وإذا تزوج الشاب فقل على شبابه العفاء! فها هنا يبدأ طور جديد، ها هنا تبدأ مرحلة الرجولة من مراحل الطريق، فيعرف ما العمل وما عبئه الثقيل، وتخضع العاطفة لقيود القانون والمجتمع ... هنا تنتهي قصيدة الحياة الشعرية ويبدأ نثرها!
ولكن للرجولة حسنة كبرى وفضلا عظيما؛ فهي الوسط الذهبي بين طرفين من الغلو، فورة الشباب من ناحية، وخمود الشيخوخة من ناحية أخرى ... الشباب يعتمد في كسب العلم الجديد على إلهام الغريزة، والشيخ يركن إلى العلم الراكد الجامد، فيستوحي منه النتيجة الجديدة عن طريق القياس. وأما الرجولة فتعمد إلى الاستقراء، استقراء الأمثلة التي تجمعها من الطبيعة لتصل إلى العلم الجديد ... الشباب لعب، والشيخوخة راحة مطلقة. وأما الرجولة فشأنها العمل المنتج ... الشباب مليء بالفن، والشيخوخة نزاعة إلى الدين. وأما الرجولة فمشغوفة بالعلم قبل كل شيء. الشباب خيال مبتكر، والشيخوخة ركون إلى ذكريات الماضي. وأما الرجولة فعقل مفكر مدبر ... في الشباب ثورة، وفي الشيخوخة جمود. وأما الرجولة فتستمتع بالحرية، والحرية بمعناها الصحيح مرحلة بين الثورة والجمود ... في الشباب جرأة إلى حد التهور، وفي الشيخوخة خوف إلى حد الجبن. وأما الرجولة ففيها الشجاعة كما تمليها الحكمة.
فأنت ترى أن عهد الرجولة عصر العمل والبناء، فلئن فقد الرجل حماسة الشاب وأمله، فقد كسب قوة الإنجاز والتنفيذ، حتى إذا ما بلغ الرجل سن الخامسة والثلاثين؛ فقد بلغ الذروة القصوى، التي تحتفظ ببقية صالحة من عاطفة الشباب وبداية طيبة من فهم الشيوخ. ولقد قام باحث إنجليزي بإحصاء عجيب، أثبت به أن الكثرة العظمى من نوابغ الإنجليز أنجبهم آباؤهم بين الثلاثين والرابعة والثلاثين.
وبعدئذ يأخذ النشاط في التدهور والفناء، وينضب معين القوة قليلا قليلا دون أن يملأ ما فرغ منه، أو كما يقول شوبنهور: يعيش الإنسان بعد ذلك على رأس ماله لا من دخله. وإن الرجل في هذه السن لتتكشف له هذه الحقيقة المروعة المخيفة، فتعلوه غاشية من الكآبة والقنوط، ساخطا على هذه الحياة القصيرة التي لن تمكنه من تحقيق أمله. إنه ليقف في ذروة الجبل وينظر، فإذا بالموت قابع عند السفح يرقب وينتظر، فماذا يفعل؟ إنه في الأغلب يشتد حماسة في العمل ليغالط الحقيقة الواقعة، كأنما يريد أن يصيح في وجه الفناء: أنا هنا حي نشيط متوثب! أنا موجود رغم أنف الزمان!
يقول نيتشه: إن الإنسان في شبابه ورجولته شأنه شأن الحطب، تشعل فيه النار؛ تعلو شعلته ويملأ الدنيا دخانا وشرورا، ولكنه لا يدفئ. فإذا ما انجابت عنه غاشية الدخان وهدأت أطراف لهيبه، بدأت جمراته الهادة تشع الدفء الجميل. وهكذا فورة الشباب ودخانه لا يفيدان شيئا إلا إن استقرا في هدوء الرجولة وسكونها ... فالرجولة إذن هي عصر الخصب والإنتاج.
ولكن دبيب الشيخوخة لا يمهل الرجل طويلا حتى يسري في العظام والمفاصل! فلا يعود الشيخ قادرا على حفظ علم جديد، كأنما العلم الجديد لا يجد في رأسه المزدحم مكانا خاليا! إن الطفل في سنيه الأولى يكبر بنسبة أسرع من النسبة التي يكبر بها بعد ذلك، وكذلك الشيخ كلما أمعن في شيخوخته ودنا من ختامه يضعف بنسبة أسرع مما كان. والطفل مزود عند مولده ببلادة الإحساس؛ لئلا تصعقه الإحساسات الجديدة المتكاثرة، وكذلك الشيخ يعود في هرمه إلى ذلك الحس البليد؛ لأن رغبة الحياة قد خمدت قواها. إن الشيخ المتهدم ليشعر بمزيج عجيب من حب البقاء وحب الراحة الأبدية؛ فهو يريد أن يمتد به البقاء، ولكنه يريد في الوقت نفسه أن يتخلص من هذا العناء المضني. إن الشيخ ما يفتأ ساخطا ناقما على مظاهر الحياة التي يشهدها صخابة حوله، ومن الشطط أن تطالب إنسانا ذهبت عنه الحياة بحب الحياة!
لقد بلغ الحي غاية الشوط، فأسلم حياته إلى كف المنون! إن الحياة آخر مراحلها الموت والفناء! ... ولكن لا! إننا نموت من أجل الحياة. إن هذه الخلايا الذابلة لتسقط من جسم الحياة ليبقى سليما معافى، فيفنى الشيوخ لتبقى الحياة في قوة الشباب.
صه! هذا وليد يصيح، إن الحياة خالدة لا تعرف الفناء.
بين الأدب ونقده
عجيبة هذه المصادفات ...
Unknown page