في سنة 1930 كان يبدو للمتأمل أن الصحافة قد باتت من الفنون التي ينجح فيها سوى غير المصريين، وقد ينتهي من تأمل الواقع - في انتشار الصحف غير المصرية، وانخذال الصحف المصرية، وغنى الصحفيين الأجانب وامتلاكهم الدور الفخمة والضياع الخصبة، وفقر الصحفيين المصريين، وتشردهم في الشوارع لا يملكون كوخا ولا قيراطا - أن الكاتب الأجنبي في مصر أذكى عقلا، وأبعد نظرا، وأدق تحريرا للصحف، مجلات كانت أو جرائد، من الكاتب المصري.
ولكن هذا الاستنتاج سرعان ما ينقلب إلى النقيض عندما كان يتعمق القارئ في تأمله ويربط النتائج بأسبابها؛ فالحقيقة أن الظروف السياسية كانت مدة الاحتلال الإنجليزي (أي سنة 1920) تعمل لكبت الروح الوطنية بمساعدة الجرائد الموالية للإنجليز، ومعاكسة تلك التي تناوئهم، فنحن نرى عقب الثورة العرابية أن الحكومة تدفع تعويضا ضخما لأصحاب جريدة غير مصرية، لأن الثائرين كسروا المطبعة لانضمام هذه الجريدة إلى الخديو، وكان هذا فاتحة اليسر والخير لتلك الجريدة، ثم نجد الإنجليزية بعد ذلك يسندون بنفوذهم جريدة المقطم التي أصبح أصحابها بهذا السند القوى من أغنياء القطر المعدودين؛ وعلى هذا كان يرى القارئ في سنة 1930 أن تفوق الصحف غير الوطنية لا يعزى إلا لأسباب لا يرضاها مصري لنفسه.
ثم جاءت الحركة الوطنية سنة 1919، وحدثت الانشقاقات في الوفد بعد ذلك وصار لكل حزب جرائده، والصحفيون غير الوطنيين في مصر يعيشون كالملوك «فوق الأحزاب» فهم يتمصرون ولكن تمصرهم لا يحملهم على الغلو في الوطنية؛ ولذلك فهم يستفيدون من الوطنية المصرية لأنهم يتحامون ما فيها من غلو، هذا الغلو الذي جعل الأستاذ عبد القادر حمزة يصدر منذ سنة 1920 إلى سنة 1930 «14» جريدة تقفل كلها، بعضها إقفالا نهائيا وبعضها لبضعة أشهر.
فلنفرض أننا قابلنا بين صحفي غير وطني وبين الصحفي المصري عبد القادر حمزة، فهل من الإنصاف أن نقيم هذه المقابلة على النتيجة الحاضرة، وهي موت البلاغ وإفلاس صاحبه، بينما كانت الصحف المحايدة في سنة 1930 حية تملأ الشوارع، وأصحابها قد تكدست خزائنهم بالمال؟
نظن أن ذلك ليس من الإنصاف، والذي كان يقول بعجز المصري عن تحرير الصحف وإدارتها لا يمكنه أن يضرب المثل بالبلاغ والصحف المحايدة التي كانت تنافسها في ذلك الوقت، فإنه يفتح أعيننا للطرق التي كان يعيش بها الصحفي الأجنبي من الصحافة، وهي طرق لا يرضاها مصري.
ومن البديهي أنه لا يمكن لمصنع في العالم أن يعيش إذا كان يعرض للإغلاق 14 مرة في عشرة أعوام، كما حدث للجرائد التي أصدرها الأستاذ عبد القادر حمزة.
وهكذا أوشكت صناعة الصحافة في ذلك الحين أن تفلت من أيدينا وتمسي صناعة غير مصرية يحتكرها غير المصريين، وليس للصحفي الأجنبي ميزة علينا فيها سوى أنه لا يغضب عندما يجب الغضب، ولا يبالي مصلحة مصر تعرض للضياع ما دام هو يربح هذا الضياع ما يزيد دخله بض مئات من الجنيهات، وهو على كل حال يمتاز بوطن آخر يمكنه أن يذهب إليه ويعيش فيه إذا لم يوافقه العيش في وطننا، ولكن أين نذهب نحن؟!
وكان عارا علينا أكبر العار أن يوكل تكوين الرأي العام المصري إلى أقلام غير مصرية، غريبة عنا في المزاج، لا يشغل قلوب أصحابها ما يشغل قلوبنا من أماني وآمال، ولا يؤلمها ما يؤلمنا.
وظهر نوع من الصحف المحايدة، وكان على رأس إحدى هذه الصحف صحفي قارح، وكانت توارب وتراوغ فلا تستطيع إلا أن تشمئز منها؛ فهي تكتب أحيانا مقالا مستور اللهجة والغاية، تخرج منه بأن حكومة معينة حسنة وحزبا معينا حسن، وكان هذا هو النفاق الذي يشمئز منه الإنسان.
وكانت هناك جريدة غير مصرية تهاجم حزبا، ولكنها كانت تخشى أن يفلت منها القراء المائلون إليه، فهي تشطر نفسها شطرين لتضمن القارئ، فتجعل نفسها حكومية، وتجعل مجلة أسبوعية أخرى تصدر عن نفس الدار حزبية، فمن يكره الجريدة اليومية لحكوميتها يقرأ المجلة الأسبوعية لحزبيتها!
Unknown page