وكنا كندماني جذيمة حقبة
من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا
لطول اجتماع، لم نبت ليلة معا
فقال عمر: «هذا والله التأبين، ولوددت أني أحسن الشعر فأرثي أخي زيدا بمثل ما رثيت به أخاك.» قال متمم: «لو أن أخي مات على ما مات عليه أخوك ما رثيته.» وكان زيد قتل باليمامة شهيدا تحت لواء خالد بن الوليد، قال عمر حين سمع قول متمم: «ما عزاني أحد عن أخي بمثل ما عزاني به متمم.»
بلغ اختلاف الرأي بين أبي بكر وعمر في حادث مالك بن نويرة ما رأيت وكلا الرجلين كان يريد للإسلام والمسلمين الخير لا ريب، أفكان اختلافهما مع ذلك راجعا إلى خلاف في تقدير ما صنع خالد، أم كان اختلافا على السياسة التي يجب أن تتبع في هذا الموقف الدقيق من حياة المسلمين، موقف الردة وقيام الثورة بها في أنحاء شبه الجزيرة؟!
الرأي عندي في هذا الخلاف أنه كان اختلافا في السياسة التي يجب أن تتبع في هذا الموقف، وهو اختلاف يتفق وطبائع الرجلين، أما عمر، وكان مثال العدل الصارم، فكان يرى أن خالدا عدا على امرئ مسلم ونزا على امرأته قبل انقضاء عدتها، فلا يصح بقاؤه في قيادة الجيش حتى لا يعود لمثلها فيفسد أمر المسلمين، ويسيء إلى مكانتهم بين العرب، ولا يصح أن يترك بغير عقاب على ما أثم مع ليلى، ولو صح أنه تأول فأخطأ في أمر مالك، وهذا ما لا يجيزه عمر ، فحسبه ما صنع مع زوجته ليقام عليه الحد، وليس ينهض عذرا له أنه سيف الله، وأنه القائد الذي يسير النصر في ركابه، فلو أن مثل هذا العذر نهض لأبيحت لخالد وأمثاله المحارم، ولكان ذلك أسوأ مثل يضرب للمسلمين في احترام كتاب الله، لذلك لم يفتأ عمر يعيد على أبي بكر ويلح حتى استدعى خالدا وعنفه على فعلته.
أما أبو بكر فكان يرى الموقف أخطر من أن يقام فيه لمثل هذه الأمور وزن، وما قتل رجل أو طائفة من الرجال لخطأ في التأويل أو لغير خطأ، والخطر محيط بالدولة كلها، والثورة ناشبة في بلاد العرب من أقصاها إلى أقصاها، وهذا القائد الذي يتهم بأنه أخطأ من أعظم القوى التي يدفع بها البلاء ويتقى بها الخطر! وما التزوج من امرأة على خلاف تقاليد العرب، بل ما الدخول بها قبل أن يتم طهرها، إذا وقع ذلك من فاتح غزا فحق له بحكم الغزو أن تكون له سبايا يصبحن ملك يمينه!! إن التزمت في تطبيق التشريع لا يجب أن يتناول النوابغ والعظماء من أمثال خالد، وبخاصة إذا كان ذلك يضر بالدولة أو يعرضها للخطر، ولقد كان المسلمون في حاجة إلى سيف خالد، وكانوا في حاجة إليه يوم استدعاه أبو بكر وعنفه أكثر من حاجتهم إليه من قبل، فقد كان مسيلمة باليمامة على مقربة من البطاح في أربعين ألفا من بني حنيفة، وكانت ثورته بالإسلام والمسلمين أعنف ثورة، وكان قد تغلب على عكرمة بن أبي جهل من قواد المسلمين، وكان أكبر الرجاء معلقا بسيف خالد في الانتصار عليه، أفمن أجل مقتل مالك بن نويرة، أم من أجل ليلى الجميلة التي فتنت خالد، يعزل خالد وتتعرض جيوش المسلمين لتغلب مسيلمة عليها، ويتعرض دين الله لما يمكن أن يتعرض له؟! إن خالدا آية الله، وسيفه سيف الله. فلتكن سياسة أبي بكر حين استدعاه إليه أن يكتفي بتعنيفه، وأن يأمره في الوقت نفسه بالسير إلى اليمامة ولقاء مسيلمة.
هذا في رأيي هو التصوير الصحيح لما كان بين أبي بكر وعمر بن الخطاب في هذا الحادث، ولعل أبا بكر إنما أصدر أمره إلى خالد يومئذ بالسير للقاء مسيلمة بعد أن تغلب متنبئ بني حنيفة على عكرمة، ليرى أهل المدينة ومن كان على رأي عمر منهم خاصة، أن خالدا رجل الملمات، وأنه قد قذف به حين أصدر إليه هذا الأمر إلى جحيم، إما ابتلعه وقضى عليه فكان ذلك خير عقاب له على ما صنع بأم تميم وزوجها، وإما صهره النصر فيه وطهره فخرج مظفرا غانما قد سكن من المسلمين روعا لا تعد فعلته بالبطاح شيئا مذكورا إلى جانبه.
وقد صهرت اليمامة خالدا وطهرته وإن تزوج في أعقابها بنتا بكرا عقد عليها كما فعل مع ليلى، ولما تجف دماء المسلمين ولا دماء أتباع مسيلمة، ولقد عنفه أبو بكر على فعلته هذه بأشد مما عنفه على فعلته مع ليلى، لكنه لم يزد على التعنيف ولم يزد خالد على سماعه. وما أرى أبا بكر في تعنيفه إلا أراد أن يسكن من ثائرة الثائرين أمثال أبي قتادة، وإن أعجب فليس عجبي للكتاب والمؤرخين الذين حاولوا أن يسيئوا بهذا الحادث إلى تاريخ خالد بأعظم من عجبي لأمثالهم ممن حاولوا أن يبرئوه أو يلتمسوا له الأعذار، فما مالك، وما ليلى، وما بنت مجاعة إلى جانب المئات والألوف من الرءوس التي طاحت بسيف خالد أو بأمره! وهذه المئات والألوف من الرءوس الطائرة عن أجسادها هي فخر خالد وهي التي جعلته سيف الله، فإن أصاب سيفه رهق في لحظة من اللحظات، فقد أصاب هذا السيف النصر والفخار في سنوات وسنوات.
Unknown page