الناس لهم، وإجماع قومهم عليهم، فهم أول من عبد الله في الأرض ، وآمن بالله وبالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحق الناس بهذا الأمر من بعده، ولا ينازعهم ذلك إلا ظالم.
وأنتم يا معشر الأنصار، من لا ينكر فضلهم في الدين، ولا سابقتهم العظيمة في الإسلام، رضيكم الله أنصارا لدينه ورسوله، وجعل إليكم هجرته، وفيكم جلة أزواجه وأصحابه، فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تفتاتون بمشورة، ولا تقضى دونكم الأمور.»
نحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تفتاتون بمشورة، ولا تقضى دونكم الأمور، ما أقرب هذا القول من رأي الأنصار الذين قالوا: منا أمير ومن المهاجرين أمير، وهذا القول أدخل في باب النظام وأدنى إلى أن تسير الأمور سيرة صلاح وإصلاح. هذا حق، ولعل أبا بكر قصد إليه فكان قصده حسن السياسة وبعد النظر، ولعل الأوس الذين كانوا ينفسون على الخزرج قد استراحوا إليه، ولعل كثيرين من بني الخزرج أنفسهم لم ينفروا منه، فهذا أبو بكر لم يرد للمهاجرين أن يستبدوا بالأمر دون الناس كما فعل سعد بن عبادة، بل جعل الأنصار وزراء فأشركهم في الأمر ولم يشرك غيرهم، وإن كان من غيرهم في بعض أنحاء شبه الجزيرة من هم أكثر قوة وأعز نفرا. وهو إنما أشركهم على الأساس الذي جعل به الإمارة للمهاجرين: مقامهم في السبق إلى نصر الرسول وتأييده. لا جرم إذن أن يستريح الجميع إلى هذا القول، فهو عدل كل العدل، وأساسه الحق كل الحق.
ورأى الذين أخذت منهم الحماسة للأنصار مأخذها ما ترك كلام أبي بكر في نفوس أهل السقيفة، وخشوا أن ينفض إجماعهم الأول وأن يغصبهم المهاجرون الأمر ويستأثروا بالسلطان دونهم، هنالك قام أحدهم فقال: «أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا وقد دفت دافة من قوامكم وإذا هم يريدون أن يختزلونا
4
من أصلنا ويغصبونا الأمر.» ولم يرض أبو بكر أن يذر مقامه بعد هذا الذي سمع، فتوجه كرة أخرى للأنصار فقال: «يا أيها الناس! نحن المهاجرين أول الناس إسلاما، وأكرمهم أحسابا، وأوسطهم دارا، وأحسنهم وجوها، وأكثرهم ولادة في العرب ، وأمسهم رحما برسول الله، أسلمنا قبلكم، وقدمنا في القرآن عليكم، فقال تبارك وتعالى:
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان (التوبة: 100) فنحن المهاجرون وأنتم الأنصار إخواننا في الدين، وشركاؤنا في الفيء، وأنصارنا على العدو، أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، وأنتم أجدر بالثناء من أهل الأرض جميعا؛ فأما العرب فلن تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، فمنا الأمراء ومنكم الوزراء.»
كرر أبو بكر هذه الكلمة الأخيرة التي تركت من الأثر في النفوس أول ما قيلت ما توجس غلاة الأنصار معه خيفة، فقام الحباب بن المنذر بن الجموح فقال: «يا معشر الأنصار! املكوا عليكم أمركم، فإن الناس في فيئكم، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم، ولم يصدر الناس إلا عن رأيكم، أنتم أهل العز والثروة، وأولو العدة والمنعة والتجربة، وذوو البأس والنجدة، وإنما ينظر الناس إلى ما تصنعون، فلا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم، وينتقض عليكم أمركم، أبى هؤلاء إلا ما سمعتم، فمنا أمير ومنكم أمير.»
لم يكد الحباب يفرغ من حديثه حتى نهض عمر بن الخطاب، وكان قد أمسك قبل ذلك عن الكلام طوعا لأبي بكر، فقال: «هيهات لا يجتمع اثنان في قرن، والله لا ترض العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي أمورهم منهم، ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين، من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته، إلا مدل بباطل، أو متجانف لإثم، أو متورط في هلكه!»
وأجاب الحباب عمر: «يا معشر الأنصار! املكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتموه فأجلوهم عن هذه البلاد، وتولوا عليهم هذه الأمور، فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم، فإنه بأسيافكم دان لهذا الدين من دان ممن لم يكن يدين، أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب! أما والله إن شئتم لنعيدنها جذعة!»
Unknown page