زكي نجيب محمود
ظلم
كان الفتى في عامه الثاني عشر أو الثالث عشر ، طويلا نحيلا، في عينه اليمنى حول ظاهر، ولا يفارق عينيه منظار التوت ذراعاه فمال على أنفه. وكانت تبدو على الفتى علامات البلاهة التي لا يخطئها النظر.
سأل أباه ذات يوم، إذ هما على مائدة الغداء، فقال: كلمة «ظلم» ما معناها؟ - وأين سمعتها؟ - سمعت رجلا يصيح بها في الطريق. يصيح بها وهو يدفع عربة صغيرة عليها بطيخ وشمام. وكان الشرطي من ورائه يصفعه ويركله. - الظلم هو أن يوضع الإنسان في غير موضعه اللائق به. فإذا جلست الخادمة على مقاعدنا الحريرية فذلك ظلم، وإذا أسندت الرياسة إلى من لا يستحقها فذلك ظلم، وإذا أخذ العامل أجرا على غير عمل فذلك ظلم، وإذا ظفر بالراحة من لم يعمل فذلك ظلم، وإذا نزل العقاب على غير مستحقه فذلك ظلم. كذلك من الظلم أن يفلت من العقاب من هو حقيق به، وهكذا. كل هذه أمثلة لناس وضعوا في غير أماكنهم الصحيحة.
سمع الفتي هذه الإجابة من أبيه في إنصات ظاهر، وكأنما أعجبه رنين الكلمة، فراح يرددها وهو بعد على مائدة الغداء. وبلغ إعجابه بالكلمة أن كان ينطق بها في نغمات مختلفة، ثم يضحك ضحكاته البلهاء.
ولما أصبح صباح اليوم التالي، ارتاعت أم الفتى لما رأته في كل ركن من أركان الدار ... إذ راح الغلام منذ الصباح الباكر يكتب بقطعة من الطباشير كلمة «ظلم». يكتبها على المقاعد والموائد والجدران، يكتبها أينما وجد فراغا يصلح للطباشير أن يخط عليه، فهي على أواني المطبخ، وهي على البلاط، وهي على جوانب الأثاث، وهي على السجاد القائم.
ونودي الغلام وسئل عما فعل، فلم يزد على أن ضحك ضحكة بلهاء. وماذا يصنع الأبوان في ابن لهما يعلمان فيه البلاهة؟ انتهرته أمه ونهره أبوه وتهدداه بالعقاب الصارم إذا عاد إلى مثل هذا العبث. ثم طفقت الأم من فورها تمسح «الظلم» من أجزاء بيتها بخرقة بالية!
ومضى يوم واحد. جاء بعده الجيران يشكون الغلام لأبويه، فقد ظفر بقطعة من الفحم، وراح يتسلل إلى حيث استطاع سبيلا من دورهم. وأخذ يخط كلمة «ظلم» على الأشياء فيفسدها، حتى أتلف للجيران أبوابهم ونوافذهم وجدرانهم وأثاثهم.
فضربه أبوه، وسأله في غيظ قائلا: ما الذي يغريك بهذه الكلمة، تكتبها في كل مكان، تكتبها لنا بالطباشير، وللجيران بالفحم؟
فأجاب الغلام بعينين دامعتين: لست أدري يا أبت! اعف عني هذه المرة، ولن أعود.
Unknown page