قضى خالد بن الوليد على المرتدين في بني أسد وبني تميم وفي ربوع اليمامة، وأعاد من بقي حيا من هذه القبائل إلى حمى الدين القيم، ومنازل هذه القبائل تمتد من الشمال الشرقي لبلاد العرب حتى تتاخم خليج فارس في شرقها، وهي تقع لذلك إلى شمال المدينة من الشرق، ثم تنحدر حتى الجنوب الشرقي من مكة، وقد فسح عودها إلى الإسلام رقعة الدولة التي تدين بالولاء لأبي بكر، والتي كانت حين الردة مقصورة على مثلث من الأرض رأسه المدينة وقاعدته بين مكة والطائف.
ولم تكن ثورة القبائل النازلة إلى شمال المدينة بذات خطر تخشى آثاره، فلم يتحدث المؤرخون عن إصرار أهلها على الردة وقتالهم بسببها ما تحدثوا عن بني أسد أو عن اليمامة، ليس يستثنى من ذلك إلا دومة الجندل وعلى رأسها أكيدر الكندي؛ فقد أصرت دومة وقاتلت حتى أخضعها ابن الوليد وأسر أكيدر وفرغ منه؛ وكان إخضاعه إياها أثناء فتحه العراق، أما في الجنوب فقد بقيت الثورة على أبي بكر والردة عن الإسلام مشبوبتين، وبقي القتال ناشبا بسببها بين جيوش المسلمين وأهل هذا الجنوب زمنا غير مديد، وإذا قلت الجنوب قلت النصف من بلاد العرب، والنصف الذي لا يستهان به، وهذا النصف بشاطئ خليج فارس فخليج عدن فالبحر الأحمر إلى شمال اليمن، وتقع فيه ممالك البحرين فعمان فمهرة فحضرموت فكندة فاليمن، وأنت لا تستطيع أن تتخطى هذه الممالك من الشرق إلى الغرب أو من الغرب إلى الشرق إلا أن تخترقها جميعا، فكلها تقع تباعا على شاطئ الخليجين والبحر الأحمر، وكلها فيما خلا اليمن قليلة العرض، فما بين حدودها والشاطئ أميال معدودة، أما سائر الجنوب من شبه الجزيرة مما تحيط به هذه الممالك وتفصله عن الماء فبادية الدهناء، هذه الصحراء المخوفة يوم ذاك، والمخوفة إلى يومنا الحاضر، والتي يطلق عليها اسم الربع الخالي.
أما وذلك موقع هذه البلاد فمن اليسير أن تدرك ما كان بينها وبين فارس من اتصال، وما كان بينها وبين الشمال من بلاد العرب من شقة لا يسهل قطعها، فاجتياز الدهناء لم يكن ممكنا، والمجيء من الحجاز إلى عمان أو كندة أو حضرموت كان يقتضي السير إليها من بلاد البحرين شرقا أو من اليمن غربا، هذا الموقع الجغرافي لتلك البلاد جعل لبلاط كسرى من الصلة بها، بل من السلطان فيها، ما لم يكن له بغيرها من بلاد العرب.
أشرنا في غير موضع إلى أن اليمن ظلت في سلطان فارس إلى أن دخل بدهان في الإسلام وصار عامل النبي (عليه السلام) على اليمن بعد أن كان عامل كسرى عليها، وكان سلطان فارس أكثر وضوحا في البحرين وعمان، وكان من أبناء فارس عدد عظيم استوطن البحرين وعمان وعلت كلمته بين أهليهما، وكانت فارس تمد أبناءها هؤلاء بنفوذها وبقواتها كلما خشيت ثورة العرب الخلص بهم، أو محاولة هؤلاء العرب القضاء على سلطانهم في ربوعهم، ليس عجيبا إذن أن تكون هذه البلاد آخر من دان بالإسلام على عهد رسول الله في عام الوفود، وأن تكون أول من ارتد حين قبض، ثم تكون آخر من يعود إلى الإسلام بعد حروب طاحنة تختم حروب الردة تعيد إلى البلاد العربية وحدتها الدينية وتقيم فيها الوحدة السياسية.
وقد اختلفت الروايات متى كانت حروب الردة في هذه الأنحاء: أكانت في السنة الحادية عشرة للهجرة كما كان ما سبقها من تلك الحروب، أم كانت في السنة الثانية عشرة، ولا غناء في الوقوف عند هذا الخلاف؛ فالثابت أن حروب الردة اتصلت منذ بيعة أبي بكر إلى أن انتهت بلاد العرب كلها بالإذعان، وأن بلاد الجنوب شاركت من بعد في تنفيذ سياسة أبي بكر، قوية الإيمان صادقة العزم في الجهاد، حريصة على الظفر والاستشهاد حرص السابقين الأولين من أصحاب رسول الله.
لا مفر، وموقع البلاد الجغرافي ما رأيت، أن يبدأ المسلمون للقضاء على الردة فيها بالسير من البحرين إلى عمان فمهرة حتى اليمن، أو من اليمن إلى كندة فحضرموت حتى البحرين، وقد آثروا أن يبدءوا بالبحرين؛ لأنها كانت تجاور اليمامة، فكان انتصارهم في موقعة عقرباء ذا أثر فيها، ثم إنها كانت أيسر من اليمن أمرا، فكان البدء بها أدنى إلى فوز يجر وراءه فوزا مثله في جميع البلاد التي تجاورها. •••
مع ذلك لم يكن المجهود الذي بذله المسلمون للقضاء على الردة بالبحرين يسيرا.
والبحرين شقة ضيقة من الأرض تشاطئ مع هجر خليج فارس، وتمتد من القطيف إلى عمان، والصحراء في بعض أنحائها تكاد تتصل بماء الخليج، وهي تتصل باليمامة في جزئها الأعلى، لا يفصل بينهما إلا سلسلة من التلال يهون انخفاضها اجتيازها، وكان بنو بكر وبنو عبد القيس من قبائل ربيعة يقيمون بالبحرين وهجر، وكان يقيم بهما معهم جماعة من التجار جاءوا من الهند وفارس وتوطنوا الثغور من مصب الفرات إلى عدن، وقد تزاوج هؤلاء مع أبناء البلاد فاستولدوا بها طائفة دعيت الأبناء، وكان ملك هذه الأنحاء، المنذر بن ساوى العبدي، نصرانيا دان بالإسلام حين دعاه إليه العلاء بن الحضرمي رسول النبي إلى أهل البحرين في السنة التاسعة من الهجرة، وقد ظل المنذر ملكا على قومه بعد إسلامه، فكان يدعوهم إلى دين الله كما كان يدعوهم إليه الجارود بن المعلى العبدي، وكان الجارود قدم على النبي بالمدينة فأسلم وفقه الدين، وعاد إلى قومه يدعوهم إلى دين الحق ويفقههم فيه.
مات المنذر بن ساوى في الشهر الذي مات فيه النبي، فارتد أهل البحرين جميعا عن الإسلام، كما ارتد غيرهم من سائر أنحاء شبه الجزيرة، وأدت ردتهم إلى فرار العلاء بن الحضرمي من البحرين، كما فر غيره من رسل النبي في البلاد التي ارتدت، لكن الجارود العبدي أصر على إسلامه، وقام في قومه بني عبد القيس يسألهم عن سبب ردتهم، قالوا: لو كان محمد نبيا لما مات، فقال لهم: تعلمون أنه كان لله أنبياء فيما مضى، فما فعلوا؟ قالوا: ماتوا، قال الجارود: إن محمدا
صلى الله عليه وسلم
Unknown page