إلى القارئ
ظلم
يوم الميلاد
رسالة إلى صديقة أدبية
بغير مرآة
شبكة الصياد
المئذنة والهرم
حمل الهموم
سحر الكلام
النجاح والفشل
Unknown page
الصداقة العابرة
قميص السعادة
حمى الحياة
الآدمية الصحيحة
عندما أطللت من النافذة
وضع العقل في غير موضعه
الأخلاق التي لا تزال بخير!
الطاغية الصغير
غير مطلوب
سيجار
Unknown page
9 شارع الكرداسي
خبرة السنين
أرقام
قلوب
أصنام تحطمت
الببغاء والقفص
درع من ذهب
من طبائع الناس
القصد في القول والعمل
الرأس والساعد
Unknown page
مطلوب إنسان!
التعميم في الحكم
التفكير النظري والتطبيق
بين الأماني والواقع
من وحي العزلة
الطير الذي طار وارتفع
المتفرج واللاعب
الصفر النفيس
شمال وجنوب
جناية الصحافة على الأدب
Unknown page
حامد سعيد
طوائف تتنافس
الأديب بين يومه وغده
السحر والساحر
عريان يحلم
جمل في حركة المرور
نملتان في الفلفل
مراحل الطريق ...
بين الأدب ونقده
دفاع عن الأدب1
Unknown page
القطة السوداء
التصوف والمعرفة
التاريخ لا يعيد نفسه
بداية قصة
إلى القارئ
ظلم
يوم الميلاد
رسالة إلى صديقة أدبية
بغير مرآة
شبكة الصياد
Unknown page
المئذنة والهرم
حمل الهموم
سحر الكلام
النجاح والفشل
الصداقة العابرة
قميص السعادة
حمى الحياة
الآدمية الصحيحة
عندما أطللت من النافذة
وضع العقل في غير موضعه
Unknown page
الأخلاق التي لا تزال بخير!
الطاغية الصغير
غير مطلوب
سيجار
9 شارع الكرداسي
خبرة السنين
أرقام
قلوب
أصنام تحطمت
الببغاء والقفص
Unknown page
درع من ذهب
من طبائع الناس
القصد في القول والعمل
الرأس والساعد
مطلوب إنسان!
التعميم في الحكم
التفكير النظري والتطبيق
بين الأماني والواقع
من وحي العزلة
الطير الذي طار وارتفع
Unknown page
المتفرج واللاعب
الصفر النفيس
شمال وجنوب
جناية الصحافة على الأدب
حامد سعيد
طوائف تتنافس
الأديب بين يومه وغده
السحر والساحر
عريان يحلم
جمل في حركة المرور
Unknown page
نملتان في الفلفل
مراحل الطريق ...
بين الأدب ونقده
دفاع عن الأدب1
القطة السوداء
التصوف والمعرفة
التاريخ لا يعيد نفسه
بداية قصة
شروق من الغرب
شروق من الغرب
Unknown page
تأليف
زكي نجيب محمود
إلى القارئ
هذه صفحات كتبتها إلا قليلا جدا منها، في الأعوام الثلاثة: 1948م، 1949م، 1950م. وهي سنوات عصفت فيها العواصف بنفسي، وتجهم الأفق أمام عيني ، ورأيت خريف عمري يتساقط أمامي على الأرض أوراقا صفراء يابسة، كنت أسمع لها خشخشة كأنها حشرجة المحتضر.
ونظرت فإذا بقيتي بعد جهاد طويل حطبة جافة من ساق وفروع، تعرت عن الورق والزهر والثمر، تعوي في ثناياها الريح عواء الأمعاء الجائعة، وليس على مرمى البصر منها إلا اليباب.
فخلخلت التراب حول الفروع والساق، وحملتها تجاه الغرب إلى طرف ناء من الصحراء، حتى إذا ما أغمضت الشمس جفنيها من غروب، أشعلت النار في بقيتي، وبقيتي حطبة يابسة، فتراءت من بعد أمام عيني العشواءين كأنما هي الشمس قد عادت إلى الشروق، لترسل من حر أنفاسها شعاعا جديدا، قبل أن تعود إلى مهدها في ظلام الغيب. •••
فمن الغرب تمنيت لو أشرق على بلادي شعاع من نور، من الغرب الذي شاءت له إرادة الله أن يكون في عصرنا مبعث المدنية ومنارها؛ فيه ينتج العلم والفلسفة والأدب والفن، وتنشأ النظم الاجتماعية والسياسية، وبين أهله تقوم الثورات التي تحطم أسوار القديم لتنبت في الأرض نباتا جديدا.
أليست المدنية الإنسانية تغمر العالم موجة في إثر موجة، والموجات تارة يكون مسراها من هنا إلى هناك وطورا من هناك إلى هنا؟ ... خرافة أن يقال في الحضارة البشرية: شرق وغرب وشمال وجنوب. والصدق أن يقال: إنسان العصر وحضارته، أينما كان الإنسان على وجه الأرض، وأيا ما كانت حضارته. «إنني في ساعات حلمي، حين أحلم لبلادي باليوم الذي أشتهيه لها، فإنما أصورها لنفسي وقد كتبنا من اليسار إلى اليمين كما يكتبون، وارتدينا من الثياب ما يرتدون، وأكلنا كما يأكلون، لنفكر كما يفكرون، وننظر إلى الدنيا بمثل ما ينظرون ...» (ص 223).
وإذن فستقرأ في هذا الكتاب صفحات تصور لك نفسا اكفهر فيها الأفق وتلبدت سماؤها بالغيوم، كما تطالع فيه كيف راحت تلك النفس - في ظلماتها - ترسل من غربها شعاعا، كأنه البصيص الخافت ينفذ خلال الرماد، راحت ترسل شعاعها ذلك الضئيل الخافت، قبل أن ينطوي ظلامها في ظلام الغيب.
أول فبراير سنة 1952م
Unknown page
زكي نجيب محمود
ظلم
كان الفتى في عامه الثاني عشر أو الثالث عشر ، طويلا نحيلا، في عينه اليمنى حول ظاهر، ولا يفارق عينيه منظار التوت ذراعاه فمال على أنفه. وكانت تبدو على الفتى علامات البلاهة التي لا يخطئها النظر.
سأل أباه ذات يوم، إذ هما على مائدة الغداء، فقال: كلمة «ظلم» ما معناها؟ - وأين سمعتها؟ - سمعت رجلا يصيح بها في الطريق. يصيح بها وهو يدفع عربة صغيرة عليها بطيخ وشمام. وكان الشرطي من ورائه يصفعه ويركله. - الظلم هو أن يوضع الإنسان في غير موضعه اللائق به. فإذا جلست الخادمة على مقاعدنا الحريرية فذلك ظلم، وإذا أسندت الرياسة إلى من لا يستحقها فذلك ظلم، وإذا أخذ العامل أجرا على غير عمل فذلك ظلم، وإذا ظفر بالراحة من لم يعمل فذلك ظلم، وإذا نزل العقاب على غير مستحقه فذلك ظلم. كذلك من الظلم أن يفلت من العقاب من هو حقيق به، وهكذا. كل هذه أمثلة لناس وضعوا في غير أماكنهم الصحيحة.
سمع الفتي هذه الإجابة من أبيه في إنصات ظاهر، وكأنما أعجبه رنين الكلمة، فراح يرددها وهو بعد على مائدة الغداء. وبلغ إعجابه بالكلمة أن كان ينطق بها في نغمات مختلفة، ثم يضحك ضحكاته البلهاء.
ولما أصبح صباح اليوم التالي، ارتاعت أم الفتى لما رأته في كل ركن من أركان الدار ... إذ راح الغلام منذ الصباح الباكر يكتب بقطعة من الطباشير كلمة «ظلم». يكتبها على المقاعد والموائد والجدران، يكتبها أينما وجد فراغا يصلح للطباشير أن يخط عليه، فهي على أواني المطبخ، وهي على البلاط، وهي على جوانب الأثاث، وهي على السجاد القائم.
ونودي الغلام وسئل عما فعل، فلم يزد على أن ضحك ضحكة بلهاء. وماذا يصنع الأبوان في ابن لهما يعلمان فيه البلاهة؟ انتهرته أمه ونهره أبوه وتهدداه بالعقاب الصارم إذا عاد إلى مثل هذا العبث. ثم طفقت الأم من فورها تمسح «الظلم» من أجزاء بيتها بخرقة بالية!
ومضى يوم واحد. جاء بعده الجيران يشكون الغلام لأبويه، فقد ظفر بقطعة من الفحم، وراح يتسلل إلى حيث استطاع سبيلا من دورهم. وأخذ يخط كلمة «ظلم» على الأشياء فيفسدها، حتى أتلف للجيران أبوابهم ونوافذهم وجدرانهم وأثاثهم.
فضربه أبوه، وسأله في غيظ قائلا: ما الذي يغريك بهذه الكلمة، تكتبها في كل مكان، تكتبها لنا بالطباشير، وللجيران بالفحم؟
فأجاب الغلام بعينين دامعتين: لست أدري يا أبت! اعف عني هذه المرة، ولن أعود.
Unknown page
لكن لم يكد يمضي يوم آخر، حتى جاء أصحاب الدكاكين المجاورة يشكون الغلام لوالديه، فقد ظفر هذه المرة بما ليست تمحى آثاره في يسر، كما محيت آثار الفحم والطباشير. ظفر بوعاء فيه طلاء أسود وفرجون، جاء به من عمارة قريبة يقام بناؤها، وراح يغافل أصحاب الدكاكين ويكتب أمام متاجرهم، على الطوار: «ظلم»، «ظلم». فشوه الطريق بخطه الرديء من ناحية، وأساء إلى المتاجر وأصحابها من ناحية أخرى؛ لأن هؤلاء يريدون إغراء الزبائن بما يكتب أمام متاجرهم، لا تنفيرهم بالمعنى السيئ والشكل الرديء.
وها هنا بلغ الغيظ من الوالد أبلغ مداه، وجاء بغلامه أمام الشاكين يضربه ضربا مبرحا هذه المرة؛ حتى مست الرحمة قلوبهم، وهم الغرباء، قبل أن تمس قلبه وهو الوالد.
وسأله أبوه من جديد: ما الذي يغريك بهذه الكلمة تكتبها لنا بالطباشير، وللجيران بالفحم، ولهؤلاء الناس بالطلاء؟
فأجابه الغلام بصوت مخنوق بالبكاء: لست أدرى يا أبت! اتركني هذه المرة، ولن أعود إلى مثل ذلك أبدا.
لكن الغلام لم يكن عند وعده هذه المرة أيضا، فمضت ثلاثة أيام لم يعكر صفوها «ظلم» يصيب أحدا من الناس. وفي اليوم الرابع تأخر الغلام عن موعد عودته من المدرسة، وشغل الأبوان وبحثا عنه في مظانه كلها، فلم يعثرا له على أثر، حتى إذا ما كانت الساعة العاشرة أو نحوها في الليل، دق الجرس وأسرع الأبوان في لهفة إلى الباب، فإذا ابنهما في صحبة رجل من رجال الشرطة.
قال الشرطي: هذا ابنكم وجدناه ينقر بابا لدار من دور الحكومة بمبراة، فأخذناه إلى قسم الشرطة، وكتبنا عن الأمر «محضرا». لكنا نريد مواصلة سؤاله وعقابه غدا، ورأينا أن نسوقه إلى داره ليقضي ليلة مع والديه؛ حتى لا يشغلا عليه بالا.
ونظر الغلام إلى أبيه نظرة يطلب بها العفو والعطف، فلم يسأله أبوه عن شيء، وبات محزونا.
حتى إذا ما جاء الصبح، وذهب إلى الدار الحكومية التي أتلف الغلام بابها بمبراته، وجد ابنه قد حفر على الباب كلمة «ظلم». حفرها كلمة كبيرة عميقة، حتى ليدهش الرائي كيف استطاع أن يصنع ذلك كله في ظلمة الليل! وأين كان الحارس طول الساعات التي استغرقها الفتى في حفر هذا كله على باب من الخشب الصلب المتين؟!
واتفق رجال الشرطة مع الوالد الحيران أن يخلوا له سبيل الغلام، وكان ذلك بمشورة طبيب استشاره الوالد في أمر ولده، فأشار الطبيب بأن يصحب الأبوان ابنهما إلى مكان من الريف؛ لتهدأ أعصابه لأنه مريض.
وكم عجب الوالدان وهما في القطار أن سمعا عجلاته تقرقع على القضبان في صوت واضح لا سبيل إلى إنكاره: ظلم، ظلم، ظلم!
Unknown page
يوم الميلاد
هذه سطور أكتبها يوم ميلادي الثالث بعد الأربعين.
1
وأقول «يوم» الميلاد ولا أجعله لنفسي «عيدا» من الأعياد؛ فإني أشهد الله أنه يوم ما أقبل قط في حياتي مرة بحيث استقبلته بنفس مرحة طروب. بل إني لأعجب عجبا لا ينقضي من رجل يحتفل لنفسه بمثل هذا اليوم من حياته، أو يرضى أن يحتفل له الناس به. فنحن من هذه الأعوام التي تكر ماضية عاما في إثر عام، بمثابة من وقف على جسر النيل، وفي يده عقد أخذ يلقى حباته في الماء حبة وراء حبة. أفكلما نقصت لؤلؤات العقد لؤلؤة فرحت لنقصانها مسرورا؟!
لكن لعل هؤلاء المحتفلين بأعوامهم تمضي أعقل مني وأحكم؛ فقد تكون الحياة عبئا ثقيلا، ينقض ظهور الرازحين تحت حمله، فكلما انزاح من أجزائه جزء سر حامل العبء وابتهج. نعم، قد تكون الحياة عبئا ثقيلا ينقض الظهور أكثر منها كنزا ثمينا يشرح الصدور ... ومهما يكن من أمر هؤلاء وأمري، فنحن على اتفاق أننا أبدا سائرون إلى نقصان، ما دمنا قد اجتزنا قمة الشباب في العشرين أو نحوها، على اختلاف بيننا في فهم هذا النقصان؛ فيرونه كسبا وأراه خسرانا .
وليس يخلو من المعنى أن يكون مولد العام الجديد أقوى أثرا في نفسي من يوم ميلادي. فيستحيل أن يمر اليوم الأول من يناير، وأنا عنه لاه ساه غير آبه ولا حافل. أما يوم ميلادي فما أ كثر ما يمر لا أذكره ولا أحسه ولا أشعر به، حتى إذا ما فات وانقضى أذكر عرضا أنه فات وانقضى وأصبح تاريخا يروى. وأرجح الظن أني في ذلك لا أشذ عن كثير من الناس. أيكون ذلك؛ لأن مولد العام الجديد يسجل للإنسانية بأسرها، بينا يسجل يوم ميلادي لفرد واحد؟ أم يكون لأن مولد العام الجديد تسجيل للحوادث؟ وأما يوم ميلادي فرقم لا يدل على شيء سوى ما انقضى من عدد السنين، وأن هذا العدد بغير الحوادث التي تملؤه رقم أجوف فارغ؟
رقم أجوف فارغ! لقد سألت نفسي يوما: لو أرخت لحياتك ودونت ما مر بها من حوادث؛ فماذا أنت ذاكر؟ إن من الرجال من يكتبون قصص حياتهم، فإذا هي حافلة بأحداثها. تقرؤها فكأنما تقرأ قصة من خلق الخيال البارع. فأين من ذلك ما عشت من حياة فارغة جوفاء؟! وهنا رأيت الشبه مائلا بيني وبين ساعي البريد. أرأيت كيف ينفق هذا الرجل حياته ساعيا بين الناس ببريده؟ إنه لا يمس «الظروف»، إلا من ظاهرها دون أن ينفذ إلى قلوبها ولبابها. إنه لا يعلم من الرسالة إلا عنوانها أو بعض عنوانها. فأين ذلك من صاحب الخطاب؟! إنه يفض غلافه ويمس شغافه، ويقرأ السطور وما بين السطور. إنه يستروح من كلماته أنفاس الحبيب، أو هو ينظر إلى الألفاظ فإذا هي ألحاظ الصديق ناظرة إليه تباسمه وتناجيه.
لكأنني من هذه الحياة إزاء مدينة حصينة سورت بمنيع الجدر. ولكأنني منها طواف يطوف حولها ويطوف، ثم لا يجد إلى جوفها من سبيل ... صه! أذلك همس؟ إنهما حبيبان يتغازلان؟ أتلك ضحكات طروب؟ إنها جماعة أخذتها نشوة ومرح. أذلك أنين؟ إنه بكاء حزينة ثكلى. يا ويح نفسي! أريد أن أهمس كما يهمس الهامسون، أريد أن أضحك كما يضحك الضاحكون، بل أريد أن يكون لي في حياتي ما أبكيه وأرثيه! أين يا صديقي الجواز الذي يبيح لي الدخول في هذه المدينة الصخابة فأشتريه؟!
رأيت الناس ذات صيف حرور يصطافون، فأقسمت لأكونن كسائر عباد الله مصطافا. ذهبت إلى الشاطئ مع الذاهبين، فسرعان ما برزت من إهابي شخصية الساعي؛ أقف على الشاطئ ولا أغوص. الناس يمرحون في الماء ويلعبون، والأطفال يتقلبون مع الموج ويضحكون، والنساء كعرائس الماء غائصات طائفات صائحات ضاحكات، وليس لي من كل ذلك شيء. ونظرت حولي، فإذا أنا واقف بين أكوام الملابس نضاها أصحابها. ويشاء القدر الساخر أن يكون أقربها إلي حذاء مخلوع، فأدركت عندئذ في يقين، أني بين هذه الأحياء كالقوقعة الفارغة، يرتسم على سطحها الحيوان ولا تحتويه، ولم أستطع أن أواجه هذا الحق المخيف، فقفلت إلى الدار راجعا.
رقم أجوف فارغ، إذن، هذه الأعوام تنقضي من حياة الأمة، فلا يكاد يتغير من وجهها شيء! نعم يا قائد الثورة الفرنسية «إن أربعين قرنا تنظر إلينا من قمة هذا الهرم». وكأنها أربعون لسانا يقول للمصري: ماذا صنعت يداك؟ هذه هي ذخيرة العلم توشك بقوتها أن تميل بالأرض عن مسراها، فماذا لك منها؟ إذا أرخت لحياتك ودونت ما مر بها من حوادث، فماذا أنت ذاكر سوى أن ساسة الأمم ما زالت تعترك عليك وتصطرع، وأنت بينهم واقف كالصبي الأبله، وضع إصبعه في فمه، وأخذ ينقل نظراته بين هذا وذاك؟ حسبك من البقرة «نعيرها»، كما يقولون. ويكفيك أن تكون حياتك معدودة بعشرات القرون!
Unknown page
لست إذن أرى في حياتي الخالية الخاوية ما يستحق أن أحتفل له إذا ما انقضى من الحياة عام. بل إني ما فكرت فيها بيني وبين الأيام من أخذ وعطاء، إلا ورأيتني قد نلت من الأيام صفقة المغبون. فقد ظللت كما يظل كل إنسان منذ مولده حتى يبلغ من الشباب ذروته، ظللت آخذ من دنياي مادة أكثر مما أعطيها، فأزداد بهذا الكسب المادي لحما وعظما، ثم بهذا اللحم والعظم أنمو صبيا ويافعا وشابا. لكني لقاء ذلك الكسب في وزن البدن، كنت محروما من المال، فلم أكن أرى منه ، إبان ذلك العهد، إلا قروشا قليلة يعطينيها أبي رحمه الله، مليمين مليمين، أو على أحسن الحظوظ قرشا قرشا، حينا بعد حين. وقد كان يحدث أيام العيد أن يتبادل أبي وعمي «الأعياد» للأولاد. فكنت آخذ من عمي ريالا أو نصفه، فلا يكاد الريال يستقر في كفي حتى يتقاضاه أبي من جديد إذا ما خلا بي. ولم أكن أفهم لذلك معنى حتى شببت وازددت علما، فعرفت أن قد كان للأمر اقتصاديات عليا لا يفهمها الصغار، على نحو ما يفعل رؤساء الحكومات اليوم. فهم يضبطون الصادر والوارد، بحيث يكون لهم في نهاية الأمر ميزان متعادل. والناس، إزاء هذا الذي يحدث في السماء العالية من دنيا الاقتصاد، لا يعرفون إلا أن السكر كان يصرف لهم بالأمس أقات تسعا، فإذا هو اليوم يصرف لهم سبعا، وأنهم كانوا يأكلون الخبز أبيض خالصا، فإذا هم اليوم يأكلونه مخلوطا أسود.
حتى إذا ما جاوزت قمة الشباب، وانتهى من الحياة طريقها الصاعد، وأخذت أسلك منها سفحها الهابط، تغير الموقف رويدا رويدا، حتى انعكس الوضع؛ فخسارة من اللحم والعظم، وكسب من المال؛ ذلك أني بدأت الآن أعطي دنياي من بنيان جسمي أ كثر مما تعطيني. فأسنان تفسد ثم تخلع، وشعر يضعف ثم يتساقط، وعضل يفتر ثم يترهل، وجلد ينكمش ثم يتغضن. بعد أن كانت الأسنان والشعر والعضلات والجلد تزداد مع الأيام قوة وفتوة. فهذا جانب الخسارة، ويقابله زيادة في كسب المال؛ فقد كانت وحدة نقودي مليما أو قرشا، فأصبحت أفكر فيها بلغة الجنيهات، وأخشى أن أقول بعشراتها، فيظن بي القارئ ثراء أو ما يشبهه، ولست من هذا بحمد الله في عير أو نفير. لكنها هذه السنوات السود التي أضاعت جزءا عزيزا من حياتنا، هي التي علمتنا ذلك الحساب كرها وقسرا. فلم أعد أدفع أجر مسكني بلغة الجنيه الواحد كما كنت أفعل، بل أدفعه مبلغا ذا رقمين سواء استطعت إلى ذلك سبيلا أو لم أستطع. ولم أعد أشترى البدلة بلغة الجنيه الواحد كما كنت أفعل ، بل أشتريها بالعشرات راضيا أو كارها . وهكذا تراني اليوم، بالقياس إلى يفاعتي، أخسر في بنيتي وأكسب في ثروتي، أنقص في دمي ولحمي وأزداد في مالي. فكأنني إزاء هذا كله أشترى الضلالة بالهدى، وأبيع سمسما مقشورا بسمسم غير مقشور ... ولست أدري ماذا تقول أنت في مثل هذه الصفقة؟ لكنها عندي صفقة المغبون، وبمثل هذه الصفقة الخاسرة يذكرني يوم ميلادي.
لو خيرت في الأمر لسرت بالحياة في طريق معكوس، بحيث تأتي الشيخوخة أولا والشباب آخرا، فالخمسون تأتي قبل الأربعين، والأربعون قبل الثلاثين، والثلاثون قبل العشرين، حتى أنعم بالصعود في سلم الحياة، ولا أحزن لمثل هذا الهبوط. وأنا مسئول عن كل النتائج التي تترتب على هذا الوضع المعكوس ... لو كنت موظفا مدنيا في الحكومة؛ فسأبدأ بالدرجة الأولى وأتمتع براتبها الضخم، وأنا بعد في سن العشرين. ولا بأس عندي أن أعقب عليها بالثانية فالثالثة وهلم جرا، بحيث أنحدر في الدرجات والمال كلما دب في جسمي الهزال؛ لأننا على هذا الوضع الراهن بمثابة من يخزن البندق حتى تزول عن فكيه الأضراس والأنياب. فقل لي بربك: ما غنى هذه الدرجات تعلو، وهذه النقود تزداد، ولم يعد لها في الجسم مستقبل أو مستجيب؟ هذه هي السوق قائمة، وتلك هي الحلوى معروضة أمام بائعيها كما عهدتها وكما اشتهيتها أيام الصبا. وهذا هو المال في جيبي، فلماذا لا أشتري الحلوى ولطالما تمنيتها؟ أما وقد تهيأت لي الأسباب فلماذا لا أشتري الحلوى، ولطالما سال مني عليها اللعاب؟! ... لأنني خزنت البندق، حتى زالت الأضراس والأنياب!
ولو كنت موظفا عسكريا؛ فسأبدأ الشوط بكتف مملوءة بكل ما عندهم من أنجم وتيجان. ولا بأس عندي أن تتساقط عن كتفي هذه اللوامع واحدة بعد واحدة كلما تقدمت بي الأعوام، كما تسقط عن الشجرة أوراقها في الخريف بعد أن أينعت ناضرة عاطرة في الربيع. وإلا فحدثني بربك ما معنى أن يكون ربيع على الكتفين وخريف في صميم البدن؟!
ولو كنت كاتبا فسأبدأ الحياة بكومة من الكتب هي كتبي، ومئات من المقالات جرى بها قلمي؛ فأزهى بهذا كله يوم يكون للزهو معنى مستساغ . ولا بأس عندي أن يخفت على مر الأيام صوتي، ويقل صيتي، وينكمش اسمي سيرورة وذيوعا. فذلك كله عندي خير ألف مرة من أن أزداد في درجات الحكومة رفعة، أو أزداد في كتفي التماعا، أو أزداد في دولة الأدب أو العلم شيوعا وذيوعا، حتى إذا ما اكتمل لي من هذا أو ذاك قدر أحسد عليه؛ لم أجد له في نفسي صدى، فكأنما أمتلئ من خارج، إن صح هذا التعبير، وأخلو وأفرغ من داخل ... ولست أدري: ماذا تقول أنت في هذه الصفقة؟ لكنها عندي صفقة المغبون، ومثل هذه الصفقة الخاسرة يذكرني يوم ميلادي.
رسالة إلى صديقة أدبية
أهديها إلى الآباء والأمهات الذين قد ينزلون بأبنائهم السوء من حيث لا يعلمون. ***
صديقتي أ ...
يشاء الله يا صديقتي أن تكون أولى رسائلي إليك صادرة عن قلب مكروب مكلوم حزين، وقد كنت أوثر أن يجيء أول اللقاء ابتسامة صافية لا تشوبها شائبة من هذه الهموم التي أترعت بها نفسي. لكننا تعاهدنا - ألا تذكرين؟ - تعاهدنا على الصدق الذي ينثر مكنون القلب نثرا، ولا يفتري على الحق شيئا ... أفلا تذكرين ذلك اللقاء السريع العابر، والبحر يطن في مسامعنا صداه، حين اختلجت يداك، ولمعت عيناك، في إيمان صادق، وقلت صارخة: حرام، حرام أن يعيش الناس في جو من أكاذيب ... فلنكن نحن صادقين في رسائلنا، ولنسكب خواطرنا ومشاعرنا على الورق خالصة لوجه الفن، لا نخشى في تصوير الحق لومة لائم.
هذا القلب الجريء الذي لا يخاف لوم اللائمين هو أملي، وهو علة إخفاقي في آن معا!
Unknown page
نعم يا صديقتي، فلست أرجو لنفسي شيئا أعز من أن يكون لي قلب حر جريء، مثل عقلي الحر الجريء! ... فقد أشرفت بنفسي على تربية رأسي وتغذيته بالفكر، جاء عقلا لا يتردد لحظة في تحطيم الأصنام كائنة ما كانت تلك الأصنام. فلا يعتز بقديم لقدمه، ولا يهوله جبار لجبروته ... لكن قلبي - وا حسرتاه! - صنيعة سواي! أشرف على تربيته والدي رحمه الله، فجاء قلبا رعديدا جبانا، يريد له الرأس أن ينهض فيكبو، يريد له أن يطير معه في أجواء الحرية الطليقة، لكنه يسقط ويهوي، يريد له أن يحطم الأصنام فيعبد الأصنام! يا حسرتي من هذا القلب الضعيف الخائر الذي أحمله بين جوانحي!
في هذا الصراع بين رأسي وقلبي، يا صديقتي، تقع مأساتي. يقرأ الناس ما أكتبه، فيتوهمونني سيلا عرمرما دفاقا كاسحا. هيهات أن توقف مجراه سدود أو حدود، ثم يلقاني من يلقاني، فإذا أنا المستكين الخائف الخائر المتهافت، الذي لا يثبت على قدميه أمام التوافه!
من لي بمن يعلم هذا القلب الجبان أن التخلص من الخوف هو حكمة هذه الحياة؟ من لي بقلب جريء مثل رأسي، فلا تهوله أرض ولا سماء ولا يروعه عرف ولا تقاليد؟
لكنه أبي - رحمه الله - هو الذي حطم بين أضلعي قلبا خلقه الله وثابا؛ فقد أنسى كل شيء من أحداث طفولتي ويفاعتي، قبل أن أنسى كف والدي التي قست على ذلك الطفل مني أو اليافع. وهل أنسى يوما أجلسني فيه والدي أمامه - وكنت لا أجاوز الخامسة - وسألني سؤالا في الحساب ولم أسرع له بالجواب، فضربني بكتاب ضخم كان أمامه ضربة لا أزال أشعر بالدوار كلما ذكرتها. وكان بالغرفة أضياف، فضحكوا ضحكات تهز الهواء من حولي حتى الآن. وقال منهم قائل وهو غارق في ضحكه: «قد ضربته بالدنيا كلها على رأسه.» وترددت الكلمة في سمعي دون أن أفهم لها معنى، لكنني سأنسى كل شيء، قبل أن أنسى كيف عز على نفسي أن أضرب «بالدنيا كلها على رأسي» مع أني بريء. فانفجرت باكيا، لا أملك لدمعي زماما، ولعلك تعلمين يا صديقتي أن الطفل كثيرا ما يبكي مؤخرا؛ فقد يصاب بجرح وهو لا يدري، حتى إذا ما نبهوه أن دماءه تسيل، أخذ في البكاء ... ودارت الأيام، وجاء يوم كنت فيه تلميذا بالمدرسة الابتدائية، وتسلمت «الأطلس الجغرافي» بين ما تسلمته من الكتب أول العام الدراسي، وأخذت أقلب صفحاته، وأدير فيه البصر معجبا بألوانه، فإذا جاري يهمس لي: «الدنيا كلها في هذا الكتاب الذي في يدك»، فانتفضت لعبارته انتفاض الجريح؛ لأني ذكرت عندئذ حادثة طفولتي التي جرحت فيها كبريائي جرحا لم يندمل حتى اليوم. ويومئذ فقط، أدركت معنى ما قاله ذلك الخبيث الذي قال لوالدي ضاحكا: لقد ضربته بالدنيا كلها على رأسه.
وطلب مني والدي ساعتئذ أن أكف عن البكاء. فلما عجزت عن طاعته؛ صفعني بكفه على وجهي صفعة أسمع الآن رنينها، وأعاد لي أمره بالسكوت. ولست أدري الآن كيف استطعت أن أوقف البكاء، لكني فعلت، وأنا أنتفض بين يديه جزعا فزعا. ولم أجرؤ على رفع بصري إلى الجالسين، خجلا من كبريائي الجريحة ... وأعاد والدي رحمه الله سؤاله من جديد، وأراد الجواب السريع. لكني كنت في هذه المرة أعجز عن الجواب مني في المرة الأولى، فحملني بين ذراعيه حملا، وقذف بي خارج الغرفة. وكان الباب على بعد منه لا يقل عن مترين أو ثلاثة أمتار، قذف بي كما يقذف اللاعب بالكرة، وقال لأضيافه في نغمة المزهو الشامخ بأنفه: لن يعيش لي ولد خائب؛ فإما أن يفلح أو يموت!
أقسم لك بالله يا صديقتي، أن دمعة كادت تطفر مني، وأنا أكتب هذه السطور. لعلها دمعة باقية في محجري منذ ذلك اليوم! ... إنني لأنظر الآن إلى الناس من حولي، وكأني أرى في وجوههم الضاحكة انعكاسا لوجوه هؤلاء الأضياف الذين كانوا يجلسون إذ ذاك مع والدي. يشهدون ويضحكون، أنظر إلى الناس من حولي الآن، يضحكون، فأكره منهم هذا الضحك: ترى هل تضحكهم خيبة رجائي في حياتي كما كان يضحك أضياف أبي عند خيبتي في حل المسألة التي ألقاها إلي أبي وأراد الجواب؟! ترى هل يرضى عني روح والدي لو ألقيت بنفسي في اليم لأحقق له مبدأه الذي ألقاه في مسمعي، وأنا بعد في سن الخامسة؟ ولا تزال آثاره عالقة برأسي، تحركني في مسالك الدنيا يمنة ويسرة: إما أن يفلح أو يموت!
ماذا يا أبت لو لم يكن نجاح، والنجاح ليست عناصره كلها في يدي؟
واحر قلباه! ... ألا إن الجواب عن هذا السؤال مخيف فظيع. لقد عشت ما عشت يا صديقتي، وجاهدت ما جاهدت، فلم يفتح علي الله من أبواب النجاح بمثل ما يفتح على سواي من الناس، وأحاول ما استطعت أن أشيع الرضى في قلبي القلق الثائر، فلا أستطيع. ترن في رأسي عبارة أبي ألف مرة في اليوم الواحد: إما أن يفلح أو يموت، ثم أفكر في اليوم الواحد ألف مرة في تحقيق ما أراده لي أبي!
إنه لا يعلم إلا الله مدى ما أثر ذلك اليوم المشهود في مجرى حياتي. فكما عز على نفسي عندئذ أن أرفع بصري إلى وجوه الحاضرين وأنا موصوم بالعجز والخيبة، لا أزال حتى اليوم عاجزا عن مواجهة الناس، كلما ظهر في حياتي مظهر جديد من مظاهر الخيبة؛ فما أسرعني إلى الانزواء والانطواء كلما هاض إلى الزمن جناحا ...
معذرة، يا صديقتي، فلم أرد أن يجيء هذا الخطاب في هذا السواد، ولكننا تعاهدنا على مقربة من هدير البحر ساعة الغروب، ألا يخفي أحد منا في رسائله شيئا، فهل تذكرين؟
Unknown page
بغير مرآة
نزلت أسبوعا في غرفة من فندق ريفي (في فرنسا) كانت بغير مرآة، فمن ظن - كما ظننت - أنه ضيق بنفسه صدرا، ولم يعد يملك على حياته صبرا؛ فليسكن - كما سكنت - أسبوعا في غرفة بغير مرآة.
لم أكن أدري كم أحببت نفسي، حتى حرمت - خلال ذلك الأسبوع - من رؤية نفسي. ترى أكان اليونان في أساطيرهم جادين أم هازلين، حين رووا لنا عن «نارسيس» أنه رأى صورة وجهه لأول مرة معكوسة على صفحة الماء، فأحبها - وهو لا يدري أنها صورته - وأراد أن يضم إلى صدره هذا الحبيب، فلم يجد إلى ضمه من سبيل. ثم تمضي الأسطورة في قصتها، فتروى أن «نارسيس» لما عز عليه الحبيب - الذي هو نفسه - اعتزل الحياة محزونا على حافة الغدير حتى فارقته الحياة. وسمعت عرائس الجن بموته فأرادت أن تواري جسده في جدث يزوره الرائح والغادي، ولكنها لم تجد جسده الذي ذوى وذوى ثم ذوى. لم تجد إلا زهرة نبتت على حافة الماء، حيث كان الحبيب يتأمل وجه الحبيب، يتأمل الحبيب البعيد وهو قريب. نبتت زهرة مكان جثمانه الذاوي، فأطلقت عرائس الجن اسمه على الزهرة وما يلحقها في نوعها من زهرات فجعلوا اسمها «نارسيس»، ومعناها النرجسة. فكلما رأيت نرجسة - أي قارئي الكريم - فارفق بها، واعلم أنك تبصر فيها رمزا نسجته يد الطبيعة؛ تخليدا للمرء يحب نفسه حبا قد يودي به إلى الفناء.
كنت أتوهم، قبل الأسبوع الذي عشته بغير مرآة، أن اللحى تنبت على وجوه الرجال كارثة أصيب بها الرجال؛ لأنهم بين اثنتين إما أن يطلقوها أو يزيلوها. فإن هم أطلقوها ذوائب تنوس على صدورهم؛ نفرت منهم جموع الغانيات، ثم ... ثم إذا أنت أطلقت للرجال لحاهم؛ فأين يكون الفرق بين الكواسر والرجال؟ وإن هم تعقبوها بالحلق كل صباح؛ فيا له من عناء موصول لا يدري فداحة رزئه إلا الرجال!
ولم أدر إلا خلال ذلك الأسبوع أن اللحى فضل من الله ونعمة ... «وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها» ... هي فضل من الله ونعمة؛ لأنها ذريعة يتوسل بها الرجال لينظروا إلى وجوههم في المرآة كل صباح. فلا بأس على المرأة إن هي استهلت يومها بالنظر إلى مرآتها لتطمئن على جمالها. لكن ماذا عسى أن يصنع الرجل المسكين، وقد عد عارا أن يطمئن على جماله؟ بماذا يبرر أمام ضميره وأمام الناس نظره إلى المرآة، بحيث لا تشوب رجولته شائبة من التخنث والتأنث؟ هي اللحية أطال الله بقاءها، هي اللحية التي تبرر لك أن تجلس إلى مرآتك كل يوم، فيسبق إلى وهم الناس أنك حلاق بريء عن الهوى، أملت عليك الصناعة مواضعات المجتمع وضرورة العيش بين الناس؛ لأن الناس - لسبب لا أدريه - يريدون للرجال أن يبدوا بأوجه ملساء. أما الحق الذي لا مراء فيه ولا خداع، فهو أنك تجلس أمام مرآتك كل يوم، حبا لنفسك وإعجابا بها. ومن ظن أني أفترى على الرجال كذبا؛ فليختلس نظرة إلى رجل جالس إلى مرآته ليحلق لحيته، فسيراه يلوي عنقه يمنة ويسرة في عجب وإعجاب، ويربت بيده على خده في رفق وحنان، بل فيما يشبه العشق والهيام.
والناس في هذا العشق يختلفون درجات؛ فمنهم من يشبه «روميو»، ومنهم من يصور «المجنون». ولست أدري كم أغرم قارئي هياما بنفسه، فأحب أن أسأله: كم صورة لك علقتها على جدران دارك؟ وكم منها قد وضعته على المناضد ليطل على الزائرين في ابتسامة الظرفاء؟ وفي أي إطارات مزخرفة، مزركشة قد وضعت تلك الصور؟ أحب أن أسأله: كم تأخذك هزة الفرح الخفي الخفيف حين ترى نفسك - عند الطرزي مثلا - معكوسا في كثير من المرايا في وقت واحد، فتتلفت إلى نفسك هنا وهنا وهناك وعلى شفتيك ابتسام. حتى إذا ما أقبل الطرزي أو صبيه نظرت إلى الأمام في تجهم خفيف؛ لتوهم القادم أنك رجل جاد مع نفسك صارم، تضن عليها بكل ما ينم عن حب وإعجاب. هذه فطرة في نفسي لا أكتمها، ولا أظن أنك كاتم. ولقد ظللت حينا طويلا من الدهر، أغالب هذه الفكرة من نفسي، فلا أجلس أبدا أمام آلة التصوير، حتى اضطرني القانون أن أصور نفسي لتتم الشروط لجواز السفر. لكني ما كدت أبصر نفسي مصورة على الورق؛ حتى أخذت أطيل النظر إليها. أضع الصورة في غلافها ثم أخرجها لأعيد إليها النظر، ثم لم أملك سوى أن أعود إلى المصور ليرسمني مكبرا اثنتي عشرة مرة دفعة واحدة!
إنه لتعجبني من أجدادنا الأولين صراحة لم تعرف خداعا ولا رياء. فإذا ما أحسوا في فطرتهم شهوة أشبعوها، وأطلقوا لها السراح. ففيم كتمان ما فطرنا الله عليه؟ كان هؤلاء الأجداد الأولون يرون صورهم معكوسة على الماء أو غيره من صقيل الأجسام، فيحبونها كما يحبون أنفسهم بل يحبونها لأنهم يحبون أنفسهم، ثم لا يكتمون هذا الحب. فيغارون على تلك الصورة ويشفقون عليها من اعتداء الأعداء، فيحيطونها بالطلاسم والرقى؛ حتى لا ينال منها سحر الساحرين، فلا فرق في عالم السحر بين المرء وصورته. وإن أعز المرء صورته فقد أعز نفسه، والحق أن أجدادنا هؤلاء كانوا يحارون لهذا الازدواج العجيب لنفوسهم، فما الجسم وما صورته؟ أين الحقيقة منهما وأين الخيال؟ أيكون هذا الازدواج من قبيل ازدواج الأرواح وأشباحها؟ إذن فليوضع في قبر الميت صورة له أو صور، وتمثال له أو تماثيل، حتى لا يحرم في غربته من هذا الحبيب ورفقته.
ونحن نحب نفوسنا إلى هذا الحد، بل إلى أبعد من هذا الحد، ثم نخفي ونستحيي!
الصديق مرآة صديقه، كما يقول شيكسبير. قد كنت أفهم هذا القول فهما صبيانيا تافها قبل ذلك الأسبوع الذي عشته بغير مرآة. كنت في سذاجتي أظن أن شاعر الدنيا بأسرها إنما أراد بقوله هذا أن يدلني هذا الصديق أو ذاك عن رباط الرقبة؛ أهو في موضعه أم ينحرف قليلا إلى يمين أو يسار؟ وبذلك يكون الصديق مرآتي إذا عزت المرآة! أو كنت إذا أوغلت في الفكر والنظر أظن أن الشاعر إنما أراد بقوله إن الصديق يدل على نوع صديقه، كما تدل الصورة على شكل صاحبها، على نحو ما يقال عندنا: قل لي من تعاشر أقل لك من أنت. لكني حين افتقدت المرآة في ذلك الأسبوع فلم أجدها، تنبه في ذهني معنى آخر؛ أني أريد الصديق كما أريد صورتي، أريدهما معا لأثبت وجودي! لست بالموجود الكامل حتى أراني معكوسا في جسم آخر، ولست بالموجود الكامل حتى أجد الصديق الذي أتحدث إليه فيجيب، فيكون في جوابه انعكاس لروحي كما يكون في الصورة انعكاس لوجهي على صفحة المرآة. إنني أنظر إلى السماء والأرض وما بينهما فلا أجد في كل ذلك شيئا واحدا يدل على وجود العين التي ترى! ... لولا أني أراها معكوسة في المرآة! ... كذلك أعيش وأحيا، أحس وأفكر، وأنعم وأتألم، دون أن أجد شيئا واحدا يدلني على وجود هذا الذي يحس ويفكر وينعم ويتألم ... لولا أني أراه - أي أرى نفسي - معكوسا في إنسان يجاوبني حين أوجه إليه الحديث! يا إلهي، كيف تكون الحياة بغير سمر وحديث؟! أبعد هذا ألوم من يمتنع عليه المسامر فيحدث نفسه؟! يا ليت شعري هل خلقت حواء إلى جنب آدم ليتم بوجود اثنين كلام، فتتم الحياة؟
يتحدث الصديق إلى صديقه ليسمع بأذنيه برهان وجوده، وينظر المرء إلى صورته في المرآة ليرى بعينيه أنه هناك كائن بين الكائنات .
Unknown page
نحن إلى هذا الحد البعيد نحب أنفسنا، نحب أن نراها مصورة بالكلام المنطوق والرسم المرقوم ... ثم نخفي ونستحي!
والأمر في الأمة كلها كالأمر في الفرد الواحد. تريد الأمة إن كانت تجري في عروقها دماء الحياة، تريد أن ترى صورتها مرقومة وأن تسمع صوتها منطوقا، له في نفوس الآخرين رجع وترديد. وعرف الناس ذلك الطبع في جبلتهم، فراحوا لأنفسهم بالريشة يصورون وبالقلم يكتبون، حتى إذا ما تقاطر الناس إلى جدران المتاحف، وجدوا الصور، صور نفوسهم، أخرجتها لهم ريشة المصور، أو قلبوا صفحات الكتب، وجدوا الصور، صور نفوسهم، دبجتها لهم يراعة الكاتب. والأمة التي ترى صورتها معكوسة على جدران المتاحف، مبسوطة على صفحات الكتب، لا يساورها القلق على وجودها؛ فها هي ذي نفسها مرسومة مرقومة على مرأى منها ومسمع.
ونحن كسائر الأمم، إلى هذا الحد البعيد نحب أنفسنا، ونحب أن نراها بالعين ونسمعها بالأذن، لكننا نخفي ونستحيي!
وإذا لم يكن بنا من إخفاء أو استحياء؛ فقل لي بربك: أين مرآتنا التي نرى فيها أنفسنا معكوسة مصورة، صامتة أو ناطقة، وإن بيننا لأدباء ومصورين، وإنهم على فنهم لقادرون؟
رفعت القلم الآن، وأمسكت عن الكتابة لحظة، ونظرت خلال نافذة ضيقة على يميني إلى الأفق البعيد، فصورت لنفسي أدباءنا في قصر منيف، يقلبون كتبا ويفحصون أوراقا لعلهم واجدون ما يصلح غدا أن يكون مقالة! ... وأمام القصر ميدان واسع فسيح، زاخر بجموع الشعب الحاشدة. وقد تحلق أفراده في الزحمة جماعات جماعات؛ فلاح القرية والشيخ والعمدة، مأمور المركز والحارس وضابط البوليس، طالب المدرسة والأستاذ والناظر، كاتب الديوان والحاسب والرئيس، الكواء والحذاء والساعي، والكناس والبواب وبائعة اللبن، الحبيبان اللذان التقيا بين أعواد الذرة في الريف، والحبيبان اللذان التقيا في ظلمة السينما في المدن؛ لأن الشعب لا يعترف بالحب ولا يعرفه. وإلى جانب هؤلاء وأولئك جماعات من طير وقطط وكلاب، وبعوض وذباب، وثيرة وأبقار.
ازدحم الميدان الواسع الفسيح بهذه الجموع الحاشدة الزاخرة، محتجة صاخبة، وليس احتجاجها هذه المرة على صعوبة المناهج في المدارس، ولا على كثرة ساعات العمل في مراكز البوليس، ولا على درجاتهم المالية التي اضطربت وأصبحت في حاجة إلى التنسيق والتنميق. لكنها احتجت تريد هذه المرة ما هو أخطر من ذلك، تريد أن تطمئن على وجودها، تريد لأنفسها الرسم والتصوير.
إننا لنحس في أنفسنا حبنا لأنفسنا، وإن أدباءنا على فنهم لقادرون، لكننا نخفي ونستحيي!
شبكة الصياد
صبت صديقتي الشاي في قدحي، فتناولته ساهما ساكنا، وأخذت أتحساه على مهل، وكأنما بدا على وجهي ساعتئذ شرود الفكر، فسألتني، قالت: ماذا دهاك؟
قلت: إنه اليوم الأول من شهر فبراير. إنه يوم مولدي.
Unknown page
قالت: إذن؛ فهو يوم تفرح فيه، فما لي أراك قد بترت حبل الحديث وأخذك الوجوم؟
قلت: لا، ليس ما بي من وجوم، إنما هي خلقة طبعها الله على وجهي، فأبدو واجما ولست بواجم.
قالت: لكنك شطحت بفكرك في السحاب.
قلت: بل سرحت به دبيبا على هذه الأرض، كررت به راجعا عشرين عاما، إلى العام الذي أتممت فيه دراستي العالية، واستعرضت في مثل اللمح بالبصر كل ما كان، وكنت قد بدأت أحاسب نفسي.
قالت: أعد لي ما دار في رأسك، لأبدأ معك حسابك لنفسك.
قلت: كان البحر مضطربا، وكانت السماء مكفهرة دكناء، حين خرجت بشبكتي أقصد الصيد، وكان معي فريق من الزملاء، حملوا شباكهم على أكتافهم؛ إذ كانوا كذلك إلى الصيد يقصدون.
خرج الصيادون جماعة واحدة، يحملون شباكهم، كل قد حبك الشبكة حبكا يتفق مع وجهة نظره فيما يراه أنفع في الحياة وأجدى، وكل لا يكاد يدري شيئا عن شبكة زميله. فكان الصيادون في جملتهم يعتقدون أن الشباك قد تقاربت نسجا وحبكا. فإن اختلفت عيونها سعة وضيقا، وإن تباينت خيوطها شدة وضعفا؛ فاختلافها في رأيهم يسير على كل حال، لن يؤدي إلى تفاوت كبير فيما يصيدون؛ لذلك لم يكن بينهم يومئذ حسد ولا حقد، ولم تدب في نفوسهم يومئذ شحناء أو بغضاء، حتى لقد ذهب بهم الوهم الجميل إلى الإيمان بأنهم سيظلون أحبابا أصحابا؛ فقد أخرجتهم إلى الصيد قرية واحدة، وأسكنتهم تلك القرية منازل متجاورة متقاربة.
أقلعت الزوارق بجماعة الصيادين من مكان واحد عند الشاطئ ، ثم أخذ الموج المضطرب الهائج يباعد بينها. فهذا زورق يمضي قدما في خط مستقيم، وذلك زورق ينحرف ذات اليسار، وثالث يتجه إلى اليمين، ورابع لم يكد يسبح قليلا حتى ارتطم بالصخر ووقف حيث كان.
وها أنا ذا، يا صديقتي، أصور لنفسي جماعتنا، وقد عادت إلى الشاطئ بعد رحلة الصيد.
قالت: فماذا رأيت؟
Unknown page