وتعقبته مستطلعا، فرأيته يخلص من قلب المدينة إلى طرف من أطرافها بعيد، وهنالك في مكان تغلب عليه الظلمة إلا من شعاع خافت جاءه من مصباح الطريق في خلال أوراق الشجر، جلس على جدار لم يتم بناؤه، جلس والحمل على كتفيه، يتململ ويتأرق، ويرتكز على ذراعه اليمنى مرة وعلى ذراعه اليسرى مرة، والحمل ما زال قائما على كتفيه، فسعلت سعلة خفيفة؛ لأشعره بوجودي على مقربة منه حتى لا يفزع إذا ما دنوت منه. ذلك أني خطوت إليه وحييته.
قلت: هذا مكان هادئ يوحي بالتأمل.
قال: نعم، تشعر بهدوئه إذا أويت إليه من قلب المدينة الصاخب.
قلت: إني لأدهش أن أراك ها هنا؛ فما كنت أحسب أحدا سواي يفكر في هذا الركن الهادئ البعيد!
قال: بل العجب عجبي أن أراك! فأنا أقضي في هذا الركن المعزول أكثر ساعات المساء، فما رأيتك قبل، وما رأيت أحدا سواي، آوى إلى هذا المكان لأستريح.
قلت: لكنك فيما أرى لا تريد لنفسك الراحة؛ فحملك ما يزال فوق كتفيك!
قال: ما يزال؟! وهل عرفت أنه من الأحمال التي لا تلقى عن الكتفين إلا إذا فاضت الروح؟ أنا قائم به وقاعد به ونائم به ومستيقظ به.
قلت: وماذا عسى هذا العبء الثقيل أن يكون؟
قال: إنه عبء الحياة، أما ترى؟ هو عبء الحياة وقد أنقض والله كتفي.
قلت: آه، إذن فهو حمل نفيس.
Unknown page