سيرجع إليهم فيقطع أيديهم وأرجلهم.
وكان أبو بكر قد ذهب إلى داره بالسنح من ضواحي المدينة بعد أن عاد النبي (عليه السلام) من المسجد إلى دار عائشة، فلما نما في الناس نبأ وفاته ذهب في أثر الصديق من أبلغه إياه فكر راجعا، فبصر بالمسلمين وبعمر يخطبهم، فلم يقف بل قصد إلى بيت عائشة حيث ألفى النبي
صلى الله عليه وسلم
مسجى في ناحية من البيت، فكشف عن وجهه وجعل يقبله ويقول: «ما أطيبك حيا وما أطيبك ميتا!» وخرج إلى الناس فقام فيهم فقال: «أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.» ثم تلا قوله تعالى:
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين (آل عمران: 144) فلما سمع عمر هذه الآية خر إلى الأرض ما تحمله رجلاه، وأيقن أن رسول الله قد مات، ووجم الناس لما سمعوا ولما رأوا، وأقاموا في ذهولهم لا يدرون ما يصنعون.
نقف هنيهة ها هنا لنصور ناحية من نفسية أبي بكر يدل عليها موقفه هذا أبلغ الدلالة، فلو أن رجلا من المسلمين جاز أن يبلغ منه الجزع لوفاة الرسول ما بلغ من عمر، لكان ذلك الرجل أبا بكر؛ فهو صفي النبي وخليله، ومن آثره في كل موقف على نفسه، وهو الذي أجهش بالبكاء لقول رسول الله: «إن عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله.» وهو الذي قال حين سمع هذه الكلمة والعبرة تخنقه: «نحن نفديك بأنفسنا وأرواحنا!» لكن جزعه لوفاة الرسول لم يذهله ما أذهل عمر، وهو لم يلبث، حين أيقن أن الله اختار رسوله إليه، أن خرج إلى الناس وخطبهم بما قرأت.
وهذه الكلمات التي ألقاها عليهم، وهذه الآية التي تلاها من القرآن لإقناعهم، تدل على قوة في مواجهة الحقائق تنأى بصاحبها عن أن يذهله نبأ فاجع كموت رسول الله، وقد اقترنت هذه القوة النفسية بصفة أخرى زادتها جلالا ومهابة، وهي بعد النظر إلى المستقبل، وهاتان الصفتان تثيران العجب من رجل كله الرفق والرقة، وكله التقديس لمحمد ومحبته أكثر من حبه الحياة وما فيها.
وهذه القوة النفسية البالغة التي كانت سند أبي بكر في هذه الساعة العصيبة الرهيبة، ساعة فجيعة المسلمين لفقد نبي الله ورسوله، هي التي كانت سنده في الساعات الكثيرة العصيبة التي مرت من بعد به وبالمسلمين، وهي التي وقت المسلمين ووقت الإسلام فتنة لولاها لتعرضوا لمحن لا يعلم إلا الله ما كان يصيبهم ويصيب النشأة الجديدة من جرائها.
لم يكن عمر والمسلمون الذين أحاطوا به واستراحوا إلى قوله إن النبي لم يمت، إلا الذين أذهلهم النبأ عن التفكير فيما وراءه، أما الذين أيقنوا بحقيقة هذا النبأ أول ما عرفوا به، فلم يثنهم الحزن عن هذا التفكير، فقد آل أمر المدينة إلى الرسول بعد أن استقر بها، وبعد أن تم لدينه السلطان فيها، فلمن عسى أن ينتقل هذا الأمر من بعده، وقد امتد سلطان الرسول على سائر العرب بعد أن دانوا بالإسلام، وبعد أن ارتضى الكتابيون الذين أقاموا على دينهم أن يدفعوا الجزية؟ ترى أيظل للمدينة هذا السلطان؟ وإن ظل لها فلمن من أهلها يئول؟
لقد كان الأنصار من أهل المدينة يجدون على المهاجرين أنهم آووهم ونصروهم أول ما جاءوا إليهم ضيوفا مع الرسول، فلما اطمأنوا أرادوا أن يستأثروا بالأمر دونهم، كانت هذه روحهم في عهد النبي، فكان من الطبيعي أن تظهر واضحة حين وفاته؛ بل لقد ظهرت في حياة الرسول بعد فتح مكة وغزاة حنين والطائف، فقد أجزل محمد العطاء من فيء هذه الغزاة إلى المؤلفة قلوبهم من أهل مكة، فلما رأى الأنصار ذلك تحدث فيه بعضهم إلى بعض وقال قائل منهم: لقي والله رسول الله قومه. فلما بلغت هذه المقالة النبي طلب إلى سعد بن عبادة سيد الخزرج أن يجمعهم إليه؛ فلما اجتمعوا قال لهم: «يا معشر الأنصار، مقالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها في أنفسكم! ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف بين قلوبكم؟» وأطرق الأنصار لما سمعوا، وكان كل جوابهم: «بلى! الله ورسوله أمن وأفضل.» وسألهم النبي: «ألا تجيبوني يا معشر الأنصار!» فظلوا مطرقين ولم يزيدوا على أن قالوا: «بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ورسوله المن والفضل.»
Unknown page