ووضع مسيلمة كل ثقته في «نهار الرجال»، وصار ينتهي إلى أمره في كل ما يريد أن يقلد محمدا فيه، وجعل نهار، لقاء ذلك، يعب من نعيم الحياة الدنيا ويستمتع بكل ما لذ له أن يستمتع به منها، وإذا الفقهاء والعلماء أسلموا لمتاع الدنيا أنفسهم، وأخضعوا لمن يملكون هذا المتاع علمهم، فويل للعلم والفقه، وويل للحقيقة أي ويل!!
ولسنا نقف عند ما يروى من محاولة مسيلمة إتيان المعجزات، ولا عند ما أوحي إليه في زعمه، فذلك كله سخف لا يثبت للتاريخ ونقده، وحسبنا ما تقدم بيانا للأسباب التي أدت إلى متابعة الناس مسيلمة وإلى استفحال أمره، حتى لم يستطع عكرمة حين لقيه إلا أن يعود منكوبا مهيض الجناح.
ولا تسل كيف اتبع مسيلمة عقلاء قومه، وأنت تعرف العصبية العربية وتعصب القبائل لاستقلالها وحريتها، ذكروا أن طليحة النمري جاء اليمامة فقال: أين مسيلمة؟ قالوا: مه! رسول الله، قال: لا، حتى أراه، فلما جاء قال له: من يأتيك؟ قال: رحمان، قال: أفي نور أم في ظلمة؟ قال مسيلمة: في ظلمة، فرد طليحة: أشهد أنك كذاب وأن محمدا صادق، لكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر. وفي رواية ذكرها الطبري أن طليحة قال: كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر، واتبع الرجل مع ذلك مسيلمة وقاتل وقتل معه.
أما وذلك شأن مسيلمة وما أصاب عكرمة في قتاله، فلم يكن بين قواد العرب من ينازله غير داهية الحرب وعبقريتها خالد بن الوليد، ولم يكن عجبا أن يعزز أبو بكر خالدا بالمدد، ثم إن الصديق كتب إلى شرحبيل بن حسنة أن يقيم حيث هو حتى يجيء خالد إليه، فإذا فرغوا من مسيلمة لحق شرحبيل بعمرو بن العاص يعينه على قضاعة في شمال شبه الجزيرة ...
وفيما خالد يسير إلى اليمامة التقت جيوش مسيلمة بلواء شرحبيل واضطرته إلى الارتداد، يقول بعض المؤرخين إن شرحبيل صنع ما صنع عكرمة، وأراد أن يفوز بفخار النصر فأصابه ما أصاب سلفه، ولعل الأمر لم يكن كذلك، وإنما تقدمت جند من اليمامة فلاقوا شرحبيل فارتد عنهم حتى يجيئه خالد، وأي ذلك كان فقد بقي شرحبيل حيث تراجع حتى بلغته جيوش المسلمين، فلما عرف خالد ما أصابه لامه أشد اللوم على صنيعه، ولعله كان يؤثر أن يتراجع من غير أن يشتبك مع خصمه حتى لا يقوي الظفر روحهم المعنوية.
وإن جيوش خالد لتتلاحق إلى أرض اليمامة وتبلغ أنباؤها مسيلمة إذ خرج مجاعة بن مرارة في سرية يطلب ثأرا له في بني عامر وبني تميم، وقد خاف أن يفوته إذا شغل بلقاء المسلمين وقتالهم، وأدرك مجاعة ثأره وكر راجعا مع أصحابه، حتى إذا بلغوا ثنية اليمامة كان التعب قد أخذ منهم فناموا، وأدركهم جيش خالد فتنبهوا؛ وعرف خالد أنهم من بني حنيفة، وظن أنهم خفوا لقتاله فأمر بقتلهم، لم يغن عنهم قولهم إنهم خرجوا لثأرهم، فقد سألهم عن رأيهم في الإسلام، فكان جوابهم: نقول منا نبي ومنكم نبي. وقال أحدهم، سارية بن عامر، وهو يعرض على السيف يخاطب خالدا: «أيها الرجل! إن كنت تريد بهذه القرية غدا خيرا أو شرا فاستبق هذا الرجل.» وأشار إلى مجاعة، واستبقى خالد مجاعة لم يقتله، وجعله كالرهينة؛ لأنه كان من أشراف بني حنيفة، وكان له عندهم مقام كريم، ولأن خالدا كان يطمع في معاونته إياه بالرأي. ولقد قيده بالحديد، وجعله في قبته، وجعل زوجه الجديدة ليلى أم تميم على حراسته.
كان مسيلمة قد جمع جنده بعقرباء في طرف اليمامة، وجعل الأموال وراء ظهورهم، وكان هذا الجند أربعين ألفا، وقيل ستين ألفا، وهذه أعداد قلما سمع العرب بمثلها في الجيوش من قبل، وأقبل خالد غداة اليوم الذي ارتهن فيه مجاعة فصف جنده في وجه مسيلمة صف القتال، ووقف الجيشان ينظران أمر الصدام، وكل يقدر أن مصيره معلق بمصير ذلك اليوم، ولم يبالغ أيهما في تقدير هذا الأمر؛ فيوم اليمامة من الأيام الحاسمة في تاريخ الإسلام، وفي تاريخ العرب.
كانت قوة مسيلمة قوة الردة الملحة والإنكار الصريح أن تكون نبوة محمد لغير قريش، وأن تكون للناس كافة، وكانت هذه القوة هي المركز التي تتطلع إليه الأعين من اليمن وعمان ومهرة والبحرين وحضرموت والجنوب كله من شبه الجزيرة منحدرا من مكة والطائف إلى خليج عدن، وتتطلع إليه الأعين كذلك من بلاط فارس، وكانت جيوش مسيلمة تؤمن به وتتفانى في سبيله، ثم تزيدها الخصومة القديمة بين الحجاز وجنوب الجزيرة إيمانا وتفانيا، وكانت جيوش المسلمين زهرة قوتهم والملاذ والحمى لدين الله وكلمته؛ عليها خالد أعظم قائد عرفه التاريخ في عصره، وبينها حفاظ كلام الله قراء القرآن، وقد جاءوا جميعا يملأ الإيمان قلوبهم بأن الجهاد في سبيل الله والدفع عن دينه الحق أول فرض على المؤمن، وأنه فرض عين على كل ذي علم وبينة، لا محيص إذن أن تكون المعركة حامية، وأن تكون مثلا لما لقوة الإيمان من بأس وسلطان.
وتقدم شرحبيل بن مسيلمة يحرض جيش بني حنيفة بعبارات تهتز لها النفس العربية الدقيقة الحس بكل ما يتصل بالعرض والحسب أشد اهتزاز، صاح فيهم: «يا بني حنيفة! اليوم يوم الغيرة، إن هزمتهم تستردف النساء سبيات، وينكحن غير حظيات، فقاتلوا عن أحسابكم، وامنعوا نساءكم.» وأمرهم أن يشدوا، والتقى الجمعان والمسلمون لما تحتدم حميتهم؛ يقول المهاجرون لسالم مولى أبي حذيفة: تخشى علينا من نفسك شيئا؟ فيجيبهم بئس حامل القرآن أنا إذا، بل لقد تنابزوا بشر من هذا الحديث وأسوأ منه أثرا، جعل المهاجرون والأنصار يرمون بالجبن أهل البوادي، ويرميهم أهل البوادي بمثل ما يرمونهم به، يقول أهل القرى: «نحن أعلم بقتال أهل القرى يا معشر أهل البادية منكم.» ويقول أهل البادية: «إن أهل القرى لا يحسنون القتال ولا يدرون ما الحرب.»
لذلك لم يثبتوا لجموع بني حنيفة، مع ما كان بين الفريقين من قتال شديد؛ فانثنى صف المسلمين هزيما، وزال خالد عن فسطاطه، فدخله بنو حنيفة فرأوا فيه مجاعة مقيدا بالحديد، ورأوا على مقربة منه أم تميم، وحمل رجل منهم بالسيف على ليلى يريد أن يقتلها، فصاح به مجاعة : «أنا لها جار، فنعمت الحرة؛ عليكم بالرجال!» وقطع الجند حبال الفسطاط ومزقوه بسيوفهم تاركين مجاعة وليلى ينظران ما الله صانع بالقوم جميعا.
Unknown page