وفي أثناء هذا المرض خرج محمد إلى المسلمين يوما بالمسجد، وقال فيما قال لهم: «إن عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله.» ثم أمسك، وقد أدرك أبو بكر أن النبي إنما يعني نفسه، فأجهش بالبكاء وقال: «نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا.» وأمر محمد أن تقفل أبواب المسجد إلا باب أبي بكر، ثم قال مشيرا إلى الصديق: «إني لا أعلم أحدا كان أفضل خليل رسول الله في الصحبة عندي يدا منه، وإني لو كنت متخذا من العباد خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صحبة وإخاء وإيمان حتى يجمع الله بيننا عنده.»
وفي اليوم الذي قبض فيه النبي خرج ساعة الصبح إلى المسجد، معتمدا على علي بن أبي طالب والفضل بن العباس، وكان أبو بكر يصلي ساعتئذ بالناس، فلما رأى الناس النبي فرحوا وتفرجوا، فأشار إليهم أن اثبتوا على صلاتكم، وأحس أبو بكر أنهم لم يصنعوا ذلك إلا لرسول الله، فتأخر عن مكانه، فأومأ إليه النبي: أن كما أنت، وجلس رسول الله عن يسار أبي بكر فصلى قاعدا.
وعاد النبي بعد هذه الصلاة إلى دار عائشة، لكنه ما لبث أن عادته الحمى، فدعا بإناء فيه ماء بارد جعل يده فيه ويمسح بمائه وجهه، وبعد سويعة من ذلك اختار الرفيق الأعلى، واختار ما عند الله.
وترك رسول الله هذه الحياة الدنيا، وقد أكمل الله للناس دينهم، وأتم عليهم نعمته، فماذا يصنع العرب من بعده؟ إنه لم يستخلف خليفة، ولم يضع للحكم نظاما مفصلا، فليجتهدوا، ولكل مجتهد نصيب.
الفصل الثاني
بيعة أبي بكر
اختار الله رسوله إلى جواره في الثاني عشر من ربيع الأول عام 11 للهجرة (الثالث من شهر يونيو سنة 632 للميلاد)، وكان
صلى الله عليه وسلم
صبح ذلك اليوم قد شعر بشيء من العافية من مرضه، فخرج من بيت عائشة إلى المسجد وتحدث إلى المسلمين، ودعا لأسامة بن زيد بالخير، وأمره أن يسير بجيشه لغزو الروم، فلما تطاير إلى الناس أن رسول الله قد مات بعد سويعات من جلوسه بينهم وحديثه إليهم تولاهم الذهول، وقام عمر بن الخطاب فيهم خطيبا ينفي الخبر، ويذكر أن رسول الله ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران؛ فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، وانطلق عمر يهدد القائلين بوفاة الرسول ويذكر أنه
صلى الله عليه وسلم
Unknown page