والآن، وقد وفقني الله لوضع هذا الكتاب، فهل تتيح لي الأقدار أن أردفه بآخر عن عهد عمر، وبثالث وبرابع حتى أتم ما دار بخاطري أن أقوم به من دراسات في تاريخ الإمبراطورية الإسلامية؟ ذلك أمر علمه عند ربي، لقد استقر مني العزم أن أدون لعهد عمر، لكن بين العزم والتنفيذ مدى أرجو الله أن ييسره لي، مع صدق يقيني بقوله تعالى:
ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا (الكهف: 23، 24).
وأختم هذا التقديم بالضراعة إلى الله أن يوفق العلماء والباحثين لمتابعة البحث في حياة الصديق وفي عهد خلافته، حتى تتم ببحوثهم الصورة التي حاولت أن أجلوها في هذا الكتاب، وأحمد الله لما صادفني من التوفيق فيما حاولت. من الله الهدى، وبه التوفيق، وإليه يرجع الأمر كله.
الفصل الأول
أبو بكر في حياة النبي
ليس فيما انحدر إلينا من الروايات عن نشأة أبي بكر الأولى ما يعاون على تعرف شخصيته في هذا الطور من حياته، فما يروى عن طفولته وعن صباه لا غناء فيه، وما يروى عن أبيه وعن أمه لا يعدو ذكر اسميهما، وذكر ما كان من أبيه بعد أن أصبح أبو بكر رجلا من كبار المسلمين له في حياة أبيه أثر، ولا أثر لأبيه في حياته، وإنما يعنى المؤرخون من أمره بذكر قبيلته ومكانتها من قريش، شأنهم في ذلك كشأنهم في غيره مما يتصل بتاريخ العرب؛ إذ يرون في نسبتهم إلى قبيلة من القبائل ما يفسر بعض طباعهم وأخلاقهم، وقد يكون ذلك حسنا، وقد يراه المؤمنون بمبدأ الوراثة صالحا لتحقيق مذهبهم، وإن رأى غيرهم من المبالغة في تقديره ما يصرفهم عن الدقة في تمحيصه.
وأبو بكر من قبيلة تيم بن مرة بن كعب؛ فهو يلتقي في نسبه بالنبي
صلى الله عليه وسلم
ويرتفع إلى عدنان، وكان لكل من القبائل المقيمة بمكة اختصاص بأمر يتصل أو لا يتصل بمناصب الكعبة، فكان لبني عبد مناف السقاية والرفادة، ولبني عبد الدار اللواء والحجابة والندوة، وذلك قبل أن يولد هاشم جد النبي ، أما قيادة الجيوش فكانت لبني مخزوم أجداد خالد بن الوليد، وكانت الديات والمغارم لتيم بن مرة، وقد آل أمر الديات في الجاهلية إلى أبي بكر حين استدعاه فتولى الزعامة في قبيلته؛ لذلك كان إذا احتمل شيئا منها فسأل قريشا صدقوه وأمضوا حمالة من نهض معه، وإن احتملها غيره خذلوه.
وقد رويت في الإشادة بذكر تيم ومكانتها من قبائل العرب روايات تقصها كتب المتأخرين، ذكروا أن المنذر بن ماء السماء طلب امرأ القيس بن حجر الكندي فأجاره المعلى التيمي؛ فقال امرؤ القيس في ذلك:
Unknown page