ولقد جال بخاطري، منذ فرغت من كتابي «حياة محمد»
صلى الله عليه وسلم
و«في منزل الوحي»، أن أقوم بدراسات في تاريخ هذه الإمبراطورية الإسلامية، وفي أسباب عظمتها وانحلالها، وإنما أغراني بالتفكير في هذا الأمر أن الإمبراطورية الإسلامية كانت أثرا لتعاليم النبي العربي وسنته، أما وقد درست حياته
صلى الله عليه وسلم ، ورأيت نتائج هذه الدراسة جديرة بأن تهدي الإنسانية طريقها إلى الحضارة التي تنشدها، فإن دراسة هذه الإمبراطورية وأطوارها ما يزيدنا قدرا للتأسي بالرسول وتعاليمه، وما ييسر لنا حظا جديدا من العلم بهذه الحياة الباهرة الجلال يزيد العلماء اقتناعا بما دعوت إليه من إمعان البحث فيما تنطوي عليه من حقائق نفسية، وأخرى روحية، ما يزال العلم يقف بوسائله حائرا دونها، لا يستطيع أن يثبتها بأدلته، ولا يستطيع مع ذلك أن ينفيها، وهي من بعد قوام سعادة الإنسان في الحياة ومقوم سلوكه فيها.
وأغراني بهذا التفكير كذلك ما أعتقده من أن معرفة الماضي هي وحدها التي تطوع لنا تطوير المستقبل وتوجيه جهودنا أثناءه إلى الغاية الجديرة بالإنسانية؛ فالماضي والحاضر والمستقبل وحده لا سبيل إلى انفصامها، ومعرفة الماضي هي وسيلتنا لتشخيص الحاضر، ولتنظيم المستقبل؛ كما أن معرفة الطبيب ماضي مريضه خير وسائل التشخيص والعلاج.
والحاضر الذي تمخضت عنه الإمبراطورية الإسلامية يتناول بنوع خاص كل الشعوب التي تتكلم العربية ، وتؤمن لذلك بأنها تمت لأهل شبه الجزيرة بصلة ونسب، ومصر مركز الدائرة من هذه الشعوب؛ تمتد حولها فلسطين وسوريا والعراق إلى الشرق، وطرابلس وتونس والجزائر ومراكش إلى الغرب، ويتناول هذا الحاضر بنوع عام جميع الشعوب التي تدين بالإسلام في آسيا وإفريقية وأوربا، لا جرم وماضي الإمبراطورية الإسلامية يربط على الزمان هذه الأمم والشعوب كافة أن تكون دراسته موضع عنايتها جميعا، وأن يرى كل منها صورته إلى أربعمائة وألف سنة خلت ماثلة في هذه الدراسة، وأن يتعرف من طريقها الأسباب التي أدت إلى ما أصاب هذه الصورة من شوه أو فساد، وأن يلتمس الوسيلة من طريق هذا التعرف لرد الصورة إلى جلالها الأول وبهائها المضيء.
وإني لأفكر في هذه الأمور وفيما يتصل بها إذ رغب إلي جماعة ممن أبدوا الرضا عن «حياة محمد» أن أتناول حياة خلفائه الأولين بالبحث، وأن أفرد لطائفة من أبطال المسلمين في العهد الأول تراجم مستفيضة، أسجل في كل واحدة منها سيرة واحد من هؤلاء الأبطال، ولئن أرضى مطلب هؤلاء الأصحاب نفسي وتملق رضاي عنها لقد أشفقت عليها مما طلبوا؛ فهو أمر يقصر دون إتمامه الجهد، وتنوء بإحسانه جماعة متضافرة.
وكانت الترجمة لعمر بن الخطاب مما أكثر الحديث فيه قوم رأوا سيرة الفاروق غرة في جبين التاريخ الإسلامي، قلت عند ذلك في نفسي: وما لي لا أبدأ بسيرة الصديق فأدرسها وأعرضها على النحو الذي عرضت به «حياة محمد»! لقد كان أبو بكر صفي محمد
صلى الله عليه وسلم
وخليله، وكان أكثر أصحابه اتصالا به، وكان لذلك أكثرهم تتبعا لتعاليمه وامتثالا إياها، وهو بعد رجل رقيق الخلق، رضي النفس، وإليه ينتسب عشرات الألوف ومئاتها من المسلمين المنتشرين في أنحاء الأرض، ثم إنه، إلى رفقه ورقته، هو الخليفة الأول، وهو الذي أقر الإسلام حين حاول المرتدون من العرب أن يقوضوا ركنه أو يثلموا متنه، كما أنه هو الذي مهد للفتح وللإمبراطورية، فلعلي، إذا وفقت لتدوين سيرته على النحو الذي أرجو أكون قد عبدت الطريق لكتابة تاريخ هذه الإمبراطورية كله أو بعضه، فأبلغ بذلك ما يريد الله أن أبلغه من هذا الغرض العظيم، وأمهد السبيل لمن شاء أن يتمه أو يأخذ فيه من جديد على نحو أدنى إلى الكمال.
Unknown page