وإملاء الغرائز كثيرا ما أدى إلى عثرات كعثرات الطفل في سيره، ترهقه وتؤلمه، ثم تنتهي به ليسير مستقيما سوي القامة يسرع الخطا إلى فتوة الشباب وحكمة الرجولة.
والإسلام لم يغفل، حين صور المثل الأعلى للإنسانية، أن بلوغ الغاية من هذا المثل إنما يكون حين يبلغ الضمير الإنساني نضجه، وذلك لا يتم إلا أن تتعاقب عشرات الأجيال ومئاتها حثيثة السعي إليه كيما تدركه، لذلك قدر الإسلام الواقع من أمر الإنسانية وما تمليه عليها غرائزها، ورسم السبيل التي تسلكها لتقترب رويدا رويدا من غايتها، وكما أنك إذ تربي ولدك ليبلغ ما تريده من كمال الجسم والعقل لا تحمله على أن يسير سيرة الرجال، بل ترضي أهواء طفولته وصباه حينا وتكبح هذه الأهواء حينا آخر، وكما أنك تصادف أثناء ذلك من صلابة الطفولة والصبا ما قد يقف تقدم ولدك تارة، وتصادف من مرونته وذكائه ما يسرع بتقدمه تارة أخرى؛ فإذا رأيته صلبا لم تكسره، بل لنت له لتلين صلابته، وإذا رأيته متقدما أغريته ليتابع تقدمه ويزداد إسراعه فيه، وربما دعاه هذا الإسراع إلى وقفات تجني عليه وتؤذيه؛ كذلك رأى الإسلام أن يساير الضمير الإنساني في تدرجه من الطفولة إلى الصبا، وجعل تهذيب هذا الضمير غايته الأولى، كما جعلت أنت تهذيب طفلك غايتك الأولى، وهو لذلك يساير الغرائز ليقومها، يلين لها حينا ويقسو بها حينا، جاعلا همه دائما أن يتجه بها إلى الناحية التي تدنيها من الغاية التي أرادها، والمثل الأعلى الذي صوره لها.
والضمير الإنساني يجمد أحيانا حتى نخاله ارتد عن تقدمه، ويسرع السير أحيانا أخرى إسراعا يخشى منه العثار، وسيره قد يقف وقد يتغير اتجاهه، فإذا القوى التي تدفعه إلى التقدم تضطرب بين أرجاء العالم المختلفة، وذلك ما حدث حين جمدت الأمم الإسلامية وجمدت المبادئ التي دعا الإسلام إليها، لكن الجمود والوقفة ليسا في طبيعة الحياة، لذلك يخفيان دائما عوامل الدفاع تستكن دونهما، ثم لا تلبث أن تظهر فإذا الإنسانية تستأنف تقدمها، وهذا التقدم هو الذي يجعلنا نؤمن بأن الضمير الإنساني لا بد له يوما من أن يبلغ الغاية من النضج، وإن اقتضى ذلك أن تتعاقب عليه مئات الأجيال، فإذا بلغ هذه الغاية بلغ المثل الأعلى كما صوره الإسلام، عند ذلك يظل الأرض سلام الله، ويستجيب الله دعاء من يدعونه عند بيته المحرم: «ربنا منك السلام وإليك السلام، أحينا ربنا بالسلام.»
يجب أن يسمع الناس جميعا دعوة الحق في مختلف أرجاء الأرض خلال تعاقب الأجيال ليتقدم الضمير الإنساني رويدا رويدا إلى النضج، ولن يبلغ النضج مداه حتى يعم الإنسانية كلها، فأما إن نضج الضمير في ناحية من العالم ثم ظلت غرائز الطفولة ونزوات الصبا تحركه في سائر الأرجاء، فسيبقى لسلطان هذه الغرائز والنزوات من الحكم ما يديم النزاع ويديم الحرب، وما يقتضي قوادا عباقرة من أمثال خالد بن الوليد أن يكونوا الأداة لتهذيب الشذوذ في كل ناحية لم ينضج فيها الضمير ؛ شأنهم في ذلك شأن المربي إذ يهذب شذوذ تلاميذه.
وإنا لنسجل في كثير من الغبطة والرضا خطوات تقدمها ضمير الإنسانية من الطفولة إلى الصبا، لا يصدنا عن ذلك ضيق هذه الخطوات واضطرابها، لقد كان للإسلام في هذا التقدم أعظم الأثر، وسيكون له مثل هذا الأثر من بعد حتى تتم كلمة ربك ويؤمن الناس بالمثل الأعلى في مشارق الأرض ومغاربها.
ويسرني وأنا بصدد هذا التسجيل أن أثبت هنا كلمة للكاتب الإنجليزي الكبير برنارد شو تؤيد رأيي، قال: «لقد كان دين محمد موضع تقديري السامي دائما لما ينطوي عليه من حيوية مدهشة؛ لأنه، على ما يلوح لي، هو الدين الوحيد الذي له ملكة الهضم لأطوار الحياة المختلفة، والذي يستطيع لذلك أن يجذب إليه كل جيل من الناس.
لا مرية في أن العالم يعلق على نبوءات كبار الرجال قيمة كبيرة، وقد تنبأت بأن دين محمد سيكون مقبولا لدى أوربا غدا، وهو قد بدأ يكون مقبولا لديها اليوم.
لقد عمد رجال الإكليروس في العصور الوسطى إلى تصوير الإسلام في أحلك الألوان؛ وذلك بسبب الجهل أو بسبب التعصب الذميم، والواقع أنهم كانوا يسرفون في كراهية محمد وكراهية دينه ويعدونه خصما للمسيح، أما أنا فأرى واجبا أن يدعى محمد منقذ الإنسانية، وأعتقد أن رجلا مثله إذا تولى زعامة العالم الحديث، نجح في حل مشكلاته، وأحل في العالم الإسلامي السلام والسعادة، وما أشد حاجة العالم اليوم إليهما!
لقد أدرك مفكرون منصفون قاموا في القرن التاسع عشر ما لدين محمد من قيمة ذاتية، من هؤلاء كارليل، وجوته، وجيبون، بذلك حدث تحول صالح في موقف أوربا من الإسلام، وقد تقدمت أوربا تقدما كبيرا في هذا القرن المتم العشرين، فبدأت تحب عقيدة محمد، ولعلها تذهب في القرن التالي إلى أبعد من ذلك فتعترف بجدوى هذه العقيدة لحل مشاكلها.
وقد دان كثيرون من قومي ومن أهل أوربا بدين محمد في الوقت الحاضر، وهذا يجعلنا قادرين على أن نقول إن تحول أوربا إلى الإسلام قد بدأ .»
Unknown page