وكان الأشعث زعيما قويا محبوبا من قومه عظيم المكانة فيهم، ولعلك تذكر أنه ذهب عام الوفود إلى المدينة، فلقي رسول الله بها على رأس ثمانين رجلا من كندة قد لبسوا كلهم الحرير، وأنه أسلم وخطب إلى أبي بكر أخته أم فروة، فعقد أبو بكر الزواج ثم تأجل تنفيذه حتى يطمئن أهل العروس إلى فراقها، لا عجب وهذه مكانته أن يغضب قومه لغضبه، وأن يخرجوا مقاتلين معه، وقد خرجوا وقاتلوا زيادا واستردوا السبي وردوا إليهن عزتهن وكرامتهن.
من يومئذ أثارها الأشعث في كندة وحضرموت ضروسا شعواء، حتى خاف زياد مغبتها، فكتب إلى المهاجر بن أبي أمية يستنصره، وكان المهاجر قد انحدر من اليمن، كما انحدر منها عكرمة، للقضاء على ما بقي من الردة في شبه الجزيرة، وسار المهاجر من صنعاء، وسار عكرمة من اليمن وعدن، والتقيا بمأرب، وقطعا معا مفازة صيهد، وعرف المهاجر ما أصاب زيادا، فاستخلف عكرمة على الجيش، وتعجل في كتيبة سريعة، حتى إذا التقى بجيش زياد هاجم الأشعث فهزمه وقتل رجاله، وفر الأشعث والناجون معه فالتجئوا إلى حصن النجير.
كانت النجير مدينة منيعة ليس من اليسير أخذها عنوة، وكان لها ثلاثة سبل تتصل عن طريقها بما وراء الحصن، فجاء زياد فنزل على أحدها، ونزل المهاجر على الثاني، وظل الثالث مفتوحا لأهل الحصن يجيء إليهم منه المدد، على أن عكرمة قدم في جيشه فنزل على ذلك الطريق فقطع عنهم الميرة ورد الرجال.
ولم يكتف بهذا، بل بعث فرقا من الفرسان تفرقت في كندة إلى الساحل، وجعلت تمعن في الناس قتلا، ورأى المتحصنون بالنجير ما لقي قومهم، فقال بعضهم لبعض: «الموت خير مما أنتم فيه، جزوا نواصيكم حتى كأنكم قوم قد وهبتم لله أنفسكم فأنعم عليكم فبؤتم بنعمته، لعله أن ينصركم على هؤلاء الظلمة.» وجز القوم نواصيهم وتواثقوا ألا يفر بعضهم عن بعض، وخرجوا حين تنفس الصبح فاقتتلوا في الطرق الثلاثة المؤدية إلى الحصن مستميتين. ما تجدي الاستماتة وجيوش المهاجر وعكرمة لا تغلب عددا وبأسا؟! وأيقن أهل النجير حين رأوا المدد لا ينقطع عن المسلمين أن القضاء نازل بهم لا محالة، فتولاهم اليأس فخشعت نفوسهم وخافوا الموت، وخاف الرؤساء على أنفسهم فهانت عليهم نخوتهم، فخرج الأشعث إلى عكرمة ليستأمن له المهاجر على نفسه وعلى تسعة معه على أن يفتح للمسلمين الحصن ويخلي بينهم وبين من فيه، وأجابه المهاجر إلى ما طلب على أن يكتب كتابا تكون فيه أسماء التسعة الذين يطلب أمانهم، وكتب الأشعث أسماء أخيه وبني عمه وأهليهم، ونسي أن يكتب اسمه معهم، ثم جاء بالكتاب فختمه وتسلمه المهاجر، وسرب الأشعث التسعة من الحصن وفتح أبوابه للمسلمين، فاقتحموه فلم يدعوا فيه مقاتلا إلا ضربوا عنقه، وسبى المسلمون النساء ممن في النجير، فكانت عدتهن ألف امرأة، ووضع المهاجر الحرس على الأسرى وعلى الأموال حتى يحصيهم ويبعث بالخمس إلى المدينة.
يا عجبا للحياة وتصاريفها! فهذا الأشعث الذي ارتكب هذه الخيانة النكراء، والذي أسلم قومه للقتل وأسلم ألف امرأة للسبي، هو هو الأشعث الذي لم يطق أن يسمع نداء خالاته نساء بني عمرو بن معاوية: «يا أشعث، يا أشعث، خالاتك، خالاتك!» فخف للثأر لهن وأنقذهن من أسر زياد، والأشعث الذي ذهب إلى النبي فيما عرفت من كرامة فأكرمه المسلمون، هو هو الأشعث الذي تدلى إلى هذا الحضض فلعنه المسلمون ولعنه سبايا قومه وسمينه: «عرف النار» وهي كلمة معناها في لغة اليمن: الغادر. لكنه التعلق بالحياة والخوف من الموت إذا ركبا نفسا أذلاها فهانت فسقطت فيما هو شر من الموت.
ودعا المهاجر النفر الذين ذكرهم الأشعث في كتابه فأطلق سراحهم، ولما لم يكن اسم الأشعث في الكتاب الذي ختمه أمر به فشد وثاقه وهم بقتله وقال له: «الحمد لله خطأك فاك يا أشعث! قد كنت أشتهي أن يخزيك الله.» على أن عكرمة بن أبي جهل تدخل في الأمر وقال: «أخره وأبلغه أبا بكر فهو أعلم بالحكم في هذا، وإن كان رجلا نسي اسمه أن يكتبه هو ولي المخاطبة أفذاك يبطل ذاك!»
وأخره المهاجر لا عن رضا، وبعث به إلى أبي بكر مع السبي، فجعلوا يلعنونه ويلعنه المسلمون طول الطريق.
وتحدث أبو بكر إلى الأشعث فأنبه على ما صنع، وسأله: «ما تراني صانعا بك؟» وأجاب الأشعث: «إنه لا علم لي برأيك وأنت أعلم به.» قال أبو بكر: «فإني أرى قتلك.» قال الأشعث: «فإني أنا الذي راوضت القوم فما يحل دمي.» وخشي الأشعث حين طال الحوار بينه وبين أبي بكر أن يقتل فقال: «أوتحتسب في خيرا فتطلق أساري وتقيلن عثرتي وتقبل إسلامي وتفعل بي مثل ما فعلته بأمثالي وترد علي زوجتي؟» وزوجته التي يتحدث عنها هي أم فروة أخت الصديق، وتردد أبو بكر هنيهة في الإجابة، فأردف الأشعث: «افعل تجدني خير أهل بلادي لدين الله.» وبعد أن فكر أبو بكر في الأمر غفر له وقبل منه ورد عليه أهله وقال: «انطلق فليبلغني عنك خير.» وأقام الأشعث مع أم فروة بالمدينة لم يبرحها إلا في عهد عمر لفتح العراق والشام ، ثم كان له في حروب ذلك الفتح من البلاء ما أعاد إليه اعتباره في أعين الناس.
وأقام المهاجر وعكرمة بحضرموت وكندة حتى اطمأنت واستقر الأمن، فكان ذلك آخر حروب الردة، وكان القضاء على الثورة في بلاد العرب، ثم كان التوطيد لوحدتها السياسية، وحدة استمرت بعد ذلك زمنا ثم شابتها الشوائب، ولم يكن عمل المهاجر في القضاء على أسباب التمرد في هذه الأرجاء بأقل شدة منه في اليمن؛ فقد قطع دابر المتمردين، وأنزل أشد العقاب بالثائرين، ويكفيك مثلا يدل على أمثاله أن مغنيتين تغنت إحداهما بشتم رسول الله، وتغنت الأخرى بهجاء المسلمين، فقطع المهاجر يديهما ونزع ثناياهما، وقد كتب إليه أبو بكر يكشف له عن خطئه فيما صنع، ويذكر أنه كان الأولى به أن يقتل الأولى؛ لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود، وأن يصفح عن الثانية إن كانت ذمية، «فلعمري لما صفحت عنه من الشرك أعظم، فاقبل الدعة، وإياك والمثلة في الناس فإنها مأثم ومنفرة إلا في قصاص.» وقس على ما صنع المهاجر بالمغنيتين ما صنع بالمتمردين والمرتدين.
وبعث أبو بكر إلى المهاجر يخيره بين إمارة حضرموت وإمارة اليمن، فاختار اليمن وذهب إلى صنعاء فأقام بها مع فيروز، وبقي زياد بن لبيد على حضرموت.
Unknown page