لم يثن قيسا عن عزمه قعود ذي الكلاع وأصحابه عن نصرته، بل كاتب العصابات التي كانت مع الأسود سرا، والتي كانت تصعد في البلاد وتصوب محاربة جميع من خالفهم، وطلب إليهم أن ينضموا إليه ليكون أمره وأمرهم واحدا، وليجتمعوا على نفي الأبناء من بلاد اليمن، ولم يكن في ريب من إجابة هذه العصابات طلبته، أولم تكن طلبة الأسود وعلى أساسها انتصر؟! وكتبت العصابات بالاستجابة إليه وأخبروه أنهم إليه سراع، ولما كان ذلك كله قد حدث سرا فقد فجأ صنعاء خبر دنو هذه العصابات منها، فاجتمع أهلها يتشاورون ماذا يصنعون.
وأسرع قيس إلى فيروز، وكأنما فجأة الخبر فأزعجه واستشاره واستشار داذويه ليخدعهما ولئلا يتهماه، ودعاهما في الغد ودعا جشنس معهما إلى طعام الغداء، وأقبل داذويه قبل صاحبيه، فلم يلبث حين دخل على قيس أن عاجله فقتله، أما فيروز فجاء بعد صاحبه فسمع الهمس بأصحابه ففر يركض، ولقيه جشنس في طريقه فركض معه يطلبان النجاة، وركضت خيل قيس تلاحقهما فلم تدركهما، فعادت أدراجها تستنزل غضب قيس عليها، وبلغ الفارسان جبل خولان منزل أخوال فيروز، ولا يكاد يصدقان أنهما صارا من الهلاك بمنجاة.
وثار قيس بصنعاء فدانت واطمأن له الأمر فيها، كما اطمأن الأسود من قبل ولم يدر بخاطره أن أحدا سيقدر عليه فينزل عن عرشه، بلغه أن فيروز يزعم أنه سيستعين أبا بكر ويهاجم قيسا بقوة من بني خولان، فسخر وقال: «وما خولان! وما فيروز! وما قرار أووا إليه!» وانضم إليه عوام القبائل من عرب حمير وإن بقي الرؤساء في عزلتهم، وإذا أنس في نفسه القوة عمد إلى الأبناء ففرقهم ثلاث فرق.
فأما من أقام ولم يظهر الميل إلى فيروز فأقرهم وأقر عيالهم، وأما من فر إلى فيروز فقسم عيالهم فرقتين، وجه إحداهما إلى عدن ليحملوا في البحر، ووجه الأخرى في البر إلى مصب الفرات وأمر بهم أن ينفوا إلى بلادهم وألا يقيم باليمن منهم أحد.
وعرف فيروز ما أصاب بني وطنه، فاستنهض القبائل التي بقيت على إسلامها لينصروه، وإنما فعل ذلك ليصد بعصبية الدين نعرة الوطن، وأجابه بنو عقيل بن ربيعة كما أجابته عك، وساروا يستنقذون عيال الأبناء الذين قرر قيس نفيهم، وخرج فيروز على رأسهم، فرد أبناء فارس، والتقى بقيس دون صنعاء فأجلاه عنها، وعاد أميرا عليها من قبل خليفة المسلمين، وخرج قيس هاربا في جنده، وعاد إلى المكان الذي كانوا به حين مقتل العنسي، فقضى بفراره على الفكرة القومية التي كانت أساس دعوته، وقد عزز أبو بكر مكانة فيروز إذ بعث إليه طاهر بن أبي هالة في جيشه فأقام إلى جواره.
لكن انتصار فيروز ودفعه عن الإمارة لم يوطد السلم ولم يعد الأمن فيما وراء صنعاء من ربوع اليمن ؛ فقد بقي المرتدون بها أشد ما يكونون تحمسا لردتهم، وهنا موضع الكلام عن العامل الثالث من العوامل التي زادت الثورة في هذه الأرجاء استعارا، فلم تنس اليمن يوما ما كان بينها وبين الحجاز من تنافس جعل لها أغلب الأمر الكلمة العليا، ولم تقم بين اليمن والحجاز في عهد الرسول حروب تنكس نتائجها رءوس بني حمير، ولئن دوى في أنحاء اليمن نصر خالد وعكرمة على قبائل العرب وملوكهم، لقد كان في عشائر اليمن من الأبطال والقواد من تفاخر هذين البطلين الحجازيين، ومن تهتز لسماع أسمائهم صناديد العرب فرقا، وحسبك من هؤلاء عمرو بن معدي كرب صاحب الصمصامة، لقد كان فارس بني زيد وحاميهم، إذا ذكر اسمه فزع الأبطال وهابوا لقاءه؛ وكان له من بعد في وقائع الفتح الإسلامي على عهد عمر بن الخطاب مواقف لا يزال التاريخ يذكرها، ولم يغير تقدم سنه يومذاك من شدة بأسه، شهد غزوة القادسية وقد جاوز حد المائة فكان له فيها بلاء أحسن البلاء.
قام عمرو بالثورة مع من تابعه وانضم إليه قيس بن عبد يغوث، وتضافر الرجلان يعيثان في أنحاء البلاد فسادا، ويجدان من أهلها عونا ومددا، لم يند منها غير نجران التي تثبت بمن فيها من النصارى على عهدها لمحمد، ثم أكدت نياتها بتجديد هذا العهد مع أبي بكر.
أفيذر المسلمون اليمن وذلك شأنها يعيث بها هذان الثائران ومن سار سيرتهم، حتى يأكل بعضها بعضا وتأكل الثورة أبناءها؟ كلا! بل سار عكرمة بن أبي جهل من مهرة إلى اليمن حتى ورد أبين في جيشه اللجب زاده المنضمون من مهرة عددا وعدة، وسار المهاجر بن أبي أمية منحدرا من المدينة إلى الجنوب مارا بمكة والطائف، وفي اللواء الذي عقده أبو بكر له، والذي تأخر عن السير بضعة أشهر لمرضه، وقد اتبعه من مكة والطائف ونجران رجال لهم في الحرب دربة وشهرة، فلما سمع أهل اليمن بمقدم هذين القائدين، عكرمة والمهاجر، وبأن المهاجر قتل قوما حاولوا مقاومته، أيقنوا أن ثورتهم مقضي عليها لا محالة، وأنهم إن قاتلوا قتلوا وأسروا ولم تغن عنهم المقاومة شيئا، ولقد بلغ بهم الأمر أن اختلف قيس وعمرو بن معدي كرب وتهاجيا وأضمر كل لصاحبه الغدر، وذلك بعد أن كانا متحالفين على لقاء المهاجر وقتاله، وأراد عمرو أن ينجو بنفسه، فهاجم قيسا ذات ليلة وأخذه إلى المهاجر أسيرا، عند ذلك قبض المهاجر عليهما جميعا وبعث بهما إلى أبي بكر ليرى فيهما رأيه.
وهم أبو بكر بقتل قيس قصاصا لداذويه وقال له: «يا قيس، أعدوت على عباد الله تقتلهم وتتخذ المرتدين والمشركين وليجة من دون المؤمنين؟!» وأنكر قيس قتل داذويه، ولم تكن عليه بينة، أن تم هذا القتل في سر من الناس، لذلك تجافى أبو بكر عن دمه ولم يقتله، ونظر الصديق إلى عمرو بن معدي كرب وقال له: «أما تخزى أنك كل يوم مهزوم أو مأسور؟! لو نصرت هذا الدين لرفعك الله!»
قال عمرو: «لا جرم، لأفعلن ولن أعود.» وأخلى أبو بكر سبيلهما وردهما إلى عشائرهما.
Unknown page