وما هو إلا أن أمر عارف باشا بالطائر أن يعهد لفريق من العلماء الراسخين في العلم؛ ليرى كيف يفصح هذا الطائر الأعجم البيان إذا ما تعلم نطق الكلام.
وانقسم العلماء جماعتين، جماعة تعد القفص، وأخرى تجمع الكتب والدفاتر والأقلام والمحابر ...
ومضت سنون ...
قال الراوي: وبينما كان عارف باشا يوما يتحسى أقداح القهوة مع نفر من أصدقائه، ويقهقه لنكاتهم قهقهة عالية تهز بطنه وترج صدغيه، إذا به يذكر فجأة أنه كان منذ أعوام قد عهد بببغائه إلى جماعة من العلماء يعلمونه الكلام ليفصح البيان، فأمر من فوره بعربة تعد وخيل تشد؛ ليزور الببغاء ومعلميه.
وجلجلت العربة بعجلاتها، وصلصلت الجياد بأجراسها، ووصل عارف باشا إلى حيث يريد، واستقبله المشرفون على تعليم الببغاء بكل تجلة واحترام. - ماذا صنعتم بطائري وقد مضت سنون؟ - كل خير يا باشا. - أروني الببغاء، هل يفصح البيان؟
وهنا طفق أستاذ يشير ويشرح: هذا، يا مولاي، هو القفص الذي أعددناه، مستدير القاع، مدبب القمة، في جداره تسعة وتسعون سلكا، سلك من فضة يجاوره سلك من ذهب، وهكذا دواليك على التوالي. ولو كانت الأسلاك قد كملت مائة لاطرد معنا هذا التوالي في أسلاك الفضة والذهب، وكنا عندئذ نزل زلة فاحشة؛ لأنه يتعذر علينا في مثل هذه الحالة أن نعلم أين نجعل للقفص بابه؛ إذ تتوالى أسلاك الفضة والذهب أينما درت مع القفص، وأين وجهت البصر. لكننا يا مولاي تدبرنا أمرنا منذ البداية، ورسمنا طريقنا، فأحكمنا الرسم والتدبير؛ لذلك جعلنا أسلاك القفص تسعة وتسعين، فرمينا عصفورين بحجر واحد؛ إذ باركنا القفص بهذا العدد المبارك. وهنا تبسم عارف باشا ليعلن إعجابه ورضاه، ثم جعلنا بهذا العدد الفردي سلكين من أسلاك الذهب يتعاقبان فيشيران إلى موضع الباب.
والباب يا مولاي قطعة فنية، فهو يسمح للطائر بالدخول ولا يهيئ له سبيل الخروج؛ لأننا لوينا الأسلاك على نحو يجعلها ملساء إذا ما دخلها داخل، مسننة مدببة تسد على الخارج طريقه إلا إذا مزق جلده تمزيقا تسيل منه الدماء.
فأومأ عارف باشا برأسه إيماءة الرضا والإعجاب، وطفق الأستاذ الشارح يقول: وطول القفص وعرضه وارتفاعه كلها قيست قياسا دقيقا، بحيث تتيح للطائر حركات بعينها ولا تتيح له سواها؛ فللطائر مثلا أن يطير قليلا إلى أعلى أو قليلا إلى أسفل، لكن ليس في مقدوره أن يضرب بجناحيه ويحوم. وها نحن أولاء قد مددنا له في داخل القفص عند الوسط ثلاثة أسلاك مسنونة؛ لتطمئن قلوبنا أن طائرنا لن يدور بجسده باسطا جناحيه؛ فهذا ما لا نريده له أبدا.
ثم خدعناه؛ فعلقنا له في سقف القفص أرجوحة صغيرة ، فيظل يهتز بها طول النهار يمنة ويسرة، حاسبا أنه يشق أجواز الفضاء، وهو في حدود قفصه لم يتحول.
وأقمنا على تنظيف القفص خادمين، وأعددنا للطعام طاهيين، وخصصنا لضبط الحساب حاسبين، وأفردنا للتسجيل كاتبين، فما تفلت هنا يا مولاي صغيرة ولا كبيرة. نعرف كم أنفقنا من المال، وأين انصرف ذلك المال مليما مليما، ونسجل كم رفة للجناح الأيمن، وكم للجناح الأيسر، ومتى تحركت ساقه اليمنى، ومتى تحركت ساقه اليسرى؛ كل ذلك عندنا مقيد مسجل، نضبط حسابه بالأرقام. يقوم على ضبط الحساب حاسب، ثم يقوم على ضبطه مرة أخرى حاسب آخر، وبعدئذ يقوم على الحاسبين مراجع، وعلى المراجع مراجع.
Unknown page