لحظة سعادة
السباحة في الرمال
حكاية رجل بخيل
النابغة
الميراث
المقابل
تحية عابرة
وحدة
رحلة العودة
لحظة سعادة
السباحة في الرمال
حكاية رجل بخيل
النابغة
الميراث
المقابل
تحية عابرة
وحدة
رحلة العودة
السباحة في الرمال
السباحة في الرمال
تأليف
ثروت أباظة
لحظة سعادة
كان سعيدا منشرح الصدر وهو يفكر، كانت لحظة من هذه اللحظات القليلة التي يشعر فيها الإنسان أن الحياة تعطيه بقدر ما يريد منها أن تعطيه، ودون أن يدري السبب راح يفكر في السبب الذي بث في نفسه هذه السعادة التي يشعر بها، وما لبثت هذه الفترة أن بعدت عن مسار تفكيره، وما لبث أن قال لنفسه إني سعيد لأني سعيد، وأخشى ما أخشاه أن أبحث عن أسباب سعادتي وأنقلب بفعل يدي تعيسا، وأسباب التعاسة دائما أكثر وفرة من أسباب السعادة، وهل هذا كلام رجل سعيد، إنه كلام أي إنسان، ولكنك لست أي إنسان؛ إنك رجل سعيد؟ حسنا فلأظل سعيدا إذن دون محاولات سخيفة لتعمق أسباب السعادة، هل هي قليلة لحظات السعادة هذه إلى هذا الحد، هل هي قليلة لدرجة أنني أقتنصها من الحياة اقتناصا ولا أحاول حتى أن أبحث أسبابها وما دعت إليه.
إني سعيد بزوجتي، ولكن سعادتي بها لا تكون لي لحظات سعادة، أنا أحبها وأعلم أنها تحبني، وهي شريفة بحكم تكوينها، وهي تعمل دائما على إسعاد بيتها، وليس بيني وبينها إلا هذه المشاجرات التي تدل على أننا أحياء، ولو أنها مشاجرات كثيرة وعنيفة في بعض الأحيان؛ مما ينبئ على أننا أحياء جدا، ولكنها جميعا مشاجرات طبيعية لا بد أن تنشأ بين اثنين نشأ كل منهما في بيت، ثم جمعهما بيت واحد يعلمان أنهما سيقضيان فيه ما بقي لهما من حياة، قد تشعر هي بالضيق أحيانا، أو قد يشعر هو بالضيق أحيانا، وقد تكون هذه الأحيان كثيرة، وقد تتلاقى هذه الأحيان من الضيق فتكون مشاجرة لو بحث كلاهما أو أحدهما عن سببها لا تضح على الفور مقدار سخافتها.
لماذا أفكر في كل هذا، من أجل لحظة سعادة، ألم تكن لي لحظات سعادة كثيرة وأنا طفل، لماذا يقول الناس طفولة سعيدة، أظن السعادة هنا يقف وراءها الجهل، إنهم سعداء لأنهم لا يعرفون كيف يكونون تعساء، ولكني مع ذلك أذكر في طفولتي لحظات سعيدة. والآن فقط أدرك أنني كان يجب أن أعتبر طفولتي سعيدة، يبدو أن الأطفال يعتبرون سعادتهم قضية مسلما بها لا تقبل النقاش؛ فحياتهم مهما تكن سعيدة يعتبرونها هم عادية. ولا يذكرون منها إلا لحظات السعادة الخارقة للعادة ولحظات التعاسة العادية، كانت لحظات سعادتي هي تلك الأوقات التي أقضيها في قراءة القصص، قصص الأطفال. كنت أحس أنني أعيش في عالم آخر غير هذا الذي أعيش فيه.
لماذا يعتبر البعد عن العالم الذي أعيش فيه سعادة، لماذا يقول الناس هذا دائما كلما أحبوا أن يعبروا عن سعادتهم، هل العالم الذي نعيش فيه سيئ إلى هذا الحد، وإن كان سيئا أهو هكذا بالنسبة للأطفال؟ لماذا يحبون أن يعبروا إلى عوالم أخرى من قصص علاء الدين والسندباد وعلي بابا والأربعين حرامي وقصص الجان وغيرها وغيرها؟
والكبار، ألا يتشبثون بعالم آخر، ما الحياة عندنا إذا كانت هي هذه الحياة فقط، سبحان خالق الناس، عرف نفوسهم وعرف حياتهم فوعدهم بحياة أخرى يلقون فيها السعادة التي لم يعرفوها من الدنيا، ولكني الآن سعيد، لحظة، أو لحظات ثم تعود الحياة حياة. أقصى ما أطمع فيه منها ألا ترزأني بلحظات تعاسة وتصبح أيام الملل والوتيرة الواحدة سعيدة، سعيدة لأنها ليست تعيسة.
إننا نبحث في حياتنا هذه عن السعادة من أي سبيل، نرى السعادة في نظرة إلى أبنائنا، في أبنائنا، في ابتسامة على شفة لهم، في ضحكة، في مجرد جلوسهم أمامنا مشغولين عنا بالنظر إلى التليفزيون.
ما السعادة التي يهبها لنا أطفالنا؟ ما هي ما قبل الرعب الذي يلقون به في نفوسنا؟ الهول المبين، الذعر الأخاذ الوبيل، إذا مرض أحدهم أو إذا وهمنا أن مرضا يهدد واحدا، وحين يزول المرض وحين يزول الوهم تعود نفوسنا إلى الصفاء وتعود إلينا السعادة، ما أعظم الثمن الذي ندفعه لقاء السعادة من أطفالنا.
ويل لي، لحظة سعادة واحدة تفعل بي هذه الأفاعيل، ماذا أحاول أن أعرف؟ هل فرض علي فرضا أن أبحث عن سبب هذه السعادة؟ ألا يكفيني أني سعيد؟
لنبحث أولا، ما هي أعراض السعادة التي أعانيها، ويلي ألا أعرف أعراض السعادة، أهذه أيضا تحتاج إلى شرح، ألا أعرف هذه الإشراقة التي تشيع في النفس، فإذا النفس بهجة وإذا هي متطلعة إلى المستقبل الوردي الصافي وإلى الحاضر وكأن سعادة العالم تجمعت فيه، هذه هي حالي الآن، لماذا؟ وما يهمك؟ لماذا ما دمت سعيدا، ألا تخشى أن تفقد سعادتك وأنت تبحث في هدوء دون هذا البحث السخيف، وتتفلسف أيضا وتريد أن تظل سعيدا، يقولون إن الفلاسفة هم السعداء، بل يقولون إن السعداء هم الجهلاء، كلا القولين غير صحيح؛ فأنت سعيد ولست جاهلا إلى درجة أن يقال عنك جاهل، ولست فيلسوفا إلى درجة أن يقال عنك فيلسوف، ولكنني لست سعيدا، ماذا هل فقدت السعادة؟ أقصد أنني لست سعيدا سعادة الفلاسفة ولا الجهلاء، كل ما في الأمر أنني أشعر بلحظة سعادة، لعل لقاءك بالأمس مع سهام أمدك بهذه السعادة. لقد أحسست بالسعادة فعلا في لقائي معها، ولكن اللقاء كان يشغلني عن الشعور بالسعادة، وانتهى اللقاء وعدت إلى حياتي اليومية، ومرت بي لحظات رضى ولحظات ضيق، فلا شأن لسعادتي الراهنة بلقائي مع سهام، هي حبي وهي الوحيدة في هذا العالم التي تستطيع أن تمسح عن نفسي خمولها وآلامها، وأنا أسعد بلقائها وأهب لها كل ما تريد، ولكن الحياة تلاقيني بعد ذلك وأرى فيها الخير وأرى فيها الشر، وأحيا كما يحيا الناس حتى ألتقي مرة أخرى بسهام، فهذه السعادة التي أحسها إذن سعادة جديدة من نوع آخر ينتابني بلا مقدمات، ولهذا أبحث عن أسبابه، ألا بد أن تبحث؟ رجعنا ثانية إلى هذا الحديث. وهل السعادة مع سهام خالصة؟ أتحبني لنفسي أم لما أقدمه لها من مال؟ إنني أقدم المال وأسعد، لا شيء يهم بعد ذلك. أم تراه يهم؟!
لعلك سعيد لهذه المرافعة الرائعة التي قدمتها في قضية الأمس، أهي المرافعة الوحيدة التي رضيت عن نفسي فيها، إنني أعمل في المحاماة منذ سنوات طويلة، ويقولون إنني محام ناجح، وأعرف أنني ناجح، ومعرفتي هذه تجعلني ألتقي بكل قضية وأنا أحتشد لها وكأنني محام ناشئ، ثم أحتشد لها وورائي تاريخي الطويل في ساحة القضاء، أرى أنك بدأت تترافع، طبيعة، ماذا أفعل فيها، المهم أن لحظة السعادة التي أمرح فيها الآن لا صلة لها بمرافعتي.
اسمع، ألا يجوز ... مجرد فكرة لا تسخر منها، ألا يجوز أن يكون حديثك التليفوني مع صديقك إسماعيل قد أرسل إليك بهذه اللحظة السعيدة؟ أرى أنك بدأت تخرف، إنني كثيرا ما أحادث الأصدقاء ولا شك أنهم يرسلون الدفء إلى قلبي، ولكن لو أنني شعرت بهذه لمجرد حديث مع صديق لأصبحت حياتي كلها سعادة بلهاء، سعادة لا قيمة لها لأنها ستصبح سعادة غبية سخيفة.
اسمع، طالما سمعت ... اسمع ولا تعقب، إنك سعيد لأنك سعيد، أهذا آخر ما وصلت إليه، ما أشد سخفك! بل أنت السخيف، أرأيت أنك تريد أن تفسد علي سعادتي.
اسمع إنني لن أبحث عن السبب، إني الآن سعيد ولا يهم لماذا، إني سعيد وكفى.
السباحة في الرمال
كان البحر هادئا، ولكن الشاب الذي يسبح فيه خائر القوى؛ فهو يرفع رأسه يلقف نفسه، ثم تغوص رأسه مرة أخرى فيمد يديه يرفع يديه لا تجدان إلا الفراغ وتهويان مرة أخرى خائرتين إلى المياه، ويعود رأسه يشرئب في يأس ويهوي في عجز إلى الماء.
أنا لا أجيد السباحة، لو حاولت أن أنقذه مت أنا وهو لا محالة، نظرت حولي فوجدت شابا فتيا يجلس في زورق على الرمال ويحرك مجدافين، فيمسان الرمال في رفق ثم يرتفعان إلى الهواء والفتى ماض في عمله هذا وكأنما يجدف في الماء، وكأنما يفضي إلى مكان يعرفه، فإن نظرت إليه خيل إليك أن الهدف أمامه واضح لا شك فيه.
وارتفع صوت الفتى الذي يغرق في اليم، ارتفع في يأس يطلب النجدة ومزقت صرخته كل نفس، ولكن الفتى في الزورق لم يلتفت إليه وظل يجدف وكأنه في عالم آخر. - ألا ترى هذا الذي يغرق؟ - أراه وأعرفه. - أتعرفه؟ - إنه أبي. - أبوك؟! - وأخي. - وأخوك؟! - وأمي. - وأمك؟! - وزوجتي. - وزوجتك؟! - وابني. - وابنك؟! - وابنتي. - وابنتك؟! - وكل ماضي وكل مستقبلي. - فلماذا لا تذهب إليه بالزورق؟ - هذا الزورق لا يسير في الماء. - إن الزورق لم يخلق إلا للماء. - ولكن هذا الزورق لا يسير في الماء. - وأنت ألا تستطيع أن تنقذه، ألا تستطيع أن تعوم؟ - أنا أحسن سباح في العالم. - فلماذا لا تنقذه؟ - أنا لا أسبح إلا في الرمال. - إن الرمال لم تخلق للسباحة. - وهل خلق الماء للسباحة؟ - إن السباحة هي التي خلقت للماء. - فأنقذه. - لا أستطيع. - لماذا؟ - إن أحدا لم يدعني. - ها أنا ذا أدعوك. - ومن أنت؟ - بشر. - ولكن ما شأنك؟ - إنسان يغرق. - وهل أنت مسئول عن كل إنسان يغرق. - إنني مسئول عن كل إنسان. - من الذي ألقى عليك هذه المسئولية؟ - إنسانيتي. - مغرور. - إنه وقت النقاش. - أبوك وأمك وزوجتك وابنك وابنتك وأخوك وماضيك ومستقبلك جميعهم يغرقون وأنت تناقش. - أنا لا أعرف إلا النقاش. - فأعطني هذا الزورق. - قلت لك إنه زورق للرمال فقط. - أعطنيه ولا شأن لك. - لا تستطيع الاقتراب منه. - سأحاول. - لا تحاول. - بل لا بد أن أحاول.
واقتربت من الزورق ولكن شيئا جعلني أقف ولا أستطيع الاقتراب من الزورق، ورحت أدفع جسمي بكل قوتي ولكن بدون جدوى، والفتى في الزورق يجدف وكأن شيئا لا يحدث، والفتى في البحر يغرق ويصرخ من حين إلى آخر ولكن بلا جدوى هو الآخر. - أنا لا أستطيع فعلا أن أقترب منه ولكنك أنت فيه، فلماذا لا تنزل به إلى البحر؟ - لقد أجبتك. - حاول. - لا أستطيع. - ويغرق هؤلاء جميعا؟ - أنا أفعل كل ما أستطيع. - أنت تجدف في الرمال. - هذا هو كل ما أستطيع أن أصنعه. - سأصرخ. - اصرخ. - لعل أحدا يسمعني. - سيسمعك الكثيرون ولكن أحدا لن يجيب صراخك. - لماذا، ماذا يجري للناس؟ - إن إنقاذه في يدي أنا وحدي. - فلماذا لا تنقذه؟ - أنا أفعل كل ما أستطيع. - أنت لا تفعل شيئا. - هذا هو كل ما أستطيع. - إنه في البحر وأنت على الشاطئ. - هذا قدره وقدري. - لا نتكلم عن القدر. - إنه قدره وقدري. - الجبناء وحدهم الذين يرمون أخطاءهم على القدر. - المنطق العادي يحكم أفكارك. - وأنت لك منطق؟ - إنني أستخدم منطقي هنا. - وهل منطقك يجعلك تملك الزورق ولا تنقذ به أحدا؟ - لأن هذا الزورق خلق للرمال فقط. - أهذا منطق؟ - منطق لا تعرفه. - منطق جديد؟ - جديد أو قديم، لا أدري، وإنما هذا هو المنطق الذي أعرفه. - ويغرق في البحر. - لعله ينقذ. - كيف؟ - إذا قدر له أن ينقذ فسوف ينقذ. - كم كنت أرجو أن أكون قادرا على إنقاذه. - وما الذي يمنعك؟ - لا أعرف السباحة، أو أنا على الأقل لا أجيدها. - فحاول. - وإذا غرقت معه؟ - تكون قد أرضيت ضميرك. - وضميرك أنت؟ - لا شأن لك بضميري، أرح أنت ضميرك.
وهممت أن أنزل إلى الماء ولكن ثقتي أنني لا أجيد السباحة ردتني ونظرت إلى الفتى يغرق، ونظرت إلى الفتى يجدف في الرمال، وأوليت الجميع ظهري وانصرفت.
حكاية رجل بخيل
نشأ كما ينشأ أمثاله جميعا من الأثرياء في الريف؛ فلم يكن ذا شأن في هذا الحين من الزمان، فكان بحسب الطفل من هؤلاء أن يختم القرآن في الكتاب، وأن يتعلم أصول الحساب وقواعده، فإن كان ذا ميل شديد للدراسة أرسله أبوه ليكمل تعليمه في القاهرة، فإن لم يكن فهو مقيم بجانب أبيه في القرية يعين أباه في شئون الحقل، ويصبح من أعيان قريته، فإن كان صاحب عقلية راجحة وكلام منمق، وإذا كان كريما يحسن استقبال الناس ولقاءهم أصبح من أعيان المركز، فإن كان واسع الثراء صاحب شخصية يمكن أن تكون مرموقة أصبح من أعيان المديرية أو من أعيان البلاد جميعا إذا رشح نفسه في مجلس شورى القوانين الذي أصبح بعد ذلك مجلس النواب أو مجلس الشيوخ.
وهكذا اكتفى عبد القادر فهمي بأن يختم القرآن في قريته الهدارة من أعمال مديرية بني سويف بالصعيد، كما تعلم قواعد المحاسبات على يد ميخائيل أفندي شفيق كاتب دائرة والده.
وكان عبد القادر يجد في مكتبة أبيه بعض الكتب القديمة فقرأها أبناء القرية المتعلم منهم وغير المتعلم فأصبح يحسن الإنصات.
وقد اعتمد عليه أبوه في أعمال الحقل والمحاسبة؛ فكان يقوم بعمله خير قيام، فعلى الرغم من سعة الأرض وكثرة المحاسبات كان عبد القادر على علم بكل خافية من شئون الفدادين التي تبلغ ألفي فدان، وما لبث أن أصبح هو وحده القائم بأمر الأرض، وكان أبوه يكتفي بأن يأخذ الريع آخر العام، وكان أبوه يعطيه راتبا شهريا خمسين جنيها. ولم تمر إلا سنوات أربع حتى فوجئ الأب بابنه يشتري مائة فدان. - من أين دفعت الثمن؟ - من مرتبي. - ألا تصرف منه شيئا؟ - ولماذا أصرف؟ - ألا تحتاج إلى شيء؟ - الأكل في البيت. - والملبس؟ - تشتريه أنت في كل عام. - ولكن مرتبك لا يكفي لشراء الأرض؟ - لقد اتفقت مع البائع على أن أسدد له خمسين جنيها كل شهر. - وأنت؟ - إن سألتك شيئا لا تعطه.
ولم يعرف الأب إن كان يفرح بابنه هذا المدبر أم يحزن، ولكنه تركه وشأنه وإن كان قد أزمع في نفسه أن يعجل بزواجه؛ فقد حزر أنه لو تركه دون زواج ما تزوج أبدا، وخشي فهمي بك عبد المتعال أن تنقطع ذريته لتدبير ابنه، ولا يحب أن يقول لنفسه نتيجة لبخل ابنه. - أريد أن أزوجك. - كم سيكلفك الزواج؟ - ليكلف ما يكلف. - أعطني تكاليف الزواج، ولا تشغل أنت نفسك. - هذا ما أخشاه، إنك ابني الوحيد فلو تركتك وشأنك ما تزوجت أبدا. - أنت مصمم إذن؟ - كل التصميم. - أمرك.
واختار الأب العروس فتاة من أسرة عريقة بالصعيد لابنه وخطبها دون أن يراها هو أو ابنه؛ فقد كانوا في ذلك الحين يتزوجون من الأسرة العريقة، ولا يهم أن تكون الزوجة جميلة أو غير جميلة. أما عبد القادر فقد ارتاح للزواج حين علم أن أبا زوجته يملك ألفي فدان وليس للعروس إلا أخ واحد، ولم يكن محتاجا لعلمه الواسع بالمواريث ليعرف أنها سترث عن أبيها إن آجلا أو عاجلا ما يقرب من السبعمائة فدان فقد كانت أمها متوفية. إلى جانب بيت فخم بالقاهرة. وعد الأب أن يكون من نصيب الابنة لأنه أعد لأخيها قصرا آخر بالقاهرة أيضا. وتزوج عبد القادر وعاش هو وزوجته نفيسة في بيت أبيه، وكانا يذهبان أحيانا إلى بيت أبيها بالقاهرة، وكان الأب يعرف تدبير ابنه فكان هو الذي يعد لسفرهما إذا سافرا، وكان الأب يعطي لنفيسة مبلغا من المال لتشتري به ما تشاء من القاهرة خوفا من تدبير ابنه الذي لا يحب أن يسميه بخلا، إذا هو أعطاه المال دون زوجته.
وحتى ذلك الحين لم تكن مواهب عبد القادر قد تكشفت؛ فأبوه هو الذي ينفق عليه وعلى زوجته، ولكن نفيسة لاحظت على زوجها عدم عنايته بملبسه؛ فكانت هي التي تعتني بها، كما لاحظت أنه لا يعتني بنظافة جسمه، فكانت تصر أن تفرض عليه النظافة فرضا ويخضع هو صاغرا؛ فقد كان ذهنه جميعا منصرفا إلى القيام بشأن الأرض وتدبير مبالغ لشراء أرض أخرى.
ولم يطل الأمر بالزوجة فقد توفي أبو الزوجة، وأثبت عبد القادر وجوده الرائع في المحافظة على حقوق زوجته؛ فاستخلصها كاملة غير منقوصة، وأراد أن يبيع بيت القاهرة ليشتري بثمنه أرضا، ولكن زوجته التي بدأت ترى بوادر حقيقته الفذة أصرت أن يبقى لها بيت القاهرة. - لا تنس إننا ننتظر ابننا، وسيحتاج إلى تعليم، ولن نبقى في القرية طول عمرنا، واقتنع، أو هو لم يكن يملك إلا أن يقتنع فقد أصرت الزوجة على موقفها. - وشيء آخر. - ماذا أيضا؟ - أريد مائة جنيه شهريا من ريع أرضي. - ماذا؟ - هذا خير من أن أكتب توكيلا لأخي سلامة ليدير هو الأرض. - وكأنما هددته بالموت، بل لعل الموت بالنسبة إليه أهون من هذا التهديد. - ولك هذا، أتريدين شيئا بعد ذلك؟ - افعل بعد ذلك ما تريد.
فقد ضمنت هي أن تعيش ولا شأن لها بزوجها بعد ذلك؛ فقد كان كثير الحديث عن رغبته في التملك وكانت تخشى أن تجوع هي وأولادها في سبيل أن يزيد عبد القادر من أملاكه، وأنجبت ابنها الأول ورآه فهمي بك واطمأن على أن ذريته باقية ثم مات.
مات وانفرد عبد القادر بالأرض ، وبدأت مواهبه تظهر على حقيقتها. - مصاريف البيت يا عبد القادر. - والمائة جنيه التي تأخذينها؟ - هذا من مالي. - وهل لك مال ولي مال؟ - اسمع إما أن تدفع خمسين جنيها في الشهر مصاريف البيت أو ... - لا تكملي. - إذن ... - سأخبرهم في الدائرة أن يصرفوا لك خمسين جنيها كل شهر. - ولماذا لا تعطيني أنت؟ - وأنت ما شأنك؟ - خبايا البيوت لا يجوز أن تعرفها الدائرة. - أنت تأخذين هذا المبلغ رغم أنفي ويدي لا تطاوعني أن أدفعه. - أنت حر.
وأصبحت الدائرة تعطي نفيسة خمسية جنيها فوق المائة، وانطلق عبد القادر يبحث عن الأرض، رحلة طويلة يقطعها كل يوم؛ يمر بالأرض، ويستخلص كل مليم يمكن أن يستخلصه، كل ما يهمه ألا يدفع وأن يجمع.
حين مات ميخائيل كان لا بد له أن يعين كاتبا جديدا. - كم تأخذ يا ابني في الشهر؟ - كم تدفع؟ - ثلاثة جنيهات. - وهل هذا معقول؟ - ستسرق أنت عشرة فليكن مرتبك ثلاثة.
المهم ألا يدفع. وقد كان يدرك أن الكاتب سيسرق على كل حال مهما يغدق عليه في المرتب فليستفد هو من المرتب وليسرق الكاتب بعد ذلك.
كانت الأموال السائلة التي تركها أبوه تكفي لشراء ألف فدان فاشتراها، وأصبحت أملاكه في بني سويف ثلاثة آلاف فدان، وأخذ نفسه ألا ينفق هو على نفسه شيئا، وقد كان رداؤه رداء المشايخ فهو يلبس العمة والجبة والقفطان جريا على عادة أعيان الصعيد، وقد كان أبوه هو الذي يشتري له الملابس فلما مات أبوه أصبح لا يشتري شيئا، وقد جاهدت نفيسة جهدا شاقا أن تجعله يشتري لنفسه بعض الملابس فكان جوابه الوحيد والدائم: لك المائة والخمسون جنيها وليس لك بعد ذلك شيء. وأصبح الأولاد ثلاثة وهو لا شأن له بهم. وضاقت نفيسة بالقرية وبزوجها. - أريد أن أذهب إلى القاهرة. - وأنا. - أنت حر. - لن تأخذي مليما واحدا أكثر مما تأخذين. - لا أريد شيئا، فقط أريد أن أذهب إلى القاهرة.
ومنذ ذلك الحين أصبحت تسلية عبد القادر إذا خلا به الليل أن يفتش عن القمل في ملابسه، ويقتله وأن يرتق هذه الملابس حتى لا تبين عما تحتها من قذارة، أو حتى يسلي نفسه فما كان يهمه أن يبين منه القذر.
وفي يوم اشترى أرضا، وكان لا بد أن يسجلها بالقاهرة؛ فذهب إلى بيت زوجته وصعد إليها في الطابق الأعلى ورأت هيئته الجديدة فصرخت: ماذا بك؟ - ماذا. - ما هذا الذي تلبسه؟ - ملابس. - ألا يغسلها لك أحد. - لقد تركتني. - عشرة قروش لأي فلاحة تغسل ملابسك. - أنت لا شأن لك بي. - إلى هنا ولي شأن، يا محمد، يا حسين.
وجاء الخادمان. - هذا الشيخ لا يصعد إلى الطابق الأعلى إلا بعد أن يستحم بالطابق الأسفل وتغير له ملابسه. - لن أشتري أي ملابس. - سأشتريها أنا.
ومنذ ذلك اليوم أصبح عبد القادر لا يستحم ولا يغير ملابسه إلا إذا زار بيته في القاهرة، وقليلا قليلا ما كان يزور بيته في القاهرة.
يشتري أرضا بالمنصورة
كان لا بد أن يكون لعبد القادر أصدقاء، وقد كان له أصدقاء فعلا، وقد أحسن اختيارهم؛ إنهم السماسرة، وقد كان مع السماسرة أمينا في المعاملة لا حبا في الأمانة ولكن حبا في عقد الصفقات الرابحة، وقد كان عبد القادر يعطي السمسار حقه كاملا غير منقوص وغير زائد أيضا بطبيعة الحال. وقد دله سمسار على صفقة مع رجل ألماني يملك أرضا بعزبة قريبة من المنصورة، كان الألماني مهتما بها غاية الاهتمام؛ فقد بنى بها بيتا أرضيته من الخشب الباركيه، وبنى بها بيتا آخر لناظر العزبة، وأجرى الماء فيها داخل قنوات من الإسمنت المسلح، وبها تروللي يمر على كل شبر من الأرض، وقد كانت العزبة تستطيع أن تجد مشتريا خيرا من عبد القادر؛ فعبد القادر لا يعنى بالبيت المنشأ. ولا يهمه في شيء كيف يجري الماء، ولا يهمه أيضا أن يلف العزبة راكبا الترولي فإن قدميه عن الترولي.
ولكن استفاد من وجود هذه الأشياء أن صاحب العزبة كان مهتما بها، والواقع أن في إطلاقنا على الأرض كلمة عزبة ظلما كبيرا لها فهي تفتيش واسع مساحته ألف فدان. والفرصة التي أتيحت لعبد القادر أن صاحب التفتيش يريد أن يبيعه في أسرع وقت وأن يحصل على الثمن كاملا.
فحين قصد السمسار إلى عبد القادر قصد إليه وهو يعلم أنه يكاد يكون الشخص الوحيد الذي يجد معه المبلغ كاملا.
كان الفدان يساوي في ذلك الحين مائتي جنيه، ولكن عبد القادر الذي أدرك الموقف استطاع أن يشتري الفدان بمائة جنيه، والبائع لم يجد حيلة للمناقشة، فأين يجد رجلا يملك مائتي ألف جنيه جاهزة ويريد أن يشتري أرضا؟ لعله كان يجد له لو كان ملك فسحة من الوقت ولكن لا وقت. وهكذا انقض عبد القادر على الصفقة انقضاض النسر. وسافر في سيارة المالك الألماني وطاف بالأرض طوافا سريعا ولم يلق أي اهتمام بالبيتين ولا بالترولي ولا بقنوات الماء. واستطاع أن يخفي فرحته باتساع الأرض؛ فقد كان عبد القادر يملك وجها فريدا في نوعه؛ فإن رأيته خيل إليك أنه يلبس على وجهه قناعا من المطاط الرقيق لا تبين فيه خلجة فرحة ولا نأمة سرور ولا علامة حزن، وإنما هو وجه بلا أي تعبير، ولولا إفرازات عينيه التي لا تنقطع عن جوانبها لتأكد لديك أنه يضع هذا القناع، اللهم إلا إذا أمسكت بوجهه لتتأكد أنه بشرة آدمية لا صناعة فيها، وما أظنك ستفعل؛ فإنه بملابسه التي توحي إليك بمقدار قذارته يمنعك إن كنت ممن يحبون النظافة أن تفعل؛ ولهذا ... لم يكن غريبا على أحد عظماء الصعيد ما كان يفعله مع عبد القادر كلما ذهب لزيارته؛ فقد كان يجلس في آخر الحجرة وما يكاد يلوح عبد القادر عند الباب حتى يعاجله عظيم الصعيد بقوله: عندك وقل ما تريد.
ولم يكن عبد القادر يغضب لكرامته فمسألة الكرامة عنده ليست ذات بال. كان يقف ويقول ما يريد، ويقضيه له العظيم أو لا يقضيه حسب الموضوع المطروح.
وكان عبد القادر يسخر من العظيم في نفسه فهو يملك آلاف الأفدنة بينما العظيم مدين مع غناه؛ لأنه كان ينفق أكثر من إيراده على وجاهته.
وهكذا طاف عبد القادر بالتفتيش وعاد إلى القاهرة. وإياك أن تظن أن معنى عودته إلى القاهرة أن يعود إلى بيته. إنه كان يبيت في لوكاندة بسيدنا الحسين تؤجر فيها الغرفة بعشرة قروش، وكان يستأجر الغرفة كاملة لمبيته وكان يجد هذا أوفر من ذهابه إلى البيت فقد تطالبه زوجته بمال، إنه لن يعطيها ولكن المطالبة نفسها لا يطيقها ثم هو سيواجه على كل حال بهذا الحمام والملابس، وقد كان لا يحب أن يلبس هذه الملابس النظيفة لأنها قد توحي للناس بغناه؛ وهذا في ذاته سبب كاف أن يبقى على نفسه هذه الملابس المهلهلة، ثم بماذا سيتسلى إن لبس النظيف من الثياب وتركه القمل الذي يجمعه آخر الليل إذا خلا به الليل.
عاد إذن إلى القاهرة، وأصبح الصباح فكان هو يستقبل إشراق الشمس مع أن موعده مع البائع كان في الرابعة من بعد الظهر، نزل من اللوكاندة فأفطر وكان إفطاره رغيفا من العيش وبنصف قرش طعمية، ثم دلف إلى مسجد الحسين فتوضأ وصلى الصبح، وظل جالسا بالمسجد لا يصنع شيئا حتى إذا اقترب موعد صلاة الظهر قام قاصدا مسجد السيدة زينب ليصلي الظهر. وهناك وجد متصدقا يوزع العيش والفول النابت على فقراء المسجد، الحمد لله لقد أتانا غداؤنا، ولم يكن الموزع ليجد أصلح من عبد القادر في مظهره ليتصدق عليه مما يتصدق به على الفقراء، وهكذا تناول عبد القادر غداءه، بل وأخذ أيضا خمسة تعريفة كانت ضمن النذر الذي يوزعه المتصدق. وفلسفته بسيطة لا تحتاج إلى نقاش، خير جاء لي من عند ربنا، هل أرده؟
أول زيارة لتسلم الأرض
عبد القادر لا يعرف من درجات القطار إلا الدرجة الثالثة، وأظن أننا نكون سخفاء لو حاولنا أن نسأله عن الدرجتين الأخريين، ولكنه يجيب على كل حال، ألا تصل الدرجات الثلاث في وقت واحد. في هذه الليلة لم يشأ أن يبيت في اللوكاندة؛ فقد حزم أمره أن يأخذ القطار الأول إلى المنصورة، فما معنى أن ينفق عشرة قروش في اللوكاندة، فلماذا إذن خلقت هذه الأرائك المنشورة في محطة مصر؟ فإن لذعه البرد فالبركة في الجبة يتغطى بها وينام ليلته في المحطة، ويوفر ثمن اللوكاندة وأجرة تذكرة الترام من الحسين إلى المحطة، فوائد كثرة يجنيها من بياته على هذه الأريكة وقد فعل. ومن المنصورة استقل قطارا آخر أنزله في أقرب محطة من التفتيش. وأقرب محطة من التفتيش تبعد عنه ثلاثة كيلو مترات يستطيع أن يمشيها؛ فقد أخذ درسا من صاحب حمار كان يحاول يوما أن يستأجره، كان ذاهبا إلى إحدى تفاتيشه ونزل بأقرب محطة من التفتيش وكانت المسافة بعيدة بعض الشيء خمسة كيلو ووجد فلاحا ومعه حمار فركب الحمار، وحين استقر عليه نظر إلى الفلاح. - كم تأخذ لتوصلني إلى التفتيش؟
وكان الفلاح يعرفه ويعرف سمعته العريضة. - خمسة قروش. - صاغ. - كثيرة. - اسمع سأدفع لك ثلاثة تعريفة.
ويبدو أن الفلاح لم يكن معجبا به ولا بما يسمعه عنه؛ فإذا هو يدفعه دفعة قوية تلقيه عن ظهر الحمار ليصبح طريحا على الأرض ويقول له: والله لا أوصلك حتى لو دفعت خمسين قرشا.
ومنذ ذلك تعلم ألا يستأجر حمارا إلا عند الضرورة القصوى. وقد كان يستطيع في يومه هذا الذي يزور فيه تفتيش الألماني لأول مرة أن يكلمهم بالتليفون؛ فقد كان بالتفتيش تليفون، وكان يستطيع أيضا أن يرسل لهم تلغرافا لينتظروه بالحنطور الذي كان ضمن ما اشتراه في التفتيش، ولكن المكالمة التليفونية أو التلغراف كان لا يمكن أن تكون مجانا، أما المشي فإلى جانب أنه رياضة فهو أيضا لا يكلف شيئا.
كان القائم بشأن التفتيش عمدة الناحية، وكان رجلا وجيها يحب أن يعيش في رغد عيشة كريمة لا بخل فيها؛ فهو محترم في منطقته يحظى بتقدير الفلاحين وأعيان الناحية.
ولم يكن المفتش حاضرا في المرة الأولى التي جاء فيها عبد القادر ليطوف بالأرض، ولكنه طبعا عرف أنباء الزيارة جميعا ولم ينس من قصوا عليه هذه الأنباء أن يصفوا له المشتري الجديد. ولم يكن محتاجا لهذا الوصف فقد كان رجل مجتمع، وكانت أنباء عبد القادر أو معظمها قد وصلته.
كان المفتش جالسا مع الكاتب والخولي وبعض الفلاحين حين أقبل عليهم عبد القادر في ملابسه الرثة. - السلام عليكم.
ودون ريث تفكير قال المفتش: يعطيك ربنا يا عم الشيخ.
ولم تهتز كرامة عبد القادر؛ فهي قد عودت هذه النظرة ولم يعد صاحبها يهتم بمثل هذه التفاهات للناس أن يقولوا وأن يفعلوا ما يشاءون، وله هو أن يتمتع بمتعاته الخاصة كما يشاء. - أنا عبد القادر فهمي.
وانتفض الجميع، وسارع المفتش الذي كان يغمزه أحد الفلاحين في يده بعد فوات الوقت. - لا مؤاخذة يا سعادة البك اللي ما يعرفك يجهلك. - لا مؤاخذة ولا يحزنون هيه كيف الحال؟
وجلس وطلب دفاتر الحسابات، واستأذن المفتش لحظة، ونادى أحد الفلاحين وانتحى به ناحية. - اذهب إلى البيت واطلب إليهم أن يذبحوا أوزة ويجهزوا الغداء. - إنه لا يستحق. - يا جدع اخرس إنه صاحب التفتيش. - خسارة فيه. - اجر ولا تتلكع.
ويذهب الرسول إلى البيت ويعود المفتش إلى مجلسه مع عبد القادر ويبدأ عبد القادر في مراجعة الحسابات، وينتهي النقاش بأن يطلب منه المفتش مائة وخمسين جنيها قيمة إصلاحات لأدوات زراعية، واستهول المبلغ. - ولكن الزراعة محتاجة لهذه الأدوات.
فظل يناقشهم ويعنف بهم في النقاش حتى نزل بالمبلغ إلى ثلاثين جنيها.
وحينئذ كان الغداء قد أعد، ووجد عبد القادر نفسه أمام وليمة هائلة، وقد كان أكولا مع أن فلسفته لا تتفق مع هذه الصفة فيه؛ فقد قال يوما لأحد الكبراء: يا باشا يقولون عني بخيل.
فقال الباشا: والله يا شيخ عبد القادر نعم يقولون هذا. - هذا غير صحيح. - أتظن ذلك؟ - البخيل هو الذي تشتهي نفسه الشيء ولا يشتريه أما أنا فنفسي لا تشتهي شيئا، وقد كانت هذه الفلسفة جديرة أن تجعله غير أكول ولكنه - والشهادة لله - في الولائم ذو فن عريض فهو عليم بالمأكولات يحسن تذوقها، ويتناول منها مقادير لا يمكن أن تتناسب مع جسمه الضئيل الهزيل.
فحين وجد نفسه أمام هذه الوليمة التي أعدها له المفتش هش وسجحت نفسه، وهم أن يمد يده ولكنه فجأة تذكر أشياء على جانب كبير من الأهمية؛ إنه في تفتيشه ولعل هذه الوليمة تظهر له في المرة القادمة بدفاتر الحسابات ، وثنى يده الممدودة ونظر إلى المفتش: العزومة دي على حسابي أم على حسابكم؟
والواقع أن المفتش كان قد أعد الوليمة على حسابه الخاص ولم يفكر مطلقا أن يحاسب الشيخ عبد القادر عليها، ولكنه أمام هذه السؤال تملكه غيظ شديد فنظر إليه في ضيق وضجر وقال: على حسابك. - ومن قال لكم إن معدتي تحتمل هذا الأكل؟ - والله لا نعرف طبعك. - لا، أنا لا آكل إلا اللبن الرائب. - أمرك.
وأحضروا له اللبن الرائب وراحوا هم يأكلون الوليمة في نهم مغيظ، وحين انتهى الغداء هم الشيخ عبد القادر بالقيام. - ألحق القطار. - أمرك ولكنك لم تدفع الثلاثين جنيها. - آه نسيت خذ.
وأخرج من جيبه عشرة تناولها المفتش صامتا معتقدا أنه سيرسل له باقي المبلغ، وأمر بتجهيز العربة واستقلها الشيخ عبد القادر وركب معه المفتش، وفي منتصف الطريق فاجأه الشيخ عبد القادر بأن أخرج من جيبه عشرة جنيهات أخرى وأعطاها له، فقال في نفسه لعله كان ناسيا أن معه عشرة أخرى، وحين وصلوا إلى المحطة فاجأه بأن أعطاه العشرة الثالثة وهو يقول: صعب أن أخرج ثلاثين جنيها دفعة واحدة.
هو وزوجته
ضاقت به زوجته؛ فهو يأبى أن يزيد ما يعطيه لها عن المائة وخمسين جنيها وقد أصبح الأولاد خمسة ثلاثة أولاد وبنتين، والأولاد يتعلمون في الجامعة وهي تريدهم أن يلبسوا أحسن الثياب ما دام أبوهم قادرا، والبنتان اقتربتا من سن الزواج ولن يقدم أحد على الزواج بإحداهما وسمعة أبيهما تملأ الآفاق.
وقد انقطع عبد القادر عن البيت تماما منذ عرضت عليه زوجته هذا الحديث؛ فهو طبعا لن يزيد مرتبها، وهو يعلم أنها قد تهدده بنزع الأرض من تحت يده، فوجد أن خير ما يفعله أن ينقطع تماما عن البيت، ولكن السيدة زوجته لم تسكت؛ فقد أرسلت في طلب أخيها سلام وسرعان ما جاء، كان هو أيضا يكاد يموت من الخجل مما يسمعه عن زوج أخته، وقد كان يتوق أن يذهب إلى أخته ليحادثها في أمره، ولكنه كان يمنع نفسه خشية أن تظن أنه طامع في إدارة أموالها، كما كان يريد أن يربأ بنفسه أن يتدخل من تلقاء نفسه بين الزوجين. فحين أرسلت إليه أخته وافقت الدعوة هوى نفسه. - ماذا نصنع يا أخي؟ - يا أختي إن لم يكن أصيلا فيجب أن نكون نحن أصلاء. - أنت لا تحتاج إلى أن أحدثك عن شيء. - أخباره تملأ الدنيا ويتندر بها الناس في كل مكان. - يا للفضيحة! - في الصعيد، في القاهرة، في المنصورة. - المصيبة ماذا أصنع مع الأولاد؟ - أنا تحت أمرك. - تحت أمري؟! أيكون أبوهم بهذا الثراء ونأخذ منك مالا؟! - ترى ماذا تريدينني أن أفعل؟ - المصيبة الكبرى البنتان؛ لقد أشرفتا على سن الزواج. - اسمعي أنا أستطيع أن أصنع الكثير. - اصنع. - قبل أي شيء نرسل إليه، أتعرفين طريقه؟ - أعرف الذي يعرف طريقه؟ - من؟ - الحاج أحمد هلال من المنصورة. - من هذا؟ - سمسار يلازمه أغلب الوقت، وقد طلبته مرة فجاء ورجوته أن يكلمه. - وبماذا أجاب؟ - عاد الرجل الطيب خجلان لا يعرف ماذا يقول؛ فقد رفض أي حديث في الموضوع. - ولماذا يلازمه؟ - والله لا أدري، ولكن يبدو أنه ينتفع منه؛ فهو سمسار وهو الذي يتولى له بيع المحصولات، كما يعرض عليه شراء بعض الأراضي كلما وجد فرصة، المهم أنه يلازمه أغلب وقته. - هل تستطيعين أن تستدعي الحاج أحمد هلال؟ - إن له محل إقامة على الأقل. - ألا تقولين إنه يلازمه؟ - نعم، ولكنه يبيت كل ليلة في بيته ما لم يكن معه في القاهرة. - أتعرفين أين يبيت زوجك إن كان في القاهرة؟ - في سيدنا الحسين. - في أي لوكاندة؟ - وكيف أعرف؟ - يبدو أنه لا سبيل إلا الحاج أحمد هلال فليس من المعقول أن نطوف بلوكاندات الحسين نسألهم عن عبد القادر. - هل معك نمرة الحاج أحمد هلال؟ - أتيت بها من دفتر المنصورة، وقد طلبته منها في المرة الأولى.
وجاء الحاج أحمد هلال وقال سلامة: أيرضيك ما يصنعه عبد القادر؟ - إنه لا يرضي أحدا. - أنت صديقه؟ - أولا يجب أن تعرف سعادتك أنه لا يحب أن يكون له صديق. - وأنت؟ - أنا أعمل معه. - مجرد عمل. - أنا سمسار، وهو غني يبيع محصولا ويشتري أطيانا. - فلست صديقا. - صديق؟! اسمع. - ماذا؟ - سأروي لك حكايتين. - حكايات؟ - لتعرف إن كان يمكن لمثله أن يكون له صديق. - إنك تلازمه. - وتلك هي المصيبة، في يوم اجتمعنا حوله ثلاثة سماسرة في قهوة حقيرة بالمنصورة ننتظر إقفال البورصة لنزايد على الإقفال ويقدم كل منا العلاوة المناسبة لنشتري قطنه، أتعرف كم قنطارا كان يبيعها في ذلك اليوم. - كثير طبعا. - ألفي قنطار. - عظيم. - تأخر الإقفال. - هيه. - جعنا، الساعة قاربت الثالثة. - لم يفكر طبعا أن يدعوكم للغداء. - انتظر. - إني منتظر. - نحن في قهوة حقيرة الغداء لن يكلفه أكثر من خمسة قروش أربعة أرغفة بقرشين صاغ، وبثلاثة صاغ طعمية كانت كافية، ونحن نعرف أنه بخيل، ولم نكن ننتظر أكثر من ذلك. - معقول. - وكلنا كان خجلا أن يدعو الآخرين على الغداء؛ فهذا لا يجوز في وجود رجل في غناه سيبيع في جلستنا ألفي قنطار. - معقول أيضا. - استأذن منا عبد القادر بك وغاب. - إلى أين ذهب؟ - انتظر، قلت لزملائي إني أفكر في شيء، وأنا واثق منه. قالوا: ماذا؟ قلت: انتظروا. ذهبت إلى المرحاض، أتتصور مرحاضا في قهوة حقيرة، رائحته تملأ المنطقة كلها لا القهوة وحدها، للمرحاض فتحة مستديرة في أعلى الباب لا أعرف لوجودها سببا، وجدت عبد القادر بك يخرج من جيب الصديري لفة بها طعميتان، ومن الجيب الآخر شقة عيش، وأنت تعرف أن نظره ضعيف، فلم يرني وراح يتناول غداءه هذا في المرحاض حتى لا يضطر لدفع القروش الخمسة التي تكفي غداءنا، وتقول صديق؟! - أعوذ بالله. ولماذا تسير معه؟ - ألم أقل لك لماذا؟ - ألم أقل: أعوذ بالله. - اسمع. - حكاية أخرى. - ألعن وأضل سبيلا. - ماذا؟ - ذهبت لأبيت معه في لوكاندة بسيدنا الحسين رجوته أن يغيرها فأبى، وكنت مضطرا أن ألازمه لأن صفقة هامة كانت تنتظرنا في الصباح الباكر من اليوم التالي. وكانت عينه اليمنى مصابة برمد حاد؛ فحين دخلنا اللوكاندة نادى الخادم وقال له: اذهب إلى الصيدلية القريبة واشتر قطرة وقطارة، وبنكلة قطنا. سأله الخادم: بنكلة؟! قال: نعم بنكلة. ذهب الخادم وعاد بالأشياء، ورأيته يعطي الخادم شيئا فعجبت فليس هذا من عادته. قبض الخادم على ما أعطاه وخرج دون أن ينظر فيه، ولم تمر لحظة إلا وفتح الخادم الباب وقال له: «ماذا أعطيتني يا عم الشيخ.» فقال عبد القادر بك «نكلة.» فقال الخادم «إذن فإني لم أخطئ لقد اعتقدت أنني أخطأت، خذ يا عم الشيخ النكلة خسارة تنفعك.» وخرج الخادم ولم أجرؤ أن أسأله عما فعل ولكنه هو قال: «بني آدم لا يملأ عينه إلا التراب، ماذا يريد، أيريد فدانا لأنه اشترى لي بضعة أشياء من الصيدلية؟!» قلت: «الفرق كبير حبتين بين النكلة والفدان يا عبد القادر بك.» قال: «كلكم مجانين تبعثرون من أموالكم في الكلام الفارغ، والله لو أعطيته جنيها ما قنع بني آدم؛ لا يملأ عينه إلا التراب.» قلت: «تعال لنرى عينك أولا.» وقطرت له في عينه المريضة، جففت القطرة بقطعة من القطن، وألقيتها إلى الأرض قال: «ماذا فعلت.» قلت: «رميت القطنة.» قال: «أنت جننت.» قلت: «لماذا؟» قال: «ألن تقطر في العين الثانية.» قلت: «نعم.» قال: «فلماذا رميت القطنة؟» قلت: «حتى لا تصاب العين السليمة من العين المريضة.» فإذا به يقول غاضبا: «يا رجل حرام عليك خسارة القطن. كلكم مجانين.» أتستطيع بربك أن تقدر لي ثمن قطنة مقطوعة من قطنة ثمنها نكلة. وتقول أصدقاء؟! في هذا اليوم قال لي حكمة عجيبة. قال إن أحد المليونيرات في الغرب قال راقب الملاليم أما الجنيهات فسوف تراقب نفسها. وتقول لي صديق؟! يا سعادة البك زوج أختك لا يعرف معنى كلمة صديق هذه أبدا. - يا سيدي أنا آسف، المهم. - أنا تحت أمرك في كل شيء إلا في مسألة أختك. - لماذا؟ - حين كلمته في المرة الفائتة كاد يضربني، والحقيقة أنا أستفيد منه؛ فصفقاته كثيرة وأنا آخذ حقي في السمسرة، وأنا لا أضمن أن أجد زبونا مثله. - إذن أخبرنا أين نجده؟ - هو ليس في المنصورة. - فأين تظنه يكون؟ - لعله في القاهرة. - إذن دلنا على مكانه في القاهرة. - هذه سهلة. - وذهب سلام إليه في اللوكاندة فوجده يمارس هوايته من تنقية القمل من ملابسه. - يا رجل اتق الله. - اسمع أنا لا أريد نصائح أحد. - اتق الله في نفسك، إن لم تتق الله في أولادك. - لا شأن لأحد بي. - ماذا تريد أن تصنع بهذا المال؟ - أنتم مجانين. والمال لم يوجد إلا ليجمع. - يقولون إنه موجود ليتمتع به الإنسان. - أنا أتمتع بجمعه، ما رأيك؟ - أهذه متعتك؟ - ولا متعة لي غيرها. - إذن اسمع. - سمعنا. - أختي تريد أن تكلمك. - قل أنت ما تريد. - هناك أشياء لا يقولها إلا الزوج. - أمري إلى الله، أذهب معك.
قالت نفيسة: اسمع يا عبد القادر هذه الحال لا تنفع. - هذا آخر ما عندي. - إذن علي أنا أن أفعل ما يجب علي. - اعملي كل ما في يدك. - منذ الغد سأسقط التوكيل عنك، وأوكله أخي في إدارة الأرض. - وبعد غد تصلك ورقة الطلاق. - هذا يوم المنى، على الأقل يعرف الناس أنني انفصلت عنك لعل بناتك تتزوج. - ولن تبقى بناتك معك. - هذا أمر تقرره المحكمة. - وأنا أحب المحاكم.
وخرج، وفعلا أسقطت الست نفيسة عنه التوكيل، ووكلت أخاها في إدارة الأرض، وفعلا طلق هو زوجته ولم يطالب بضم الأولاد قائلا في نفسه ما دامت قد استولت على الأرض فلا أقل من أن تنفق هي على الأولاد، ولكن الست نفيسة كانت مليئة منه بالغيظ؛ فرفعت دعوى نفقة وحكمت المحكمة لها بمائة وخمسين جنيها شهريا مع المتجمد من يوم الطلاق.
جن جنون عبد القادر وذهب إلى المحامي. - إن جاءت البنات إلى حضانتي لن يكلفوني أكثر من عشرة جنيهات أو عشرين.
ورفع دعوى الضم بالنسبة للبنتين، أما الأولاد فكانوا قد بلغوا سن الرشد وحكمت المحكمة بالضم، وفي يوم تنفيذ الحكم ذهب ومعه الحاج أحمد هلال ليتسلم البنتين وعند باب البيت. - حاج أحمد، هات لنا عربة.
وذهب الحاج أحمد فأحضر سيارة أجرة نظر إليها عبد القادر. - ما هذا؟ - سيارة أجرة. - وهل قلت لك سيارة، أتريد أن تخرب بيتي؟ - لماذا؟ - السيارة ستأخذ أكثر من عشرين قرشا. - فماذا تريد؟ - عربة، عربة حنطور بخمسة قروش.
وصرف الحاج أحمد السيارة بعد أن دفع أجرتها من جيبه، وأحضر عربة ونزلت البنتان وركبتا معه صاغرتين، وسارت العربة!
وفجأة لاحت في الطريق سيارة فاخرة نظرت البنتان فيها فوجدتا أمهما ومعها خالهما، فإذا البنتان تقفزان من العربة وتجريان إلى السيارة ويصيح عبد القادر: امسك يا حاج أحمد. - ماذا أمسك؟ - البنات. - يا عبد القادر بك بناتك كبيرات أتريد يدي أن تأتي على صدورهن؟ - امسك ولا شأن لك. - نحن في الشارع يا عبد القادر بك، لا يمكن، لا أستطيع. - وأثناء هذا الحوار كانت البنات قد ركبن السيارة مع أمهما، وعاد هو خائبا إلى البيت وظل يدفع النفقة.
عبد القادر وبائعة الفجل
كان جالسا أمام باب بيته في بني سويف وكان الوقت رمضان، وكان صائما بطبيعة الحال حين مرت به بائعة فجل. - بكم الحزمة يا خالة؟ - بتعريفة. - هات عينة أريها لهم بالداخل. - أحسن فجل وشرفك، تفضل.
وأخذ حزمة الفجل ودخل إلى منزله، وما هي إلا لحظات قلائل وعاد. - خذي يا خالة. - ماذا؟ - الفجل لم يعجبهم. - الأمر لله، هات. - ونظرت المرأة في حزمة الفجل. - ما هذه؟ - الحزمة التي أعطيتها لي. - يا رجل يا ضلالي. - عيب يا خالة اختشي. - أعطيك حزمة ريانة ناضرة فتستبدلها بحزمة ذابلة بقيت عندك منذ أيام. - أنا يا امرأة؟ - تعريفة يا ضلالي تريد أن تأكلني فيها. - اذهبي يا امرأة أنا صائم، ولا أريد وجع دماغ. - صائم يا ضلالي، والله لأخرب بيتك.
واتجهت المرأة إلى نقطة البوليس وقدمت شكواها وانتقل الضابط مع قوة إلى عبد القادر. - ماذا فعلت لهذه المرأة؟ - إنها امرأة مجنونة. - اسمع إنها تقول إنها أعطتك عينة. - حصل. - وبالطبع البائع حين يعطي عينة يقدم أحسن ما عنده. - لقد رددتها لها. - سنجري تفتيشا في بيتك. - كيف؟ - هكذا. - وإن وجدت فجلا ببيتي؟ - سنقارنه بفجل المرأة فإن كان مثله فأنت قد استبدلت حزمة الفجل. - يا حضرة الضابط تكذبني وتصدق هذه المرأة. - أولا: أنت تعملها، وثانيا: لماذا تتبلى عليك هذه المرأة؟ - وقام الضابط والقوة بالتفتيش ووجدوا حزمة الفجل وقاموا بالمقارنة وأصدروا الحكم في الحال. - تدفع لهذه المرأة خمسة جنيهات. - ماذا ؟ - أو نقدمك إلى النيابة.
وفي هذه المرة دفع خمسة جنيهات.
عبد القادر وموظف البنك
كان معه خمسون ألف جنيه وبات ليلته في لوكاندة الحسين، وهي في هذا اليوم بالذات أحسن مكان يبيت فيه؛ فهي المكان الوحيد الذي لا يشك أحد أن شخصا يحمل خمسين ألف جنيه يبيت فيه.
صلى الفجر في الحسين وقصد ماشيا إلى البنك الأهلي فوجد البنك ما زال مغلقا؛ فتكوم بجانب الباب في انتظار فتح البنك.
وأقبل الموظف الذي يحمل مفاتيح البنك فوجد هذه الكومة فرق قلبه على هذا المسكين الذي يجلس في مثل هذه الساعة المبكرة من الصباح وفي هذا البرد القارس من يناير بباب البنك، ولم يكن الموظف غنيا ولكنه كان طيبا، فمد يده بقرش تعريفة أعطاه لعبد القادر فأخذه ووضعه في جيبه وهو صامت.
وبعد قليل جاء موظفو البنك وجاء المدير فدخل إليه عبد القادر، وقدم له الخمسين ألف جنيه ليودعها في حسابه.
ودق المدير الجرس ودخل أحد الموظفين فقال له المدير: هذه خمسون ألف جنيه أودعها باسم عبد القادر بك فهمي.
ونظر الموظف إلى عبد القادر فهمي وأنعم النظر ثم قال: حضرتك جئت قبل فتح البنك؟ - نعم. - سعادتك كنت جالسا بجانب الباب؟ - نعم. - إذن هات التعريفة.
وأخرج عبد القادر التعريفة في صمت وأعطاه للموظف، وسأل المدير الموظف فقص عليه ما حدث وضحك المدير وسأل عبد القادر: لماذا؟ - أنا لا أرد خيرا أبدا، هذا كفر يا سعادة المدير، كفر.
المصير
طال به العمر وطال لم يغير الزمن منه شيئا، حتى كان قانون الإصلاح الزراعي فإذا عبد القادر يجد ما جمعه كله بددا، سبعة آلاف فدان لم يبق منه إلا ثلاثمائة، ترى هل كان يجمع عبد القادر ماله ليرثه أولاده من بعده، هراء وإلا لأعطى لأبنائه الفرصة أن يعيشوا، لقد كانت متعته في الحياة أن يجمع المال ويمنعه عن الآخرين حتى عمن يستحقونه، وأول هؤلاء وعلى رأسهم أولاده الذين لولا أمهم لعاشوا عيشة الشحاذين وأبناء العيل، إن نكبته في قانون الإصلاح لم تكن في أن الأرض لم يرثها أبناؤه، وإنما النكبة الكبرى في أن الأرض لن تصبح ملكا له، وليست في أن إيراده قل فما كان محتاجا لإيراد؛ فهو قد أودع باسم ابنه الأكبر ما يقرب من المليون جنيه؛ لأنه كان معجبا بابنه الأكبر الذي حصل على بكالوريوس التجارة العليا، وكان شحيحا طبعا، لم يكن في القمة التي وصل إليها أبوه من الشح ولكنه كان شحيحا. وهكذا أودع أبوه باسمه هذه الأموال حتى لا تنال الضرائب منها شيئا إذا وافاه الأجل المحتوم.
الإصلاح الزراعي كان نكبة بالنسبة إليه في أنه انتزع الأرض والأموال باسم ابنه الأكبر، كان فقط يريد أن يحرم ضريبة التركات من حقها، هذا كل ما في الأمر، ولكنه أبدا لم يكن يفكر في شأن أبنائه، إنها - كما قلت - الرغبة في الجمع لنفسه والرغبة في منع الآخرين.
ولكن عبد القادر رغم ضآلة جسمه كان قويا على الشدائد فاحتمل الصدمة وظل يواصل حياته كأن شيئا لم يحدث، طبعا مسألة الإيراد لم تؤثر فيه على الإطلاق فقد كان إيراد فدان واحد يكفيه العام كله ويفيض، ولكن النزع تجميع العمر، أمل السنين، لعله قال في نفسه قد تمتعت في الجمع نفسه ولكن ما أظنه قال هذا أيضا، المهم أنه صبر ولا أدري كيف صبر، على أية حال لم يطل به الصبر.
مر على قانون الإصلاح الزراعي ما يقرب من الثلاثة شهور، وكان عبد القادر جالسا في بيته بالصعيد وحيدا يمارس لعبته المفضلة مع القمل حين سمع أصواتا في الحجرة التي بها الخزانة، كان بالخزانة ثلاثمائة جنيه، قام يجري إلى الحجرة، الضوء منبعث من مصباح غازي فهو طبعا لا يفكر في الكهرباء، ونظر عبد القادر ضعيف ولكن هذا لم يمنعه أن يرى أشباحا حول الخزانة، ثلاثة نفر يتعاملون مع الخزانة معاملة لا ترضي عبد القادر. - ماذا تعمل يا ابني أنت وهو؟
وكانت كلمته الأخيرة، التف اللصوص حوله وقتلوه.
لقد مات الميتة التي تليق به. لقد عاش عمره يجمع المال، ومات في سبيل المحافظة على المال.
اعتبرت الضرائب الورثة يملكون السبعة آلاف فدان فحجزت على الثلاثمائة الباقية وفاء للضريبة المستحقة على وارث سبعة آلاف فدان، وحاول الإخوة أن ينالوا من أخيهم شيئا من المال السائل فأبى مدعيا أن جميعه ماله؛ فأبلغوا الضرائب أن الأموال التي بالبنك باسم أخيهم إنما هي ملك لأبيهم فوضعت تحت الحراسة وفاء للضريبة المستحقة. ولم يبق من عبد القادر إلا هذه الصفحات التي أنقلها إليك، لو كنت ألفتها لك لكان من حقك أن ترى فيها رأيك حسنا كان أو غير حسن، ولكن الحياة هي التي ألفت هذه الصفحات وهي - للأسف - حين تؤلف لا يهمها كثيرا رأي أحد، ومع ذلك فقد رأيت فيما ألفت الحياة شيئا يستحق أن أرويه لك، وفي هذا الرأي تستطيع أنت أن تقول ما تشاء رضى أو سخطا.
النابغة
لم يكن يتصور حين أدخل نادية المدرسة الابتدائية أنه سيطيق دفع المصروفات لها حتى تواصل تعليمها، ومن أين وهو يعمل ساعيا بوزارة الحربية مرتبه عشرة جنيهات، وقد أدخل محمدا ابنه الأكبر إلى المدرسة، كما أدخل ابنه الآخر عبد الكريم، وحين جاءت نادية عزم في نفسه أن تبقى في البيت لتساعد أمها عيشة على شئون البيت، ولكنها حين بلغت السابعة كانت عبئا على الأم بدلا من أن تكون عونا لها. - أدخلها المدرسة. - وبعد المدرسة. - تقعد في البيت. - وإن عجبها الحال. - يحلها ألف حلال. - ولو تعبت من أعمال البيت. - هي الآن أكثر شيء يتعبني في البيت. - تدخل المدرسة. - آه، تدخل المدرسة.
ودخلت نادية المدرسة، وكأنما كانت شيطنتها وهي في البيت تنتظر الشرارة لتنفجر فانفجرت؛ انفجرت مذاكرة، فهي الأولى دائما، وبدلا من أن تعاند أخويها وتغيظهما أنهما يتقويان في دروسهما بينما تنتهب هي الدروس انتهابا، كانت تترضى كلا منهما وتتخاضع لهما في الحديث ليشرحا لها ما يعجز المدرس أن يشرحه؛ فالمدرس لم يكن يشرح شيئا وهي لم تكن تفهم من المدرس شيئا، والمدرس ونادية كلاهما معذور؛ فقد كانت المدرسة لا تملك الفصول الكافية للتلاميذ. والوقت المخصص للدراسة من السابعة إلى الثانية عشرة؛ لأن هناك تلاميذ آخرين تخصص لهم المدرسة من الثانية عشرة إلى الرابعة، فالمدرس تائه بتلاميذه يبحث لهم عن مكان وهو ملهوف ملوع يريد أن يرمي بدرسه قبل أن يدهمه موعد الجرس، وبين اللهفة والقلق لا يفهم التلاميذ شيئا. ولم تكن نادية إلا واحدة من أولئك التلاميذ الضائعين مع مدرسهم؛ فلم يكن لها موئل إلا أخويها محمد وعبد الكريم يشرحان لها ما في الكتاب، ذلك الكتاب المستكين بين يديها لا يبحث عن مكان يلقى فيه بدرسه ولا يخشى أن يدهمه الموقف، وإنما هو ثابت صابر ينتظر من يقرؤه، ومن يفهمه في هدوء ودعة وأمان.
وكانت نادية تنظر إلى زميلاتها اللواتي قعدن مع أمهاتهن في البيت فيزلزلها الرعب أن تصبح مثلهن؛ ثيابا متهرئة وشعرا أشعث أغبر وأقداما مفلطحة من طول ما عاشرت الطريق عارية، وهي تنظر إلى المرآة فترى في وجهها مخايل وسامة، وحين تنعم النظر لا تدري من أين جاءت لها الوسامة؛ فعيناها لا سعة بهما ولا غمق، ووجهها أكثر ميلا إلى السمرة، وفمها أكثر ميلا إلى السعة، وشعرها فيه انسياب ولكنه انسياب ساذج لا التواء به ولا ذكاء ولا حنايا ولا ثنايا، ولكنها مع ذلك كانت ترى في نفسها وسامة، وكانت تشفق على هذه الوسامة التي لا تدري مأتاها أن يغولها البيت والطريق الأغبر والأقدام العارية والملابس المتهرئة؛ فهي الأولى دائما، ونالت الشهادة الابتدائية وخجل أبوها أن يتكلم في إبقائها بالبيت فهي الأولى وهي أكثر نجابة من ولديه، فهي إذن في الإعدادية. ويصرخ الأب: تعبت. - وأنا تعبت. - مرتبي لم يزد إلا جنيهين. - وأنا كبرت وأريد من يساعدني. - أتستطيع نادية أن تساعدك؟ - ولماذا لا تستطيع؟ - أصبحت بنت مدارس. - ولكنها تستطيع أن تساعدني. - كيف نقول لها؟ - إنك أبوها ألست كذلك؟ - وأنت أمها ألست كذلك؟ - أنت رب البيت. - وأنت ربة البيت. - لا تخالف لك أمرا. - ولا تخالف لك أمرا. - يظهر أننا نخاف أن نكلمها. - نعم. - وبعد. - الخيرة فيما اختاره الله. - والبيت وتعبي. - أصبر أنا على الضنك وقلة المال، وتصبرين أنت على عمل البيت وليكن ما يكون . - تخاف من ابنتك. - لا تعيريني ولا أعايرك.
واستمرت نادية في المدرسة وواصلت نجاحها في المرحلة الثانوية. وفي المرحلة الثانوية راحت أنوثتها تتبلور معها فهي تتفجر في كل يوم عن جديد، والفتاة تستقبل أنوثتها في سوق عارم مفتوحة الذراعين تواقة إلى كل نأمة جديدة من أنوثتها الوافدة، كانت تريد أن ترغم ثيابها على إظهار أنوثتها ولكن ثيابها لم تكن تطيعها فهي ثياب رخيصة وتفصيلها مجانا، والأنوثة تحب أن تختار القماش وتختار التفصيل وبين ضيق ذات اليد من الأب ورغبة نادية العارمة في إظهار أنوثتها تنكمش الثياب خجلة حائرة لا تدري ماذا تستطيع أن تفعل لترضي صاحبة الأنوثة الجديدة.
كانت نادية تحاول مع ثيابها ما وسعها الجهد فهي تضيق الحزام حتى لتكاد أنفاسها تختنق، ولكن لا يهم فإن الحزام حين يشد يسمح للجزء الهام من الصدر أن ينفجر إلى أمام، وللجزء الهام من الظهر أن ينفجر إلى وراء ويظهر من الجسم الفتي ما تحاول الثياب أن تطمره في رخصها.
هناك عينان تتبعان نادية في كل يوم حين تذهب إلى المدرسة وحين تعود، بل إن هاتين العينين تراصدانها كلما تبدت في الطريق، كانت العينان نافذتين ولم تكن نادية تستطيع أن تغفل حدة النظرة التي توجه إليها منهما، كانت ترى فيهما نوعا من الجرأة وكأنما كانت العينان تجسان كل مكان في جسمها، وكان فيهما انتظار، ولم تكن نادية تفهم سببا لأي من هذه المعاني التي تتواثب من العينين، فلو كان صاحبهما شابا في ريق العمر أو حتى شابا في أواخر الشباب لكان لهذه النظرات معنى، ولكن أن تصدر هذه النظرات من حسين بائع السجائر الذي يكبر أباها في السن فهذا أمر لم تستطع أن تفهمه أبدا.
وفي يوم. - تعالي يا نادية. - نعم يا عم حسين. - يعني يا بنتي تفوتين ولا سلام ولا كلام. - أراك مشغولا يا عم حسين. - ومهما أنشغل يا بنتي هل يمكن أن أنشغل عنك. - كتر خيرك يا عم حسين. - لقد شلتك على كتفي يا نادية. - عارفة يا عم حسين. - كنت قبيحة ، ولا يحب أن ينظر إليك أحد. - أهكذا يا عم حسين؟! - سبحان مغير الأحوال! من كان يظن ... من كان يظن؟! - ماذا يا عم حسين؟ - يا بنت ألا تعرفين ما أريد أن أقول؟ - لعلي أعرف وأريدك أن تقول. - آه من البنات اليوم يا عالم. - ماذا فعلن يا عم حسين؟ - مصيري معهن إلى الجنون والله. - ومالك ولهن يا عم حسين؟ - وهل لي شغلة غيرهن؟ - أنت يا عم حسين. - آه أنا، وماذا في هذا؟ - لا شيء يا عم حسين ولكن ألا ترى نفسك كبيرا بعض الشيء على بنات اليوم. - يا بنت اصحي. - صاحية وحياتك يا عم حسين. - لا وشرفك، نائمة في العسل نوما، وأين العسل، نائمة في البشر نوما. - لماذا يا عم حسين؟ - أهذا يليق؟ - ما هو الذي لا يليق؟ - هذا الجسم المرمري، هذا الجمال العجيب يلبس هذه الهلاهيل. - وبعد يا عم حسين، أنت تعرف البير وغطاه. - ملعون أبو البير على غطاه. - وماذا أفعل؟ - اسمعي كلامي. - وهل قلت شيئا. - لي أصدقاء. - لك أنت؟! - يجعلونك تلبسين الحرير، لا تلبسين إلا الحرير. - أبرد يا عم حسين. - والصوف الإنجليزي في الشتاء. - هكذا مجانا. - مجانا وشرفك. - ما دخل شرفي في الموضوع يا عم حسين؟ - شرفك مصان، اسمعي كلامي. - حرام يا عم حسين. - إذا غيرت رأيك أنا تحت أمرك.
ونالت نادية شهادة الثانوية العامة، وفي الصيف كانت كلما مرت بعم حسين ألقت إليه ابتسامة وتحية من بعيد. إن هاجسا في نفسها كان يهمس لها ألا تقطع المفاوضات بينها وبين عم حسين.
وأتت أشهر الصيف، ودخلت إلى الجامعة، إن لها زميلات من المدرسة الثانوية ذهبن معها إلى الجامعة، تعرفهن وتعرف ملابسهن وهن في المدرسة الثانوية، ما هذا الذي يرتدين؟ - كيف؟ - أنت هبلة. - هبلة؟ - ألا تعرفين كيف؟ - آه فهمت. فهمت. - أخيرا. - وعند الزواج. - بثمن فستان نجري عملية.
وحين عادت في ذلك اليوم وقفت مع عم حسين دقائق، لقد كان الهاجس في نفسها صادقا معها، لقد أحسنت صنعا أنها لم تقطع المفاوضات.
الميراث
ليس غريبا أن يكون بينهما هذا الخلاف الذي وصل إلى أقصى مداه، وليس غريبا أن يكون بينهما هذه الكراهية الشديدة وهذا المقت المرير، لقد ورثا الخلاف والكراهية والمقت فيما ورثا عن أبويهما، وهما الآن وجيهان لكل منهما أنصار وأعوان، وقد نسي كل منهما كما نسي أنصار كل منهما قصة الأبوين.
أما أبو الأول الذي أصبح اليوم أسعد بك فقد كان المعلم أنور. بدأ حياته في حي السيدة زينب وقد زحف إليها من الريف حين ضاقت به بلدته «شيبة» فأصبح لا يجد بها قوت يومه؛ فهي قرية مزدحمة يتخاطف أهلها الرزق، وهو لا يرى في الزحام طريقا، وحالفه الجوع حتى أصبح لا يأبه كثيرا بالشرف، فكان يختطف العيش اختطافا فيه قسوة أحيانا كثيرة وفيه الحيلة في أحيان قليلة ولكن لم يكن هذا الاختطاف ليستطيع أن يستمر طويلا؛ فضاقت به القرية ولم يجد مناصا آخر الأمر إلا أن يزحف إلى القاهرة. الزحام أشد ولكن هذا الزحام كان بالنسبة إليه كالصحراء البكر؛ فهناك لن يعرفه أحد، وهناك يستطيع أن يمارس اختطافه بالحيلة دون أن يعجزه ضيق المكان أن يجد الفريسة، ولم يكن يستبعد أن يستعمل القسوة، إذا كان لا بد أن يستعمل القسوة وزحف إلى القاهرة.
غريب في حي السيدة، والقاهرة يومذاك بها كثير من الأراضي الخالية، فماذا عليه أن يتخذ من خرابة مسكنا، وماذا عليه لو أقام بيته من بعض خشب. ومن أين له الخشب، أدرك أنه لو ظهر على حقيقته في أيام إقامته الأولى، فلن يلبث شارع الملك الناصر أن ينبذه كما نبذته بلدته شيبة، قصد إلى تاجر أخشاب. - أعمل عندك؟ - وماذا تحسن أن تعمل؟ - أحمل الخشب. - لا بأس فإن لك جسما قويا. - فقط أريد بعض خشب مقدما أقيم به الحجرة التي سأسكن بها. - أنت ... - غريب قادم من الريف. - ومن يضمن لي أنك ستبقى حتى تفي بثمن الخشب. - الخشب نفسه. - معقول.
وهكذا بنى حجرته بقطعة أرض وجدها خالية، ولم يفكر أن هذه الأرض لا بد أن يكون لها صاحب، أو هو فكر ولكن لم يشأ أن يتخذ إجراء معينا إزاء هذا التفكير.
المهم أنه أقام الحجرة وأقام.
كان صاحب الأرض رجلا عنيفا ذا بطش وسلطان. حتى نما إلى سمعه أن إنسانا تجرأ وبنى حجرة بملكه، ترفع أن يذهب إليه، وإنما أرسل بعض أتباعه. - كيف أقمت هنا؟ - بنيت هذه الحجرة وأقمت. - ألا تعرف أن لهذه الأرض صاحبا. - هل أنت صاحبها؟ - أنا تابعه. - أريد أن ألقاه. - لا يلقي أمثالك. - وماذا يضيره أن ألقاه؟ - لا يلقى أمثالك. - ألا يملك هذه الأرض؟ - بل يملك البيوت المحيطة بها جميعا. - ألا يسكن في هذه البيوت جميعا فقير مثلي؟ - ولكنهم لا يلقونه. - اصنع لي هذا المعروف. - ولماذا أصنعه؟ - لعلي أنفعك في بعض الأيام. - أنت؟! - ألا تعرف الفأر الذي خلص الأسد من المصيدة؟ - حكاية. - لا بد سمعتها. - فأنت تعرف أني أسد. - وأني فأر. - سأجعلك تلقاه. ••• - ماذا يضير سيادتك أن أقيم بهذه الأرض الخالية؟ - يأتي يوم وتدعي ملكيتها. - بل سأجعلها نظيفة، ويوم تريد طردي فما هي إلا بضعة أخشاب أحملها في يدي وأمضي إلى حال سبيلي. - تدفع أجرة؟ - أمرك. - عشرة قروش في الشهر. - ولكن الأرض خالية. - ولو. - وسأحرسها لك. - مثلي لا تحتاج أملاكه إلى حراسة. - ألا تجعلها خمسة. - عشرة قروش في الشهر. •••
ومضت الأيام وأحس أنور أنه يستطيع أن يكون كما يريد أن يكون؛ فقد طال مكثه في الحي وثبتت أقدامه، وبدأ يعود إلى نفسه التي صحبها معه من القرية.
فوجئ المالك الكبير بأنابيب المياه في بيوته تتفجر كل يوم، وأدرك أن أنور هو فاعلها. - لا أريدك في أرضي. - أنا تحت أمرك. - أنت لا ترعى الجميل. - وأين الجميل؟ - ألم أتركك تسكن في أرضي؟ - كنت أدفع أجرا. - ولكني تركتك تسكن. - بعرقي. - إذا أعفيتك من الأجرة توقف أعمالك. - أنا لم أعمل شيئا. - أستطيع أن أضربك كل يوم علقة حتى تترك الحي جميعه. - ولكني لم أعمل شيئا. - لا تعد إلى ما صنعت ولا تدفع الأجرة. - شكرا ولكني لم أصنع شيئا. ••• - لماذا ضعفت معه؟ - لو أخذته بالشدة لم آمن أن يظل في تخريبه. - تستطيع أن تخرجه من الحي كما قلت. - ويستطيع أن يجيء إليه خلسة فيرتكب جرائمه ويرجع من حيث أتى. هو الآن تحت أعيننا على الأقل. •••
إذن فالحكاية أثمرت. بهذا إذن يستطيع أن يصنع ما يشاء.
ذهب أنور إلى مولد السيدة واصطنع خناقة مع فتوة الحي، فأصبح هو الفتوة وأصبح من الميسور عليه أن: - قطعة الأرض. - ما لها يا معلم أنور؟ - أقبلها هدية من سعادتك. - قطعة الأرض جميعها. - حتى أحافظ على المباني الأخرى. - أليس كثيرا يا معلم أنور؟ - لا بد أن أبني لي بيتا. - فخذ نصفها. - إذن أحافظ على نصف الأملاك. - أمرك، خذها كلها.
وفعلا بدأ أنور يبني بيته، وحتى يعلو البيت لا بد أن يحفر الأرض، وإذا بالأرض تنكشف له عن كنز عظيم، وأصبح أنور في ضربة أرض أغنى أغنياء حي السيدة، ولكن المال لم يخلص إليه هكذا سهلا هينا وإنما نبت له رجل لا يدري عنه إلا أنه بني اللون. - هذا المال ملكي. - أي مال؟ - هذا الكنز الذي وجدت. - أنت الذي خبأته هنا؟ - لا، وإنما أجدادي. - من؟ - أجدادي. - ولماذا لم يدلك أجدادك على مكان الكنز؟ - كان آبائي كلهم يعرفونه، ومات أبي دون أن يخبرني به. - فمن أدراك إذن أنه كنزك؟ - إنه في هذه المنطقة. - وتتوقع مني أن أعطيك إياه. - إذا شئت العدل. - فإن لم أشأ. - فالقوة.
وقتل أنور المطالب بالكنز وثار أهله، وقامت المعارك كثيرة بين أنور وأعوانه وبين أهل القتيل، ولكن هذا لم يمنع المال أن يظل ملكا لأنور، ولم يمنعه أن يقيم بيتا رائعا ويصبح سيدا عظيم الشأن، ويتزوج ويأتي ابنه أسعد ليجد نفسه بك.
وحين يشب أسعد عن الطوق يجد هناك عداوة بين أنور أبيه وبين رجب، ولم يكن يدري أسباب هذه العداوة، ولكنه ما لبث أن عرفها على مرور السنين واتساع الإدراك، وعرف أيضا أنه لا بد أن يكون عدوا لراغب بن رجب لأن طبيعة الأمور تقضي بأن يكون عدوا له.
قدر أنور حين أصبح غنيا أنه لا يليق به أن يكون فتوة فراح ينمي ثروته فأنشأ مصنع خشب، أو هو في الحق اشترى المصنع الذي عمل به حين جاء إلى القاهرة أول ما جاء، وأغراه الربح أن ينشئ مصانع أخرى؛ فزاد ثراؤه زيادة فاحشة، وأصبح مطمئنا أنه أغنى أغنياء المنطقة جميعها إن لم يكن أغنى أغنياء مصر.
ولكن شيئا جديدا بدا في الأفق اسمه رجب، كان رجلا ينتسب إلى العلماء فلم يعره أنور التفاتا أول الأمر، ولكنه فوجئ برجب يجمع حوله المريدين وعلى رأسهم سعيد، وفوجئ أنور برجب يقول لا يجوز أن يكون هناك أغنياء وفقراء وإنما المال مال الناس أجمعين، قالها هو ونفذها سعيد وأعوانه. وأصبح حي البغالة جميعا ملكا لرجب وسعيد، وأصبحا ينافسان أنور في غناه، وحلت بينهما الكراهية منذ ذلك الحين، وقد توثقت الصلة بين رجب وسعيد حتى إن راغب لا يدري إن كان ابن رجب أم ابن سعيد، بل إن أمه نفسها لا تعرف، فهو من الناحية النظرية ابن رجب أما من الناحية الفعلية فهو لا يدري.
دافع الناس عن أموالهم في حي البغالة فكان الموت مصيرهم، فشا فيهم سعيد، أموالهم أو أرواحهم، ومات كثيرون ولكن الأمر استتب له ولرجب، وراح سعيد يتولى توظيف الأموال؛ فأنشأ المصانع هو أيضا بل أنشأ المواخير حتى ينسى الناس ما فقدوه من مال وتاجر في كل شيء، وبالإرهاب يشتري من لا يريد أن يشتري.
وكان رجب وسعيد من الذكاء بحيث لم يفكرا أن يقتربا من حي السيدة، وكان أنور من الذكاء بحيث لم يفكر أن يقترب من حي البغالة.
ومضت السنون وأصبح الناس فريقين؛ فريقا ينتمي بعواطفه وعقيدته إلى أنور وابنه أسعد، والآخر ينتمي إلى رجب وسعيد وابنهما راغب. وكانت الخلافات تحتدم بين الفريقين احتداما يصل إلى التشابك بالأيدي، ثم تطورت فأصبحت معارك تستعمل فيها كل أدوات المعارك وأصحاب الخلاف الأصليون يكتفون بتقديم أدوات المعارك دون أن يشاركوا هم فيها.
وتمضي السنون ويموت رجب ويتبعه سعيد. ويموت أنور. ويظل راغب وأسعد على الخلاف الذي ورثاه عن آبائهما، ويتوارث الأتباع أيضا المعارك فيما يتوارثون عن آبائهم.
وفجأة يجد أسعد ويجد راغب أن هذه الخلافات تشغلهما عن تنمية ثروتيهما وكأنما تكشفت هذه الحقيقة بغتة أمام كليهما في لحظة واحدة؛ فيبدأ كل منهما بكلمة لينة عن الآخر، وما تلبث هذه الكلمة أن تصبح زيارة من أسعد إلى راغب في بيته، تتبعها زيارة من راغب إلى أسعد في بيته، ويتم الصلح بين الخصمين القديمين.
ولكن العجيب العجيب أن أنصار كل منهما ما زال حتى يومنا هذا في عراك قاتل مستميت يموتون من أجل اثنين تم بينهما الصلح.
المقابل
لقد كانت المعركة بيننا وبين قبيلة غطفان غاية في العنف، وقد أصبنا منهم مقتلة عظيمة وما كان هذا إلا لغياب بطلهم الصنديد رافع بن عدي، ولا شك أنهم ينتظرون يوما قريبا ينالون فيه ثأرهم، والقبيلة منذ ذلك الحين مشغولة فيما يمكن أن تصنعه حتى تتهيأ لهذا اليوم المنتظر القريب، وقد اجتمع شيوخ القبيلة يفكرون واجتمع معهم الشباب وراح كل منا يدلي برأي، ولكن ما أسرع ما كانت هذه الآراء تواجه بالنقاش. - نهاجر.
ويقول شيخ القبيلة في عظمة واعتزاز: حتى نصبح أحدوثة بين العرب؛ نترك ديارنا خوف عدو دحرناه وأنزلنا به الهزيمة الماحقة، إذا نحن هاجرنا يكون العدو هو المنتصر، ويصبح النصر الذي أحرزناه أعجب نصر في التاريخ، سيكون نصرا ترتبت عليه آثار الهزيمة. - ولكننا إن واجهنا العدو ونيران الثأر تغلي في دمائه ومعه البطل الذي كان غائبا عنه، فإنه سيصيب منا قتلى كثيرين، ونخسر النصر والدماء في آن معا. - إن دمائنا لا شيء، إنها ما خلقت إلا لتحمي كرامتنا وشرفنا، يا شيخ القبيلة. - الدماء دماء أب أو أخ أو زوج أو ابن، إنها دماء عزيزة. - في سبيل النصر يصبح العزيز رخيصا. - فإن بذلنا الدماء ولم نحقق النصر؟ - لهذا اجتمعنا.
ويقول رأي آخر: ما لنا لا نناشد قبيلة عاصم؛ فإن بينها وبيننا أخوة قديمة.
يقول الشيخ: وما يجعلها تحارب قبيلة غطفان وليس بينهما عداوة، وقبيلة غطفان كثيرة العدد موفورة الحظ من القوة والبأس. - أليست الأخوة كافية لتقف قبيلة عاصم إلى جانبنا؟ - كنا جديرين أن نأخذ بهذا الرأي لو كان هناك عداء بين قبيلة عاصم وقبيلة غطفان، أما أن تثير قبيلة عاصم العداء عليها بلا داع إليه فهذا ما لا يفعله أحد.
ويقول شيخ من القبيلة في تؤدة ووقار: إن ما يلزمنا يا شيخ القبيلة هو فتى في مثل قوة رافع بن عدي يجعل انتصارنا على العدو مؤكدا.
ويصمت الجميع ويتكلم شيخ القبيلة بعد تريث وتفكير. - بالصواب نطقت، ولكن من أين لنا به؟
ويصيح شاب من القبيلة: إن العراف ...
وتقاطعه أصوات كثيرة. - هل ضعفت؟ - ما للعراف وهذا. - إنك تخرف.
ويقول شيخ القبيلة: دعوا الفتى يكمل حديثه.
ويسود الصمت هنيهة ويعود الشاب إلى حديثه. - إن العراف يمر بالقبائل جميعها وهو يعرف من أخبارها ما لا نعرف، فلماذا لا نقصد إليه نسأله أن يدلنا على بطل من أبطال العرب يكون كفؤا لرافع بن عدي؟
ويصمت الشاب ويعود الصمت إلى التحليق ويقول شيخ القبيلة: الرأي ما قلت، إذا كان الغد نذهب إلى العراف.
وينفض الاجتماع ولكن شابا من شباب القبيلة يمكث حيث هو لا يريد أن ينصرف، وإنما يظل رانيا إلى شيخ القبيلة في استعطاف ولهفة، وأنا أنظر إليهما لا يريد أن أنصرف أو أسمع الحديث بين الشيخ والفتى؛ فأنا أعرف ما يريد سليمان أن يقول، وأريد أن أعرف كيف سيجيبه شيخ القبيلة. يظل الفتى رانيا وشيخ القبيلة يتظاهر بأنه لا يراه وإنما هو يحول عنه بصره في ضيق، حتى إذا فشل سليمان في أن يجعل الشيخ يسأله ما يريد جمع كل ما فيه من شجاعة وتقدم إلى الشيخ. - وبعد يا عماه؟ - وبعد فيم يا سليمان؟ - ألا تعرف؟ - كأني أعرف. - فما انصرافك عني كلما أردت أن أكلمك. - أهذا وقته يا سليمان؟ - قبل الحرب كنت تقول بعد الحرب، وها قد انتهت الحرب. - أترى الحرب قد انتهت. - لقد انتصرنا، ألم ننتصر؟! - ففيم إذن كان اجتماعنا هذا؟ - لنؤمن النصر، ونتأكد منه. - فإذا أمنا النصر وتأكدنا منه يحق لك أن تقول وأن أسمع. - يا عماه سنوات ثلاث مررن. - أو عشر ماذا أفعل؟ - اعقد لي عليها. - فماذا تقول القبيلة؟ - تقول زوج ابنته من ابن أخيه. - والعدو يتربص بنا. - وهل لزواجي صلة بالعدو؟ - إني شيخ القبيلة لا يجوز لي أن أفرح والقبيلة خائفة. - إذن. - انتظر. - إلى متى؟ - إلى قريب، إلى قريب إن شاء الله.
ويطرق سليمان ثم يلقي بنظره حوله فلا يجد غيري فيقوم إلي يصحبني إلى عريض الصحراء. - ما رأيك؟ - لقد اخترت موعدا لا يصلح لهذا الحديث. - فأي موعد يصلح؟ - حين ترى الأمن بين القبيلة تقدم بطلبك. - ومتى يشيع؟ - لا أحد يعرف متى يشيع الأمن بين النفوس. - لا أحد يعرف؟ •••
وقال العراف: أعرف فتى لا حديث له إلا الحرب وأفعاله فيها، وما خاضه من أهوال. - هل شهدته وهو يحارب؟ - يا أخا العرب إنني عراف لا أشهد الحرب، هل رأيتني أجيء إلى قبيلتكم منذ نشبت الحرب بينها وبين غطفان؟ - لا. - إن عملي في الحياة هو الحياة، والحرب عملها الموت، يا أخا العرب إن الموت والحياة لا يجتمعان. - إذن فمن هذا الفتى الذي يروي عن الحرب؟ - غضبان بن صخر. - أتعرف مكانه؟ - أدلكم عليه. •••
وجاء صخر، شاهق هو إلى السماء، عريض الكتفين ضخم رائع التكوين عظيم البنيان. - كما شهدت من حروب، وإن عملي فيها بسيط، فإنني أتولى القيادة دائما وما هي إلا أن أجيل السيف جولة أو جولتين حتى يدرك الأعداء بلا أمل لهم وما هي إلا إغماضة عين أو انتباهتها حتى تكون الحرب قد انتهت، في يوم من الأيام نشبت الحرب بين قبيلة بهنس وفزارة، وكان البهانسة أصدقائي فأرسلوا إلي رسولا ...
وقص غضبان وقص، وكنت أحس مع كل قصة من غضبان نوعا من الأمن والطمأنينة يشيع في نفوس القبيلة فتشرق به وجوههم، وسأل شيخ القبيلة: ما أجرك؟ - ما نوع الحرب؟ - يريدون أن ينتقموا من يوم هزمناهم فيه. - فهي شر أنواع الحرب. - فلتكن ما تكون، ما أجرك؟ - اجمعوا لي خمسين ناقة سليمة لا عيب فيها ولا أود. - وبعد؟ - أرسل النياق إلى أهل بيتي ثم أقيم معكم حتى يوم الكريهة. - أتأخذ النياق قبل الحرب؟ - هكذا تعودت. - ليكن لك ما أردت. - وإني أحب أن أشرب الصبوح والغبوق. - وخمر أيضا؟ - لا أعيش بغيرها. - ولك ذلك. - أما إفطاري فقعب من اللبن، وإناء من السمن، وعشرة أرغفة وغدائي شاة وعشائي ... - وعشاء أيضا؟! - إن لم آكل فكيف أحارب؟ - وعشاؤك؟ - لا أحب أن أثقل في العشاء حتى يحسن نومي. نصف شاة تكفي. - لك ما أردت. - والنصر مؤكد لكم.
وأقام غضبان بيننا يروي عن أعماله، وانصرفت القبيلة جميعا إلى أعمالها؛ فقد آمنوا أن الحرب لن تنال منهم شيئا ما دام معهم غضبان، ولم يعد حديث الحرب يدور بينهم إلا إذا جلسوا حول غضبان يسمرون ويستمعون إلى أحاديثه عن حروبه التي لا تنتهي، وكنت جالسا إلى جانب سليمان حين التفت إلي فجأة. - لقد شاع الأمن في النفوس.
نظرت إليه ثم قلبت نظري في وجوه القبيلة، نعم لقد شاع الأمن. - نعم لقد شاع الأمن. - لقد صدق قولك، لا أحد يعرف متى يشيع الأمن. - نعم، لا أحد يعرف. - لقد شاع الأمن مع أن الحرب لم تنته. - تستطيع اليوم أن تتقدم إلى عمك. •••
كان الفرح عظيما، واجتمع الحبيبان بعد طول انتظار، وفرحت القبيلة باجتماعهما؛ فقد طالت بهم فترة القلق والخوف، وكانت النفوس منهم تهفو إلى فرح، أي فرح أكان فرح بنت شيخ القبيلة، ومرت شهور طويلة على العروسين، وبشرت العروس بمقدم طفل يحبو في أثباج الغيب، ورفرفت السعادة على القبيلة لا يذكرهم بالحرب إلا وجود غضبان بينهم يروي عن بطولاته، ويتناول مأكله الدسم وإن كان هذا المأكل لم يصبح له وحده وإنما كان يشاركه فيه كثيرون من أبناء القبيلة؛ فقد اتضح منذ اليوم الأول أنه ليس أكولا نهما كما أحب أن يصور نفسه لأبناء القبيلة. وإن كان في شرب الصبوح والغبوق يكثر ولكن إكثاره ما يلبث أن يتحول إلى أحاديث يمتع بها مستمعيه من أبناء القبيلة، ولعلهم من أجل هذا كانوا يلحون عليه أن يستمر في الشراب كلما أحب أن يكتفي.
لقد نشأ بين غضبان وأبناء القبيلة جميعا نوع من الألفة والحب والإكبار من جانبهم، والإيناس من جانبه. •••
حتى كان يوم فوجئنا فيه بنعمان أحد تجار القبيلة يدخل إلى أفناء الخيام يركض فرسه كالسهم النافذ، وقبل أن يوقف فرسه صاح: لقد جاء اليوم.
وما هي إلا لمحة من بصر حتى كانت القبيلة جميعها حوله. - كنت في السوق فرأيت جماعة كبيرة من الناس وسمعتهم يذكرون اسم قبيلتنا، فلم أشتر شيئا وجئت أسابق الريح. - متى تظنهم يصلون؟ - قبل أن تغرب الشمس.
وصاح شيخ القبيلة: يومك يا غضبان.
ونظر الجميع إلى غضبان، لم يكن غضبان هذا الذي نرى، لقد امتقع وجهه فهو أبيض ناصع البياض، وزاغت عيناه فهي هاربة في حفائرها كأنما تريد أن تغور داخل رأسه، بل جسمه الشاهق الضخم أصابته الضآلة فهو بعض من جسم.
غضبان جميعه بعض من إنسان، وقال لسانه وهو يتعثر في فمه: بل هو يومكم أنتم. - يومنا نحن بقيادتك. - أنا لم أحارب في حياتي. - ماذا؟
انطلقت صرخة ذاهلة من الجميع، واستغلق الأمر لحظات على شيخ القبيلة، ولكنه سرعان ما تماسك ونظر إلى غضبان ثم قال في تؤدة ووقار: احبسوا هذا الرجل حتى تنتهي الحرب ثم نرى فيه رأينا.
وخف إلى غضبان بضعة فتيان كنت منهم، وكان معي صديقي سليمان ولم يلتفت غضبان إلى أحد منا وإنما نظر إلى سليمان وقال في تؤدة: أما أنت يا سليمان فلا، أنت لا أجيز لك أن تقيدني.
وبهت سليمان لحظات ولم يدر ما يقصده غضبان إلا أنه ترك الحبل من يده وتولينا نحن قيد غضبان، وألقينا به في خيمته، وقد لاحظت عليه شيئا غريبا، لم يعد ذلك الشخص الذي كانه منذ لحظات، لقد بارحه الخوف وعادت إليه الطمأنينة التي عهدناها فيه، ولو لم نكن مشغولين بالجيش الوافد ولو وجد منا آذانا صاغية لراح وهو في قيده يقص علينا بطولاته في الحروب التي خاضها. •••
راح شيخ القبيلة يستعد للحرب؛ فالقبيلة جميعها تهيئ السيوف وتعد الخيل، وشيخ القبيلة يحدد لكل منهم موقعه وما عليه أن يفعله.
وجاءت الجيوش آخر الأمر، وبادرنا نلتقي بها قبل أن تصل إلى الخيام وكانت مفاجأة لم تخطر لنا على بال، لم تكن جيشا؛ لقد كانوا جماعة من قبيلة عاصم لم يتبين نعمان حقيقتهم؛ فقد هيأ له الخوف أنهم جيش غطفان، وما لبث شيخ قبيلتنا أن رحب بشيخ قبيلة عاصم ودعاه هو ومن معه إلى الخيام لينال الراحة والضيافة.
لقد جاء شيخ عاصم ليعقد صلحا بيننا وبين قبيلة غطفان وذكر ما طلبوه من دية وكانت مائتي بعير، ولم ينتظر شيخ عاصم حتى نبحث الأمر بل سارع يقول: وإني أقدم من عندي خمسين بعيرا هدية مني إليكم حتى يعود السلام إلى الربوع.
وقبلنا الصلح؛ فما أعظم أن ننتصر وندفع ثمن نصرنا هذا العدد من الجمال. ••• - فأنت إذن يا غضبان كنت تسرقنا. - أنا يا شيخ القبيلة؟ - ألست أنت من أخذ الخمسين ناقة وأقمت ...
وقاطعه غضبان: لا تذكر المأكل والمشرب يا شيخ القبيلة فإنك أكرم من أن تذكر مثل هذا.
وصاح سليمان: ليكن، فماذا أنت قائل عن الخمسين ناقة.
وقال غضبان: اسكت أنت يا سليمان. - عجيب أمرك معي، رفضت أن أقيدك وأنت الآن ترفض أن أحاسبك، ما شأنك معي؟ - إنك أكثر أبناء القبيلة انتفاعا بما قدمت. - لم تقدم إلا الأحاديث المزوقة، وأخبار الحروب الوهمية التي خضتها والبطولة الزائفة التي ادعيت إنك صاحبها.
ونظر غضبان لحظات إلى سليمان، ثم راح يجيل عينيه في أبناء القبيلة فوجد عيونهم جميعا تنتظر جوابه ونكس رأسه هنيهة ثم رفع رأسه في هدوء وثقة. - لقد قدمت إليكم بهذه الأحاديث أعظم ما كنتم تفتقدونه ولا تجدونه. - أنت؟ - قدمت إليكم الأمن، قدمت إليكم الاطمئنان.
وكأنما كانت هذه الكلمة في واد سحيق بعيد عن أذهان الجميع، نظر أبناء القبيلة بعضهم إلى بعض ثم التقت عيونهم جميعا عند شيخ القبيلة فوجدوه صامتا صمت المفحم الذي لا يجد ما يقول، واستمر غضبان في حديثه موجها كلامه إلى سليمان ما يزال: بهذا الأمن وهذه الطمأنينة تزوجت يا سليمان، وجد الفرح سبيله إلى قبيلة كانت قبل أن أجيء مفزعة في صباحها ومسائها، طعامها قلق وشرابها شغل وتفكير، أكثير ما أخذته منكم مقابل ما أعطيتكم، لقد نلتم المقابل، نلتموه كاملا، أليس كذلك يا سليمان؟
تحية عابرة
كان عدلي يفرح أشد ما يفرح حين يمر بالأطفال فيلقي عليهم التحية فيستقبلونها بالفخر والإعجاب والإكبار، إن عدلي جمعة يلقي عليهم التحية ويعتبرهم رجالا يستحقون منه هذا الإكرام، وكان هذا الشعور بالفرح في نفوس الأطفال يسكب سعادة مزغردة في قلب عدلي ويشعره أنه ما زال فتى الليل ذا الصيت الضخم الذي تهتز لذكره أفئدة الناس في قريته وجميع القرى المجاورة، وكان هذا الشعور يسليه عن أنظاره الذي يعلم أنه أصبح ضعيفا وهو يعلم أنه يجب أن يذهب إلى طبيب يعالج له ما يفقده من بصره، ولكنه يخشى أن يسامع الناس بهذا فتسقط هيبته ويزول مجده الذي أصبح في مهب الرياح منذ توقف عن الأعمال المجيدة التي تعود أن يقوم بها؛ فهو لم يقتل أحدا منذ ثلاث سنوات ومجده يوشك أن يصبح نسيا؛ فإنه لولا فرحة الأطفال بتحيته لأصبح بلا مجد على الإطلاق.
وهو يخشى أيضا أن تعرف حبيبته هنية أن نظره قد ضعف؛ فينكمش حبها له وتفضل عليه زوجها عبد الباقي؛ فهو إذن يبقي على سره دفينا في العميق من صدره لا يطلع عليه أحد.
خرج عدلي من داره في أول الليل وراح يتحسس طريقه إلى دار عبد الباقي في ليلة موعد كان عبد الباقي في الحقل يروي الأرض وسيظل هناك إلى ساعة متأخرة من الليل؛ فالفرصة مواتية لعدلي أن يذهب إلى هنية.
استقبلته هنية في بشاشة ودخلا إلى حجرة النوم.
لم يطل بهما المقام في الحجرة فقد سمعا صوتا. - عبد الباقي. - هل ترك الغيط؟ - اخفض صوتك. - أيهمك أمره؟ - زوجي. - وأنا عدلي. - إنه زوجي.
وذهل عبد الباقي مما يرى. - عدلي.
وأخرج عدلي مسدسه من جيبه ولم يتكلم وأطرق عبد الباقي والثورة توشك أن تمزقه تمزيقا، ولم يجد شيئا يفعله إلا أن يخرج من البيت هائما على وجهه، وتاه به الطريق وطال به المسير لا يعرف مكانه من القرية وهي قريته، ولا يعرف قدميه على الطريق وهو طريقه، وكلما آفاق تذكر زوجته الخائنة ومسدس عدلي، فيعود إلى الضياع وينسلخ الليل وتطلع الشمس ولكن الظلام ما يزال يحيط به، ويتلفت حواليه آخر الأمر فيتبين له أن قدميه قد سحبتاه إلى قريب من المدينة.
في المدينة يعرف طريقه، يعرفه في إصرار وحزم، إنه الآن يعرف ما يريد، ويعرف الطريق. - بلغني أنك تسلف. - بفائدة عشرة في المائة. - في السنة؟ - في الشهر. - أعطني عشرة جنيهات. - لكم شهر؟ - حتى أجمع القطن. - لمدة ثلاثة شهور؟ - نعم. - وقع على هذه الكمبيالة. - هات الفلوس. - توقيعك غير واضح. - أوقع ثانية. - خذ الفلوس. - هذه سبعة جنيهات؟! - خصمت الفائدة. - آه، إذن مزق هذه الكمبيالة واكتب كمبيالة أخرى بخمسة عشر جنيها. وسار في طريقه، إنه يعرف طريقه. - أريد مسدسا. - هل معك رخصة؟ - بكم هذا المسدس؟ - إن كان معك رخصة فهو بثمانية جنيهات. - إن لم يكن معي؟ - فهو باثني عشر جنيها. - والرصاص؟ - بجنيه. - اسمع أريد هذا الرصاص مملوءا بضعفي ما يحمله من بارود. - مر علي بعد ساعة.
وحين عاد إلى القرية لم يذهب إلى البيت فما عاد له بيت، ذهب إلى حقله وبات ليلته في العراء.
وفي الصباح راح يهيم على وجهه محاذرا أن يقترب من بيوت القرية حتى اقتربت الشمس من المغيب، فهو يسير إلى بيت مسعود حيث يعلم أن عدلي يسهر كل ليلة، وينتظر مترقبا حين خرج عدلي سار خلفه بضع خطوات، ثم أخرج مسدسه وأطلق منه رصاصة ونظر إليه عدلي هالعا فأطلق رصاصة أخرى وثالثة حتى أفرغ رصاص المسدس جميعه وعدلي واقف على قدميه، لم يتحرك فهو مسمر إلى الأرض شاخص إلى قاتله لا يكاد يحس بقدميه من الهلع، وهذا الرصاص يتدافع من المسدس وعبد الباقي أشد هلعا ودهشا من عدلي. إن الرصاص لا يصيب مقتلا، وحين ينتهي الرصاص يظل عدلي مسمرا في هلعه، ويضيق عبد الباقي إلى موقفه فيسارع بالجري الخائف المفزع، ويظل يجري ويجري حتى تجد قدماه الطريق إلى المدينة ويظل يهيم بها شاردا ذاهلا فما يصبح الصبح وتفتح الأبواب المغلقة حتى يسارع إلى الرجل الذي باعه المسدس. - ما هذا الرصاص؟ - رصاص بلا بارود. - لماذا فعلت هذا؟ - عرفت أنك تريد أن تقتل. - وما شأنك؟ - وعرفت أنك لست قاتلا محترفا. - ليس في العالم شيء يستحق أن تفقد من أجله حياتك أو حريتك. - شرفي. - طلقها. - شرفي. - إن طلقتها سيصبح شرفها هي وليس شرفك أنت. - ويصمت عبد الباقي حينا، ويجلس ويجتذب من أعماقه نفسا بعيد الأغوار. - عجيبة. - ماذا؟ - أحس الآن بالراحة. - حقا؟ - لقد قتلته. - هل قتلته؟ - أنا قتلته ولكن هو لم يمت. - إذن فأنت فعلت ما تريد. - لقد قتلته.
ظل عدلي مسمرا وتقاطر الناس إلى صوت الرصاص فوجدوه واقفا جامدا على موضعه لم ينتقل وراحوا يسألون وهو شارد، ذاهل، هزوه. - قتلني. - ليس بك جرح. - ولكنه قتلني. - من؟
وتطايرت القصة في أرجاء القرى جميعا وأصبح القوم ولا حديث لهم إلا هذا الحادث؛ فإنهم هناك يترقبون مثل هذه الحوادث بشغف، يتسقطون أنباءها ويمضغون حديثها؛ فإنهم هناك لا يجدون الكثير من وسائل التسلية ولا عزاء لهم عن هذا إلا الحديث، لن يتركه عدلي سيجعل من جثته غربالا، ستسمع الكثير في الأيام القليلة القادمة، وستروي الكثير في الأيام القليلة القادمة، ونقول. ونروي ونتحدث ونتسلى.
وتمر الأيام ويزداد التوقع والتشوق وعدلي يعلم أنه لن يستطيع أن يصنع شيئا، إن يده لا تعرف طريقها إلى الطبق الذي يأكل منه إلا بالتحسس، لن يستطيع، لن يستطيع.
ويمر بالناس فترنو إليه العيون في ترقب وتوقع وفي إكبار أيضا؛ فهو الرجل الذي تعلقت به آمالهم أن يمدهم بموضوع للحديث يعينهم على الملالة شهرا أو ربما شهرين، إنهم يتوقعون وهو يعلم أنهم يتوقعون ولكن كيف، لعله يستطيع أن يستأجر قاتلا، إنها إذن النهاية، عدلي الذي عاش عمره جميعا يستأجره الناس للقتل يستأجر هو الآخر. إذن قد مات عدلي.
وتمر الأيام وتصبح أسابيع ما تلبث أن تصبح شهورا ويحس الناس بخيبة الأمل؛ فقد فتر حديثهم عن حادثة عبد الباقي وهم يريدون أن يبدءوا حديثهم عن عدلي، لقد خاب أملهم، خاب أملهم. ولكن عدلي ما يزال يمر بالناس ويلقي التحية، وقد أصبح الرجال يستقبلون هذه التحية بنغمة فاترة؛ فيتظاهر عدلي بأنه لم يلحظ هذا الفتور، ويمر الأطفال فيسعد بالنغمة المرحبة المليئة بالإعجاب والإكبار، ويسعد ويشعر أنه ما زال ذا مجد وشموخ.
حتى كان يوم، يا له من يوم!
مر الأطفال وكان من بينهم محمد بن عبده أبو السيد، وكانت هذه الشلة من الأطفال قد عودته أن ترد تحيته في إعجاب شديد يزيد على إعجاب الجماعات الأخرى من الأطفال. - السلام عليكم يا رجال.
وتخافتت الأصوات وهي تقول: سلام.
سلام فقط، أين إذن السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا سيد الرجال؛ إذن الأطفال أيضا قد أصابتهم عدوى الفتور، ولكن انتظر ما هذا؟
إنه لم يكد يخطو خطوتين حتى سمع صوتا، إنه يعرفه، يعرف الصوت قال الصوت: جاءتك خيبة يا عدلي.
ويضحك الأطفال ولا يملك عدلي نفسه فينقلب إليهم. - ولد يا محمد كيف تقول هذا؟ - أصلك هايف، ولا مؤاخذه يا عم عدلي. - قتلت ثلاثين رجلا، ولا يمكن أن أنتهي إلى قتل الأطفال. - تستطيع أن تقتل رجلا إذا شئت يا عم عدلي. - والله لن أقتل إلا أباك. - أنا شتمتك، إنما غيري قتلك ولم تمد إليه يدا، جاءتك خيبة يا عم عدلي، وثار عدلي وهاج وعلا صوته وصرخ، لقد أعماه الغيظ عن إدراك الموقف؛ فتجمع الناس ووجد القوم آخر الأمر حديثا يسليهم عن الملالة.
ولكن عدلي لم يطق، حياته أهون من ضياع مجده.
انتظر عبد الباقي في الطريق وتحرى أن يكون ملاحقا للمكان الذي يمر به عبد الباقي، ومر عبد الباقي وأطلق عدلي رصاصة وثنى بأخرى قبل أن يقفز إليه عبد الباقي فيصرعه، ويصرخ عبد الباقي ويأتي الناس ويبلغ الحادث إلى الشرطة والنيابة، وحين يأتون إلى مكان الحادث يقرر وكيل النيابة حفظ القضية، والسبب أن المكان الذي أطلق منه عدلي الرصاص على عبد الباقي لا يسمح بالخطأ فقد كانت المسافة مترا واحدا، فالشكوى كيدية يحاولون بها سجن عدلي؛ فالأعمى وهو أعمى لا يمكن أن يخطئ من هذه المسافة القريبة.
ووجد القوم آخر الأمر شيئا يتحدثون فيه، وأصبح عدلي آخر الأمر أسطورة خزي وخذلان، وبعد شهور كان عبده أبو السيد يسير بحماره فإذا بعدلي يمسك برقبة الحمار. - حاول أن يقتلني عتاولة المجرمين يا عبده يا أبو السيد فلم يستطيعوا ولكن ابنك يا عبده أبو السيد قتلني، فوضت أمري إلى الله، فوضت أمري إلى الله.
وحدة
1 - أريد أن أقول. - قل هل منعك أحد؟ - أنت دائما تمنعيني. - أنا؟ - أنت. - ما منعتك عمري. - أنت لا تسمعين ما أقول. - أليس المهم أن تقول؟ - بل المهم أن تسمعي. - في هذه المرة أريد أن أقول وأن تسمعي. - ليس من عادتي أن أسمع. - لقد سئمت القول بلا سماع. - لن تقول شيئا جديدا. - تزوجنا من زمن بعيد، وما عندك طبعا قلته في الأيام الأولى. - حدث بيننا شيء. - لا يهم ما حدث. - ولكني أريد أن أقول. - فقل. - وتسمعين؟ - لا شأن لك. - فلا معنى للقول. - أنت حر. - لو كنت حرا لتكلمت، إن لك الحرية أن تقول. - وأنا لي الحرية ألا أسمع. - ما إصرارك هذا؟ - لا أرى فائدة في قولك ولا في سماعي. - كيف تحكمين على ما سأقول وأنت لم تسمعيه بعد. - لقد خرجت من حياتي فكل حديث لا معنى له. - ومع ذلك ليس هناك ما يمنع أن أقول وتسمعي. - لقد رأيتكما. - أنا لم أنكر هذا. - فماذا تريد أن تقول؟ - فتاة هي ... - لا تقل، لا تقل. - إذن فسأقول أنا ولك أنت أن تسمعي أو لا تسمعي.
وهبته حبي ووفائي ويخون.
طفلة كنت حين تزوجنا وبهرني منه حديث منمق وقوام رشيق ووجه وسيم.
وحين عرفت الحياة وجدته بلا ضمير ووجدت حديثه المنمق طلاء وبلا معنى ولا نبض، وكانت طفلتي قد جاءت؛ فكان لا يمكن أن أتركه، وقبلت أن أعيش معه وهو تافه وسخيف أما أن يصل الأمر إلى الخيانة، ولكن ما لي أغضب لخيانته كل هذا الغضب، ما دمت لا أحبه فما حرصي على وفائه. لعلني حريصة على كرامتي، وما شأن كرامتي ما دام يخفي عني خيانته؛ فكرامتي إذن سالمة لم يمسها أحد فحين كشفت ما كان خافيا حينئذ. - إني محام. - كنت. - وما زلت. - بل كنت. - وللمحامين زبائن . - هل أنت مصمم أن تقول؟ - كل التصميم. - وماذا يضيرك ما دمت لا تتعب. - أرادت هذه الموكلة أن تلتقي بي خارج المكتب فكان لا بد أن ألتقي بها، إن المحامي طبيب نفسي عليه أن يشعر زبائنه دائما أنهم في أمن واطمئنان ما داموا في مكتبه وفي حمايته القانونية.
كل ما بلغك غير هذا كذب، لماذا لا تجيبين؟ أي إنسان لا يجوز أن يخبر الزوجة بما يصنعه زوجها حتى لو كانت هذه الأخبار صحيحة، إن للبيوت قدسية لا يجوز لأحد أن يحطمها، إن هؤلاء الذين كلموك عني إنما يريدون أن يحطموا البيت الذي بنيناه من أحلام طفولتنا ومن ظلال صبانا، ومن أوهام شبابنا ومن حقيقة وجودنا، ألا تذكرين؟ وإنما كنت تحبين أن تسمعي الذكريات وكنت تكملينها ما لك لا تكملين؟
أتذكرين يوم كانت دادة حميدة تلقي بنا معا في البانيو عرايا ولم نكن نجد حرجا في ذلك يومذاك، كنا نضحك وأرشك بالماء وتضحكين، ثم نستحم ونخرج وكأننا طفلان أو طفلتان لا يفرق بيننا جنس مختلف، أنت لا تسمعين لو كنت تسمعين لاحمرت وجناتك فقد كانت وجناتك تحمر دائما كلما ذكرتك ببانيو دادة حميدة، إذا كانت الأيام الطويلة لم تستطع أن تفرق بيننا أتستطيع ألسنة الناس، ألا تعرفين معنى مرور الأيام؟ إنها هذه الأيام التي تلقي الشيب إلى الرءوس وتلقي الغضون على الوجوه والترهل على الأجسام والضعف على الأبدان، هذه الأيام نفسها تمر على العلاقات الصادقة الأصيلة فتزيدها أصالة وتغرسها عميقة في صدر الزمن، فإذا الروحان مثلنا يصبحان حياة واحدة تنطلق أنفاسها من مصدر واحد قد اتحدت آمالها في الحياة واتحدت بينهما مصادر الرزق ومصادر الضيق ومصادر الفرح، لا لن أحدثك عن ابنتنا، إن كانت العلاقة بيننا لا تحتمي إلا بسهير فأنا لا أريد هذه العلاقة، لن أقول لك إن طلاقنا سيكون صدمة لسهير في بيت زوجها، أتصدقين هذه الخرافات وبنتنا الآن متزوجة، أتريني ما زلت شابا أصلح لهذا؟ كنت دائما تحبين سن الخامسة والأربعين لست صغيرا على كل حال. •••
لو علمت لماذا خنتك، لن تتصوري الأسباب، إنك قاسية، إنك تطلبين الكمال من كل من حولك ولا يستطيع من حولك أن يهبوا لك الكمال، أعلم أنك قسوت على نفسك وكنت مثالية في كل ما تصنعين ولهذا أردت من الجميع أن يصبحوا في مثل مثاليتك، عذبت نفسك بالمثالية فلماذا لا تعذبين الآخرين؟ ولكننا نحن الذين حولك بشر نريد أن نخطئ كما يخطئ الناس، وأن نعيش كما يعيش الناس ونتمتع بالحياة بكل الحياة. بما في الحياة من خطأ وما فيها من صلاح، كرهت عنفك ومحاسبتك على كل صغيرة، كرهت هذا فيك وأعجبت به فيك أيضا، أنت مثل أعلى أعبده ولا أريد أن أكون مثله، أتمنى أن أراه ولا أتمنى أن أكونه، ليتك تسمعين هذا الكلام ولكن كيف أقوله، إن فيه اعترافا بما فعلت وقد تحصلين مني على كل شيء، ولكنك لن تحصلي على هذا الاعتراف. •••
وأنت أيضا لست صغيرة، الغيرة لا تتفق مع سنك، أصغر مني أعلم ذلك ولكنك لست صغيرة، لا إجابة، لا إجابة على الإطلاق، إن كنت مصممة على الصمت، فابتسامة أو تكشيرة أو هزة رأس، أي شيء يشعرني أنني هنا إنني أقول شيئا. - لو كنت حيا لأمتعني هذا الحديث، ما زال لحديثك طلاوته، ما زال حديثك يستطيع أن يعيدني إليك. - لو كنت حيا؟! ألست حيا؟! - ألا تعلم أنك مت؟ - مت، ألهذا الحد تكرهينني، هل استطاعت الأقاويل أن تجعلني ميتا في نظرك؟ - لأنك مت. - أنا الآن لست حيا؟! - أتتصور نفسك حيا؟ - أليس هذا حقا؟ - ألا تعرف أنك مت؟ - لا تقولي هذا. - إنها الحقيقة. - ألست جالسا الآن أمامك، ألا تسمعين حديثي وتجيبين. - صوت من العالم الآخر. - فأنا ميت إذن. - هل تشك في ذلك؟ - بل إني واثق أني أعيش، إني حي ولكن لن أحيا معك ما دمت قد هنت عندك إلى هذه الدرجة. - علم الله لم تهن ولكنها الحقيقة. - إنها أمنياتك أنت. - إنها الحقيقة. - سأجعل منها حقيقة بالنسبة إليك؛ لن أعيش معك، لن ترى وجهي بعد اليوم. لن ترى وجهي بعد اليوم.
2
لعلها كانت تختاره من تلقاء نفسها إذا لم تتعرض لما تعرضت له، كيف قبل أبوها هذا، أبوها رجل القانون الذي ظل طول حياته يعلمها أن الحرية هي أثمن ما في الوجود، وأن حرية المرء هي حياته فإذا هي في سنها الباكرة تتنسم الحرية مع الهواء الذي تتنشقه، واثقة أنها تستطيع أن تمارس حريتها في كل صغيرة وكبيرة من حياتها، وقد عاشت منطلقة سعيدة بحريتها سعيدة بثقة أبيها فيها، حريصة أن تؤكد له دائما أنه يضع ثقته بين يدين جديرتين بها؛ فهي نقية دائما، تختار لنفسها أكرم مكان بعيدة كل البعد عن مواطن الشبهات، لا تكترث كثيرا بتضييق أمها عليها؛ فإنها يجب أن تسيطر عليها دائما، وتحب أن تحد من حريتها المنطلقة هذه في طبيعة لا تكلف فيها، وقد عرفت هي هذا في أمها؛ فهي تغفر لها قسوتها وتعيش حياتها كما تحب أن تعيش في حرية نقية صافية.
وهي في جمالها الرائع الأخاذ كفيلة أن تثير لدى الشباب ألوانا من المطاردة، وهي سعيدة بهذه المطاردة وهي أكثر سعادة حين ترى نفسها تردهم جميعا في كبرياء، وتدفعهم في عزة، لا يعنيها ماذا هي مثيرة حولها بكبريائها.
وحين أصبحت في الجامعة أحاط بها الزملاء برغباتهم الجامحة، وأحاط بها الزميلات بغيرتهم المجنونة فلم تعبأ بالرغبة من الفتيان ولا بالغيرة من الفتيات، وظلت كما تحب لنفسها أن تظل مترفعة كريمة على وئام تام مع ضميرها وحريتها.
واستطاعت الرغبة من الشباب والغيرة من الفتيات والكبرياء منها أن تطلق حولها الأقاويل ضاربة مجنونة؛ فمنهم من يقول لها حبيب ولكنها خبيثة عميقة تستطيع أن تخفي أمرها، ومنهم من يقول مجنونة متكبرة، ومنهم من يقول إنها مبذولة لمن يشاء ولكنها تتظاهر بالعفة، ومنهم من يدعي أنها في أمسها القريب كانت معه، وأنه رأى من فجورها ما لم يشهده من المحترفات.
وتجد هذه الأقاويل طريقها إلى أذنيها؛ فالبنات يحببن أن يتظاهرن بالشفقة عليها، ويحببن أيضا أن يتظاهرن بصداقتها، فإن الفتاة التي تستطيع أن تثير كل هذه الأقاويل تصبح صداقتها في أغلب الأمر شيئا حبيبا إلى نفوس الفتيات.
وكانت هذه الأقاويل تصيب من نفسها مكانا قاسيا، ولكنها كانت تستطيع دائما أن تتكبر عليها فكأنما الحديث عن فتاة غيرها لا تعرفها.
وإن كان قول الشاب الذي قال إنه كان معها قد أثار فيها غضبا شديدا، إنها تعرف هذا الفتى ولكنها لم تكلمه في حياتها أبدا، ولقد حاول أن يتقرب منها بالطريقة الساذجة التي يحاول بها غيره فلم تكلف نفسها عناء صده بالحديث، وإنما أشاحت عنه وانصرف دون حديث؛ فهو من ذلك النوع الذي يحب أن يزهو دائما أن النساء أسيرات إشارته.
عرض الفتاة بضاعة لا حارس عليها، يكفي أن يطلق هذا الأفاق قوله الرخيص حتى أصبح أحدوثة بين الطالبات والطلبة، وعن وهم دائما أكثر ميلا إلى الهجوم منهم إلى الحق، لا يعنيهم ما يعرفونه عن كبريائي، وما يعرفونه عن هذا الفتى من كذب وادعاء، وإنما يعنيهم أنهم أصبحوا أمام قالة جديدة حكاية مثيرة يرويها فتى على أنه بطلها، وسنصدق الحكاية بلا تمحيص ولا تفكير؛ فإن النفوس تريد أن تصدقها، وليذهب كبريائي إلى أي جحيم يشاء.
ويتجمع الفتيان والفتيات حول الشاب ويصف، وفي كل يوم يزيد في الوصف ويستطيع في خبث أن يغمز بعينه: لولا وجود الإنسان لسمعتم ما شئتم من التفاصيل. - أنت كذاب.
صوت انبعث من شاب بينهم، والتفتت إليه العيون منكرة عاجبة؛ فقد تعودوا أن يسمعوا هذه الأحاديث من ملقيها هذا دون أن يفكر أحد في وضعها موضوع الاختبار ليحكم عليها آخر الأمر بالصدق أو بالكذب، فما هذه النغمة الجديدة؟ ومنذ متى يفكر واحد منهم في مقدار الحق فيما يسمع؟ - أنا كذاب؟! وما شأنك؟ - أنت كذاب لأن ما تقوله لم يحدث، وحقير؛ لأنه لو كان حصل لكان الأولى بك أن تستره. - خطبة عظيمة في مكارم الأخلاق. - الفتاة التي تروي عنها نعرفها جميعا وهي لم تسمح لأحد أن يأخذ عليها إشارة غير كريمة.
فهي حريصة أن تكون سمعتها في الكلية أحسن سمعة، وهي جميلة، بل هي أجمل فتاة نعرفها، ولو شاءت لوجدت الأصدقاء من كل مكان، ومن الطبيعي أنها إذا أرادت أن تلهو، فإنها ستبحث عن شاب في أي مكان غير الكلية التي حرصت دائما أن تكون فيها شريفة، أنت كذاب.
وكأنما أفاق الجمع الملتف حول القصة والحوار إلى هذه الحقيقة البسيطة الساذجة، إنها حقيقة لو أراد أي شخص منهم أن يفكر فيما يسمع لوصل إليها دون جهد يذكر، ونظروا إلى الفتى الذي كان يروي فوجدوا البهتة على وجهه، إنه في موقف جديد عليه؛ فقد ظل طول عمره يروي فيجد المتعة في وجوه السامعين ولم يجد معارضة في يوم من الأيام، ونظر حوله فوجد الوجوه جميعا تنتظر جوابه وهي أقرب ما تكون تصديقا لهذا الهجوم الذي شنه عليه زميله، كان ذهنه مشغولا بخلق القصة ولم ينشغل أبدا في خلق الحجج التي تدل على صدقها؛ فحين واجهه هذا الإنكار وجد نفسه في صحراء من الدهشة ولم يجد شيئا يقوله، فغر فمه وحملقت عيناه وانطفأ عن وجهه وهج الحماسة وجف ريقه، وراح يدور بعينيه حوله، فإذا العيون التي كانت منذ لحظات ساجية مستمتعة بما تسمع تصبح عيونا متسائلة متهمة قاسية محتقرة، كانت تريده أن يكون صادقا، كانت تريده يحمل الدليل على ما يقول حتى تصبح متعتهم حقيقية لا أثر فيها للخداع، خداعه لهم وخداعهم هم لأنفسهم، ولكنه خذلهم بهذا الصمت وهذه الحيرة، وهذه الحماسة المنطفئة، وهذا الصمت الذاهل الحيران، وهذا الوجوم الكسيف الخزيان. طال صمته فألقى بعينيه إلى الأرض آخر الأمر واستدار للجميع في يأس قائلا في صوت يحاول أن يحمل التهديد فلا يحمل إلا الهزيمة: طيب.
وينصرف لتعلو في سمعه عند الباب قهقهات عالية ساخرة، ويلتئم الجمع حول المنتصر فيجدون الفتى غير معتز بانتصاره. - أنتم جميعا شركاؤه والفتيات منكم خاصة، كيف تأمن أي واحدة منكن أن يقول عنها مثل هذا القول؟
وينصرف الفتى المنتصر في غضب، وينتقل الحديث جميعه إليها فتجد في نفسها راحة واطمئنانا، إن الدنيا ليست بالسوء الذي كانت تتصوره، إن هذا الفتى الذي دافع عنها حاول أن يقيم معها صداقة فردته هو أيضا ولكنه شريف.
وتمر الأيام ولا يحاول أن يتقرب منها، إنها تعرف أنه يحس بنظراتها الشاكرة تلقيها إليه من بعيد ويروغ هو من هذه النظرات؛ فقد قال ما يعتقد أنه الحق وهو لا يريد منها شكرا، وتأبى هي أن تقدم شكرها في حديث؛ فهي لا تريد أن يرى زملاؤها أن بينها وبينه أي علاقة ولو كانت هذه العلاقة مجرد حديث.
ودون أن تحس هي ودون أن يحس نشأت العلاقة، فيها إكبار من الناحيتين وفيها شكر من جانبها، بل فيها من جانبها معنى أكبر من مجرد الشكر، لقد أحست أن هذا الشاب قد أعاد إليها ثقتها في الناس. إن فيهم سوءا ولكنهم ليسوا جميعا أشرارا، أحبته من ومضات خاطفة في عينيه أحست أنه يحبها؛ فهي لم تدهش حين تقدم إلى أبيها يريد أن يخطبها، ولكنها دهشت أن أباها لم يسألها عن رأيها وإنما عرفت أنه صرفه دون قبول، تقول أمها إنه فقير لا يملك إلا مرتبه حين يعين. تلك الحجة التي يراها الآباء دائما مقنعة، والتي يراها الأبناء دائما سخيفة.
كان رفض أبيها مؤلما بالنسبة لها، كيف ينهار هذا التمثال الذي أقامته له في نفسها، لقد ظل طول حياتها يعلمها أن الحرية هي أثمن ما يملكه الإنسان، ثم هو في لحظة واحدة يسلبها كل حريتها وهي أهم ما يعرض لفتاة في حياتها، انهار تمثال أبيها، إنها تعلم أنه يلين أمام أمها في أمور كثيرة، ولكنه من المبادئ الأساسية التي يؤمن بها لا يلين، فكيف قبل أن يعتسف حق ابنته في اختيار شريك حياتها؟ وكيف قبل أن يرده دون أن يسألها؟
إن هذا الذي رده أبوها هو الشخص الوحيد الذي تريد بحريتها الكاملة أن تتزوج منه، وشباب الدنيا جميعها بعد ذلك سواء، ما دامت لن تتزوج هذا الشاب فليكن الزوج من يكون.
وحين أقبل زوجها هذا: ما رأيك؟ - لا رأي لي. - فأنت إذن موافقة. - إذا كان عدم إعطاء الرأي موافقة فأنا موافقة.
واعتبرت أمها هذا الحديث القصير موافقة، وتمت مراسيم الزواج وأبوها بعيد عن الموضوع جميعا وكأنه لا يعنيه.
وحين أصبحت في بيت زوجها تبينت هول ما حدث لها، لقد قضي عليها. - قالت لي أمك إنك وافقت. - هل سألتني أنت؟ - وهل تكذب أمك في مثل هذا؟ - إنك علمتني الحرية وسلبتها مني، ليتك لم تعلمها لي حتى لا أفجع فيها وفيك وأنت تسلبها مني. - هل سلبت حريتك؟ - منذ رفضت زميلي الذي جاء يخطبني. - إنها أمك. - وأنت أبي. - حسبت أنه لا يهمك أن أرفضه. - ولماذا لم تسأل؟ - كنت في شقاق مع أمك وخشيت أن تظن أنني أقف إلى جوارك للخلاف الذي بيننا. - وأنا الضحية. - لم أتصور أن في الأمر تضحية. - ولماذا لم تسأل؟ - أخطأت. - وحياتي هي الثمن. - ألا تقبلين اعتذاري؟ - وماذا يفيد الآن؟ - قد نستطيع أن نصلح ما فسد. - كيف وقد مت؟ - أنا مت؟! - ألم تمت؟ - من هذا الذي يحدثك؟ - وهم أو شبح.
3 - حتى أنت، حتى أنت، حتى أنت، لقد أعطيتك كل حبي. - وأعطيتك كل حبي. - لم تطلبي شيئا إلا قدمته. - كنت سعيدا وأنت تقدم لي ما أريد. - وكنت سعيدة وأنا أقدم لك ما تريدين. - كنت أحب أن أجد لحبي صدى عندك. - ولكنك كنت كثيرا ما تشك في. - كنت أخشى أن يكون حبك لي مبعثه البحث عما أقدم لك. - هناك من هو أغنى منك ولم أقدم له حبي. - إن الغيرة هي الثمن الذي يدفعه المحب في مقابل هنائه بحبه. - ولكن على حساب ثقته بمن يحب. - أكنت تريدينني محبا لا يغار؟ - كنت أريد حبيبا يهب الثقة ثم يخاف. - أهذا ما أغضبك؟ - لا، لقد تعودت منك هذه الوساوس. - إن الصلة بيننا لم يكن يحميها إلا الحب. - وهل هناك أقوى من الحب؟ - القلوب تتغير. - فهل تمنع الغيرة تغيرها؟ - والمرأة تتغير. - وهل تمنع الغيرة تغيرها؟ - أنا لا أملك الوساوس تثور في نفسي. - الواثق بنفسه يملك وساوسه. - هل يريد أحد أن يخاف؟ - القوي يتحكم في طبائعه. - لكل إنسان ضعفه. - تستطيع دائما أن تثق بنفسك. - وبغيري؟ - إذا وثقت بنفسك وثقت بغيرك. - بكل الناس؟ - بمن تحب. - فإن أحببت من لا يحبني. - فأنت غبي. - هل أنا غبي؟ - إذا أحببت من لا تحب فأنت غبي. - أعظم أذكياء العالم أحبوا من لا يحبونهم. - لم يكونوا يعرفون أنهم غير محبوبين. - خادعوا أنفسهم. - كنت أخاف أن أخادع نفسي. - أن تخادع نفسك خير من أن تثيرها. - أحببتك بجنون. - وأنت تعلم أنني أحببتك بجنون. - لقد جئت لي كموكلة. - كانت سمعتك كمحام كبير. - وكسبت قضيتك. - لقد كنت على حق. - فأنا لست بارعا إذن. - كنت بارعا في اختيارك لي. - أحسست أنك في فراغ. - حين يتوفى الزوج تصبح الزوجة في فراغ. - ولكني أنا أيضا كنت في فراغ. - كان فراغا عاطفيا. - كنت محتاجا إليك. - وكنت محتاجة إليك. - قضيت معك أروع لحظات حياتي. - وإنها أروع لحظات حياتي. - لقد وهبت لي الكثير. - وأنت وهبت لي الكثير ثم ... - ثم ماذا؟ - مللتني. - أنا؟ - تركتني بين الموت والحياة. - كان لا بد أن أسافر في عمل. - وحياتي. - إن عملي يتوقف عليه مصائر الآخرين، إنها مسألة ضمير. - ألم يعاتبك ضميرك في أمري؟ - تركتك بين يدي الأطباء. - ولكني وحيدة. - وماذا كنت أصنع؟ - وأنا وحيدة بسببك. - طبيعة حياتنا تحتم عليك الوحدة. - ألم تفكر في أمري؟ - ماذا كنت أصنع؟ - سؤال العاجزين. - فأجيبي أنت. - كنت تستطيع على الأقل أن تأتي لي بممرضة. - لماذا لم تقولي؟ - مثل هذا لا أقوله أنا. - إنك دائما كنت تطلبين ما تريدين. - إلا هذا. - لماذا؟ - إنها صحتي وحياتي يجب أن ترعاها أنت دون أن أقول. - كنت مشغولا بعملي، ولم يخطر لي هذا ببال. - لو كان أمري يعنيك لخطر هذا ببالك. - لا يجوز أن تحاكميني على فكرة خطرت لك ولم تخطر لي. - ثم عدت من السفر. - لست أدري أي شيطان أخبر زوجتي بعلاقتنا. - فهو حرصك على زوجتك إذن. - بيتي وكياني وسمعتي. - وحبك؟ - كنت أطمئن عليك. - وهل اطمئننت؟ - لقد كنت دائما حريصة على بيتي. - كنت أحسب حياتي عندك غالية. - أنت تعرفين أنها غالية. - كنت أحسب. - ومع هذا فقد سمحت زوجتي للمجلات أن تتكلم في الموضوع. - وهل يهمك هذا؟ - سمعة المحامي في غاية الأهمية. - كل شيء مهم عندك إلا صحتي. - ألا يمكن أن تكون أشياء كثيرة مهمة في وقت واحد؟ - على أن تكون صحتي أهم شيء عندك. - أنت تعرفين أنها أهم شيء عندي. - تركتني وأنا بين الموت والحياة. - ظروف قاسية. - عذر الضعاف. - ألا ترحمين؟ - وماذا تفيد رحمتي الآن؟ - ألا تعرفين ماذا تفيد؟ - لقد فات الأوان. - لم يفت. - لعلي كنت أقبل عذرك، لو لم تكن ... - لو لم أكن ماذا؟ - لقد مت. - أنا مت؟ - لقد مت. - أهي مؤامرة مدبرة؟ - الموت لا يحتاج إلى تدبير المؤامرات. - إذن فأنا ميت. - ميت؟ - أنت ترين هذا. - إنها الحقيقة. - الحقيقة؟! - ميتا أو حيا لن أراك ولن تريني بعد اليوم.
4
هو الملجأ الأخير ليس لي غيره، لا يستطيع هو الآخر أن يدعي موتي، أنا الذي صنعته من السهر الطويل والجهد الشاق والضمير اليقظ والعلم والدراسة والفن، صنعته وجعلت اسمه على كل لسان، مكتبي، إذا ذكر اسمه للمتهم فهو أمن، ولصاحب الحق فهو عدل، لم أقبل فيه قضية إلا كنت راضي الضمير عنها، فارغ هو الآن، موعد المكتب لم يأت بعد، الوكيل لم يأت والزبائن لا تجيء إلا بعد موعد المكتب بساعة أو أكثر، ما أعظم ما قمت به، هذه القضايا القديمة كلها تحمل الأعمال الرائعة التي قدمتها في ساحة العدالة، وفي فن المحاماة وفي خدمة الحق. بل إلى أن القضايا التي لم أقبلها كانت أعظم وأضخم. لا أنسى تلك القضية التي اجتمع فيها خمسة شباب ليقتلوا رجلا عجوزا، وجاءني أخو أحدهم يدعوني للمرافعة عن أخيه، وقرأت القضية ووجدت الظروف جميعا تشير إلى موكلي بالاتهام، كان مجرد المرافعة في القضية مهما بالنسبة لي؛ فقد كنت في ذلك الحين محاميا ناشئا يبحث عن القضايا الهامة ليصنع بها اسمه في سجل كبار المحامين، وقد جاءني هذا الموكل لصلة كانت تربط بيني وبين أسرته، وكان طامعا ألا أغلو في الأتعاب وقد كنت خليقا ألا أتقاضى شيئا على الإطلاق. فمثل هذه القضايا يدفع فيها المحامون أتعابا، ولم تكن أصابع الاتهام التي تشير إلى موكلي تهمني في شيء، كل ما كان يهمني هو الحقيقة، لقد أحسست أن موكلي اشترك في الجريمة، أحسست بهذا إحساسا اقترب من اليقين، فحين جاء الأخ يسألني إن كنت سأقبل القضية سألته ذلك السؤال الذي لا يجوز لمحام أن يسأله لمتهم أو قريب لمتهم، ذلك السؤال المباشر الصريح القاطع: هل ارتكب أخوك الجريمة؟
وأطرق الأخ لحظة كأنما كان السؤال لكمة عنيفة موجهة إليه ثم رفع رأسه في حزن وأسى. - نعم.
وهدمت نعم كل آمالي أو معظمها؛ فقد أردت أن أخاطب الأمانة في نفس هذا الأخ. - لقد أقسمنا اليمين ألا نكذب فدفاعي عن أخيك سيكون قائما على طلب التخفيف بناء على الشهادات التي قدمت للمحكمة لإثبات الجنون، وأعتقد أن هذا هو خير سبيل للدفاع، أنا لن أدعي أن أخاك بريء، إن رأيت أن أسير في الدعوى على هذا النحو فأنا تحت أمرك، وإن رأيت أن نبحث عن محام آخر يحاول نفي التهمة جميعا فهذا إليك.
وصمت الأخ قليلا في تلعثم وهو يقول: سر في الدعوى على النحو الذي يرضيك، وفرحت يومذاك ولكن ما لبث فرحي أن تبدد؛ فقد علمت أن الأخ قد وكل محاميا آخر، تبدد فرحي ولكن ما أسرع ما ملكني شعور بالسعادة الطاغية، ذلك الشعور الذي يمتلك من قدم تضحية في سبيل مبدأ، شعور رائع كثيرا ما أحسست به وأنا أقيم صرح هذا المكتب.
شعرت به كلما رفضت قضية كهذه، وشعرت به كلما حاول أحدهم أن يجعل من المحاماة مهنة وساطة رخيصة.
لعل هذا النوع من الشعور أعظم في إسعاده من كسب قضية؛ فكسب القضية يقترن فيها الجهد بالفرح، وتوقع الكسب مع الجهد يجعل الكسب نتيجة قريبة الاحتمال، فالفرح بها لا يكون كبيرا، أما مغالبة النفس وهي أعظم عدو للإنسان ورفض المال الذي نحتاج إليه، رغم حاجتك إليه.
أما هذا فإنه يشيع في النفس نوعا من الرضا والسعادة والاطمئنان إلى نفسك والثقة بها، وأهم ما يحتاج إليه المرء في حياته أن يطمئن إلى نفسه ويثق بها، يثق بأنها تستطيع دائما أن تكون أبية مترفعة فيها كبرياء القناعة واعتزاز أصحاب المبادئ.
ماذا حدث لي حتى بدأت أترافع عن نفسي، لا أدري ماذا حدث، لا أريد أن أذكره وهل أملك إلا أن أذكره؟ وماذا يهمه؟ فما دام مكتبي هذا باقيا لي فكل ما عدا ذلك عبث، أستطيع أن أعيد إلى حياتي كل هؤلاء الذين رفضوا حياتي فهم أيضا قد صنعتهم بمكتبي، وأستطيع أن أعيد صنعهم إذا شئت، زوجتي، السنين الطويلة والطريق الذي قطعناه مع الآمال الهشة الواهنة حتى أصبحت الآمال حقائق وهي في شموخها الصاعد وفي ترفعها الأبي وفي مثاليتها الرائعة القاسية. وإني أحبها وأكبرها وأجلها في كل لحظة في حياتي، إني أعتز بها، أمثل هذه أستطيع أن أعيد صنعها؟ أن أعيد صنع الحياة التي قطعتها معها، ابنتي نبض قلبي وحبي وضعفي وقوتي، في ثقتها بنفسها وبحبها لي تقطع الحياة حرية ونقاء. كيف استطعت أن أجعلها ترفض حياتي، كيف؟ كيف، وكيف تعود إلى مثل هذه البنية.
حبيبتي، لحظات السعادة المزغردة الطاغية، لحظات المتعة الوضيئة في حياتي، القلب، والقلب ينبض واحد، والمخاطرة والخاطرة تتآلفان لهما خاطرة واحدة، مخاوفي عندها أمن وآلامي عندها إلى زوال، ومع ذلك بقي لي مكتبي.
ماذا حدث؟ لقد أوغل الليل ولم يأت الوكيل. ولم يأت الزبائن، لعل الوكيل في مكتبه ولعله لا يعرف أنني بحجرتي. أبدا إنه لم يأت. لم يأت والحجرات فارغة، لا أحد في الأوراق على مكتب الوكيل، إنها ليست أوراقا إنها مجلات، مجلات. فضيحة شائنة؛ زوجة محام كبير تطلب الطلاق لأن زوجها يخونها. زوجة محام كبير ترفض البقاء مع زوجها الخائن، زوجة محام كبير في قضايا الجنايات ...
إنه من أسهل الأمور علي أن أعرف على الفور إن كنت حيا أو كنت ميتا ولكن، إذا كان هؤلاء يرون أنني ميت فالأمر بعد ذلك سواء، لا حاجة بي إلى البحث، الأمر سواء.
رحلة العودة
أصدر حاكم الكوفة أمره إلى عماله أن يلزموا أصحاب المحال التجارية بدفع خمسة دنانير في الشهر مقابل من يحمي لهم متاجرهم من اللصوص والغاصبين، كما أمر أن يدفع الزراع عشر محصولهم مقابل أن يحمي لهم التسعة أعشار الباقية، وأصاب الناس اضطراب شديد، وراح الأفراد يتجمعون ويتهامسون ولكن سرعان ما يتفرقون، ويصبح الهمس هواء مع الهواء. وقد يفيد الهواء ولكن هيهات لهمسهم أن يفيد.
وكان أحد شوارع الكوفة مزدحما بالتجار فكان الهمس في هذا الشارع يعلو بعض الشيء عن الشوارع الأخرى، ولكن مهما يكن الهمس عاليا فإنه ينداح آخر الأمر مع الهواء فلا يفيد.
وكان أحد الوراقين جالسا إلى كتبه ينظر إلى رجل عنده مهيب يقرأ في كتاب من كتب المكتبة بنهم واستغراق. - قل لي أيها الشيخ. - هل أنت مصمم على أن أقول لك؟ - مجرد سؤال. - يا ليت. - مجرد سؤال. - لا يمكن. - فانتظر حتى ترى. - إن كل حديث يبدأ بكلمة قل لي هذه السخيفة، وقد يتبعها مجرد سؤال ثم تتوالى الأسئلة فلا تنتهي وأنا أريد أن أقرأ. - حسنا لماذا تقرأ؟ - لأتعلم. - ولماذا تتعلم؟ - لأعرف كيف يصاغ الكلام. - ثم بعد. - أرأيت لم يكن مجرد سؤال إذن إنها مؤامرة كاملة. - لو كنت أجبتني إجابة شافية لما احتجت أنا إلى كل هذه الأسئلة. - بماذا أتريدني أن أجيبك؟ - لماذا تقرأ؟ - لقد قلت لك. - لم تقل شيئا. - إنني أقرأ لأنني أريد أن أقول. - فالقول إذن صناعتك؟ - إنه صناعتي. - صناعتك أن تقول. - نعم. - فلماذا لا تقول؟ - وماذا تريدني أن أقول؟ - أن تقول للظالم أنت ظالم. - أين هو الظالم؟ - أتستطيع أن تقول للظالم أنت ظالم. - إنها صناعتي. - ألم تسمع بالأحكام الأخيرة التي أصدرها الحاكم؟ - هذا عمله. - أن يفرض علينا الإتاوات. - إذا لم تدفعوا هذه الإتاوات كما تسميها فمن أين تنفق الدولة؟ - لو أنها أخذت من أجل الدولة ما تكلمنا. - ومن أين تعرف السبب الذي من أجله أخذت؟ - اسمع أيها الشيخ. إنني وإخواني لا نعارض في دفع ما تزيده الدولة، فقط لنا مطلب. - لكم أن تقولوا مطالبكم.
حين يمتنع الحاكم عن إقامة الولائم كل يوم مرتين مرة في الغداء ومرة في العشاء، وحين يمتنع الحاكم عن اقتناء الجواري باذلا في سبيل ذلك الألوف المؤلفة من الدنانير، وحين يمتنع الحاكم عن أن ينفق في سعة ليرتدي الملابس موشاة بالذهب والماس، وحين يمتنع الحاكم عن أن يعطي من خزانة بيت المال لأهله وذويه والمقربين إليه بغير حساب، وحين يمتنع الحاكم عن أن يقذف بالمال تحت أقدام الشعراء الذين يمدحون في خسة، والمغنين الذين ينافقون في صغار. حين يمتنع الحاكم عن هذا جميعه ويحتاج بعد ذلك إلى أموال لبيت المال فإننا نرحب أن نقدم كل ما يطلبه منا. - إذن فأنت تريد في بساطة أن يبدأ الحاكم بنفسه. - بوركت لقد ظللت أتكلم وأتكلم فقلت أنت ما أريد في كلمة واحدة. - الكلام صناعتي. - أترى لصناعتك هذه فائدة إن لم تقل بها كلمة حق. - إنك على حق، ولقد اقتنعت بقضيتك. - أتذهب إذن إلى الحاكم فتجعله يقتنع بما اقتنعت أنت به. - أما أنا فلا مانع لدي ولكن؟ - أتخاف؟ - ليس لدي ما أخاف عليه. - حياتك. - أخاف عليها ولكن ما أظن أن الحاكم سيستولي عليها لمجرد أنني نقلت إليه رأيا. - فما لكن هذه؟ - ولكن ذهابي وحدي لن يفيد شيئا. - إن الكلام صناعتك. - لست وحدي من اتخذ الكلام صناعة في الكوفة. - إذن فأنت تريد جماعة من الناس حتى تكون مطمئنا بوجودهم. - أولا: لا عيب في ذلك؛ فمن خصال الإنسان أن يخاف، وثانيا: ذهاب الجماعة خير من ذهاب الفرد، فإن الحاكم حين يرى جمعا منا يعرف أننا نعبر عن رأي قوم كثيرين. أما إن رأى فردا فقد يستخف به ويرميه بالتدخل في غير شأنه. - أليس شأنك أن تقول. - في هذه الحالة لن يعترف الحاكم أن من شأني أن أقول. - لا بأس فمن تريد معك.
إنك وراق وتعرف كل من يتخذون الكلام صناعة. - فمتى تحب أن تذهب؟ - متى تستطيع أنت أن تجمع الذاهبين؟ - في أقرب وقت. - وأنا مستعد.
وتجمع صناع الكلام وقصدوا إلى قصر الحاكم. فاستقبلهم الحاجب. - من أنتم؟
فقال كبيرهم: نحن أهل الكلمة. - ومن أهل الكلمة؟ - أولئك الذين وهبهم الله موهبة الكلام. - وماذا تريدون؟ - نريد أن نلقى الحاكم. - ولماذا؟ - عندنا كلمة نريد أن نقولها له. - ألا يمكن أن تقال لي؟ - إنها لا تقال إلا للحاكم. - أهي بشرى طيبة؟ - إنها ليست بشرى. - فهي إذن نبوءة سيئة. - يا أخا العرب نحن لسنا من علماء الفلك. - فماذا تريدون إذن؟ - أن نلقى الحاكم. - لن تلقوا الحاكم إلا إذا عرفت أنا ما تريدون. - لقد جئنا نكلمه في شأن التجار والزراع. - آه. - أعرفت؟ - أهذه هي الكلمة؟ - تلك يا أخي البداية. - أهناك شيء آخر؟ - إنك لم تعرف إلا رأس الموضوع فقط أما الكلام الذي نريد أن نقوله للحاكم فأنت لا تعرفه، ونحن نحب أن نقوله له. - ولماذا لا تقولونه لي؟ - أنت حاجب الخليفة ألست كذلك؟ - إني هو. - فأبلغه أمرنا وانظر بماذا يجيبك.
ودخل الحاجب فما هي إلا أن عاد. - تعالوا معي. - إلى الحاكم. - ستلقون الحاكم. - الآن أليس كذلك؟ - الآن نعم، اتبعوني. - يا أخا العرب، إنك دخلت إلى الحاكم من هذا الباب فما لك تقصد بنا إلى باب آخر؟ - إنه سيلقاكم في حجرة أخرى، اتبعوني.
وتبعوه. - ولكننا يا أخي لم نقل شيئا بعد حتى تقودنا إلى السجن. - وهل رأيتموني أدخلكم السجون وأقفل دونكم الأبواب. - فما مجيئنا إلى السجن؟ - إنه الطريق إلى الغرفة التي ينتظركم فيها الحاكم. - آه، وما هذا؟ - لا شيء. - رجل معلق من قدميه في الهواء ورأسه موضوعة في الماء ثم لا شيء. - عملية تنشيط للذاكرة. - أي ذاكرة؟ - الذاكرة التي تنسى أحيانا أن الحاكم لا بد أن يطاع. - فإن كسلت الذاكرة يموت؟ - إنه لن يموت. - الموت أهون، وهذا؟ - مثله. - ولكنه لا يعامل مثله. - وسيلة أخرى لتنشيط الذاكرة. - ولكن النار في قدميه. - إن الدماء إذا سخنت في الأقدام وصلت إلى الرأس حارة فتنشط الذاكرة. - وهذا؟ - مثله. - وهذا؟ - مثله. - مثله؟ - مثله. - أيطول بنا الطواف هنا؟ - إننا في الطريق إلى الحاكم، اتبعوني.
وتبعوه. - ما هذا أيها الحاجب لماذا تقيد أيدينا وراء ظهورنا؟ - لا تخافوا حين نخرج من هذه الغرفة سنفك أيديكم. - ولكن لماذا؟ - ستعرفون، حالا ستعرفون.
ودخلوا إلى حجرة كلها رفوف من الأرض إلى السقف، وكل الرفوف مليئة بالماس والياقوت والزبرجد والزمرد، أما الذهب فكان أكواما، وصاح كبير القوم: ألهذا قيدتم أيدينا؟ - إنها أوامر صادرة إلى حراس الغرفة. - إننا نحتج، أنحن لصوص؟ سنبلغ الحاكم هذه الإهانة التي ألحقتموها بنا. - إنها أوامر الحراس. - ولكنها إهانة فما نحن لصوص. - على كل حال لا تغضب فإنكم ستعودون من هذه الغرفة فإن كان الحاكم راضيا عنكم فإنكم ستمرون بهذه الحجرة وأيديكم مطلقة. - أهكذا؟ - على شرط. - ما الشرط؟ - ألا تسرفوا في أخذ الجواهر حتى تتبعج جيوبكم ويراكم الحراس. - شرط معقول.
خرجوا من الغرفة إلى بهو فأطلقت أيديهم وقال لهم الحاجب: انتظروني هنا أستأذن لكم على الحاجب.
وحين تركهم نظر أحدهم إلى كبيرهم. - ماذا أنت قائل؟ - ما تريدون أن أقول؟ - أتعرف ما نريد أن نقول؟ - كل المعرفة.
وحين دخلوا إلى الحاكم بدأ كبيرهم؟ - يا مولاي الحاكم لقد أرسلنا التجار والزراع لنشكر لك هذا القرار الحكيم العادل الذي تفضلت فأصدرته؛ فقد جعلتهم يشعرون أنهم يشاركون حقا في بناء بلدهم، ولو لم تصدر هذا القرار لأرسلونا إليكم لنرجوكم أن تصدروا هذا القرار. ولكن نفاذ بصيرتكم ونبل معدنكم وأصيل فطنتكم ورفيع فكركم ورائع تدبيركم كل هذا كان أسبق منا، وأنتم دائما بالفضل أسبق وبالخير أوثق وبالمجد أخلق.
وفي العودة مر أصحاب الكلمة في غرفة الجواهر والذهب وكانت أيديهم مطلقة. والمفاجأة التي كانت تنتظرهم أن هناك طريقا يفضي إلى خارج القصر دون أن يمر بالسجن، وقد دهشوا لذلك أي دهشة.
Unknown page