56

Siddiqa Bint Siddiq

الصديقة بنت الصديق

Genres

يثقل في حجري، فذهبت أنظر في وجهه فإذا بصره قد شخص وهو يقول: «بل الرفيق الأعلى من الجنة» قلت: خيرت فاخترت والذي بعثك بالحق. وقبض بين سحري ونحري ودولتي ولم أظلم أحدا. فمن سفهي وحداثة سني أنه

صلى الله عليه وسلم

قبض وهو في حجري، ثم وضعت رأسه على وسادة، وقمت ألتدم مع النساء وأضرب وجهي.»

ولم تشهد دفنه عليه السلام بعد وفاته بيومين؛ لأن المسلمين كان قد بلغ في تنافسهم في حبه أن يتولى كل فريق منهم مراسم دفنه على ما تعود في بلده وبين أهله، وكان أهل مكة يسوون قاع القبر وأهل المدينة يقوسونه، فبعث العباس بن عبد المطلب رجلين يدعو أحدهما أبا عبيدة بن الجراح ويدعو الآخر أبا طلحة، وأولهما يضرح كأهل مكة والآخر يضرح كأهل المدينة؛ فعاد صاحب أبي طلحة به ولم يعد صاحب أبي عبيدة، فحفر اللحد على طريقة أهل المدينة، وتولى القائمون على الجثمان الكريم دفنه بعد انقطاع المودعين عند هزيع من الليل. قالت عائشة وفاطمة - رضي الله عنهما: «ما علمنا بدفنه

صلى الله عليه وسلم

حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل.»

وما برحت منذ تلك اللحظة تلازم البقعة الخالدة ولا تفارقها إلا للعمرة أو الحج أو لزيارة قريبة، وقلما كانت تزور.

واتخذت سكنها في الحجرة المجاورة لقبره وهي لا تحسب أنها قد فارقت منه غير مشهد جثمانه؛ فقد كانت تزوره زيارة الأحياء، ودفن أبوها إلى جواره بعد سنوات، فكانت تزورهما كذلك زيارة الأحياء. فلما دفن معهما عمر جعلت بعدها تنتقب وتلبس ملابس الحجاب وهي تزور أولئك الأصدقاء المتجاورين، كأنهم بقيد الحياة.

وكانت في أوائل العقد الثالث على أكبر تقدير عند وفاته عليه السلام، فعاشت في صحبته زهاء عشر سنين، وعاشت في ذكراه خمسين سنة. وحسبنا من شعور الناس بجلال تلك الذكرى في نفسها أن أحدا لم يخطر له خاطرة عن السيدة عائشة تجيز التفكير في حياة زوجية أخرى كأنه خاطر حرمته قداسة تلك الذكرى وهيبة ذلك الوفاء، فضلا عن الحكم بتحريمه في سورة الأحزاب على سبيل التشريع.

ولم تكن حياة السيدة عائشة فارغة في خلال السنين الطوال من لدن فارقها زوجها العظيم وهي تجاوز العشرين إلى أن فارقت الدنيا وهي تقارب السبعين؛ لأنها في حدة نفسها ورفعة مكانها لا تقبل الفراغ. فما هو إلا أن هدأت ثائرة الفتنة بعد وفاة النبي - عليه السلام - وتوفر المسلمون على تحصيل مراجع الدين حتى كانت هي المرجع الأول فيما حفظ عندها من آي القرآن وما حفظته من السنن والأحاديث، وحتى كان بيتها مثابة الزوار من أبنائها وبناتها، يدعونها يا أمه! ومنهم من هي في سن بناته الصغريات، ويا له من دعاء محبب إلى الأسماع!

Unknown page