو. - ولكنك حي. - حي بالروح أيها الملك. - أولم تمت صباح البارحة؟ - مات الجسد الذي حاولت أن تسومه صنوف العذاب، أما الروح التي تخاطبك فما مسها شيء من سمومك. - والقصد من مجيئك الآن؟ - جئتك يا نبوخذنصر من عالم الأموات، بل عالم الأرواح، أحمل إليك نبأ من أسلافك ملوك بابل وآشور. فاعلم، أصلحت وعوفيت، أني بعد خروجي صباح أمس من هذا العالم مررت بواد عميق مخيف مظلم يجري فيه نهر أسود من الزفت الذائب، وعلى شواطئه عمد كبيرة من الحديد الذي ذهبته النيران، وجادات من الجمر المتأجج وقد تصاعد منه اللهيب والدخان، وفي تلك الجادات رأيت أناسا كثيرين يمشون ذهابا وإيابا، عراة يمشون مطأطئين الرءوس محنين الظهور، وعلى أكتافهم أحمال غريبة الأشكال، وفي أيديهم سلاسل من حديد تقطر من اللحم الذي يذوب عليها، ومن هؤلاء أناس يمشون في عزلة عن سائر الناس كأنهم كانوا في العالم من الأعيان والكهان والملوك، وقد رسا في وجوههم من آثار المجد والعز ما يذهل الغريب ويروعه، ناهيك بأن الأصفاد في أيديهم وأرجلهم أثقل من سواها، والأحمال على ظهورهم من الفولاذ الملتهب، فيذوب اللحم تحتها ولا تنفد أدهانه.
خنقني الغم إذ وقفت أمامهم، وقد خاطبني أحدهم سائلا: من أين أتيت؟ وإلى أين أنت سائر؟ فأجبته: إني عابر طريق، وإني من بابل، فصرخ إذ ذاك صرخة هائلة وطفق يبكي كالطفل الفطيم، ثم خاطبني بصوت كصوت الصغير فقال: أنت من بابل؟ بابل مدينتي، بابل مملكتي، بابل سبب هلاكي وبلائي! قال ذلك وهو يجهش، ثم طفق يبكي فأبكاني، وكدت مما ملكني من الحزن ومن الاحترام لما هو فيه، كدت أقول: عليك السلام. ولكن الأرواح تخجل مما تكون قد ألفته في العالم، تخجل من كل شيء سوى الحب، ثم خاطبني آخر فقال: اعلم أنك أمام ملوك بابل ونينوى، ومعنا كثيرون من الصيارفة والكهان، وبما أن الذين يتعذبون في هذا الوادي لا يؤذن لهم بالعود إلى العالم، فأسألك أنت، أيها الغريب، أن تعود إلى بابل، وتخبر نبوخذنصر بما رأيت وما سمعت؛ هي ذي حياتنا في وادي النار واللهيب، انظر كيف يذوب اللحم تحت الحديد المشتعل ولا يفنى، وكيف يملأ الدخان العيون فتحرقها الدموع الغالية، واعلم أنه محتوم على كل منا أن يقضي ليله جالسا على عمود من هذه العمد الحامية، وفي الصباح يقذف بنا زبانية النار إلى نهر الزفت، ثم نخرج من النهر ونمشي في هذه الجادة الملتهبة نجر أوزارنا، وبعد ذلك يصعد كل منا إلى عموده. أما ساعات الليل، أيها الغريب، فهي أمر ساعات الجحيم، نقضيها في السهاد والعذاب، فتتساقط من عيوننا الدموع الغالية، ومن شفاهنا اللعنات والأنين. آه ثم أواه! وقد قيل لنا: إننا بعد مضي ألف سنة في وادي النار نخرج مكبلين بالسلاسل مثقلين بالأحمال؛ لنسوح في العالم ليلا، ونعود في النهار إلى وادي النار. فعد، أيها الغريب، إلى بابل وقل لنبوخذنصر: إن رئيس الكهنة قد رثى لحالك، وأحب أن ينقذك من العذاب الذي هو فيه، فاغتنم الفرصة قبل فواتها، اغتنمها قبل أن تأتيك حشرجة الموت. هذا الذي رأيت وسمعت، هذا هو الخبر الذي أحمله، فاذكره يا نبوخذنصر واذكرني. الوداع ثم الوداع.
عندما انتهى الطيف من كلامه غاب عن نظر الملك، فصاح يناديه: قف، قف يا بالادان. وعبثا كان ينادي، فقد لباه بدل بالادان العبيد، فطردهم من الغرفة، وقد وثب من سريره كالمجنون وطفق يتمشى ذهابا وإيابا وهو يناجي نفسه: أملوك بابل وآشور في نار الجحيم، ورئيس الكهان، أخي، أخي في النار؟! كذب المخبر، كذب بالادان؛ إنه لوهم وخرافة، الميت لا يعود إلى العالم، والملوك لا تهلك. لا، لا، كله كذب واختلاق ... الملوك لا تهلك ...
فجاء صوت من الخارج يقطع عليه كلامه ويقول: اذكر ما قلته لك واذكرني. - هو صوته، هو لا يزال قريبا مني، هو يذكرني وينذرني، ينذر نبوخذنصر، ماذا تقول يا رجل؟ أين أنت الآن؟ وهل أنت الملك؛ ملك بابل وآشور؟ أهذه يدك؟ أفي هذا الصدر قلبك؟ أفي هذا الرأس عقلك؟ أهذا هو الجبين الذي تنيره كواكب السماء؟ أوأنت الآن في قصرك؟ وأين صولجانك، وأين تاجك، وأين حسامك؟ إذن لم لا تتحرك؟ من يتجاسر أن يدخل عليك في الليل؟ أنت نائم أم أنت في حلم؟ استيقظ يا نبوخذنصر استيقظ ... حسامك، استرجع بحسامك شتات مجدك.
تناول السيف وهم بالخروج فخانته خطاه، فاصطدم بالحائط. - آه ثم أواه، أيضمحل مجدي أمام خيال زائل؟ أتنهد قواي من كلمة سمعتها؟ أيسكتني بالادان وهو ميت بعد أن احتقرني وهو حي، ثم ينذرني بالهلاك؟ الهلاك لنبوخذنصر والموت السعيد والسعادة الخالدة للصعاليك؟ لا والآلهة! الملوك لا تهلك. أين بالادان؟ أين أنت أيها الخيال اللعين؟
وكأنه رأى الخيال عائدا فهجم وقد استل سيفه عليه، ولكنه وقف جامدا كالخشبة عندما سمع الصوت ثانية يقول: اذكر كلامي واذكرني. - لا حاجة إلى القول: إن نبوخذنصر لم ينم تلك الليلة، وفي صباح اليوم التالي خرج من القصر مبكرا وظل يمشي حتى وصل إلى شاطئ الفرات خارج المدينة، فجلس في ظلال مقصبته هناك يستريح، فرثى النوم لحاله وحل في جفنه ضيفا كريما.
قد شاهدته، أيها القارئ، وهو في سكرة الغضب، فانظر إليه الآن؛ إن نبوخذنصر في البستان هو الغضب المجسم، هو الشر المستطير، هو الظلم في أفظع مظاهره، ونبوخذنصر النائم الآن على شاطئ النهر هو الحب في طفولته، هو الخير في فجره، هو الرحمة في مظهر جديد، هو الصلاح في أطمار الفقراء، هو الندامة في مسوح المتنسكين.
وهو الآن على شاطئ الفرات يحلم حلما جميلا، فهل يمحو بعمل واحد آثامه ومظالمه كلها؟
ولكنه لا يزال في بحر من الهواجس مضطرب الأمواج، فتراه واللون في وجهه يتحول أصفر أحمر فينم على ما هو فيه من الاضطرابات؛ هو مركب تتقاذفه الرياح، بل هو ذبابة في عنكبوت رتيلاء الحيرة، أتقتله الرتيلاء أم يخرج من عنكبوتها فائزا الفوز المبين؟
زمجر الأسد في عرينه فاستفاق نبوخذنصر، وكانت الشمس قد تكبدت السماء، وتحولت أشعتها العمودية على وجه النهر حجارة كريمة تشع كالألماس، واشتد في اشتداد الحر صرير الجنادب.
ما عدا ذلك فالسكون كان عميقا، وقد استقر في كل شيء كأنه الفصل الأول من فصول الحياة، أو كأنه يعد للطبيعة المقيل، ففرش لها أغصان الدلب الذهبية، وأغصان الحور الفضية، وحشايا القصب اللازوردية، وسكن لها حتى النسيم الذي كان يلاعب الأسل على الشاطئ والكلأ في الحقول.
وكان الملك لا يزال تعبا، فجلس يتأمل ما كان عليه في الصيف الماضي من الكدر والغم، ولكن غمه في الصيف الماضي كان قصير الأجل، ولم يكن سيئ العاقبة، فأولئك الذين أثاروا غضبه أخرجوا سريعا من مسرح الوجود، وما كان ليسكن غضب نبوخذنصر إلا مثل هذا الانتقام العاجل. وأما الآن فبالادان على ما يظهر من المحبورين، وتفلاط من المغبوطين؛ لأنه بعيد عنه، والآلهة على العروش خالدون، وملوك بابل مع رؤساء الكهنة في النار، ونبوخذنصر. آه ثم أواه!
استفاق وهو يتأوه، ونهض وهو يلطم جبينه بيده، ثم سار مسرعا مستبشرا وعاد إلى القصر، فجمع أمامه الوزراء والموظفين والعبيد ورؤساء الكهان وخاطبهم قائلا: اعلموا أن للآلهة القوة كل القوة، والعظمة كل العظمة، والعلم كل العلم، وما ملوك بابل وكهانها غير خدم للآلهة، وإني آمر الآن بأن تطلقوا سراح المسجونين في مملكتي كلها، وتطلقوا كذلك سراح الحريم في القصر، وترسلوا إلى وزيري الأكبر تفلاط أن يرجع بأمر مليكه إلى منصبه، وتدفنوا بالادان بكل احترام في المعبد الملكي، وليكن زمام الملك بيدك أيها الوزير إلى أن يعود تفلاط، هذه هي أوامري، هذه هي مشيئتي.
ثم أم المعبد فدخل إلى مخدع رئيس الكهنة فيه، وأقام هناك حتى المساء، فعاد إذ ذاك إلى القصر، وكان قد أمر أحد العبيد بأن يجيئه بقميص من الخيش، فخلع أثوابه الدمقسية والأرجوانية، واستشعر القميص الخشن. لبس نبوخذنصر المسح وصار من النساك الزاهدين المتعبدين.
وظل على هذه الحال يأكل قليلا ويصلي كثيرا، فنحل جسمه، وخارت قواه، واحتل منه مقر الفكر والنهى، وبينما كان عائدا ذات يوم من المعبد أغمي عليه أمام القصر وتحت الشرفة التي كان يطل منها على بابل، فنقله العبيد إلى داخل القصر، وبادر إليه الأطباء، ولكن الطبيب الأكبر سبقهم جميعا فشفى نبوخذنصر من أمراض الحياة كلها ... ودفنوه عملا بمشيئته الملكية في المعبد الملكي إلى جانب بالادان.
عبد الحميد في سجن الآستانة
المشهد الأول
يرفع الستار عن جماعة من السجناء وبينهم خورشيد وسليمان وفهيم، بعضهم يلعب بالورق والآخرون يتحدثون ويضحكون، وهنا أحدهم مستلق على ظهره، وهناك آخر جالس وحده يتأمل يديه، وفي مؤخر المسرح حيدر باشا يتمشى والهموم تثقل جبينه، ثم يجلس في الزاوية معتزلا. (يدخل محمود.)
محمود :
أعلمتم أيها الإخوان أن الاتحاديين خلعوا السلطان؟
خورشيد :
عبد الحميد خان؟
محمود :
نعم خان!
سليمان :
ولماذا خلعوه؟
محمود :
يا غليظ، أما سمعتني أقول: إنه خان؟ خان الأمة، خان الدين، خان الوطن.
خورشيد :
حسنا يفعلون، ولكننا نحن المجرمين لا نخلعه؛ فهو سلطاننا إلى الأبد.
محمود :
أي نعم، سلطان المجرمين.
الكل :
إي والله هو سلطان المجرمين.
خورشيد :
وأين هو الآن؟
محمود :
قيل إنه نقل إلى قصر في سالونيك.
خورشيد :
ولم لم ينقلوه إلى قصرنا هنا؟
محمود :
وهل يقيم السلطان ورعيته في بيت واحد؟
خورشيد :
ولكن في قصرنا هذا الفخم غرفا كثيرة.
سليمان :
وما ضره لو أقام معنا وعاش مثلنا وأكل من أكلنا؟ أللسلطان معدتان يا ترى؟
محمود :
يا لك من أرعن جاهل! ألا تعلم أن من يقتل البشر بالمئات تعد له الأمة القصور الفخمة، تهابه وتكرمه، ومن يقتل الناس بالألوف تمجده وتنصب له التماثيل؟ فمن أنت بالنسبة إلى هؤلاء السفاكين الكبار والفاتحين العظام ليخطر في بالك الإقامة معهم؟ كم مخلوقا قتلت في حياتك؟
سليمان :
واحدا فقط.
محمود :
اسكت إذن؛ فإنك لا تستحق أكثر من ست أقدام مربعة في هذا السجن، وكسرة من الخبز في قليل من الماء الفاتر المالح كل يوم.
سليمان :
آه! أين الإنصاف أيها الناس؟ وإنني أحلف أمامكم وأمام الله أنني أكلت أصابعي ندامة على الإثم الذي اقترفته.
محمود :
وماذا ينفعك أكل أصابعك؟ كل سلاسلك يا سليمان لعلك تتخلص منها ومن السجن.
خورشيد :
وهل عبد الحميد الآن في السجن بسالونيك؟
محمود :
هو في قصر هناك كقصر يلدز تسميه الأمة سجنا؟
فهيم :
لعنة الله على هذه الأمة! ما النفع إذن من خلع السلطان؟
محمود :
لا تصرف غيظك سدى يا فهيم، إن في خلع عبد الحميد منافع جمة لنا وللأمة؛ فغدا يعفو السلطان الجديد عن المجرمين.
فهيم :
ليحبسوا عبد الحميد معنا، وليحبسوا عنا عفوهم؛ هذا عندي عين العدل والإنصاف.
محمود :
أما إذا عفي عنا فنحن اليوم أفهم مما كنا بالأمس، قد تعلمنا أمثولة جديدة (يحدث في السجن جلبة وغوغاء) ، اسمعوا - إذا كنتم تحبون أن تنتفعوا من خلع عبد الحميد - عندي نصيحة أقدمها لكم مجانا؛ فإن اتبعتموها ...
سليمان :
ما هي؟
الكل :
ما هي؟ قل ما هي؟
محمود :
غدا يصدر السلطان الجديدة عفوه الشامل؛ فنصير نحن أحرارا كبقية الأحرار في الدولة، ونسير توا إلى سالونيك ... (قهقهة وضجيج)
ألا تريدون أن تسمعوا ؟
سليمان :
أنا لا أذهب إلى سالونيك.
محمود :
لك أن تذهب حيث تشاء بعد أن تصير حرا، لعنة الله على كل جبان. اسمعوا أيها الإخوان: إذا عدتم بعد أن تصيروا أحرارا إلى حرفتكم الشريفة؛ فأحسنوا القتل، القتل! وإلا فلا! افتكوا ولا تصغوا إلى ما يسميه الأتقياء صوت الضمير، اقتلوا ولا تعيروا أذنكم إلى ما يدعوه الشعراء المغرورون صوت أطفال القلوب، كونوا من الفاتكين، من الشجعان، ولا تندموا في الصباح على ما ترهق خناجركم من الدم في الليل. لكم متى صرتم أحرارا أحد أمرين: فإما أن تهتدوا وتصلحوا حالكم؛ فتصيروا مؤذنين وقارئين ومعلمي أولاد، وإما أن تضربوا في الأرض وتفتكوا في الناس؛ فتصيروا من كبار السفاكين المشهورين المحترمين؛ إذ ذاك تهابكم الأمة، وتكرمكم الحكومة، وإذا سقط نجمكم في نهاية أمركم، وانتصرت الإنسانية عليكم أو العبودية، فتسجنكم الأمة في القصور الفخمة لا في الأكواخ المنتنة المظلمة، وتصرف عليكم من الأموال في الشهر ما يكفي الواحد منا طول حياته!
سليمان :
وهل يصرفون هذه الأموال على عبد الحميد الآن؟
محمود :
وهل يكتفون بها؟ ألا تحسب أجرة القصر، وأجرة الحرس، وأجرة الخدم والخصيان؟
خورشيد :
ولم الخصيان؟
محمود :
لأن الحكومة المحترمة الرقيقة القلب ما أحبت أن تحرمه حريمه؛ فأذنت له باثنتي عشرة امرأة يقمن معه في القصر.
خورشيد :
ما أعدل هذه الحكومة، وما أرحمها! مسكين خورشيد! ومسكينة امرأته!
محمود :
وقد أذنت هذه الحكومة بأن يصحبه كذلك نجله الصغير فلا ينقصه شيء من دواعي التعزية والسلوان. (عند هذا يقف حيدر باشا وقد لاح على وجهه الاضطراب.)
حيدر :
هو وحريمه وابنه يقيمون اليوم في قصر ألاتيني محفوفين بالخدم والخصيان، متوسدين الريش والحرير، آكلين من مال الأمة التي امتصوا دماءها، واستعبدوا أبناءها! وهل هذا يا ترى ما يدعوه الناس اليوم مساواة؟ هل هذا هو العدل يسقوننا منه بالجرة ويسقون غيرنا منه بالملعقة؟! أيجوز أن يكون في الحكومة ميزانان للعدل: ميزان للمجرمين الكبار، وميزان للصغار؟
الكل :
لا والله لا!
سليمان :
ولكن حكومتنا اليوم حكومة دستورية، فلماذا تعامل عبد الحميد هذه المعاملة ؟
محمود :
لأن حكومتك الدستورية تخاف أن تقتله، بل تخاف أن تحاكمه.
فهيم :
وهل تخاف الحكومة من رجل واحد؟
محمود :
نعم، متى كان هذا الرجل سلطانا بفضل الخرافات والأوهام كعبد الحميد.
سليمان :
وما الفرق بين السلطان المجرم وبيني مثلا؟
محمود :
قلت لك أيها الأرعن الغليظ: إن الفرق بينك وبين مولاك هو كالفرق بين من يذكر الله ويذبح كل يوم، ومن يقترف مرة إثما صغيرا ويأكل أصابعه ندامة كالجبان.
سليمان :
والله إذا خرجت من السجن غدا لأقتلن في يوم واحد مائة من الباشاوات كي لا يقال عني: إنني مجرم صغير.
فهيم :
لا تكلف نفسك كل هذا، فإذا كنت حقا شجاعا فدونك الباشا الذي معنا؛ فهو من الذين كانوا يذكرون الله ويذبحون.
الكل :
اقتلوه ... (عند هذا تعلو ضجة السجناء، فتطفأ الأنوار على المسرح، ويرفرف فيه طائر جميل أبيض كالثلج له جناحان يشعان كنور الشمس حين شروقها، فيرف هذا الطائر فوق رأس حيدر باشا، ويستقر عليه، فينير وجهه، ويضرم النار في حاجبيه، فيسقط إذ ذاك عن الباشا ثوب السجين، ويبدو للعيان في هالة من النور كمشير من مشيري الدولة وقد لبس ثوبه العسكري واستل حسامه.)
حيدر :
اتبعوني، وإن شئتم بعد ذلك فاقتلوني. (يخطو خطوة نحو الباب، فيسقط حائط السجن أمامه كما لو كان من نسيج العنكبوت وقد نفخت فيه الرياح، ثم يخرج ويخرج السجناء معه.)
المشهد الثاني
غرفة في قصر ألاتيني بسالونيك منيرة بالشموع. عبد الحميد جالس على الديوان ونجله الصغير إلى جانبه ونعمت بين يديه.
نعمت :
ما لي أراك مضطربا يا مولاي؟ خفف من روعك واصرف عنك الهواجس والأوهام.
بدر الدين :
أين هو الخيال يا أبت؟ وفي أي شكل بدا لك؟ هل هو كبير، طويل، أسود اللون كالمارد في القصة التي قصتها علي نجم العيون؟
نعمت :
لا تذكر الآن هذه الأشياء، ألا تراه مضطربا قانطا حتى الموت ... مولاي، أتأمر بالانصراف، أتريد أن تكون وحدك؟
عبد الحميد :
لا، لا، لا.
نعمت :
إذن، تعطف على عبدتك بابتسامة، وارفع عن عينيك غشاوة الوهم؛ إنك الآن أحسن من ذي قبل، فقد ارتحت في الأقل من هموم السلطنة التي كانت تؤرقك، وتسقيك مر العذاب.
عبد الحميد :
ولكنني أخاف أن يقتلوني.
نعمت :
كيف يكون ذلك وقد قرروا ألا يحاكموك؟
عبد الحميد :
أخشى الغدر، أخاف أن يق ... يا الله! (يدخل حيدر باشا في شكل خيال وقد تنكر برداء أسود، فتأخذ الأنوار في الانطفاء رويدا، ويعم المسرح الظلام ساعة ينتهي حيدر من كلامه.)
عبد الحميد :
ما بالك تتبعني؟ ماذا تريد؟ ومن أنت؟ تكلم، تكلم!
نعمت :
ماذا جرى يا مولاي؟ من هذا الذي تكلمه؟ إلى متى تظل أسير هذه الأوهام؟
عبد الحميد :
ألا ترين؟ هناك، هناك. انظر يا ابني، هذا هو الخيال اللعين.
بدر الدين :
أين يا والدي؟ أين هو؟ أحب أن أراه، أنا لا أخشاه يا والدي.
عبد الحميد :
هو ذا، هو ذا يدنو منا. ماذا تريد؟ ماذا تريد مني؟
حيدر :
كلمة، يا عبد الحميد.
عبد الحميد :
تكلم، تكلم.
حيدر :
هي لعبد الحميد لا لسواه ... (يشير إلى نعمت وبدر الدين.)
عبد الحميد :
حسن، تكلم. (حيدر يشير ثانية إلى نعمت والولد، فيأمرهما عبد الحميد بالانصراف.)
عبد الحميد :
اذهب معها يا بني.
بدر الدين :
ولكنني أحب أن أرى هذا الخيال الذي يشغل بالك، ويقلق راحتك، أحب أن أراه، أنا لا أخشى الخيال، لا والله لا أخشاه. آه، أين سيفي الآن؟!
عبد الحميد :
اذهب، اذهب مع نعمت يا بني ... تكلم الآن، ولا تدن مني.
حيدر :
لا تخف، إنما أصغ لكلامي وأجب عليه. كان لأحد الشيوخ الكبار في إحدى القبائل الهمجية نهمة غريبة في سرقة الأطفال وذبحها، وكان له أعوان وجواسيس يعملون بإشاراته، ويحترمون غريب شهواته، ولما استفحل أمره ولم يبق في القبيلة رضيع قامت الرجال والنساء على هذه الزمرة اللعينة، وألقت القبض على الشيخ، وعلى كل رجاله وجواسيسه، فقتلت منهم صغارهم ونفت كبارهم وسجنت أقاربهم وأنصارهم. أما الشيخ، فإجلالا لمقامه وعملا بأمر كهان القبيلة أقاموه حاكما عليهم بعد أن ندم أمام الكاهن والناس على آثامه كلها، ووعدهم ألا يقترف مثلها في المستقبل، فأثارت هذه المعاملة خواطر السجناء الأبرياء، وقاموا يطالبون بدمه باسم أطفال الإنسانية، وما انفكوا حتى فازوا فأراحوا القبيلة من شيخها السفاح الجبان ومن شركائه الكهان. فما قولك يا عبد الحميد في مثل هذا العمل؟ أعدل يعد أم لا؟
عبد الحميد :
وما معنى قولك هذا؟
حيدر :
إذا أبت الأمة قتل شيخها السفاح ...
عبد الحميد :
وهل تريد قتلي؟
حيدر :
أنا أحد عبيدك المخلصين يا مولاي، أنا أحد وزرائك الذين خدموك ليل نهار، ودفعوا عنك مرارا دسائس الأشرار، أنا الذي شربت من دم الأبرياء من أجلك، أنا الذي أكلت فلس الأرملة احتراما لأهوائك، أنا الذي نهب العباد ليرضي سيد العباد. أواه! أنا الذي أعمى الله البصر منه والبصيرة فجعلني من أصفياء عبد الحميد، أنا أحد تلك الآلات الصماء بيد الجبار الجزار. نعم، كنت آلة في الأمس وسأصير عليك غدا نكالا، أنا الآن آكل خبز الذل والهوان مع المجرمين، وأنت سيدي، ولي أمري، مالك عنقي، تتنعم اليوم في ألاتيني، كما كنت تتنعم أمس في يلدز؛ ذلك لأن الجهل لا يزال سائدا في الأمة، والظلم لا يزال مؤيدا في الحكومة؛ ذلك لأن الشرع يقدس شخصك، ويرذل من أجلك أمة بأسرها؛ ذلك لأن التقاليد الخبيثة الفاسدة تعزز مقامك، وتذل شأن الوطن والحكومة؛ ذلك لأن التعصب الديني والجنسي لا يزال قابضا على الصولجان في ديوان العدل والإنصاف؛ ذلك لأن ... (عبد الحميد يستوي واقفا ويهم بالخروج) ... مكانك يا عبد الحميد! أود والله لو تجسدت فيك هذه الشرائع، وهذه التقاليد، وهذه العادات، وهذه الأنظمة والقوانين كلها فأشد على عنقك بيدي وأريح العالم منك ومنها معا. (عبد الحميد يحاول الخروج فيرى الباب مقفلا)
عبثا تحاول ذلك، فإذا كانت الحكومة تخاف أن تحاكم عبد الحميد - إذا كانت الأمة تخاف أن تقتل عبد الحميد - فلست أنا الآن من هذه الأمة ولا من تلك الحكومة، أنا خارج الشرع يا عبد الحميد، أنا تحت القوانين والأنظمة، بل أنا الآن فوقها، أنا فوقها؛ لأنني مجرم سلاحي الحق، أنا رجل أثيم حقير يا مولاي جئت الآن أغمس سيفي في دم سلطان المجرمين.
عبد الحميد :
إلي! إلي! خنقوني، قتلوني.
حيدر :
ادخلوا، ادخلوا! تعالوا أيها المجرمون الصغار، واغمسوا أيديكم في دم هذا المجرم الكبير. (يدخل السجناء كالأشباح في قمصان سوداء، فتعلوا الضجة صراخ عبد الحميد، وتنطفئ أنوار المسرح، فتتوارى إذ ذاك الأشباح وتزول الضوضاء.)
عبد الحميد :
أواه، أواه! آه! خنقوني، قتلوني.
المشهد الثالث
الغرفة نفسها وقد أنيرت بالشموع. عبد الحميد جالس على الديوان غارق من الخوف بين الحشايا كأنه يحاول أن يخفي نفسه مما تراءى له من الأشباح، وابنه ونعمت جالسان بين يديه.
بدر الدين :
أين هو الخيال يا والدي؟ أين هو؟
نعمت :
مولاي، ما هذه الأوهام؟ ألا تريد أن تخرج إلى البستان فتستنشق النسيم في نور القمر؟
عبد الحميد :
والأشباح، والأشباح؟ ألا يظهرون في البستان؟
نعمت :
أي أشباح يا مولاي؟
عبد الحميد :
الأشباح ها هم! ها هم! اخسئوا. إليكم عني يا ملاعين! إليكم عني. (يقف ليهرب)
ارحموني، لا تدنوا مني، آه خنقوني. أواه! أواه! قتلوني. (يقع على الديوان مغشيا عليه، وبعد قليل يستيقظ كأنه في حلم.)
أشباح آثامي، لا يا بني، أشباح مجد أبيك. ها هم، قفوا، قفوا! (يهم بالخروج)
إليكم عني أيها الملاعين! يا الله! وهل أنتم في كل مكان؟ أتسدون في وجهي كل مهرب وكل ملجأ؟ ربي! أرى الأشباح السوداء تذوب حولي، أراها تزيد حولي كالأمواج الهائجة، أراني في بحر من الزفت المشتعل، بل في بحر من اللهيب. إنما أنت واهم يا رجل، أنت الآن في ألاتيني، أنت في السجن، ولكن ما هذه الأمواج التي تلطم خدي؟ ما هذه الأمواج التي تزبد فوق رأسي؟ لا لا، إنما هي محض أوهام، أنا عبد الحميد! أنا في قصري الآن، أجل أنا في يلدز، بل أنا في ... يا الله! ما هذه القصور التي أراها على ذلك الشاطئ بين تلك البساتين الغناء، إنها قصورك، يا عبد الحميد. نعم، وهذه بساتينك تغرد فيها الطيور، ويداعب أغصانها نسيم الربيع، فكأنها لا تعرف الأحزان ولا تشعر بالهجران، كأنها تسخر من هذه الأمواج السوداء ومن هديرها.
آه! أين أنا يا ربي. ربي، أين أنا؟ أديوان في القصر هذا، أم قارب في البحر؟ هل أنا أمام شواطئ أرضي وفي ظل بساتيني؟ هل تلك هي قصوري؟ إذن أنا في البوسفور، أنا في قبضة الأمواج، هي ذي الأشباح ترقص حولي طربا، أراها تسخر مني. أراها تشير إلي إشارة الازدراء. ربي، ارحمني، بل أغرقني ربي في لجج البوسفور أمام القصور التي لعبت فيها صغيرا وخرجت منها حقيرا، ولم؟ ألأنني كنت في يد الأقدار أعمل مأمورا كأصغر عبيدي؟ ألأنني سجنت ثلاثين سنة فاستحال نهاري ليلا وليلي جحيما؟ ألأنني كنت بين وزرائي كوزير بين السلاطين؟ ألأنني ما أكلت مرة وكنت أمينا من العيش بعدها؟ ألأنني ما نمت ليلة وتأكدت أني سأستيقظ حيا؟ لا. لا، بل لأنك أعطيت ملكا فلم تحسن سياسته؛ لأنك طردت من ضميرك روح الحق والإنسانية، وخنقت في قلبك جنين رحمة الله، وأطفأت في نفسك نور عدل الله.
صوت في الظلمة :
إيه عبد الحميد!
عبد الحميد :
رحماك ربي. أواه! ... اصرف عني هذه الأشباح، لا تسمعني اليوم هتافها وقد أسمعتني بكاءها بالأمس، أواه! أتتزاحم حولي كلما استرحمت وكلما تأوهت؟ أتسخر من دموعي؟ أويضحكها بكائي؟ اخسأ. أتلطم خدي أيها اللعين؟! أتبصقون في وجهي أيها الأخساء الأشقياء، ولم لا تقتلوني بعد هذا؟
صوت في الظلمة :
الانتقام، الانتقام! ...
عبد الحميد :
آه ما أشد هذا الانتقام! أتنطق اليوم فظائعي؟ أتبعث من قبورها آثامي؟ أتتركني أمتي أعيش بقية أيامي في هذه الظلمات، في هذا الجحيم، ومع هذه الخيالات المرعبة الهائلة؟ لا لا سأريكم كيف يكون الانتقام أيها الملاعين. (يحاول خنق نفسه)
عبد الحميد، أتسطو على شخصك المقدس بيدك الأثيمة؟ ألا تشفق حتى على نفسك؟ عد إلى رشدك، اصرف عنك هذه الهواجس والأوهام. نعم، أنا عبد الحميد وهذا هو قصري، وهؤلاء هم وزرائي بل عبيدي ...
إلى البوسفور بالسجناء الذين جئتني البارحة بأسمائهم!
وهل تعود أنت؟ ما بالك لا تكلمني، وأنت يا أبا الهدى، أما سمعتموني؟ ما بالكم لا تجيبون؟ يا الله! ومن أنت؟ أخي مراد؟ أجئت تشاركني سجني؟ أجئت تغسل الدم عن يدي؟ أجئت تنثر على أحزاني دموع أحزانك؟ تراني ورثت سجنك، وأحييت بلاءك في بلائي، فمن يا ترى يرث سجني ويحمل أوزاري؟ أخي مراد، ومن هذا الذي معك؟ مدحت باشا، أخرجت من قبرك لتجعل لي مكانا فيه؟ أبعثت من القبر لتبرهن على خلود الحرية والأحرار؟ وهؤلاء الأشباح الذين يسخرون مني ويضحكون أراهم يشيرون بأيديهم كمن يريدون ...
صوت في الظلمة :
الانتقام ... الانتقام ...
عبد الحميد :
آه! يا لها من أصوات مرعبة هائلة! اقتربوا إذن مني، ابصقوا في وجهي، أيلذ لكم هذا الانتقام؟ خذوني، أغرقوني، اقتلوني. آه! أحس بثقل الأمواج فوق رأسي، أفي البوسفور يموت عبد الحميد؟ ربي، أفي البوسفور تدفنني؟ أمع هؤلاء الأخساء تحشرني؟ ... مدحت، أنا عبد الحميد مولاك! مراد، اسمع عبد الحميد أخاك! مدحت، قل كلمة لهؤلاء من أجلي. هات يدك، وزيري، هات يدك، أخي، أترفضون اليد التي كنتم تقبلونها صاغرين، أتأبون مصافحتي؟
أصوات في الظلمة :
الانتقام، الانتقام!
عبد الحميد :
أجل هو الانتقام. أواه! أحس بسهام من النار تشق فؤادي، أحس بشيء يأكل من عيني، بل بشيء ملتهب ينقر في خدي. أواه! أحس بأصابع من حديد تضغط على عنقي. أواه! غرقت ... لله من البوسفور ... إني أختنق ... إني أموت ... (يقع مغشيا عليه.)
إكليل العار
ما ودع حين ولى، ولا أحد من رفاقه الجالسين حول منضدة مربعة بساطها أخضر رفع إليه نظرا أو فاه بكلمة دعاء أو عداء. نقف أحدهم المنضدة بأنامله والوجه منه أصفر من السهر والهم، فماثله الآخر، فرمى الثالث الورق من يده، وزاد كل منهم ما اجتمع في وسطها من حجارة العاج أو الأزلام السوداء والحمراء والبيضاء. أدير الورق واستؤنف اللعب، وأخذت الأزلام تنتقل من أطراف المنضدة إلى وسطها. «احترق» الثاني ولكنه ظل في كرسيه يراقب الجولة الأخيرة بين رفيقيه.
والسكوت سائد كأن غرفة القمار معبد أو بيت مهجور دخله اللصوص، تحسس كل من اللاعبين ورقه والعين منه جامدة غائرة واليد ترتجف، نظر كل منهما إلى صاحبه نظرات منكرات مختلسات فيها تفرس وفيها افتراس، وشرع كل منهما يضاعف أزلام الآخر حتى كاد ينفد ما بين يديه منها، غربل كل منهما حظه من الورق الذي بيده، فأسقط الأول ورقة، وأسقط الثاني ورقتين، وبينا هو يفعل ذلك حانت منه التفاتة، فخامره منها الريب، فاستشاط على الفور غيظا ونهض واقفا يهم بالخروج.
فسأله صاحبه: ما بالك؟
فأجاب وقد رمى الورق من يده: قد تواطأتم علي. - أنت مجنون. - أنت قليل الشرف. - احفظ أدبك؛ أنا - والله - لا أبيع شرفي بمال العالم. - بعته الليلة بعشرين دولارا. عيب عليك. - من كان مثلك لا يستحق أن يلعب مع الناس. - من كان مثلك أنت ...
وانحنى فوق المنضدة ليكمل الإهانة بيده، فحال دونه صاحب المنزل لائما مؤنبا. - عيب علينا يا ناس، واجب أن نقتدي بتوفيق زيدون المقامر الشريف النفس؛ فإنه إذا خسر سكت، وإذا ربح لا يتبجح ... عيب عليكما.
وبينما هو يؤنب صديقه، وكل منهما - وقد ثاب إلى رشده - يعد أزلامه، كان توفيق زيدون نازلا الدرج منكس الرأس، كاسف البال، يده في جيبه الفارغة، ونفسه الملتهبة في يده.
وما قيمة نفسه وهو لا يملك فلسا واحدا؟ وماذا عساه يصنع وقد لجأ إلى آخر الحيل فكان فيها مدحورا؟ إلى أين يذهب بهذه النفس المحترقة المتقلصة السوداء؟ سؤالات كان يرددها وهو خارج من البيت لاعنا القمار والمقامرين.
راح تائها في أسواق المدينة كمركب لا شراع له تتقاذفه الرياح، وقف على منعطف الشارع فشاهد الأرتال تمر أمامه كأنها أشباح وكأن ضجيجها أصوات العفاريت، رفع رأسه وإذا بالساعة في الكنيسة تعلن الثانية بعد نصف الليل.
أيعود إلى غرفته؟ أيلجأ إلى وحشة الوحدة وظلامها؟ أيداوي نفسه ببلسم الرقاد؟ لا، لا، رصاصة تسرع به إلى الجحيم خير من هذا.
والحقيقة أنه استحب الموت ومر في قلبه خاطر الانتحار مرور السحاب، فظل برهة أسير هواجس مريعة تتجاذبه نزعات أثيمة لا تخلو من قصد شريف، على أن قصده الشريف كان كغنمة بين ذئاب كاسرة، أو كملاك بين زمرة من شياطين أفكاره.
لبط الأرض برجله واللعنة تخرج من فمه، وشياطينه تومئ إليه أن اتبعنا ، تبعها صاغرا فنزل الدرج إلى سكة الحديد تحت الأرض وركب القطار السريع الذي يخترق قلب المدينة، بل ينساب كالحية تحت أضلاعها. وكانت نفس توفيق زيدون مثل ذاك القطار تتسارع أمواجها السوداء بين أنوار لقصد شريف صفراء ضئيلة، تبدو وتختفي كالبرق، مثلما ترقص أنوار النفق الزرقاء والحمراء، والقطار بين صفوف منها يقعقع ويضج، فتردد صداه الألوف من عمد الحديد القائمة تحت قصور المدينة.
نزل في محطة وسط البلد واجتاز بضعة شوارع ثم وقف عند باب في أحدها يقرع الجرس.
أطلت بعد هنيهة فتاة من الشباك تسأل: من الطارق؟ فهمس توفيق باسمه، فراحت متأففة تكبس زرا يفتح الباب ولم تلبس غير قميص النوم لتستقبل صديقها.
ما سلم توفيق حين دخل المنزل، بل سار توا إلى غرفة فيه مفروشة بالسجاد، أثاثها يجمع بين البساطة والفخامة، ورمى بنفسه على كرسي قرب البيانو وهو لا يدري ما يقول.
أخذ الفتاة العجب فسألت قائلة: ما بالك تجيئني هذه الساعة؟ - لأنني ...
ووقف يشعل سيكارة. - ماذا جرى يا عزيزي؟ هل أنت مريض؟ - بل يائس من الحياة. - أطلعني على شيء جديد من أحوالك. - سقطت أسعار الأسهم اليوم فخسرت كل مالي.
فقالت لوسيل باسمة وهي لم تزل واقفة أمامه في سربالها الشفاف: جئت تمزح إذن. - ليس وقت مزاح. - وما علمي يا عزيزي توفيق أنك ذو ثروة! - ثروة؟ ثروة؟ إن مائة دولار عند مثلي ثروة كبيرة، فقد تجلب المائة دولار ألوفا من الدولارات. - وقد تجلب ...
فقاطعها قائلا: ما لم أطلعك عليه فيما مضى. - قد أطلعتني مرارا في مثل حالك الآن على المهم من أمرك، هل لك رغبة في كأس من الوسكي؟ - لعن الله الوسكي! كيف أحوالك اليوم؟ - كما ترى نمت باكرا فأيقظتني باكرا. هذا من قواعد الصحة. - وماذا يهمني من ذلك؟ كيف أحوالك المالية؟ - أسوأ من حالك يا عزيزي. - تكذبين، تعالي قبليني. - أقبلك إذا كنت لا تهينني. - أريني إذن حافظة نقودك؛ أما زارك أحد هذه الليلة؟ - قلت لك: إني نمت باكرا وأقسم بالله ... - يمينك لا تقنعني؛ أريني حافظتك.
دخلت لوسيل غرفتها وعادت بعد هنيهة بحقيبة صغيرة رمتها في حجره، ففتحها توفيق وأجال فيها يده وعينيه، ورماها إلى الأرض غاضبا ناقما. - أنت كذابة محتالة. - وأنت قليل الشعور قليل الإيمان، بل أنت بربري، وقد سألتك أن لا تزورني في آخر الليل سترا لحالي؛ أفلا تعلم أني أشتغل في النهار فتاة محصنة مكرمة ولا أحد يظن بي ظنا سيئا؟ واجب أن أحافظ على شرفي وأصون عرضي تجاه من أشتغل عندهم في الأقل، لست مستهترة مثلك، ولي أمل بالتخلص مما أنا فيه خارج عملي اليومي، ولو كانت أجرتي تكفيني لألبس على الأقل مثل سائر البنات لما تنازلت إلى عمل ليلا آتيه آسفة حزينة، بل لما ملت إلى غيرك من الشبان، قلت لك ذلك مرارا وأنا عالمة أنه لو كان بإمكاني أن أكتم حبي لكان خيرا لي وأنفع، ولكني صريحة القول سليمة القلب، وهذه بليتي. لست خداعة ولست كذابة ولست محتالة، أنت تعلم ذلك ولا يردك هواك عن إهانتي، ألم أسعفك فيما مضى؟ ألم أقاسمك ما كنت أملكه من المال؟ بل طالما أفرغت حافظتي بين يديك. والآن تجيئني في آخر الليل فتشتمني وتهينني لأن حافظتي فارغة، صدقني يا عزيزي توفيق إذا قلت: إني لا أقوى على ردك وصدك، ولو كان لدي ريال واحد الآن لأعطيتكه مسرورة.
اقتربت لوسيل من صديقها فجلست على ركبته تلاطفه وتداعبه، وقد كانت تخشى أن تغيظه لأنه مطلع على حقيقة أمرها.
توفيق زيدون شاب شديد البنية، أسمر اللون، أسود العين والشعر، وسيم الوجه، طويل القامة، طويل الأنف دقيقه، في فمه سيماء الشهوة والخشونة، وفي ذقنه القصير المائل إلى عنقه ما يدل على ضعف الإرادة.
ولوسيل فتاة أميركية صافية البشرة، ذهبية الشعر، زرقاء العين، دقيقة الأطراف، متناسبة الأعضاء، لا تتجاوز العشرين من العمر، في شفتها السفلى بروز يجعل فمها كفم الطفل فيه سذاجة وجمال، وهي لطيفة المزاج سهلة المراس، نفسها في الحب كجدول من الماء المعين نهارا، وكالنهر الطامي ليلا. اجتمع بها توفيق زيدون في المخزن الذي تشتغل فيه، فشغفت به ومحضته حبها ، وأطلعته بعدئذ على خفي أمرها، فشجعها على ذلك بدل أن يردعها، وكان إذا خسر في القمار يلجأ إليها.
أما لوسيل فمثل سائر أخواتها من الشقر الحسان تهيم بحبيبها ساعة يكون معها، وتكاد أن تنساه إذا غاب، وهي مخلصة في كلا الأمرين، عاملة بناموس طبيعي يملك قلبها ومزاجها.
فلما جلست على ركبة توفيق تداعبه ألانت من نفسه، وأنسته بعض بلائه، فرفع إلى صدرها يدا راغبة كأن النار تتوقد في أناملها، وقام وفي عينيه رغبة أشد اتقادا.
وبينا هو في السرير أمال نظره من جمالها الذهبي إلى المرآة وراء السرير يتأمل جمالها الخيالي، فرأى هناك خزانة الثياب منعكسة فيها، وعلى بابها الذي نسيت لوسيل أن تقفله تماما لفافة زرقاء من الأوراق المالية كانت قد أخرجتها من حقيبتها لتضعها في جيب ثوب لها، فأخطأت المقصد ولم تدر فسقطت اللفافة على الأرض.
ولما نهض توفيق ليلبس ثيابه خرجت لوسيل من الغرفة، فسارع إلى باب الخزانة فالتقط ما كان على الأرض من المال ووضعه في جيبه قائلا في نفسه: كذابة، عاهرة.
ولما عادت لوسيل إلى الغرفة قبلها قبلة باردة وودع.
ركب القطار تحت الأرض ولم يكن فيه تلك الساعة غير رجل واحد، فأخرج المال ليعده، عده فرحا مستبشرا وهو يردد في نفسه: كذابة، عاهرة.
ثم وضعه في جيب صدرته، وأخذه النعاس من شدة الضنك والتعب فنام، فوقعت من اهتزاز القطار قبعته على الأرض، فالتقطها رفيقه متلطفا ووضعها قربه.
ولما وصل توفيق إلى غرفته كان عقرب الساعة في قبة الكنيسة مائلا إلى الرابعة، فنام مطمئن النفس هادئ البال حتى ظهر اليوم الثاني، فنهض إذا ذاك يلبس ثيابه، ثم ذهب إلى المطعم ليتناول الغداء، فأكل هنيئا كما نام، ومد يده إلى جيبه ليدفع ما عليه، ففتش عن المال ثم فتش فلم يجده.
يخسر المرء نصف ثروته في الأشغال أو في القمار ولا يأسف، ويبذل الكثير في سبيل ملذاته أو في ضيافة أصحابه مسرورا، ولكنه إذا أضاع ريالا واحدا يقوم له ويقعد، ويظل أياما حائرا لا يحسن عملا .
أما توفيق زيدون فلم يكن في أية حال من الأحوال ليحسن عملا إلا إذا استثنينا القمار، وقد طالما خسر آخر فلس في اللعب وهو مالك نفسه، صابر على تمرد حظه، ولكن خمسين ريالا التقطها من غرفة حبيبته، بل سرقها ثم أضاعها بلبلت البال وشتتت منه ما بقي من آمال.
عاد إلى غرفته كالمجنون يفتش زواياها عل المال سقط من جيبه وهو ينزع أو يلبس ثيابه - وهذا معقول، إلا أن في المعقول ظنا يخطئ أحيانا - ثم فتش في جيوب أثوابه المعلقة في الخزانة كأن يدا سرية سحرية نقلت المال إليها، ثم فتش في دروج خزانة أخرى وهو لم يزل متمسكا بخيط من الأمل رفيع انقطع عند الدرج الأخير الذي لم يكن فيه غير مسدس صغير.
أخذ يدير المسدس بين يديه، ووضعه أمامه على المائدة، ثم جلس على كرسي يتأمل الماضي والحاضر من حاله؛ عشر سنوات قضاها في أميركا ولم ينجح فيها بعمل من الأعمال، شارك أخاه في التجارة فصرف فوق حصته في دوائر القمار والخلاعة وانفصل عنه، وهو يكره أخاه كرها شديدا، بل البغض متبادل متساو بين الأخوين، وأخته سليمة التي تبيع البضاعة الشرقية في المصايف طالما مدته بالمال، على أنها اعترضته يوما في أمر فتاة ولع بها فأغلظ لها الكلام وطردها من بيته. أما أصحابه، بل رفاقه في اللعب، فهو مدين لأكثرهم، ولم تعد له الجرأة أن يسألهم حاجة، والحق يقال: إن أبواب الفرج أقفلت كلها في وجه زيدون إلا بابا واحدا طرقه ليلة أمس، ولولا الصدفة لعاد من بيت لوسيل كما خرج من بيت القمار، على أن الصدف مثل الدهر متقلبة خائنة، فلم تكد تريه باب الفرج حتى أقفلته في وجهه، أعطته خمسين ريالا في آخر الليل وسلبته المال في الصباح!
الصدف؟ إنما هي يد القضاء. دخل توفيق زيدون نفسه يجدد النظر في ذكريات هناك، مثلما يعود العاشق الولهان إلى رسائل حبيبته يقرؤها ويمزقها، مزق ذكريات أخيه غير آسف عليها، مزق ذكريات أخته، مزق ذكريات ألعابه وخلاعته، محاها كلها من لوح نفسه الأسود العتيق، ولكن ذكرى أبوية استرعته فوقف عندها واليد منه ترتجف، فقد أوصته أمه قبل سفره إلى أميركا أن لا يقترب من منضدة القمار، وقد طالما قال أبوه: المال الحرام لا يثمر؛ ذلك لأن داء القمار كان متفشيا في آل زيدون في الوطن، ولكن توفيقا لم يكترث بوصية والديه، وما فكر فيها آسفا حزينا قبل هذه الساعة.
القمار، والموبقات التي هو فيها من جراء القمار، وتلك الفتاة المسكينة التي كانت تبيع جسدها لأصحابه وتقاسمه كسبها. الله منها! أتوفيق زيدون يصل إلى هذا الحد من السفالة؟ لم يكن قبل اليوم ليفكر بحقيقة فعلته، لولا خسائره في القمار لما التجأ - والحق يقال - إلى لوسيل، على أنه أفاق في هذه الساعة من سكرته، نفر من ضلالته، وود أن يبتعد عن الموبقات التي طالما خاضها طربا حبورا. انفتحت فيه فجأة عين الروح فهاله من ذلك أمره؛ رأى نفسه ابنا عاقا، رأى نفسه سافلا. يا للفضيحة ويا للعار!
جلس على الكرسي وأخذ المسدس يديره بين يديه، وبينا هو يداعب الموت؛ يراود رصاصة فيها الخلاص مما هو فيه، قرع بابه قرعات سريعة شديدة، فوضع المسدس على المنضدة وراح يفتح الباب، فإذا بلوسيل والاضطراب باد في عينيها. أخذته من رؤيتها الدهشة، بل أحس بقشعريرة في جسده كأن كأس ماء بارد سكبت على نفسه الملتهبة، فأطفأت فيها نزعة الانتحار، وردته إلى حاله كسيد الفتاة وولي أمرها، أما لوسيل فلم تمهلها أن يسأله الغرض من مجيئها، دخلت غرفته تقول: أنت لص، أنت مجرم، وقبل أن أشكوك إلى البوليس جئت أعطيك فرصة لتخلص نفسك. كذبت الليلة البارحة، فقوصصت على كذبي. خبأت ما كان لدي من مال فتلصصتني وسرقت، لم يزرني أحد سواك بعد ليلة البارحة، نعم أنت سارق مالي، وإذا كنت لا تعيده إلي الآن أشكوك إلى البوليس. - أنت مجنونة. - لا يهمني، أسألك أن تعيد إلي مالي وإلا ... - أجئت تهدديني في بيتي؟ والله لأشجن دماغك إذا كنت لا ترعوين.
واقترب إذ ذاك من المنضدة يمد يده إلى المسدس فخافت لوسيل وغيرت لهجتها. - يا عزيزي توفيق، أنا في حاجة الآن إلى المال أكثر منك، قد رهنت في الشهر الماضي خاتما هو أعز الأعلاق لدي؛ هو هدية من أمي يوم ميلادي؛ آخر ميلاد قضيته وإياها، وأحب أن أسترجعه؛ فإني منذ رهنته والنحس يكتنفني، فأشفق علي واكتف بما أسلفتك من الحب.
وتناولت منديلا وأخذت تمسح الدموع المتساقطة على وجنتيها الورديتين، ثم قالت: مذ عرفتك حتى الآن لم أسألك دولارا واحدا، بل أنت مدين لي. - يا بنت الخنا، جئت تهينينني في بيتي؟! والله ... - لا، لا، لا أحب أن أذكرك بذلك، ولو كنت تستطيع القيام بمعاشي لما ملت إلى أحد سواك، بل لما قبلت في بيتي غيرك من الناس. والآن جئت أرجوك أن تعيد إلي ما أخذته مني الليلة البارحة، هب أني أسألك قرضا في ساعة ضيقتي؛ فإني لم أدفع أجرة منزلي منذ شهرين - أقسم بالله - وصاحب البيت يهددني بالطرد؛ فإذا كنت لا ترثى لحالي، فما معنى صداقتك، بل ما معنى حبك؟ أخذت مني خمسين دولارا، أعد إلي نصف القيمة على الأقل. - اعلمي أني لم آخذ منك دولارا واحدا، وإذا عدت إلى هذه التهمة أبعثر دماغك برصاصة من هذا المسدس، وإذا كان هذا قصدك من زيارتي فتفضلي.
وأومأ بيده إلى الباب. - يجب أن أدفع أجرة غرفتي. - صاحب البيت ينتظر. - يجب أن أشتري فستانا لأمي. - لست موكلا بأمر أمك. - أتطردني إذن من بيتك؟ - اشكري ربك إذا خرجت سالمة، أنت أول من اتهمني بالسرقة، وقد عفوت عنك. اخرجي ولا تريني وجهك فيما بعد.
اقتربت لوسيل من المنضدة وفي نيتها أن تقبض على المسدس اتقاء للشر، فكان توفيق أسرع منها، فقبض على يدها بيمناه، ولطمها بالأخرى على وجهها. - يا بنت الخنا، تحاولين قتلي أيضا. - تسلبني مالي وتهينني وتضربني وتطردني من بيتك. ستندم يا توفيق زيدون على فعلاتك هذه، ستندم يا لص، يا وحش، يا ...
وخرجت من غرفته مسرعة.
ناداها توفيق، فتح الباب وسألها أن تعود فلم تجبه، لبس قبعته وتبعها، ولكنه لم يرها في الشارع ، راح إلى بيتها فوجد الباب مقفلا، فبات ينتظر أمام الباب علها تعود فخاب أمله، فعاد إلى غرفته يائسا وقد أخذه شيء من الندم على ما فعل.
حدثته نفسه ثانية بالانتحار، فكتب كلمة إلى أخته يودعها ويستغفرها، وأخذ المسدس قائلا: على الدنيا السلام، ولكنه حين رفع آلة الموت إلى رأسه مترددا. دق جرس التليفون فوضع المسدس وفي نفسه بعض الارتياح إلى صدفة وقفته مرة ثانية عن قصده، وراح يجيب للنداء.
الصوت صوت لوسيل. - ماذا تريدين؟ - ندمت على ما بدا مني، اغفر لي، تعال الليلة تسمع ما يسرك. - ماذا جرى؟ - سأخبرك عندما تحضر.
أخذه العجب من أمرها، هل تضمر له الشر؟ هل تدعوه لتغدر به؟ أو هل هي صادقة فيما تقول؟ إن كان الأول فتوفيق زيدون لا يخشى تهديد فتاة أو غدرها، وإن كان الثاني فقد يكون له في شدته سبيل إلى الفرج، ثم عاد إلى نفسه يؤنبها على ما فعل، ندم ندامة حقيقية على معاملته لوسيل تلك المعاملة، فقال يحدث نفسه: خلصتني من الموت مرتين، فينبغي أن أحسن في الأقل معاملتها، ولكنه أخذ العدة لكل ما قد يحدث، فراح يقابلها تلك الليلة والمسدس في جيبه. •••
عادت لوسيل إلى شغلها في المكتب أصيل ذاك النهار برغم ما جرى في منزل توفيق زيدون، عادت إلى شغلها برغم اضطراب ملك نفسها، وبرغم يأس كاد يذهب برشدها - على أنها وقفت هنيهة في باب دائرة الشرطة ولم تدخل، وقفت خائفة وذهبت حائرة - فدخلت المكتب كليمة الفؤاد، مشتتة البال، أسيرة الغم والهواجس، وإذ جلست إلى الآلة الكاتبة لتباشر عملها أحست بصداع شديد غشى بصرها، فبدت صفوف الأحرف أمامها كالأزرار البيضاء وقد ذاب سواد ما نقش فيها، فلم تكد تميز الألف من الباء، ولا الأعداد من أحرف الهجاء.
كتبت سطرا فعضت شفتها غيظا، ونزعت الورقة من الآلة ومزقته. حاولت العمل ثانية وأناملها ترتجف، فمزقت الصفحة الثانية، ثم الثالثة والرابعة. توقفت عن العمل وأخذت تصعد الزفرات، وشرعت تفرك يديها وجبينها علها تنتعش فتملك حواسها، ثم أخرجت من حقيبتها القلم الأحمر وعلبة المسحوق والمرآة الصغيرة، فدهنت شفتيها وطلت خديها وهي تحاول أن تزدري همها وتنسى ما حل بها.
وكانت رفيقتها تنظر إليها شذرا، وتضحك في سرها هازئة، ثم همست في أذن الكاتب كلمة فأجابها قائلا: ولا ريب بذلك، لم تنم الليلة البارحة.
أما الكاتب هذا، فكان قد استطلع خبر لوسيل، عملا بإشارة المدير، وتحقق أمرها، فنهض حين رآها في هذه الحال ودخل على المدير يقول: يظهر أن هذه الفتاة مريضة أو أنها لم تنم الليلة، وهي لا تستطيع قط عملا.
فأمر المدير بأن يأتيه بحسابها، ثم ناداها إلى غرفته. - لماذا لم تجيئي إلى المكتب صباح هذا النهار؟ - كنت مريضة ولم أزل أحس بصداع شديد أليم. - الأحسن إذن أن تعودي إلى بيتك، وقد تكونين في حاجة إلى المال لتستشيري الطبيب، فهذا ما تبقى من أجرتك.
أخذت لوسيل المال وهي تشكر المدير الذي استأنف كلامه قائلا: ولم نعد في حاجة إليك.
هذا ما كانت تتوقعه، فلم تسأل المدير السبب في طردها ولا همها أمره، على أنها تيقنت أن الكاتب قد وشى بها، وفضح أمرها بعد أن تظاهر بحبها واكتسب ثقتها.
أجل، قد تحققت لوسيل السبب في طردها، وشعرت لأول مرة بحقيقة حالها وسوء مصيرها، فخرجت من المكتب وهي لا تكاد ترى ما حولها من شدة الغيظ واليأس والكمد، وذهبت توا إلى منزلها، فرمت بنفسها على السرير واسترسلت إلى البكاء، بكت كطفل فبللت الوسادة دموعها.
حياتان؛ حياة خير وحياة شر، لا تجتمعان في شخص واحد.
جلست تؤنب نفسها وهي تردد هذه الكلمات، وشرعت تفكر فيما جرى في يوم واحد من حياتها المزدوجة؛ سرق مالها، أهينت، ضربت، فقدت وظيفتها، وصاحب البيت فوق ذلك يهم بطردها إذا لم تدفع المتأخر من ثلاثة أشهر.
وماذا لديها من المال؟ خمسة دولارات فقط، خمسة دولارات لا تكفي أجرة النقل إذا أذن لها صاحب البيت أن تنقل فرشها، وإذا نقلت إلى بيت آخر، فماذا عساها تفعل؟ أتبحث عن وظيفة أخرى؟ لم يعطها المدير شهادة بحسن السلوك، ولم تزل تذكر كم قاست من العذاب أول مرة بحثت فيها عن عمل في المدينة.
حياتان؛ حياة صلاح وحياة إثم، لا تأتلفان في نفس واحدة.
ستهرب إذن من الخدمة - من المكاتب - من المديرين واستبدادهم، ثم ماذا؟ أتستمر في مسيرها المشين المعيب في طريق الإثم والعار؟ أفي السوق وفي القهوة تطلب رزقها؟ فكرت في ثمار ليلها، وفي الحلو والمر من كأس إثمها، فكرت فيمن أخلصت له الود وكيف يسرقها ويهينها ويضربها ويطردها من بيته، من وثقت به يخونها، ومن اشتروا جسدها يهينونها ويزدرونها. أجل، إن الشبان الذين يطاردون البنات في الأسواق، ويستغوونهم في القهاوي، لكذاك الكاتب الخائن، ولكذلك اللص توفيق زيدون، فماذا عساها تفعل؟
حياتان؛ حياة طهر وحياة عهر، لا تجتمعان في امرأة واحدة.
أتعود إذن إلى بيتها؟ أتحتمي في ظل أمها مستغفرة مسترحمة؟ إنها تخشى أمها ولا تستطيع أن تقيم وإياها. فلما كانت في البيت كان أخوها الوحيد سلواها هناك، أما وقد سافر إلى أميركا الجنوبية فقد سئمت الإقامة فيه، وخرجت غير آسفة تؤم المدينة، ناهيك بأن الإقامة في القرية لم تعد تروقها وقد ألفت العيش في المدينة.
إذن لا العمل نهارا في المكتب، ولا السير ليلا في طرق الإثم والعار، ولا الرجوع إلى البيت، فكرت لوسيل مليا في أمرها، وطنت النفس أن تظل في المدينة. أجل، تشكو توفيق زيدون إلى الشرطة، ستشكوه إلى الشرطة، ولكن الريب ملكها في كل شئونها، التردد أقعدها، الخوف قيد منها العزم والنشاط، فهي إذا شكت السوري تفضح أمرها بيدها. طال النزاع في صدرها فكاد يقتلها، وكل نزاع نفسي لا يجلو الروح والفكر يولد اليأس والقنوط، واليأس في مثل هذه الحال أشد من الإيمان قوة، وأعظم من الموت هولا.
أشهر اليأس سيفه في لوسيل، فنهضت ملبية. أجل، ستقتص بيدها من السوري اللئيم، سينال من يدها جزاء فعلاته. خمسة دولارات هي كل ما تملك، وستحسن استخدامها. قد أغلقت أبواب الرزق والفرج في وجهها، فستموت في الأقل شريفة النفس، ستموت بعد أن تذيق السوري جزاء إثمه.
لبست قبعتها وأسرعت إلى مخزن تبتاع مسدسا بالمال الذي قبضته أجرتها، وعادت إلى البيت فخاطبت زيدون بالتليفون تسأله أن يزورها تلك الليلة، ولو علمت بقصده تلك الساعة لندمت على إفسادها عمله، لو كان لها أن تراه والمسدس بيده لتركته وشأنه وشكرت ربها، ولكنها الأقدار تلعب بالناس لعب الأكر.
دخلت لوسيل مطبخها الصغير لترى ما عندها من حواضر البيت للعشاء، فوضعت إبريق الشاي على وجاق الغاز، وبينا هي تفتح علبة من الفاصوليا المطبوخة لتسخنها، قرع الجرس فراحت تفتح الباب؛ فإذا هناك رجل حياها تحية الأحباب هاتفا: «هالو» لوسيل.
وقفت لوسيل مدهوشة وهي لا تكاد تصدق نظرها. - وليم. وليم.
ورمت بنفسها عليه تعانقه، فعانقها وقبلها تكرارا. - ثم دخلت وهي آخذة بيده، فأجلسته على الديوان وجلست إلى جانبه، فقبلها وليم ثانية وهو يردد اسمها ويربت خديها.
وليم أخو لوسيل شاب لا يتجاوز الثلاثين سنا، طويل القامة، نحيف الجسم، عصبي المزاج، حاد النظر، روحاني العين، خطواته تدل على ثقة له بنفسه، وحديثه يدل على إيمان له بالناس، وهو يحب لوسيل أخته الوحيدة حبا جما، ولا يريدها بعيدة عنه إلا إذا كانت متزوجة وسعيدة في زواجها.
وشد ما كانت دهشة لوسيل، وشد ما كان ابتهاجها بمشاهدة أخيها بعد تغيب طويل الأجل! - وليم عزيزي، متى عدت؟ وكيف علمت أني هنا؟ ومن أعطاك عنواني؟ - عدت في الأسبوع الماضي، ومنذ وصولي وعلمي أنك تركت البيت وأنا أبحث عنك، الفتاة التي تهرب من بيتها يا عزيزتي لا تراسل أحدا في قريتها، ولكن ابن القسيس جارنا هجر القرية أيضا، والقسيس أبوه عالم بمقرك، وبما أنت تصنعين.
اضطربت لوسيل هنيهة عند سماعها: «وبما أنت تصنعين.» فامتقع لون وجهها، ولكنها اطمأنت حين واصل أخوها حديثه قائلا: وهل أنت راضية بوظيفتك وبأجرتك؟ يظهر من هذا البيت ومفرش منزلك وأثاثه أنك في يسر وإقبال، إلا أنه مهما كانت أجرتك؛ خمسة وعشرين ريالا أو خمسين في الأسبوع، فأخوك وليم لا يرضى بها، ولا يريد أن تقيمي في هذا البلد بعيدة عنه. جئت يا أختي الحبيبة لأعود وإياك إلى البيت ، واعلمي أني نجحت نجاحا باهرا في سفري إلى البرازيل؛ لذلك وطنت النفس أن أؤسس عملا لنفسي، فأحب أن تكوني معي إلى حين زواجك، أنا عالم بأشراك المدينة يا عزيزتي لوسيل وبموبقاتها، وقلما تسلم ابنة غريبة فيها.
صعدت لوسيل الزفرات واغرورقت عيناها بالدموع. - ما بالك تبكين؟ ألا تعودين إلى البيت؟ أولست ترغبين في بيت تكونين سيدته؟ - لا يا أخي وليم، لا أعود إلى البيت. - ولماذا؟ - لألف سبب. - سبب واحد يقنعني، وقولي لي: لماذا تبكين؟ - هل تعشيت يا عزيزي؟ - لا.
إذن تشاركني العشاء الذي كنت أحضره لنفسي عند وصولك، وبعدئذ أقص عليك قصتي.
وراحت لوسيل إلى المطبخ تحضر العشاء لها ولأخيها، وبينا كان وليم ينتظر في غرفة الاستقبال وهو يجيل الطرف فيما فيها من الأثاث والأعلاق استوقف نظره صورة على ظهر البيانو، فإذا هي صورته وهو صبي، وإلى جانبها بل وراء إطارها الفضي، المسدس الذي ابتاعته منذ ساعة. فتحه وليم فإذا فيه ست رصاصات، ثم أعاده إلى مكانه دون كثير اكتراث.
وبعد برهة جاءت لوسيل تدعوه إلى غرفة الطعام. - فرش منزلي ينبئ باليسر، ولكن مائدتي يا عزيزي وليم كما ترى. - أتجوعين نفسك لتكسي جسدك مثل سائر البنات؟ - ربما كان الأمر كذلك. - ولم لا نذهب إلى أحد المطاعم؟ قومي تعالي معي. - لا لا، أفضل أن أكون وإياك وحدنا. - لتقصي قصتك. حسن هاتيها إذن.
أحنت لوسيل رأسها ثم رفعت منديلا إلى عينيها. - ما بالك؟ وما الداعي إلى هذه الدموع؟ أخبريني يا عزيزتي لوسيل ولا تكتمي شيئا؛ فإنك تعلمين مقدار حبي لك. نعم، أنا لك في كل حين، إذا كنت في شدة فقد جئت أساعدك، وإذا كنت في محنة ...
ونهض إذ ذاك يقبلها ويربت خديها. - أطلعيني على أمرك، اكشفي سرك، ولا تخفي عني شيئا، وكل ما أستطيع عمله من أجلك فأنا فاعله مسرورا؛ تكلمي.
نهضت إذ ذاك لوسيل وراحت إلى ردهة الاستقبال ثم عادت والمسدس بيدها، فوضعته على المائدة أمام وليم. - هذه هي قصتي. - لوسيل! - نعم، هذه هي قصتي. - وما معنى ذلك؟ هل تنوين شرا بنفسك أو بأحد من الناس؟ إذن قد جئت في الوقت المرغوب فيه. نعم، جئت أخلصك من نفسك. حيف عليك، حيف أن يفكر مثلك بهذه الأمور؟ فإذا كانت هذه قصتك فقومي بنا نذهب إلى المسرح. - لا، لا، إني أنتظر رجلا هذا المساء. - رجلا تنتظرين؟ ومن هو؟ من تنوين قتله يا ترى؟
قال وليم قوله ضاحكا، أما لوسيل فظلت ساكتة. - كلميني يا عزيزتي، فقد حيرني أمرك والله، وهل لي أن أعرف من هو الرجل، وما عسى أن يكون شأنه؟
اسمع يا عزيزي وليم، أخبرك بما جرى ليلة أمس واليوم، ولكني أستحلفك أن لا تسألني أن أطلعك على سوابق حالي، وأرجوك أن لا تؤنبني ولا تغير ظنك بي، فأنا أعلم مقدار حبك لي، ولكنك قد تجهل مقدار حبي لك، رسمك دائما أمامي، وذكراك أثناء تغيبك لم تذهب يوما من قلبي، ليس لي سواك في هذا العالم ولا ...
فقاطعها وليم قائلا: لا حاجة لهذه الديباجة، أخبريني ماذا جرى ولا تكتمي شيئا.
أجابت لوسيل طلبه فأعلمته بما حدث في عشرين ساعة مضت، منذ مجيء توفيق زيدون الليلة البارحة حتى أصيل ذاك النهار، وكان وليم وهو يستمع حديثها جالسا في الكرسي جامد العين، أصفر اللون، بل كان كتمثال من الشمع، ثم نهض من الكرسي فورا وطفق يتمشى في الغرفة منكس الرأس، ويداه مضمومتان وراء ظهره. ظل كذلك بضع دقائق لا ينبس ببنت شفة.
تقولين: إنه سرق مالك وضربك وهم بقتلك، وطردك من بيته؟ لوسيل عزيزتي، وعدتك أن لا أستطلع ماضيك في هذا البلد، وعدتك ألا أؤنبك. ارفعي رأسك لوسيل ولا تبكي، كل ما أقوله يا حبيبتي هو ذا: ليس الرجل وحده ملوما، ولكن غلطة الفتاة تغتفر قبل غلطة الشاب، وأنت أختي، أختي الحبيبة، لا شيء يزعزع حبي لك، ولا شيء يغير حسن ظني بك، على أني أسألك أمرا واحدا، ولا أقبل منك فيه رفضا وإلا نسيتك، أنكرتك، محوت من قلبي رسمك وذكرك، أسألك يا لوسيل أن تعودي معي إلى البيت حالا. قولي: نعم، عديني بذلك.
ولكن قبل أن تفوه لوسيل بالجواب قرع جرس الباب، فذعرت وهتفت قائلة: هو ذا. - مكانك. أنا أقابله.
فصاحت: لا، لا، وقد أمسكت بيده. - مكانك يا أختي، وسكني روعك. - ولكن أعطني المسدس، أعطنيه. وقابله إذا شئت. - ليس هذا من شأنك؛ فقد انتهى أمرك والرجل وابتدأ أمري. - أرجوك أن تعطيني المسدس. - أرجوك أن تجلسي وتسكتي.
تفلت من يديها وراح يفتح الباب، فإذا برجل هناك، فخاطبه بصوت هادئ قائلا: أنت توفيق زيدون؟ - نعم. - أنا أخو لوسيل، جئت أخبرك أنها لا تستطيع أن تقابلك.
وهي تهديك هذا المسدس علك تكون في حاجة إلى المال فتبيعه وتتصرف بثمنه. خذه، خذه.
لبث زيدون جامدا كالصنم، فلم يمد يده ولا حرك شفتيه، أما وليم فوضع المسدس في جيبه ولطمه على خده بقفا يده. - نذل، لص، جبان، إذا لم تكن في حاجة إلى المال فأنت في حاجة إلى المسدس، خذه، تصرف به كيف شئت. قال ذلك وأقفل الباب، ثم عاد إلى لوسيل يقول: إذا كان لا خير البتة في هذا المخلوق فالمسدس ألزم له، إذا كان لم يزل في نفسه بذرة صلاح واحدة فالمسدس لا يضره. لننسه الآن، انسيه يا عزيزتي لوسيل، انسيه وتعالي إلي، تعالي أقبلك.
رمت لوسيل نفسها على صدر أخيها، فطوقها بذراعيه يقبلها وتقبله، وعاشت ما تبقى من حياتها قربه.
أما توفيق زيدون فعاد إلى منزله يقول: وهذا إكليل العار. لا يتنازل أخوها أن يقتلني، لا يدنس يده بي. هذا إكليل العار يا توفيق، ولكني لا ألبسه، لا والله ولا أقتل نفسي قبل أن أصلحها، بلى سأضحي بها من أجل بلادي.
وكتب كتابا إلى لوسيل يستغفرها، ثم ذهب إلى الدائرة العسكرية في حيه، فتطوع في الجيش وسافر بعد بضعة أشهر في فرقته إلى ساحة القتال، إلى خطوط النار. •••
دخل إلياس نادر البيت متهللا وكانت ابنته الوحيدة سلمى تعد له العشاء، فهرول إليها والجريدة بيده يقول: «قد عاد من فرنسا.» - «من يا ترى؟ توفيق؟» - «قد عاد توفيق سالما ظافرا، راح نفرا مقامرا وجاء ضابطا، على كتفه شريط الشرف، كما ترين، والوسام (صليب الحرب) على صدره.»
نظرت سلمى إلى الصورة ووجهها يتلألأ سرورا. - «وأين هو الآن؟» - «كلمني بالتليفون من المحطة وقريبا يكون هنا، هل يليق عشاؤك ببطل من الأبطال؟» - «ويلي! لم أطبخ غير الأرز والبامية.» - لا بأس، ارفعي هذا «المشمع» وضعي مكانه غطاء الكتان، ورتبي المائدة بما عندك من الذوق. سأرجع حالا.
قال هذا وخرج مسرعا إلى دكان صديقه بتروكنتي الطلياني، ثم عرج على اللحام، وعاد وفي كلتا يديه رزمة كبيرة. - «خذي يا بنتي، توفيق يستحق مأدبة ولكن خير الجود الموجود، كما يقول المثل.»
ثم قال خافضا صوته: «هل زارك أنطونيو اليوم؟» - «لا، لم أره منذ أسبوع.» - «إذا زارك غدا يجب أن تكلميه بلطف يا بنتي، هؤلاء الطليان أشرار عند الغيظ.» - «أنا لا أخشاه، أنا لم أعده بشيء. نعم ذهبت وإياه إلى المسرح مرة واحدة، كما تعلم، ولكني لم أقبل منه هدية ما، حتى ولا سلة تفاح صغيرة، ويوم جاءنا مكتوب من توفيق وعلمنا بقرب رجوعه قلت لأنطونيو بصراحة: إني لم أعد أستحسن ولا أستحل مقابلته.» - «وماذا قال؟» - «أخذ يهذي على عادته، ولكني أعرفه، هو رجل طيب القلب.»
عند ذلك قرع الباب ففتحه أبوها، فإذا بتوفيق زيدون واقفا هناك ينزع قفازه، فصاح إلياس به مرحبا، وأخذ بيده فجره إلى وسط القاعة هاتفا: سرجنت زيدون، يا لطيف يا ستار - ولطمه لطمات على كتفيه ظهر تأثيرها في ركبتيه - كنت محدوب الظهر يا ... قبل دخولك الجندية، فصرت كالرمح، وكان صدرك مثل القوس فصار مستويا منفوخا، وتلك السحنة الصفراء ... وقرصه في خده وهو يكمل كلامه: «ما أحلى الورد!» ثم لطمه على ظهره لطمة تلو الأخرى مستمرا في ذا التحبب: «ما شاء الله، وصار يلبس القفاز، يا عيني، ويمسح حذاءه، ويحلق كل يوم.»
بعد ذلك كله طوقه بذراعيه وطفق يقبله في وجنتيه.
فقال توفيق ضاحكا وهو يحاول الإفلات منه: «ما أحلى ساحة الحرب يا إلياس! وما ألطف رش المدافع! أليس في البيت غيرك يا ترى؟ دعنا نسلم.»
فقالت إذ ذاك سلمى: «الحق مع توفيق يا أبي، وهل هو لعبة يا ترى؟ أرح يديك في الأقل.» - «يا قرد، أيلام المشتاق إذا بث أشواقه؟» فقال توفيق وهو يصافح سلمى: «وكسر أضلاع المشتاق إليه، لا بأس، لا نلومه إذا كان لا يلومنا.»
فضحكت سلمى وهي تتقدمه إلى الديوان وتقول: «اجلس وقص علي قصتك كلها من الألف إلى الياء.» - «قصة طويلة يا سلمى، ولا شك أنه جائع مثلي، فبعد العشاء - إن شاء الله - غدا وبعد غد يقصها عليك بالتتابع. هاتي لنا العرق الآن وشيئا من الماذا.»
امتثلت سلمى أمر أبيها، وراحت تخدم الاثنين كأنها جارية وكأنهما أميران، بل كانت في نظرهما وهي تروح وتجيء كطيف من أطياف الجنة، خفيفة الحركة، رشيقة القوام، ساحرة اللحظ والابتسام، فلا لوم على إلياس نادر إذا غالى في حب ابنته وإعجابه بها، ولا عجب إذا قبل توفيق من أجلها كل لطمة من لطماته، وضحك لكل نكتة من نكاته، فعند الكأس والحب والشوق واللقاء لا يرى المرء على الأرض غير ما في السماء، ولو سئل سرجنت زيدون رأيه في الكون بعد أن عاد من فرنسا وتعددت زياراته إلى بيت نادر، لقال ولا شك ناسيا لوسيل والقمار وويلات الحرب: «الكون عال من الطبقة الأولى.»
أما أنطونيو كاتالان بياع الثمار والحلوى في الدكان الصغير أمام بيت نادر، فجل ما يقال فيه أن رأيه في الكون لا يليق بالنقل والنشر، ولا عجب؛ فقد حدث في عالم أنطونيو يوم عاد السرجنت زيدون من فرنسا حادث خطير غير في نظره نظام الكائنات، فأمست الحياة كثمرة بالية بين يديه، أو كقشرة موز تحت قدميه.
أما في أثناء تغيب توفيق فقد كان موفقا في عمله، سعيدا في يومه، أرباحه كثيرة، وآماله كبيرة، وكل مصاعب الحياة لديه صغيرة حقيرة، كيف لا وكان إذا نظر من باب دكانه إلى الشباك في البيت الذي أمامه تجلت له آيات السحر والجمال في لواحظ فتانة سرقت من سماء سوريا النور، ومن فجر سوريا السهام؟! وكم مرة وهو يصفف تفاحاته وموزاته رآها في الشباك تنفض البساط ، وخدها كالتفاح، وجبينها كجبين الصباح! وكم مرة وقف وسلمى في الباب عند المساء وكان الكون أمامها بابا للسعادة مفتوحا على مصراعيه! بل حدث ولا حرج عن ساعات جلس فيها وإياها على الديوان، فخيل إليه أن الأفلاك تدور تحت قدميه.
أما الآن، فالويل لمن أقفل الأبواب، والويل لمن أفسد عليه نظام الكائنات، والويل لك أيتها الفتاة السورية الناكرة الوعود، العابثة بالعهود، الويل لك من غضب أنطونيو كاتالان، والويل لمن تربع مكانه على الديوان، وحل محله في أعلى الجنان.
فها هو ذا مسرع إلى بيت صديقه القديم بتروكنتي البقال وعينه تقدح نارا، ورأسه يلتهب بالمقاصد السامية لإصلاح الكون. أجل، ليس أنطونيو من الذين يخضعون مستسلمين إلى الأقدار، أو يسكتون عمن يلعب على حسابهم بالنار.
وصل إلى الدكان فوجد من فيه ممن هم في نظره آفات الزمان مشتغلين كل بما يهمه؛ بتروكنتي يعد نقوده، وامرأته تقشر البطاطا للعشاء، وابنهما الصغير القذر متربع على الأرض وهو يكسر بيديه ورجليه لعبة من اللعب، فود أنطونيو لو أن الكون كهذه اللعبة بين يديه. - مساء الخير يا كاتالان. كيف حالك؟ - لا يهمني حالي، عندما تنتهي من عد أموالك أكلمك. - انتهيت، وأنا مصغ إليك.
فدنا أنطونيو منه وانحنى فوق صندوق الزجاج قائلا: أمر مهم.
ففتح بترو بابا صغيرا بين رفوف الدكان وأدخله إلى غرفته الخصوصية.
أما بتروكنتي هذا فقد كان قبل الحرب العظمى عضوا عاملا في جمعية (اليد السوداء)، وكانت وظيفته أن يصنع لإخوانه ما يحتاجون إليه من أدوات التدمير والفناء، على أنه فتح أثناء الحرب مخزنا لبيع المأكولات، فربح أرباحا كثيرة، ثم تزوج وندم على ذنوبه، فصار بعد ذلك أبا صالحا وتاجرا محترما، فلا عجب إذا عقد والكون معاهدة سلم أبدية، ولا عجب إذا اكفهر وجهه عندما سمع أنطونيو يقول: «اقترعنا مساء أمس.» وادعى أنه لم يفهم معناه. - «قد هجرت الجمعية يا كنتي ونسيتها، ولكن إخوانك لم ينسوك، وهم وإن كانوا ناقمين عليك يغفرون ذنبك إذا أجبت الآن طلبهم ... بل قد فرض عليك ... لا تخف؛ فالقرعة لنسف المعمل أصابت غيرك.»
فقال بترو وهو يحك رأسه بسبابته: «وماذا تريدون مني؟» - ما لا يحسن عمله سواك؛ قنبلة صغيرة مدمرة توضع بعلبة من علب الشيكولاته، وإليك الأجرة.
قال هذا أنطونيو وهو يخرج من جيبه لفافة من الورق، فعد له عشر دولارات، فابتسم قلب بترو لمرأى المال، ونسي أنه ندم وتاب إلى الله. - يجب أن تسرع في العمل. - سيتم بعد أسبوع. - حسن جدا بعد أسبوع. إلى الملتقى.
فتصافح الطليانيان المدمران للكون، وخرج بياع التفاح راضيا حتى على آفة الكون زوجة كنتي التي كانت تقشر البطاطا عند الباب، فسلم عليها، فردت السلام دون أن تنظر إليه. - ما أجمل ابنك يا مسز كنتي! تعال إلي يا كنتي الصغير؛ سأعطيك لعبة جديدة إذا كنت تقبلني.
وما كاد أنطونيو يقبله حتى وثبت الأم كاللبؤة عليه فانتشلت ابنها من بين يديه. إن السيدة كنتي تكره كاتالان كرها شديدا، وتتشاءم فوق ذلك منه، ومن عجيب تشاؤمها أن ابنها وقع ذاك المساء فجرح في وجهه، فنسبت ذلك إلى قبلة أنطونيو، ولما سألت زوجها عما يريد قال: جاء يستدين بعضا من المال، فصاحت قائلة: لا تعطه دولارا واحدا، لا معاملة بيننا وبين كاتالان.
ولكن بتروكنتي وإن كان يحب امرأته ويعمل غالبا بنصيحتها لا يخلف وعده، وبينا كان يشتغل في اليوم الثاني في غرفته الخصوصية تعثر ابنه بصندوق في الدكان فوقع وشج رأسه، فصاحت الأم مستجيرة بكل قديسي إيطاليا، فخرج الأب كنتي يسب الشيطان وأعوانه في الأرض جميعا.
وهم في تلك الحالة جاء إلياس نادر يشتري بعض الأغراض لبيته، فساعد الأب والأم في تضميد جرح الصغير، ثم اشترى من كنتي أشياء كثيرة وفيها خمسة صناديق من البيرا.
فقال بترو: ولماذا هذا الإسراف يا إلياس؟
فقال إلياس: عرس بنتي يا بترو! لي ابنة وحيدة وهي عندي بما في الدنيا، وسيكون عرسها لائقا بها. - وهل ترضى هي أن تقترن بأنطونيو كاتالان؟ - لا، لا، نحن لم نعد أنطونيو بشيء، عريسها ابن بلدها السرجنت توفيق زيدون، ويجب أن تحضر العرس يا بترو في الأسبوع القادم؛ جئت خصوصا أدعوك، وإذا كنت لا تحضر أقتلك والله. - سأحضر العرس، والله سأحضر.
وبعد أن خرج إلياس نادر من الدكان لبس بترو قبعته، وراح يستطلع خبر أنطونيو ليخفف ما بدأ يخامره من الريب، فلما وصل إلى الدكان رآه واقفا في الباب كالمعتوه وهو ينظر إلى السيارة أمام بيت نادر، السيارة التي جاء بها السرجنت زيدون ليخرج بسلمى إلى النزهة. - ما بالك يا كاتالان؟
فأجابه مبهوتا: لا شيء، لا شيء. - هل علمت أن سلمى نادر ستقترن بابن بلادها السرجنت زيدون؟
فهز أنطونيو كتفه ولعن نفسه باطنا لأنه لم يتمكن من إخفاء غمه واضطرابه، ثم قال وقد تأججت النار فجأة في عينه: هل باشرت العمل؟ عجل به عجل. - سأعجل به يا أنطونيو.
وعاد بترو إلى بيته يضحك ويقول: ما أجمل المعمل الذي تريد نسفه يا كاتالان!
وفي اليوم الثالث بعد هذه المقابلة، مرض ابن كنتي بالحمى، فنذرت أمه النذور للقديسين من أجله وهي تلعن أنطونيو كاتالان وتود أن تنظف الأرض منه، فشاركها زوجها بالصلوات واللعنات، وتجاوزها إلى التأملات؛ تأمل ما حدث لابنه الصغير يوم جاءه كاتالان بطلب من «الجمعية»، وفكر فيما أصابه في يوم كان يعمل ليلبي طلب الجمعية، وها هو ذا اليوم فريسة الحمى طريح الفراش، فسأل كنتي نفسه قائلا: أذلك لأني قلت: يجب أن أبر بوعدي لكاتالان؟ الله ينتقم منك يا كاتالان.
ثم خطر لكنتي خاطر فيه الكفارة عن ذنوبه كلها، فجاء في آخر الأسبوع بعد أن زال الخطر عن صغيره إلى دكان أنطونيو بعلبة مختومة بالشمع الأحمر ودفعها إليه قائلا: هذا آخر عمل أصنعه للجمعية، قد انتهيت من هذا العمل، أفهمت يا كاتالان؟ انتهيت، انتهيت تماما، وإياك أن تفتح العلبة؛ إن في فتحها قضاء الغرض.
فقال كاتالان متهللا: أشكرك يا كنتي، أشكرك ثانيا باسم الجمعية.
وفي ذلك اليوم كانت الأهبة للعروس قائمة في بيت نادر، فلبث أنطونيو في دكانه ينتظر قدوم السرجنت زيدون؛ لأنه لم يشأ أن يخص الفتاة وحدها بغضبه، ولما جاء السرجنت العريس استأجر أنطونيو رسولا وأعطاه العلبة قائلا: خذها بعد نصف ساعة إلى سلمى نادر وسلمها إياها يدا بيد، بعد نصف ساعة؛ ثلاثين دقيقة.
وكان أنطونيو قد باع ثماره وحلواه كلها استعدادا لهذه الساعة السعيدة، فأقفل الدكان وذهب توا إلى محطة سكة الحديد ... ها هنا تنتهي وظيفتنا وتبتدئ وظيفة رجال الشرطة.
لما وصلت العلبة إلى سلمى نادت والدها لتطلعه على ما فيها، وهي تقول: هدية من أنطونيو؛ كنت دائما أقول، ولا أزال أقول: هو رجل طيب القلب.
على أن والدها عندما همت بفتح العلبة وقفها قائلا: هؤلاء الطليان شياطين؛ قد يكون فيها ديناميت، أنا أفتحها خارج البيت.
وفي تلك الآونة، قبل أن يصل إلياس نادر وهو يحمل العلبة إلى الخارج دخل اثنان من رجال الشرطة السريين يوقفان باسم الشرع حفلة العرس.
ثم قال أحدهما مخاطبا رب البيت: وأين الهدايا التي جاءتكم؟
فأشار إلياس إلى مائدة وقد وضعت عليها هدايا العرس. - وهل جاءكم هدية من أنطونيو كاتالان؟ - هاكها.
وقدم إلياس نادر العلبة وهو يتنفس الصعداء، فاستلمها الشرطي متحذرا وهو يقول: اشكروا الله أنكم نجوتم من الهلاك جميعا. - ألم أقل لك يا سلمى: إنه قد يكون فيها ديناميت؟ يا خبيث يا كاتالان، ستنال جزاء ما اقترفت يداك، فالقضاء لا يرثي للمجرم ولا يحابي في عدله.
وكان في دائرة الشرطة مشهد آخر في تلك الساعة له صلة بعرس سلمى نادر وبحبيبها السابق أنطونيو كاتالان.
وهاكم أنطونيو، وهاكم صديقه كنتي أمام المدير؛ الأول يحترق كمدا ويتحفز انتقاما وهو ينظر إلى ابن بلاده نظرات كأنها الخناجر، والثاني يضحك في سره وهو هادئ النفس مطمئن البال.
وكيف وصل الاثنان إلى دائرة الشرطة؟ وكيف علمت الدائرة بما كاد يحل ببيت إلياس نادر من الدمار والهلاك؟ هي الحلقة السرية في هذه القصة، ولكننا لا نكتم القارئ حتى أسرار من هم حراس الأمن العام وأمناء الهيئة الاجتماعية؛ يوم جاء أنطونيو إلى دكان بتروكنتي كان من حسن الاتفاق أو من سوء الاتفاق لأنطونيو أن جاء بعده أحد رجال الشرطة يزور صديقه القديم، فلم يجده، فاستقبلته زوجة الطلياني وأكرمت وفادته؛ إنها تعلم أن سعادتها الزوجية تتوقف على حسن صلتها بهؤلاء الناس.
وقد وعدت السيدة كنتي الشرطي عندما زار الدكان في اليوم التالي أن تساعده في استكشاف الغرض الغامض من زيارة أنطونيو لزوجها، وكان أن مرض ولدها - كما أسلفنا القول - فتشاءمت كما تشاءم زوجها بأنطونيو، وألحت عليه بأن يطلعها على الحقيقة بشأن زيارته، فأخبرها بنصها ولم يكذب: قد اشتريت له بعض المواد لصنع قنبلة صغيرة. - للجمعية؟ لبيت نادر؟ لمن؟
ها هنا وقف الرجل قائلا لامرأته: ما تعودت أن أبوح بأسرار الجمعية.
أما المرأة فبادرت سرا إلى دائرة الشرطة تطلعهم على الخبر وقد كتمت أن زوجها هو صانع القنبلة.
بيد أن رجال الشرطة لا يجهلون تاريخ «اليد السوداء» في تلك المدينة، فسارعوا إلى بيت نادر ليدفعوا عنه البلاء، وألقوا القبض على أنطونيو في محطة سكة الحديد ساعة كان يشتري تذكرة السفر، وكذلك على بترو كنتي المشهور بصنع القذائف والقنابل لجمعية «اليد السوداء».
وها هما أمام المدير، الواحد يضحك في سره، والآخر يود لو أن بيده تلك القنبلة فيقذف بها ذلك المكان متمثلا بقول ذلك الذي هدم الهيكل في قديم الزمان: «علي وعلى أعدائي يا رب.»
وها هو ذا الشرطي وقد عاد من بيت نادر يحمل العلبة الجهنمية.
فعندما رآها أنطونيو صاح كالمجنون: «هي علبتي، هي تخصني، أنا دفعت ثمنها، أعطوني إياها فأعلمكم كيف يكون العدل، وكيف يكون الموت.»
قال هذا وهو يحاول الإفلات من أيدي الشرطة، فألزموه مكانه.
ثم تكلم بتروكنتي، فصدق مدير الشرطة الخبر، قص القصة كلها وختم كلامه قائلا: «افتحوا العلبة فتتأكدوا من صدق كلامي، وإذا كنتم تخشون فتحها؛ فأعطوني إياها واخرجوا من القاعة، فأنا أفتحها وأتحمل عاقبة أمرها.»
فقال المدير: «لا نكلفك ذلك يا كنتي؛ فقد برهنت مرة على توبتك الصادقة، وأنا الآن أفتح العلبة بناء على ما قصصت.»
قال ذلك وفض ختم العلبة، فقطع الشريطة المربوطة بها ثم فتحها؛ فإذا هي ملآنة من الأرز الذي يذرونه في تلك البلاد على العروسين تبركا وتيمنا، وعلى وجه العلبة المال الذي دفعه أنطونيو، العشر دولارات، ومعها ورقة كتب عليها: «يهنئك أنطونيو كاتالان، ويرجو أن تقبلي منه هذه العشر الدولارات فتشتري بها هديتين؛ الواحدة لك والثانية لزوجك.»
وكان أنطونيو في أثناء ذلك غائصا في لجة الهواجس، فرفع رأسه بعد أن سمع هذه الكلمات وخاطب بتروكنتي قائلا: ما أشرفك يا ابن بلادي! وما أكرمك! وما أعظم فضلك! وأنا اليوم أتوب توبتك، وأرجو أن أكون على شيء قليل من فضائلك في المستقبل. إني تائب أيها المدير، تائب توبة خالصة صادقة، وبرهانا على ذلك أترك هذه العلبة بين يديك لتصنع بها ما تشاء، ولكني أتمنى إرسالها إلى صاحبتها.
وكانت الكلمة الأخيرة للعروس إذ عادت العلبة من دائرة الشرطة في ذلك اليوم بعد الإكليل إليها: «ألم أقل: إن أنطونيو كاتالان رجل طيب القلب؟!»
بقضاء وقدر
قصة سياسية رمزية
1
كان في قديم الزمان في بلاد هيروس مدينة تدعى «نبال» يحكم أحياءها الخمسة خمسة شيوخ مستقلون الواحد عن الآخر كل الاستقلال، وكان الناس في تلك الأحياء يعيشون متقاطعين متنابذين، فيستهلك سكان كل حي أنفسهم؛ يستغل بعضهم بعضا، ولا يعرفون من قواعد الحياة الاجتماعية غير قاعدة واحدة قديمة هي: الطاعة للكبير والعصا للصغير.
وكان الكبير فيهم ينشأ على ثلاثة أصناف من الحب: حب الذات، وحب المال، وحب الجاه، فصار كل صغير إذا ما كبر يقلد كباره الوجهاء حتى تأصلت في جميع الناس طبائع الظلم والأثرة، وسادت المصلحة الخاصة المصالح العامة كلها.
وبما أن كل حي من أحياء نبال كان مستقلا عن الآخر مقاطعا له، عملت في أبنائه عوامل العزلة والأثرة، فحرموا فوائد المخالطة ومنافع التضامن، وتفشت فيهم ثلاثة أصناف من الفقر: الفقر المالي، والفقر الأخلاقي، والفقر الأدبي.
ندب الشيوخ ما صارت إليه أحوال رعاياهم المادية والمعنوية؛ ندبوها سرا في قلوبهم.
ولكن بعض الناس شكوا حالهم صارخين صاخبين، وبعضهم قاموا يتهمون الشيوخ بما حل بهم ويطلبون الإصلاح، فاجتمع الشيوخ سرا ذات ليلة، وبعد الصلاة والتأمل والمذاكرة في المصالح المشتركة، أدركوا أن سياستهم تزول إذا هم سلموا بمطالب المصلحين، وأدركوا أنهم لا يستطيعون أن يوحدوا سلطاتهم الخمس؛ لأن كل واحد منهم طالب بالسيادة لنفسه متمسكا بها، فقرروا لذلك أن يذكروا شعوبهم بالعقيدة المثبتة في كتب الدين ويأمروهم بالعمل بها؛ وتلك العقيدة هي أن الشعوب تشقى وتسعد بقضاء وقدر.
عندما سمع الناس كلام الشيوخ طأطئوا رءوسهم طوعا وحزنا، وراحوا يسترحمون الله، ولكن أفرادا فيهم أعطوا من الشجاعة والعقل أكثر من سواهم قاموا ينادون بخلع الشيوخ، وبتأسيس حكم واحد في مدينة نبال، وقد تبع هؤلاء الزعماء في كل حي جماعات من الناس، فأعلنوا الثورة على الشيوخ، فاشتعلت نارها اشتعالا متقطعا يبدو حينا لهيبا، وحينا دخانا، فيسطع النور تارة وطورا يتلاشي؛ ذلك لأن أهل نبال كانوا ينشدون الإخاء والمساواة، ويرغبون في العدل والحرية، ولكنهم لفقرهم وضعفهم المادي والمعنوي لم يستطيعوا الجهاد المستمر في سبيلها، فقالوا بعد وميض من النجاح في دجى الفشل والقنوط: «الحق مع شيوخنا؛ إن بلاءنا وذلنا بقضاء وقدر.»
2
جاء فاتح من الشرق فاستولى على مدينة نبال في بلاد هيروس، وولى عليها حاكما واحدا، فرفع الحواجز القديمة بين الأحياء، وحث الناس على المخالطة والمشاركة والتعاون والتضامن: «كونوا إخوانا فتثرون وتسعدون.»
أطاع الناس حاكمهم الجديد، ولكنهم في اتحادهم كانوا كالماء والزيت لا كالخمر والماء؛ ذلك أن حب الذات وحب المال وحب الجاه - ناهيك بما تأصل فيهم من نفور بعضهم من بعض، وكره بعضهم لبعض، وتعصب بعضهم على بعض - قد حالت كلها دون تبادل الثقة وصفاء النية وحسن الظن، وبكلمة أخرى: قد كان الإدغام على دغل، فدب بين الناس روح التنابذ والتخاذل، ومشى الكبار على هام الصغار إلى أغراضهم الخاصة، بل ضجت حول العرش المكائد والأطماع، فرأى الفاتح صونا لنفسه ولعرشه أن يسود الشيوخ كما كانوا سائدين في الماضي، فقسم المدينة إلى أحياء، وسعى في إقامة التوازن بين أهاليها، فقوى الضعيف على القوي حينا، وحينا تملق للقوي دون الضعيف، وكان في أكثر الأحايين يغري بعضهم ببعض.
قال الفاتح للشيوخ المستقلين المقيدين بالعرش: «الطاعة منكم لي تضمن الطاعة منهم لكم.» فصاغوا لأنفسهم قيودا من ذهب، وللناس قيودا من حديد.
ظلت مدينة نبال في بلاد هيروس بضعة قرون على هذا الحال يستغل الشيوخ الشعب، ويستغل الفاتح الشيوخ، وكلهم وقد خيم عليهم الفقر والجهل والذل يقولون: «بقضاء وقدر.» وكلهم يسترحمون الله.
3
جاء الفاتح من الغرب فاستولى على مدينة نبال في هيروس، وكان قد أرسل إليها رواده السود، فعلموا أبناءها لغته، ثم جاءت بناته البيض يعلمنهم أساليبه في الحب والسلوك وزينة العيش.
وقد علم الفاتح من رواده وبناته أن شعب نبال قد نشأ على ثلاثة أصناف من الحب: حب الذات، وحب المال، وحب الجاه؛ فقال في نفسه: هو ذا شعب مثل شعبنا، ولا يفل الحديد إلا الحديد.
لذلك باشر حكمه باسم المال وبه، فبذل منه بلا حساب في مدينة نبال وبلاد هيروس، فجاءه الشيوخ طائعين شاكرين، وبيد كل واحد قيد ومفتاح: هو ذا مفتاح السيادة يا صاحب الدولة، وهو ذا قيدها: فرق تسد، وابذل تدم.
ولكن هذا الفاتح الجديد يحب المال - كما قلت - حب أبناء نبال له، فلم تمكنه شهوته هذه، ولا مكنته خزانته من البذل الدائم. ما العمل إذن؟ إن هناك قيدا غير ذاك الذي أشار به الشيوخ، فقد استعمل المفتاح؛ مفتاحهم، واستعاض عن القيد بأن أقام الحواجز القديمة بين الأحياء.
ثم جاء بجنوده البيض والسود والصفر يعزز حكمه، فنشأت النفرة في قلوب الناس، فقام من يحسنون منهم الكلام ينتقدون الفاتح ويطعنون عليه، وقام كذلك الشيوخ؛ لأنه بدل أن يسترضيهم بالمال في الأقل شرع يتجهمهم ويشتمهم ويهددهم بجنوده السود، فنهض في بعض الأحياء الناس عليه، واشتعلت في بلاد هيروس للمرة العاشرة أو العشرين نيران الثورة.
وكان الناس في نبال يحبذونها في قلوبهم ويلعنونها بألسنتهم، بيد أن ذلك لم يخف على الفاتح؛ فكرههم واحتقرهم وعاملهم معاملة السيد للعبيد.
ولكن الشيوخ الذين يمتصون كالعلق دم الشعب ظلوا يتملقون الفاتح ويتزلفون له، أما هو فلأنه أبغضهم جميعا - ولا يستقيم مع البغض عمل - نسي تقاليد أمته المجيدة، وأمسى لا يحسن إدارة شئون بلاد هيروس ومدينة نبال، فتفشت بدوائر الحكومة كل أنواع الظلم والفساد.
استمرت هذه الحال بضع سنين حسبها الناس بضعة قرون وهم يئنون ويشكون ويقولون مع شيوخهم: «بقضاء وقدر.» ثم يسترحمون الله.
4
ضرب البؤس في نبال أطنابه، وأرسل الغل في كل ناحية ضواريه، فأمسى الفاتح بين الاثنين حائرا في أمره هلعا متضعضعا، وقد خطر له أن يغير خطته وسلوكه الإداري، بل سلوكه الشخصي أيضا، عله بالحب والحكمة والعدل يظفر بطاعة أهل هيروس وبرضاء أهل نبال، فيوفر في الأقل ما ينفقه على جنوده السود، وينجو من الغل الذي يغلي في صدور الناس.
ولكن الناس وقد سبق الغل إلى قلوبهم فتوطنها - احتلها - أمسوا لا يثقون بهذا الفاتح ولا يحسنون الظن به، ولا يصدقون ما يقول، بل كانت لهم الجرأة أن يقولوا له: «إننا لا نصدقك ولا نؤمن بك.»
ومع ذلك فقد أسس الفاتح في مدينة نبال حكومة دستورية مستقلة تعززها المجالس النيابية والوزارات، وتحميها الجندرمة والسيارات، ولها فوق ذلك رايتان ولحنان وطنيان، فقال الناس: «هي مكيدة؛ فهو يريد أن يزيد فقرنا فقرا فندخل رءوسنا في ربقته صاغرين.»
وأقام في بلاد هيروس حاكما وطنيا واحدا، فوحد الأحياء، وعين الوزراء من الأدباء والشعراء، وأسس المعاهد العلمية والصناعية، ثم قطع الأشجار ليوسع الطرق للدفاع عن الوطن، وضحى بجنوده الغرباء في هذا السبيل، فقال الناس: غربي خبيث، لطيف الحديث، يذبح إخواننا دفاعا عنا، ويقدم لنا كأسا من الحنظل تطفو على وجهها حبب شبيهة بحبب الشمبانيا، غربي خبيث.
رفت سمعة هذا الغربي الفاتح كالغراب في بلاد هيروس وفي مدينة نبال، فانتشرت منها أنواع السموم، فقحلت حقول الجميل والمعروف، وأظلمت مساكن حسن الظن، وعندما عم البلاء واستولى اليأس والغم حتى على قلوب الشيوخ، قام أحد الحكماء منهم مواسيا معزيا فقال: «هو مثل كل الفاتحين، ونحن مثل كل المستضعفين الذين يقيمون في طريق الفاتحين. إن بلاءنا بقضاء وقدر.»
5
سمع الفاتح هذه الكلمة فأنكرها لأول وهلة، ثم ذكرها ورددها مرارا في نفسه، وكان من أمره أنه عاد إلى بلاده يستشير كبار قومه، فقال أحد الشيوخ هنالك : وهل نحن في هيروس للتجارة والكسب أم للخسارة والذلة؟ هذا الشعب مثلنا محب للمال والجاه، ومحب كثيرا لنفسه، فلا يمكننا أن نستولي عليه وعلى موارد ثروته إلا في تمليقنا له، وتمجيدنا لأجداده؟
وقال شيخ آخر: إنما نحن في هيروس لنعزز مركزنا البحري ونتولى بابا إلى الشرق.
وقال ثالث: ولكن أصحاب ذاك الباب أتعبوا رأسنا، دوخونا، فيجب علينا استرضاؤهم، وخير الوسائل هي أن نرسل بناتنا إلى تلك البلاد؛ فنصاهر أهلها ونتخذهم لنا أخدانا وأعوانا.
وقال الرابع: وهل يستوي السيد والعبد؟ وهل يستوي العالم والجاهل؟ أتريد أن نصاهر نحن أرباب التمدن من لا يعرفون من المدنية غير عنوانها؟ إني أرى أن نرسل إليهم الراقصات والقيان من بناتنا، ونشفعهن بالشمبانيا. لاعبوا القلوب فتذهب العيوب، خدروا العقول فتستقيم الميول.
ثم انبرى للكلام أحد المعارضين هناك فقال: لا أمل لنا في هيروس ونبال ولا راحة بال إذا سلكتم هذا المسلك المشين، لا أمل لنا في تلك البلاد إلا إذا أعطينا أهلها أحسن ما عندنا من النظم، ومن العلوم، ومن الأخلاق، وإذا كنا لا نستطيع ذلك فعلينا أن نخرج منها في الحال.
ضج الشيوخ فصاحوا بالرجل صوتا واحدا: عدو الوطن، خائن الأمة، وأخرجوه من المجلس.
ثم أقروا بالإجماع رأي التخدير، وعاد الفاتح إلى هيروس ونبال يقيم فيهما معالم السرور، ويعبد الطرق إلى اللذات، فقال بعض الشبان الذين يدعون الحكمة ويؤثرون عليها المال وظلا من الجمال: قد صدق شيوخنا؛ لا بد من هذا الفاتح مهما كان أمره. إن بلاءنا حقا «بقضاء وقدر»!
6
طوى الزمان أيامه ولياليه وكانت نبال تزداد فقرا، وهيروس تزداد غلا، وقد تكاثرت في البلاد الحسان والمسارح والحانات. سكرت نبال فظنت نفسها أخت قارون، وتخدرت هيروس فخيل إليها أنها ربة التاج والصولجان.
وقد رأى الفاتح أن يستمر في التخدير، فأحيا لأهل نبال ليلة راقصة في يخته الراسي بميناء البلد.
ليلة راقصة في يخت الفاتح العظيم، إنه لتعطف جميل يشمل الأوانس والشبان، ولا يزدريه الشيوخ، ولكن الرياح لا تجري بما تشتهي السفن دائما؛ ففي الليلة السابقة لليلة اليخت الراقصة شبت في مخازن نبال النار فاندلعت ألسنتها في كل جانب، والتهمت قسما من ثروة المدينة.
وعندما انبلج الفجر فأشرقت الشمس على ركام سوداء تحت سقوف هاوية، وبين جدران متهدمة، اندلعت ألسن الظن والغل، فقال الناس: «غربي خبيث، يبسم لنا في النهار ويحرق مدينتنا في الليل، غربي أثيم يسقينا الشمبانيا لينسينا البنزين.»
غضب الفاتح المسكين غضبة البريء وقال: «أقسم بالله إنها بقضاء وقدر.»
7
أنير اليخت بالكهرباء، وعزفت فيه الموسيقى، واصطف الخدم لاستقبال الناس، فتقاطرت إليه الأوانس والشبان من مدينة نبال، وجاء كذلك كبار القوم يتقدمهن نساؤهم وبناتهم.
دارت رحى السرور التي تطحن القلوب والعقول، ثم دوت كالبنادق زجاجات الشمبانيا، فثمل الناس وهم على رمية نبل من الحريق الذي كان لا يزال يرسل إلى السماء من أنفاسه المتقطعة لهيبا ودخانا.
استمر الرقص حتى انبلج الفجر على تلك الركام والطلول، فاستفاق إذ ذاك الفاتح وقد اكفهر منه الجبين، استفاق من ثمله فأحس بما يلتهب كذلك في قلوب النباليين إخوان الراقصين والراقصات، وقد قال في نفسه: لو أجلنا الليلة الراقصة! نعم كان من الواجب أن نؤجلها.
ثم قال يهون الأمر: «ولكن كبار نبال لم يفكروا في ذلك، فقد بادروا إلى الحفلة حتى رئيسهم الأكبر، فإذا كانوا هم لا يشعرون بالنكبة؛ فهل ألام أنا الأجنبي؟»
ولكنه عندما سمع في اليوم التالي صوت المدينة المنكوبة تردده صحافتها وتجارها ونساؤها، ذكر تلك الكلمة النبالية الهيروسية المشهورة فقال: وهل كان يحضر شبانكم وبناتكم وشيوخكم الحفلة الراقصة لو لم يكونوا متيقنين مثلي أن الحريق كان بقضاء وقدر؟ •••
بقضاء وقدر! أجل، وأنت هناك يا أخي بقضاء وقدر، وإن القضاء ليسعى بينك وبين أهل هيروس ونبال، والقدر يهدم ما تبنيه ويبنونه من الآمال.
صوت هادئ بارد خافت، له مع ذلك روعة السؤدد والعظمة، تموج إلى مسمع الفاتح من ناحية الغرب، فسمعه كذلك يقول: أيها الزميل الكريم، والفاتح العظيم، مهما كان من حسن ظنك وصفاء نيتك وشريف مقاصدك، فإن شهرة سوداء تقدمت ما تأخر من أعمالك، وإن ما فيه تسويد صحيفتك وتشويه سمعتك لمثل ما فيه نكبات هيروس ونبال: بقضاء وقدر!
Unknown page