Shuyuciyya Wa Insaniyya
الشيوعية والإنسانية في شريعة الإسلام
Genres
وعلى كثرة الذين كتبوا عنه وعن ذكرياتهم معه، لم يكن بينهم أحد يمر بهذه الخليقة دون أن يلحظها، ولو كانت من الخلائق العارضة أو الخلائق التي تظهر وتختفي بين أدوار العمر وطوارئ الأحوال، لما أنكرها منه أبوه في مقتبل عمره، كما أنكرها صديقه وصفيه وزميل حياته وشريك دعوته «فردريك إنجلز»
11
وهو أحرص الناس على سد خلته ومداراة عيوبه. ولكنها خليقة لازمته من مطلع حياته إلى خاتمة أيامه، فأبوه يكتب إليه أيام تلمذته ليقول له مكرها: «إنك - لسوء الحظ - تؤيد بسلوكك رأيي الذي كونته عنك، وأرى أنك - على ما فيك من خصال حسنة - أناني تغلب الأنانية على جميع صفاتك.»
و«إنجلز» في سنة 1863 - أي بعد أن جاوز الخامسة والأربعين يكتب إليه قائلا: «من البديه أنك سترى مما أنا فيه من الحزن، وما أنت عليه من جمود الطبع أنني لم أكن أستطيع أن أجيبك قبل هذا التاريخ. إن أصحابي جميعا - ومنهم المخالفون - قد أبدوا لي من العطف والعزاء فوق ما كنت أنتظر، أما أنت فقد لاح لك إنها فرصة لإظهار سموك بالتعالي عن الحزن، وجمود العاطفة، ليكن ما أردت، سلمنا لك ما تريد، فانعم بانتصارك.»
وإنما ثار «إنجلز» هذه الثورة النادرة؛ لأنه كتب إلى «ماركس» ينعي إليه خليلته فلم يتحرك لمصابه، ولم يزد على كلمات أسف وجيزة، تلاها على الأثر طلب المعونة وشرح الأزمات التي يعانيها، وقد كان «إنجلز» ينسى شواغله وهمومه كلما سمع عن وعكة خفيفة يشكوها طفل من أطفال «ماركس» أو تشكوها قرينته السقيمة، فلا يهدأ ولا يتوانى حتى يسعفه بما في وسعه من المعونة والمواساة.
وفي هذه المرة فقط عرف «ماركس» كيف يعتذر من خطأ يلومه عليه لائم من صحبه أو زملائه أو ذويه، فكتب إلى «إنجلز» ينحي على نفسه؛ لأنه أرسل ذلك الخطاب، ويقول إنه أدرك خطأه بعد إلقائه في البريد، وإنه كان من رثاثة الحال في داره بلا طعام، ولا دفء ولا راحة بحيث لا يملك متنفسا غير التهكم وقلة الاكتراث.
وهكذا كان الاعتذار الوحيد الذي ارتضاه «ماركس» أعرق في اللؤم من الخطأ الذي ساقه إليه؛ لأنه اعتذار الشعور بالحاجة إلى الرجل الذي كان يلتمس المعونة منه، ولم يكن اعتذار شعور بالواجب أو الوفاء. •••
والأمر الذي يستوقف النظر طويلا بعد هذه الصور المتفرقة أنها تصدر عن إجماع عام ممن لا يتفقون يوما في وصف إنسان واحد كبير أو صغير، فقد اتفق عليها من يعتقدون مذهب «كارل ماركس» ومن لا يعتقدونه ولا يعرفونه، واتفق عليها من عاشروه سنوات ومن لم يجتمعوا به غير مرة أو مرات، واتفق عليها الغرباء وأقرب الأقرباء من أصدقائه وذويه، ومن كان منهم مظنة الإجحاف لخصومة أو خلاف - كأستاذه «باكونين» - فالشبهة عليه أضعف ما تكون في هذه الأحوال؛ لأنه على رذائله الكثيرة لم يشتهر برذيلة الحقد والافتراء على عمد وروية، بل اشتهر على نقيض ذلك بالمسامحة وحب الإنصاف لأصحابه وخصومه، ولا يضيره بعد ذلك أن يكون مظنة الاشتباه بالإجحاف، لأن ما قاله عن «ماركس» يطابق في جملته رأي أبيه ورأي الخاصة الأقربين من أصدقائه ومريديه.
إلا أن الأقوال التي تتفق على الوصف لا تتفق على التعليل والتحليل؛ ف «ماركس» هكذا باتفاق عارفيه، ولكن لم كان هكذا ولم يكن على صورة أخرى؟
هنا تختلف الآراء والظنون؛ لأن المجال هنا مجال بحث وتقدير وليس مجال رؤية وتقرير، ونحن نعرض هذه التعليلات فلا نجد بينها تعليلا أقرب من تعليل «روهل» إلى الإجماع أو الفهم من والقبول، وقد تقدم أنه يرجع بعيوبه إلى أسباب شتى يلخصها في اعتلال البنية والشعور بوصمة المجتمع وانفراده برعاية أبويه؛ لأنه كان أول الأبناء.
Unknown page