فقد تحدث محمد إلى أهل مكة بأن الله أسرى به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وأنه صلى هناك، وسخر المشركون من هذا الحديث، وساور الريب فيه طائفة ممن أسلموا، وقال يومئذ غير واحد: هذا والله الأمر البين! والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة وشهرا مقبلة، أيذهب محمد ذلك في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة!! وارتد كثير ممن أسلموا، وتردد كثيرون وذهبوا إلى أبي بكر لما يعلمونه من إيمانه وصحبته محمدا، فذكروا له ما يقوله عن الإسراء، قال أبو بكر وقد تولاه الدهش لما سمع: «إنكم تكذبون عليه.» قالوا: «بلى، ها هو ذاك في المسجد يحدث الناس.» قال أبو بكر: «والله لئن كان قد قاله لقد صدق! إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من الله من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه.» وجاء أبو بكر إلى المسجد واستمع إلى النبي يصف بيت المقدس، وكان أبو بكر قد جاءه، فلما أتم النبي صفة المسجد الأقصى قال أبو بكر: «صدقت يا رسول الله.» ومن يومئذ دعا محمد أبا بكر بالصديق.
أفخطر ببالك يوما أن تسأل: ترى لو أن أبا بكر ارتاب كما ارتاب غيره في حديث الرسول عن الإسراء، فما عسى أن يحدث من أثر هذه الريبة في حياة الدين الناشئ؟ وهل قدرت ما قد يؤدي ذلك إليه من تضاعف عدد المرتدين، ومن بلبلة العقيدة في نفس غيرهم من المسلمين؟ وهل ذكرت كيف ثبتت إجابة أبي بكر عقائد الكثيرين، وكيف حفظت للإسلام يومئذ مكانته؟ إن كنت قد سألت وقدرت وذكرت فلا ريب أنك لم تتردد من بعد في الحكم بأن الإيمان الصادق أقوى سلطانا في الحياة من قوى البطش والبأس جميعا، وأن كلمة أبي بكر هذه كانت عناية الله بدينه الحق، وأنها نصرته وأيدته أكثر مما أيدته قوة حمزة وعمر من قبل، وهي لذلك حقيقة بأن تجعل لأبي بكر في تاريخ الإسلام المكان الذي جعله الرسول له حين قال: «لو كنت متخذا من العباد خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صحبة وإخاء وإيمان حتى يجمع الله بيننا عنده.»
وكلمة أبي بكر في الإسراء تدل على إدراك تام للوحي والرسالة لا يؤتاه كثيرون، وتريك حكمة الله في أن يختاره الرسول صفيه يوم اصطفى الله رسوله ليبلغ الناس رسالته، وهي كذلك الحجة البالغة على أن الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، يخلد أثرها على الزمان بفضل الله، فلا سلطان للزمان عليه ولا يأتي عليه النسيان.
أقام أبو بكر من بعد حديث الإسراء يرعى تجارته في حدود ما تحتاج إليه من جهد العارف بمداخلها ومخارجها، وينفق وقته في صحبة الرسول، وفي حماية الضعفاء الذين أسلموا، وفي دفع أذى قريش عنهم، وفي دعوة من تلين قلوبهم للإسلام، هذا وقريش تشتد في أذى النبي وفي أذى أبي بكر وسائر المسلمين، ولم يدر بخاطر الصديق أن يهاجر مع المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة فرارا إلى الله بدينهم،
2
بل ظل مع محمد بمكة يجاهد معه في سبيل الدعوة إلى دين الله، ويتلقى عنه ما يوحي الله إليه ليذيعه في الناس، ويبذل من رضا نفسه ومن طيبة خلقه ومن حر ماله كل ما يستطيع بذله، لخير من أسلم، ولهداية من لم يسلم.
وما كان أحوج المسلمين بمكة يومئذ إلى هذ الجهد وإلى هذه الرعاية من أبي بكر! فقد كان محمد يتلقى وحي ربه، وكان قد يئس من استجابة أهل مكة لدعوته، فوجه همه إلى القبائل يعرض نفسه عليها ويدعوها إلى الله، وقد ذهب إلى الطائف يستنصر أهلها فردوه ردا غير جميل، وكان في اتصاله بربه دائم التفكير في رسالته والدعوة إليها وفي الوسيلة لنجاح هذه الدعوة، هذا إلى أن قريشا لم تسكت قط عنه ولم تنقطع عن مناوأته، إزاء ذلك كله أخذ أبو بكر نفسه بالتفكير في أمر المسلمين المقيمين بمكة، وفي تنظيم الوسائل للسهر على طمأنينتهم.
ولئن لم تذكر كتب السيرة ولم يذكر من أرخو لأبي بكر من عمله في ذلك ما فيه غناء، إنني مع هذا لترتسم في نفسي صورة واضحة من عنايته ومن اتصاله الدائم بحمزة وبعمر وبعثمان وبكل ذي رأي في المسلمين أو سلطان لدفع أذى قريش عن الضعفاء الذين أسلموا، بل إنني لأتصور ما كان من اتصاله بغير المسلمين ممن أقاموا على دينهم ثم كانوا لا يرون إنه من الحق لقريش أن تناوئ من لا يقرها على عقيدتها في الأصنام وعبادتها، ولقد رأينا في سيرة الرسول كثيرين من هؤلاء قاموا يدفعون عن المسلمين أذى قريش؛ ورأينا الذين قاموا في نقض الصحيفة إذ تعاهدت قريش على مقاطعة محمد وأصحابه وعلى محاصرتهم حتى احتموا ثلاث سنوات تباعا في شعب من شعاب الجبل بظاهر مكة، لا يتصلون بالناس ولا يستحدثون إليهم إلا في الأشهر الحرم، ويقيني أن أبا بكر قد كان له في تحريك هؤلاء الذين لم يتابعوا محمدا على دينه، والذين غضبوا مع ذلك لما يصيبه من أذى قريش، أثر بالغ أدركه برفقه وحسن حديثه وجميل عشرته.
وما قام به أبو بكر من حماية المسلمين إبان نشأة الدين هو الذي زاده من محمد قربا، وهو الذي ربط بين الرجلين برابطة إخاء في الإيمان جعلت محمدا يصطفيه خليلا، فلما أذن الله لدينه أن ينتصر بقوة أهل يثرب بعد بيعتي العقبة، أذن محمد لأصحابه في أن يهاجروا إليها، كما أذن لهم من قبل في أن يهاجروا إلى الحبشة، ولم تعرف قريش أيهاجر محمد مع أصحابه إلى يثرب، أم يظل كما ظل بها حين هجرة المسلمين إلى الحبشة؟ أعرف أبو بكر من مقصد محمد ما لم تعرف قريش؟ كل ما يروى عن ذلك أن أبا بكر استأذن محمدا في الهجرة فقال له: «لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا.» ولم يزد على ذلك.
ها هنا تبدأ صفحة أخرى من صحف الإيمان القوي الراسخ بالله ورسوله، فقد كان أبو بكر يعلم أن قريشا قامت، منذ عرفت بهجرة المسلمين إلى يثرب، ترد كل ما استطاعت رده منهم إلى مكة لتفتنه عن دينه، أو تعذبه وتنكل به، ثم إنه علم أن المشركين اجتمعوا بدار الندوة يأتمرون بمحمد ليقتلوه، فإن هو صحب محمدا في هجرته فأقدمت قريش على قتل الرسول قتلت أبا بكر لا محالة معه، مع ذلك لم يتردد حين استمهله محمد، بل شاعت الغبطة في أنحاء نفسه وأيقن أنه إن يهاجر مع الرسول يجعل الله له بذلك من الفضل والفخر ما لا يعدله فضل ولا فخر، وإن يقتل معه فإنما هو الاستشهاد الذي يجزى صاحبه جنة الخلد.
Unknown page