أشخاص الرواية
1 - فندق حملة السلاح
2 - المؤامرات
3 - مكتبة لوم
4 - أحد أبطال هذه السيرة
5 - غرام وسياسة
6 - بلاط فرنسوا الثاني
7 - في أمبواز
8 - القتال
9 - جيز وكوندة
10 - موعد غرام يتحول إلى بعثة سياسية
11 - مجلس الملك
12 - كيف فاز أمير كوندة مرة ثانية على الدوق دي جيز
13 - ما وراء طبع الكتب المهيجة من الخطر
14 - ليلة جميلة
15 - صديق لجاليو
16 - في التصويرة التي نبهت فضول دي مزغونة
17 - العاشق الجديد
18 - مجلس الأعيان
19 - فرنسوا الثاني
20 - الملك في باريس
21 - كلام الملك
22 - الدوق والكردينال
23 - فراش ملك فرنسا عند احتضاره
24 - جثة فرنسوا الثاني
25 - سياسة الملكة الوالدة
26 - جاليو
27 - الدوق دي جيز والملكة كاترين
28 - أحد الشعانين
29 - الاستيلاء على روان
30 - إخلاص ترولوس
31 - خادم الدوق أو حاكم بايو
32 - طلق ناري أخير
خلاصة
أشخاص الرواية
1 - فندق حملة السلاح
2 - المؤامرات
3 - مكتبة لوم
4 - أحد أبطال هذه السيرة
5 - غرام وسياسة
6 - بلاط فرنسوا الثاني
7 - في أمبواز
8 - القتال
9 - جيز وكوندة
10 - موعد غرام يتحول إلى بعثة سياسية
11 - مجلس الملك
12 - كيف فاز أمير كوندة مرة ثانية على الدوق دي جيز
13 - ما وراء طبع الكتب المهيجة من الخطر
14 - ليلة جميلة
15 - صديق لجاليو
16 - في التصويرة التي نبهت فضول دي مزغونة
17 - العاشق الجديد
18 - مجلس الأعيان
19 - فرنسوا الثاني
20 - الملك في باريس
21 - كلام الملك
22 - الدوق والكردينال
23 - فراش ملك فرنسا عند احتضاره
24 - جثة فرنسوا الثاني
25 - سياسة الملكة الوالدة
26 - جاليو
27 - الدوق دي جيز والملكة كاترين
28 - أحد الشعانين
29 - الاستيلاء على روان
30 - إخلاص ترولوس
31 - خادم الدوق أو حاكم بايو
32 - طلق ناري أخير
خلاصة
شهداء التعصب
شهداء التعصب
رواية تاريخية وقعت أكثر حوادثها في فرنسا على عهد فرنسوا الثاني ملك فرنسا المتوفى
سنة 1560م
تأليف
ميشيل زيفاكو
جمع وترجمة
نقولا رزق الله
إذا التعصب نادى القوم واجتمعوا
يوما وأيقظ فيهم نائم الفتن
أفنوا خيارهم قتلا وتهلكة
وصيروا الجهل فوق الدين والوطن
أشخاص الرواية
فرنسوا الثاني:
ملك فرنسا، ولد في 1544 ومات 1560 (وهو بكر هنري الثاني وكاترين دي مدسيس).
فرنسوا، دوق دي جيز:
أخو الكردينال دي لورين.
كردينال دي لورين:
وهو شارل دي جيز.
لويس دي بوربون:
أمير كوندة، وزعيم البروتستانت.
أنطوان دي بوربون:
أخو أمير كوندة.
حنة دالبرت
Jeanne d’Albret :
ملكة النافار زوجة أنطوان دي بوربون وأم هنري الرابع المولود في بو
.
بارون دي باردليان:
من رجال الدوق دي جيز
Guises . (جود فروا) لارنودي
La Renaudie :
زعيم مؤامرة بروتستانتية، قتل في سنة 1560.
لافيرة:
كاتب سر لارنودي.
ماري ستيوارت:
زوجة فرنسوا الثاني.
كاترين دي مدسيس:
والدة فرنسوا الثاني.
دوق دي مونموراتسي:
أكبر قواد فرنسا.
نيكول بوصه:
صاحب فندق حملة السلاح.
ديانا دي بواتيه
Diane de Poitier :
دوقة فالنتينوا، حبيبة هنري الثاني.
أسقف بلدة شارتر
Chartres .
فيكونت شارتر.
يعقوب لوم:
صاحب مكتبة في مدينة أورليان.
مادلين:
ابنة يعقوب لوم، بروتستانتية.
برنار أفنيل:
محام باريسي، بروتستانتي.
مرسلين:
زوجة برنار أفنيل، كاثوليكية.
جاليو دي نرساك:
كان طالبا في السربون.
برنابا مرفزان:
معلم ومن أساتذة السربون.
جان بلترو، دي ميرة:
بروتستانتي.
ترولوس دي مزغونة:
منقذ جاليو من باردليان.
الآنسة دي ليمول.
للمان دوزي:
سكرتير لكردينال دي لورين.
مسيو دي برسان:
حاكم سجن الباستيل.
دي جليس:
جاسوس الدوق دي جيز وأخيه الكردينال على أمير كوندة
Condé .
بول دي رشيان.
اللورد تروكمارتو:
سفير إنكلترة.
الأميرال دي شاتيليون:
كاثوليكي.
دوق دي نافار:
حاكم بلدة أمبواز المحصنة، التي حصلت فيها مذبحة البروتستانت في 1560، ثم معاهدة أمان في 1563، وهذه المذبحة سابقة المجزرة سان برتلماو في 1572.
مدام بورتو:
زوجة الرئيس الأول لنيابة نانت.
الفصل الأول
فندق حملة السلاح
كان فندق حملة السلاح الواقع بجوار مدينة نانت، يملكه رجل يدعى «نيكول بوصه» يختلف بأخلاقه عن سائر الرجال كما كان يختلف فندقه عن بقية الفنادق التي في مدينة نانت.
ونانت مدينة تبعد عن باريس ثلاثمائة كيلومتر إلى الجنوب الغربي منها، وقد يزيد سكانها عن مائة وخمسة وعشرين ألفا.
وكانت في عهد هذه السيرة؛ أي في سنة 1560، مشهورة بزخارفها، وتوفر أسباب التأنق فيها.
أما فندق «حملة السلاح» فهو بناء قديم ينتهي تاريخه إلى القرن الرابع عشر، وهو سميك الجدران ضخم الأبواب المغطاة بالمسامير الغليظة، وكانت نوافذه مشبكة بقضبان الحديد كنوافذ سجن أو قلعة منيعة أو حصن حصين.
وكان «نيكول بوصه» صاحب الفندق، مفاخرا به معتزا ولا اعتزاز ملك الفرنساويين بقصر اللوفر .
وكان يقيم في الفندق قبله رجل دأبه المراباة؛ أي إعطاء ماله بالرباء الفاحش، يتعيش بفضل ديونه. ثم باع الفندق إلى ماروك «بوصه» عم نيكول، وكان يلقب نفسه كذبا بالقائد مع أنه لم يلبس لباس الجند قط حتى مات عام 1551.
فما عتم أن أبصر سكان تلك الناحية رجلا بادن الجسم طويل القامة أحمر الوجه والشعر، زري اللباس، تلوح عليه أمارات الخبث والشر والفقر المدقع، لكن معه أوراق صحيحة تشهد بنسبه إلى عمه، وتثبت حقه في وراثته، وكان هذا الرجل «نيكول» الذي لم تذرف عيناه دمعة واحدة على ضريح ذلك الفقيد الذي ترك له كل ما ملكت يداه من دنياه.
واراه الثرى ولم ينبس بكلمة تقوم مقام تأبين للميت أو وداع للراحل، لكنه مضى إلى بيته؛ أي إلى ذلك البيت الذي ورثه عن عمه الفقيد، فعمد إلى مخزن المئونة والقوت يتعهده بعناية لا مزيد عليها، ويحقق النظر في محتوياته.
ووقعت يده على زجاجات عديدة ملأى بفاخر النبيذ وعتيق الخمر، كاسية بالغبار لتقادم عهدها، شاهدة بأن الفقيد - المنتقل إلى رحمة ربه - كان من أشد المخلصين في خدمة «باخوس» إله الخمر ورب المسكرات والسكر.
فافتض «نيكول» أختام بعض هاتيك الزجاجات، وذاقها مرارا وتكرارا ليعدل في الحكم لها أو عليها، ويبدي رأيا صالحا في جودتها أو رداءتها، فتمشت الخمر في مفاصله، ودبت في عظامه وأوصاله، ومما لا ريب فيه أن العم «ماروك» كان يفعل فعله، لو أتيح له أن يحل محله، أو لا يموت قبله.
فقضى نيكول أياما ثمانية وهو شعبان ريان، نئوم، ممتلئ البدن لحما وشحما، طيب العيش، متناس هموم دنياه ومتاعب حياته. إلا أنه بعد طول البحث وفرط التنقيب في كل مكان من ذلك الفندق لم يجد سوى ريالات عشرة تسرب إليها الفناء بالإنفاق وصارعها البلى، فالاضمحلال رويدا رويدا، وهكذا راحت سكرته وجاءت فكرته.
فكان أول ما فكر به هو أن يبيع البيت الموروث، لكنه ما لبث أن ذكر مبيته فيما مضى تحت القبة الزرقاء، فأنفت نفسه عودا غير أحمد إلى ما كان فيه من الضنك والتشرد وسوء الحال، فعقد نيته على حفظ الميراث والحرص على الفندق أو البيت.
وبعد ذلك بأسبوعين رفع فوق الباب عنوانا عليه هذه الكلمات: «فندق حملة السلاح».
فلم يتهافت عليه أحد من العملاء، ولم يقبل إليه أحد من القصاد؛ إذ يستحيل أن يزهد المسافرون من التجار أو المسافرات من الغيد الحسان في فنادق مدينة نانت، وهي الفخيمة الأنيقة الزاهية الزاهرة، ويبادروا إلى فندق «حملة السلاح» وموضعه من البلد أقصى ضواحيها على ضفاف نهر اللوار.
إلا أنه لم يطل الزمن حتى نشأت لذلك الفندق البعيد مكانة عند العاشقين ورجال الجندية. يؤمه الأولون هربا من أعين الرقباء والحساد، ويقصده الآخرون لأنه أفضل مكان للمبارزات الخفية والمشاجرات.
ولم يكن عدد أولئك القصاد كثيرا، إلا أنهم على قلتهم كانوا يدفعون الأجرة الكبيرة ولا يساومون.
فلما كان مساء اليوم الثامن من شهر فبراير (شباط) سنة 1560 ونيكول يتأهب لإغلاق أبواب فندقه، متذمرا من سوء حالته وقلة توفيقه، شاكيا حرمانه منذ أسبوعين، طرق سمعه وقع حوافر جواد، وما لبث أن رأى فارسا طويل القامة قد وقف ببابه وصاح: ألا يوجد أحد في هذا المكان؟
فلم يجب نيكول، بل بقي واقفا وراء الباب يحقق النظر إلى القادم، وتلك كانت عادته؛ أي إنه لا يفتح الباب لأحد إلا بعد أن يرقب حركاته وسكناته.
ولعله سر بذلك الفحص والتأمل؛ لأنه فتح الباب ورفع قبعته مسلما وقال للفارس: أرجو عفوا من مولاي، وعذرا عن تأخري، فقد كنت مشغولا عنه في بستاني.
قال: ويك، خذ فرسي وأعد لي عشاء.
قال: هل يأكل مولاي؟
أجاب: نعم. ما توافيني به.
قال: هل يقيم مولاي زمنا طويلا في مدينة نانت؟
أجاب: ذلك لا يعنيك.
قال: عندنا في هذه النواحي آثار جميلة جليلة.
قال: صه يا مهذار واعتن بجوادي! وتعال فالحق بي إلى القاعة الكبرى، فلي كلام معك.
وكان الرجل الغريب يتكلم بلهجة لا تدع مجالا للجدال. فاقتاد نيكول الجواد إلى الإصطبل ولاحظه فإذا هو جواد كريم الأصل، سرجه موشى بالذهب، فقال في نفسه : لا جرم أن الرجل سيد عظيم، سيد عظيم أتى إلى فندقي! إذن فله شأن سياسي أو غرامي، ولكن ما لي وهذا أو ذاك؛ إذ لا يهمني من أمره إلا أن يكون كيس نقوده ضخما!
ولما عاد إلى فندقه قال للمسافر: أي حاجة لمولاي؟
قال: أعندك خادم في بيتك؟
أجاب: بل عندي اثنان أيها المولى.
قال: هما شيخان أو فتيان؟
أجاب: أحدهما شيخ، والآخر فتى.
قال: إليك ريالا لكل منهما. فدع الشيخ يمضي ويشرب، والفتى يعدو للقاء عشيقته، فلست بحاجة إلى أحد سواك ها هنا.
فصدع نيكول بأمر الضيف، ثم عاد إليه، فوجده جالسا إلى النار، وقد أشرق منها الضوء على وجهه فبان كأنه في الأربعين من عمره، حديد البصر، طويل الشاربين، أقنى الأنف، قوي البنية، إلا أن أمارات الكآبة بادية عليه. فلما رفع بصره إلى نيكول وقف هذا متهيبا، وقال: إن خادمي قد ذهبا، وأقفلت الباب، ولم يبق هنا أحد إلا أنا وأنت يا سيدي.
وبعد هنيهة قال الرجل المجهول: أأنت من يدعى نيكول بوصه؟
أجاب: نعم، أنا نيكول بوصه دون غيري من الناس، أنا هو بعينه، صاحب فندق حملة السلاح، وخادمك المطيع.
قال: أنت ابن أخي ماروك؟
أجاب: نعم كان ماروك عمي، فوا حسرتى عليه.
قال: أما وقد تحققت أن اسمك نيكول، فهلا علمت أنك تستوجب الشنق؟
فارتجفت ساقا نيكول وقال: يا رباه! أنا أستوجب الشنق؟ ولماذا؟
قال: ألم يقتل هنا «المسيو دلاشسناي» في مبارزة منذ شهرين؟
أجاب: لقد كانت والله مشاجرة لا مبارزة. مشاجرة صغيرة يا مولاي!
قال: ألا تأتي إلى هنا «مدام بورتو» زوجة الرئيس الأول لنيابة نانت؟
أجاب: نعم، وتأتي أيضا سيدات كثيرات إلى هنا.
قال: أليس هذا المكان الذي يستقبل فيه «اللورد تروكمارتو» سفير إنكلترة جواسيسه وأرصاده؟
فلم يحر نيكول جوابا إلا أنه تصاغر واستكان.
فقال الرجل الغريب: لقد علمت يا مسيو نيكول أنني مطلع على شئونك. فلو أنبأت بها نائب الملك لتيسر لي أن أطوق عنقك وأصفد يديك، إلا أنني لست من أهل الشر ، فنم مطمئن القلب، وإنما تذكر في هذه الليلة عندما يمتد ستر الظلام أن فندقك هذا يكون لي أنا دون سواي.
قال: وإذا أتاه مسافرون فماذا أصنع؟
أجاب: سوف يأتيه مسافرون فتأذن بدخول كل من علقت بقبضة حسامه شريطة سوداء من الحرير.
قال: وماذا أفعل إذا جاء غير هؤلاء؟
أجاب: تمتنع عن قبولهم، وتقول لهم أن ليس في فندقك مكان خال لهم.
قال: لن أفارق بابي أيها المولى.
قال: والآن أرشدني إلى غرفتي، وهات لي عشائي.
فأنزل نيكول الرجل الغريب في أحسن غرفه، وطلب إليه أن يلاحظ متانة الأقفال والنوافذ وسمك الجدران، ثم هيأ له عشاء فاخرا، واستأذن منه بعد أن أكد له إخلاصه. وهنا لا يتوهم القارئ أن نيكول أوى إلى مضجعه؛ لأنه مضى إلى مطبخه وقعد يعاقر الراح ويأكل طعامه وهو يقول: قاتل الله جوزيف اللعين - وجوزيف اسم الطباخ الذي يشتغل في مطبخه - فإنه أهمل قدر الطعام حتى نضج أكثر مما ينبغي له، وهذا الضيف الذي نزل بي الليلة راغب في الانفراد منتظر بعض أصدقاء له، يود الانفراد بهم والتحدث معهم، فهو لا يمكن أن يكون من أصدقاء الملك، ثم إن هذا الشيطان يعرف عني أشياء؛ يتهمني بوقوع حوادث قتل في فندقي، ولكن هل يكون الذنب في ذلك ذنبي أنا؟ أليس عنوان المحل فندق حملة السلاح؟! ورجال الحرب لا يكونون عادة من الملائكة المحبين للسلام، ولا أنكر أن قصة سفير إنكلترة وجواسيسه قد تسوء «المسيو دي جيز» إذا اطلع عليها، وأخشى أن يحمله حب الانتقام على شنقي.
ونظر نيكول إلى سقف مطبخه، وقد علق فيه لحما مقددا بحبال ثخينة تهتز في الفضاء، فقال: إني أفضل رؤية هذا اللحم المقدد يتأرجح فوق رأسي على أن أهتز أنا في أعلى مشنقة، ولسوف أطلب إلى اللورد تروكمارتو سفير إنكلترة عندما يأتي إلى هنا أن يبتعد، إلا إذا كان كيسه منتفخا جدا.
وما زال نيكول يسأل نفسه ويشاورها حتى انتهى به التأمل إلى هذه النتيجة، قال: إن الضيف الذي نزل عندي يعرف أخباري كما أني أجهل أخباره، فهو أقوى مني. فيجب علي أن أستطلع شئونه لأساويه في قوته.
وصعد الدرج مستمهلا حتى وقف أمام باب غرفة الرجل، عازما على معرفة ما يكون منه، وكانت ثقوب أبواب الغرف كلها واسعة، فأبصره نيكول جالسا على كرسي من خشب السنديان يطالع كتابا مجلدا بقطيفة سوداء، وتمكن نيكول من أن يقرأ على القطيفة هاتين الكلمتين: التوراة المقدسة.
فلما انتهى الرجل من القراءة أخذ يتمشى في الغرفة، ثم حل الحبل عن هميانه، وتناول منه شيئا عرف نيكول أنه إطار (برواز) لتصويرة رجل، فتفرس فيها فرآها مشابهة لضيفه، إلا أن المصور فيها أشقر الشعر وضيفه أسوده، فجعل الرجل التصويرة على خوان، وسمعه نيكول يقول: وا حسرتاه عليك يا جسبار! ولكن قر عينا وأنت في ضريحك، فسوف أنتقم لك!
ونظر الرجل الغريب إلى تلك التصويرة مليا، ثم أخذ يتمشى في الغرفة وهو يظن نفسه منفردا، فكان يتكلم بصوت مرتفع، ويقول: لقد تجرأتما يا مسيو دي جيز، ويا أمير لورين على مهاجمة أشراف الفرنساويين، كان لي عديل أحبه كما يحب الوالد ابنه، وكنا تزوجنا شقيقتين، ولا قرابة بيننا غير تلك، إلا أننا متشابهان خلقا كأننا أخوان، فلم تكتفيا بقتله، بل عذبه الملازم «ميشال فيلار» بأمركما، فأزهق روحه وهو يعاني عذاب الاستنطاق، وقد آن وقتي يا فرنسوا دي جيز، كنت أتردد في قبول ما يقدمه إلي الأمير، أما الآن فإن البغضاء تحول دون ترددي، ولا ينقضي شهر واحد حتى أكون قد انتقمت لحبيبي جسبار، وأنقذت الملك وفرنسا من هذه السلالة اللعينة، سلالة جيز.
ولم يفهم صاحب الفندق معنى ذلك الكلام تماما، إلا أنه ارتعدت فرائصه؛ لأن ما سمعه دله على أن ضيفه عدو للدوق دي جيز، وما من أحد في ذلك العهد إلا وهو يرهب فرنسوا دوق دي جيز، وزير الملك الشاب، بل المتسلط على فرنسا أكثر من الملك فرنسوا الثاني، ومن امرأته ماري ستوارت، أو من والدته الملكة كاترين دي مدسيس، ولم يكن من أحد إلا وهو يخشى سطوة ذلك الدوق إلا إذا كان متصفا ببسالة نادرة.
أما فرنسوا الثاني، وهو الذي جرت على عهده حوادث هذه السيرة، فهو بكر أنجال الملك هنري الثاني وكاترين دي مدسيس، ولد سنة 1544 وتوفي سنة 1560، وتزوج بماري ستوارت سنة 1558، وتبوأ عرش فرنسا سنة 1559، وجده «فرنسوا الأول» الوارد خبره في الرواية الموسومة «بدار العجائب»، وفي الرواية التالية المسماة باسمه.
الفصل الثاني
المؤامرات
لم يقع في اليوم التالي حادث من شأنه أن يؤثر في نيكول بوصه صاحب فندق حملة السلاح. فإن الرجل الغريب بقي في غرفته، وتناول الخادمان ريالين جديدين منه، واسترسل نيكول في تأملاته.
لكنه لما أمسى المساء أخذ يتمشى أمام فندقه، فأبصر رجلين غريبين على غمدي سيفيهما شريطة سوداء من حرير فاستقبلهما، وقال: نزل أمس عندي ضيف لا شك في أنه من أصدقائكما.
فقالا معا: هل أتى؟
أجاب: نعم، وهو رجل غريب الخلق، إذ قدمت إليه أجود خمرة عندي فلم ينطق بكلمة شكر.
وإذا بقائل يقول: اذهب يا نيكول إلى نهر اللوار، وانظر إذا كان قد تحول عن مجراه، ثم عد فأخبرني.
فانثنى نيكول فأبصر الرجل الغريب، وقال: إن نهر اللوار لا يتحول عن مجراه، وإذا تركت الفندق فمن يستقبل صديقيك؟
فأجابه: أنا أستقبلهما.
فأدرك نيكول ألا فائدة من الجدال، وقصد إلى البرية وهو يلعن سوء خلق الرجل الغريب، فقد طرده وقتما كان يأمل أن يسمع أشياء مهمة، وهو يحب سماع مثل تلك الأشياء حبا جما، ولا يعد استطلاعه فضولا، بل رغبة في الوقوف على أحوال بلاده، وهو أوضع منزلة من أن يعد نفسه من أهل السياسة والمؤامرات والتحزب على الحكومة والأحكام، إلا أنه يحب المتحزبين والمتآمرين كما يميل آخرون إلى الموسيقى. وطالما دارت المفاوضات السرية في فندقه وشهدها أو سمعها بفضل شقوق الأبواب وحدة أذنيه.
كانت المنافسة والمقاتلة دائرة رحاها في ذلك الزمن بين طائفتين هما الكاثوليك والبروتستانت، ونيكول لم يكن ينتمي إلى طائفة منهما إلا حسبما تقضي أحوال الجمعيات، وبين كبار الناس، ومن كان مثله فهو لا يلام على تذبذبه، وفيما كان يبتعد عن الفندق سمع أحد الرجلين يقول للرجل الذي جاء أولا: أنحن هنا في موضع آمن؟
فأجابه: نعم؛ لأن صاحب الفندق مغفل يخشي المشنقة إذا أخبر بوجودنا هنا، فلا خوف من هذا القبيل. أما العسس فلا يتجرءون على الخروج من مدينة نانت. وإذا أفلح أصدقاؤنا في الخروج منها دون أن يبصرهم أحد أمكننا التفاوض ونحن مطمئنون.
وقال أحدهم: إني أرجو ذلك يا مولاي، ولكن ...
قال: تكلم! أي شيء تخافه يا «لافين»؟
قال: أخشى أن يكون بين الحضور أحد الخائنين.
قال: ما هذا الكلام؟!
أجاب: لسوء الحظ أننا لسنا جميعا بروتستانتيين؛ لأن بعض المعاهدين كاثوليكيون، وهم لم يدخلوا المؤامرات إلا لشدة كرههم للدوق دي جيز.
قال: إن كرههم للدوق دي جيز خير ضامن لأمانتهم ووفائهم لنا.
وكان المتكلم بهذا الكلام رجلا قصير القامة، أسمر اللون، مظلم الوجه، لامع البصر.
وتكلم الرجل الذي دعاه «لافين» بمولاي، قال: إني واثق من كرهك للدوق دي جيز؛ ولذلك ضربت صفحا عما فرط منك في الماضي مما لا يليق برجل شريف أن يفعله يا «بلترو».
فقال المدعو بلترو بلهجة كآبة: أنت ناكر الجميل يا مولاي لارنودي، بل أنت شبيه بسائر الناس في ذلك. فهل أذكرك بما جرى لك في حصار متس يوم كدت تقتل لولاي؟ وهل تلومني لأنني قمت بالواجب المفروض علي إذ تجسست أخبار الأعداء لمصلحة الملك؟
فأجابه لارنودي بعظمة، قال: لم أنس شيئا، ولكن إذا شئت مني نسيان جاسوسيتك الماضية فسر منذ اليوم سيرة جندي لا جاسوس. والآن فلنتأهب لملاقاة أصدقائنا.
وبعد هنيهة أقبل آخرون إلى الفندق فأدخلهم لافين، وكانوا يتجهون إلى لارنودي، ويتلفظون بهاتين الكلمتين وهما «مع الملك» فيجيبهم لارنودي بقوله: «على أمراء لورين»، حتى بلغ عدد القادمين ستة عشر، كل منهم ينوب عن ولاية من ولايات فرنسا. فلما تم عددهم جميعا أمر لارنودي أن يتكلم أصغر الحضور سنا. فنهض أحدهم وقال: أظنني أصغركم سنا، فأنا أطلب إقامة العدل بالنيابة عن طائفة الكلفينيين، واسمي بول دي رشيان من أشراف موفان.
فظهر الاستحسان على الحضور ، وقال لارنودي مع معرفته للرجل: ما هي شكواك؟
أجاب: كان لي أخ فرنساوي من كرام الفرنساويين وشرفائهم، قتله الكردينال دي لورين إذ سلط عليه ثلاثة آلاف غلام، وقد مزق بدن أخي، وسحبت أحشاؤه على أرض الشوارع، وطرح فؤاده للكلاب، وضرب الجمهور تلك الحيوانات التي أبت أكله. فأنا أطلب موت الكردينال دي لورين!
قال: كم جنديا لديك؟
أجاب: عندي ألفا رجل كلهم متأهب لسحق الكاثوليكيين المقيمين في بروفانس يوم إعلان الثورة والانقلاب.
ونهض بعد بول دي رشيان هذا شريف آخر اسمه مونبرون، فآخر اسمه ماليني، فشرحا حالة الشاكين في البلاد وفي مدينة ليون، ووعد كل منهما بأن يقدم خمسمائة مقاتل أو ألفا. ثم أخذ كل موفد من كل ولاية يتكلم عن حالة الشعب مفصلا أسباب البغضاء التي يضمرها للدوق دي جيز البروتستانتيون والكاثوليكيون من أهل ولايته.
ثم نهض لارنودي، وقال: مهما يكن من تباين أسباب كرهكم فأنتم جميعا أعداء للدوق دي جيز؟
فأجابوه جميعا بقولهم: نعم!
قال: إن آل جيز قد استخدموا نفوذهم الأول على الملك المتوفى هنري الثاني ليزوج ابنة أخيهم ماري ملكة إيكوسيا بالملك فرنسوا الثاني، وهم بفضل رابطة هذا النسب قد أحاطوا بالملك، وصاروا حاكمين باسمه.
فقال الحضور: هذا صحيح!
قال لارنودي أيضا: ثم إن الكردينال دي لورين قبض على مالية البلاد، ثم أخذت رئاسة الجيش من «الدوق دي مونمورانسي» وسلمت إلى الدوق دي جيز، واضطر ملك النافار إلى الابتعاد عن البلاط، وأصبح الخطر محيقا بأمير دي كوندة، واستفحل اضطهاد البروتستانتيين، حتى باتوا لا يأمنون على أرواحهم إذا سمعوا العظات الدينية، وحدث في العام الماضي أن عضوا من النواب، هو مستشار «بورج» قد صدر عليه حكم بالموت، لا لسبب غير أمياله المذهبية، فقامت أوروبا واحتجت على الحكم، إلا أن ذلك المستشار أعدم. وها قد صودرت أملاك المصلحين وبيعت بنصف ثمنها إلى الوشاة والجواسيس، ولا ينقضي زمن قصير حتى تنتشر أحكام النفي في جميع فرنسا، فإذا لم نصد تيار البغي الذي يهددنا الآن.
فنهض «بلترو» وقطع كلام الخطيب قائلا : ذلك ليس بغيا، وإنما هو ملكية جديدة تتهيأ أسبابها! فأنتم لا تعرفون «فرنسوا دي جيز» حق المعرفة. إن الفرنساويين كيفما كانت أميالهم المذهبية يجلون الملك ويحترمونه غير مكترثين لضعفه وصغر سنه. أما آل «جيز» فليسوا بفرنساويين، وليست فرنسا في نظرهم إلا بلدا قد افتتحوها، وما الملك بين أيديهم إلا ألعوبة يلعبون بها. أما إذا انقلبت هذه الألعوبة إلى آلة تحول دون مطامعهم فهم يلاشونها ويصيرونها عدما.
وفيما كان بلترو يتكلم، زال ما كان قد خامر نفوس السامعين من ريب، وكانت عينا بلترو تلمعان، وكأنه ينطق عن وحي وإلهام، وتولى الحضور ارتياع حقيقي عندما شهر بلترو خنجره، وقال: لنقسم جميعا على قتل الدوق دي جيز إذا التقى أينا به!
فأجابه الحضور: إننا نقسم.
فقال لارنودي إذ ذاك - وقد ارتاح إلى ما سمع من بلترو الجاسوس القديم: اعلموا أيها السادة أن الخطر جسيم، ولا بد لنا من تلافيه قبل استفحاله. وقال بول دي رشيان: من نصيرنا في البلاط؟
فأجابه لارنودي: نصيرنا رجل عظيم يساوي الدوق دي جيز رفعة شأن. أمير لا أستطيع ذكر اسمه، ولكنكم تعرفونه جميعا.
قال: لعله ملك النافار؟
فأجاب لارنودي: ليس لملك النافار إرادة.
قال: إن زوجته ذات إرادة كافية.
أجاب: نعم، إن زوجته «حنة دالبر» امرأة نبيلة، وإنما تحتاج أعمالنا إلى زعيم قدير غير بعيد عن عرش فرنسا.
قال: إذن فمن الزعيم؟
أجاب: قلت لكم إنني لا أستطيع أن أسميه، غير أن اسمه على كل الشفاه، فتلفظ الحضور باسم «أمير كوندة» بصوت منخفض.
فقال لارنودي: لقد بعث إلي ذلك الزعيم الذي أشرت إليه بالإيضاحات اللازمة مع «المسيو دي ميرة» فهو يروم أن تكون ظواهر أعمالنا موسومة بالصدق. والبلاط الآن في نواحي بلوا. أما جنودنا فلا بد من اجتماعهم في طوران في أوائل شهر مارس، وإذ ذاك نهاجم البلاط، ونقدم إلى الملك عرضا، نسأله فيه طرد الدوق دي جيز وأخيه الكردينال دي لورين، فيأبى آل جيز السفر، ويومئذ نقبض عليهم، وننقذ الملك وزوجته ووالدته من أسر هذه الأسرة.
ولو تمكن لارنودي عندئذ من أن يخترق ببصره ظلام الليل لأبصر رأس «نيكول بوصه» مطلا من كوة للفندق. فإنه ذهب إلى ضفاف اللوار كما أمر؛ ليتحقق أن ذلك النهر لم يتحول عن مجراه، ثم رجع إلى فندقه فدخله من باب سري محجوب بالأدغال في بستانه حتى وصل إلى سنديانة وراء مطبخه، فتسلقها وقعد على أحد أغصانها الضخمة فسمع كل ما قيل في ذلك المجتمع، وشهد تلك المؤامرة التي كانت أساسا للحرب المدنية التي قامت في القرن السادس عشر، وامتزجت فيها السياسة بالدين.
وشعر نيكول بفؤاده يخفق شديدا من حنقه على الدوق دي جيز بعدما سمع ما سمعه لتدبير تلك المؤامرة التي لو كانت لأشياع الدوق دي جيز لتشيع للارنودي والبروتستانتيين، لكنه استرسل وقتئذ في أمياله الطبيعية، وجعل يسأل نفسه: كيف يستطيع صبرا مدة شهر حتى يرى النتيجة؟
وكان لارنودي قد شهر سيفه، وصاح بالحضور: بغيتنا الانتقام! فليمت آل جيز! فليمت الغرباء!
وجعل الحضور يصرخون: «ليمت فرنسوا دي جيز! فليمت الكردينال دي لورين!»
وقال لارنودي: احضروا جميعكم بعد شهر إلى طوران.
فأجابوه على الفور: سنكون فيها.
ثم قال: بعد شهر تأتي ساعة الانتقام!
وإذ ذاك رأى نيكول المتآمرين يرحلون عن الفندق بحذر، فركب بعضهم الأفراس، وسار بعضهم مشيا على الأقدام إلى شمال مدينة نانت. ثم لم يبق في الفندق إلا لارنودي وبلترو ولافين. ففكر نيكول وقتئذ في الظهور لهم بعد احتجابه. فنزل عن السنديانة، ولقي أضيافه فقال لهم بلهجة السذاجة: لقد تحققت أيها السادة أن نهر اللوار لا يزال.
فقال له لارنودي: اذهب وأعد جوادي للرحيل؛ لأني مسافر بعد ساعة.
وأحضر نيكول الجواد، ثم صعد فأنبأ ضيفه بأنه صدع بأمره، وخرج الثلاثة من الفندق بعد أن ربط لارنودي هميانه بعنق الجواد، وقال لبلترو: أتسافر إلى باريس؟
أجاب: كلا، وإنما إلى أورليان.
قال: هل أخبرك الأمير عن المكان الذي ينتظرني فيه؟
أجاب: إن الأمير يكون في باريس بعد خمسة عشر يوما عند باب «القديس أنطوان» ساعة الغسق.
فأطرق لارنودي هنيهة، ثم قال: لقد أسأت استقبالك في هذا المساء يا مسيو بلترو، ولم أكن أعرفك بعد، فأطلب منك صفحا، وهات يدك! قال: إليك يدي! قال: لا بد من أسباب خطيرة تحملك على كره الدوق دي جيز.
أجابه: إنه عدو بلادي ومذهبي الديني، فأنا لذلك أكرهه.
قال: أما من سبب شخصي يحملك على كرهه؟
أجاب: لا.
قال: وما رأيك فيما لو كان الدوق دي جيز سببا في مقتل واحد من أقربائك أو امرأة حبيبة إليك؟
أجاب: إذن لكنت أقسم على أنه لا ينجو من يدي.
قال: أصغ إلي يا مسيو بلترو. إني أجهل ما خبأته لي الأقدار، ولكن إذا فاجأني الموت فهل تنتقم لي كما لو كنت قريبك، وهل تقسم لي على ذلك؟
فنظر بلترو إلى لارنودي مليا، ثم أجابه: أقسم لك؛ لأنك أول شريف من البلاط رضي بأن يرى أني غير جاسوس.
ثم افترق الثلاثة فسلك بلترو طريق إنجر وسار لارنودي مع لافين، وكان هذا كاتم سره، في طريق مانس بعد أن ألقى إلى نيكول بكيس مملوء ذهبا، وقال له: إذا حدثت أحدا بما رأيت الليلة فاذكر كلامي أنني أكون وسيلة إلى شنقك.
فأجابه نيكول بأنه من أهل الكتمان، وأخذ يعد الدنانير ويدسها في جيبه، وقبل أن ينام في تلك الليلة طفق يحدث نفسه، ويقول: لا جرم أن النار ستضطرم في باريس، وما إخال الدوق دي جيز المسكين إلا مشرفا على العطب؛ لأن هؤلاء المتآمرين أشراف قادرون، ورجال لا يشربون خمرا، ومع ذلك فقد دفعوا إلي ذهبا كثيرا أجرة ليلة صرفوها في فندقي، وجميعهم ميممون باريس مقيمون فيها.
وهنا توقف نيكول لحظة، وكأنما خطر له خاطر مفاجئ، فقال: لو أن عمي ماروك ترك لي بيتا في باريس بدلا من هذا الفندق الحقير الذي غادره في نانت، إذن لكنت ...
إلا أنه لم يتم جملته، بل قال: ماذا الذي يمنعني من الرحيل إلى باريس؟ أبيع فندقي هذا وأسافر إليها.
الفصل الثالث
مكتبة لوم
كان «مخزن يعقوب لوم» عبارة عن مكتبة كبيرة عامرة بالمؤلفات الشعرية والفلسفية والأدبية ، يتردد إليها رجال البلاط، فيطلبون منها مؤلفات كليمان ماروت ورونزار في الموسيقى، ومؤلفات رابليه وإتيان دولي في الفلسفة، وغيرها من الكتب التي كانت متداولة في ذلك العهد، والمكتبة ليست بعيدة عن الكنيسة الكبرى، لها باب فخم، وقد نضدت في إحدى شرفاتها الكتب النفيسة تنضيدا محكما يرى منه المارة أسماءها على جلودها.
ومن حسن حظ يعقوب هذا أن كاترين دي مدسيس، الملكة الوالدة، كانت تحب الشعر والشعراء، وأن بلاط الملك كان حافلا بالأدباء؛ ولذلك أثرى يعقوب وجمع مالا كثيرا، وكان رجال البلاط يعاملونه غير معاملة التجار؛ لأنه من أهل العلم، ويكرمونه إكرامهم لكل شاعر وكاتب في ذلك الزمن، وصدق فيهم قول من قال: «إن الناس على دين ملوكهم.»
إلا أن ألسنة الأشرار تناولت الكتبي المسكين، فزعموا أن لجمال ابنته مادلين يدا في ثروته، وقال أحد الوعاظ إن يعقوب لوم إنما اغتنى؛ لأنه الكتبي الوحيد الذي رضي بأن يبيع نسخا من التوراة لأهل المذهب البروتستانتي. ومما لا ريب فيه أن حانوت يعقوب كان حاويا كتبا كثيرة، وأن ابنته كانت كذلك ذات حسن باهر.
وبعد انقضاء ثلاثة أيام على الحوادث التي جرت في فندق حملة السلاح كان يعقوب لوم جالسا إلى مكتبه ينظر في مسودات طبعة جديدة لديوان الشاعر بونسار (المتوفى سنة 1585) فسمع وقع حوافر جواد، فرفع رأسه وأبصر مسافرا يترجل عن فرسه أمام باب الحانوت، ويقول له: حياك الله يا لوم!
فصاح يعقوب لوم طربا: أهلا وسهلا بك يا بلترو!
وبلترو هذا من الذين كانوا في فندق حملة السلاح، كما مر بك.
وتصافح الرجلان، ولبثا صامتين، وكل منهما لذ له التأمل في وجه صديقه، وكان بلترو يحب يعقوب لوم، وقد اقتنى قبلا من مكتبته تلك الكتب التي تبحث في أحوال مذهبه الجديد، وكان يعرف في يعقوب إخلاصا للمذهب البروتستانتي، وأنه لا يذهب لحضور الصلاة عند الكاثوليك إلا ليستميل إليه أبناء المذهب الكاثوليكي، وقد رآه ينصت إلى وعظ البروتستانتيين، ويبدي غيرة حقيقية شهد له بها أهل مذهبهم، وفضلا عن ذلك فإن جان بلترو هذا كان يحمر وجهه كلما نظرت إليه مادلين لوم بعينيها الزرقاوين. فهو لا يمر بأورليان إلا وينزل ضيفا على الكتبي، وطالما جاءه بكتب من تخوم البلاد الفرنساوية عملا بأمر أمير كوندة أو دي كوليني، وهي كتب كلها طعن على الدوق دي جيز، وبعد أن طال الصمت قال يعقوب لوم: هل حدث كل ما كنا نأمل؟
فأجابه: نعم. - أي موعد موعدكم؟ - أوائل شهر مارس (آذار). - من تسلم القيادة؟ - لارنودي. - هل كان الأمير في جملة الحضور؟ - كأنه كان، ولكنه لم يظهر للناس. - ماذا يكون إذا تم النجاح؟ - سيتم النجاح بلا شك. - وماذا يفعلون بآل جيز؟ - وهل من وسيلة غير قتلهم؟ - إن قتل إنسان أمر فظيع. - نعم إلا إذا كان عدوا مضرا. - سوف يثور الشعب في باريس. - لذلك يجب إخبار الشعب وإثارته على آل جيز. - ذلك أمر عسير. - لا ينبغي أن توجد صعوبات عندما يراد تعضيد الديانة الحقيقية. على أن الأمير يثق بك ويعتمد عليك. - فماذا أفعل؟ - عليك أن تطبع من هذا الكتاب بضعة آلاف نسخة. وأخرج من صدرته كتابا مخطوطا، وسلمه إلى يعقوب، فقرأ في أوله هذه الكلمة «النمر».
فقال: يوجد نمران لا نمر واحد، وكل منهما سفاح فتاك؛ لأنني أظن المراد بكلمة النمر أسرة لورين.
أجاب: نعم.
ونظر نظرة في الكتاب، وقال: أأنت واضعه؟
أجاب: نعم، أنا وضعته بأمر الأمير.
قال: إذن سوف أنشره.
فأجابه بلترو: أشكرك بالنيابة عن ديانتنا المقدسة.
وإذ ذاك فتح باب في داخل الحانوت، وظهرت فتاة أقبلت على أبيها يعقوب فقبلته، ثم انثنت إلى بلترو فحيته دون أن ترفع بصرها إليه. فحياها بقوله: سلام على مادلين البديعة الجمال!
فقالت: أنت يا دي ميرة لا تفتأ تتملق وتطري.
أجاب: كلا أيتها الآنسة، وأنت تعلمين أن يوما أراك فيه لهو عندي من أيام السعادة.
وكأن مادلين لم تسمع كلماته، ولا ندري هل ساءتها تلك المباسطة أم كانت تود أن تسمع مثلها من غير ذلك الرجل؟ وكانت مادلين معتدلة القامة، نجلاء العينين، لابسة ثوبا أبيض يظهر اندماج أعضائها، وحسن تركيب بدنها الغض، وكانت جميلة المنظر لطيفة الحركة، ما رآها بلترو مرة إلا ظل كالأبكم أمامها غير متجرئ على مطارحتها الحب خوفا من أن يلقى صدا ونفورا، فيفقد آماله وأوهامه السارة.
وصرف بلترو نهاره وقد طابت له فيه محادثة يعقوب لوم عند خلو الحانوت من العملاء، كما لذ له النظر إلى مادلين عندما تكون أمامه. فلما كان المساء قال الرجل لضيفه - وقد جلسا إلى المائدة: لقد طالعت كتابك. قال: ما رأيك فيه؟ أجاب: إنه مهيج مثير. فقال: ذلك خير وأبقى؛ لأن النتيجة تكون كبيرة.
وسمعت مادلين هذا الكلام، فقالت: رحماك يا أبت، إنك في غنى عن نشر هجاء يسوقك إلى مواقف الخطر.
فأجاب: إن الدفاع عن مذهبنا يقضي علينا بركوب المخاطر.
قالت: لا أنكر ذلك، ولكنك تقدم أكثر من سواك. فما هذا الكتاب؟ ومن المقصود به؟
أجاب: إنه الدوق دي جيز.
قالت: بحقك يا أبي لا تطبعه؛ لأن الدوق دي جيز ذو بطش وسلطة، ولا يمكن أن ينجم عما تفعله إلا الضرر الذي سيقع علينا.
فارتعد بلترو وقال: ما كنت أحسب أن ابنة يعقوب لوم تتشيع للدوق دي جيز.
أجابت: مهلا يا مسيو بلترو، ولا تتسرع في الحكم، فإنني لا أتشيع للدوق دي جيز، ولم أره قط، ولا أحبه، ولا أحتقره، وإنما غرضي أن أدفع عن والدي خطرا محيقا به، ونفسي تحدثني أن في هذا الكتاب المهيج ضررا كبيرا يلحق به.
فقال يعقوب: اطمئني يا بنية فلن يدري أحد بأن هذا الكتاب صدر من عندي، ومتى تم طبعه أسلمه إلى المسيو بلترو، فيأخذه ولا يبقى عندي منه إلا نسختان أخفيهما عن كل إنسان.
فصمتت الفتاة، وتناولوا العشاء وهم سكوت. فلما كان الليل استأذن بلترو من يعقوب وابنته، وركب جواده بعدما رنا إلى مادلين رنو عاشق، ثم اتجه إلى باب المدينة ليسافر إلى باريس. فقال له يعقوب: متى تعود إلينا؟
أجاب: ليلة مباشرة المشروع.
وسمعت مادلين هذا الجواب. فلما رجعت إلى الحانوت قالت لأبيها: عن أي مشروع تكلم المسيو بلترو؟
أجاب: عن أمر ليس بذي بال. عن كتيبة يجمعها ويعدها للنضال.
قالت: حذار يا أبت فإننا قوم صغار، وأراك تتعرض لأمور هي من شأن رجال بلاط الملك كأنك سيد عظيم. فأنت تطبع كتب القوم وتبيعها، مع أن كل ما تمتلكه من مال إنما جاء من كتابات الكاثوليكيين، لا من تلك الكتب البروتستانتية.
أجاب: أصبت يا بنية، ولا أنكر أن ثروتي جاءت من نشر الكتب الكاثوليكية، غير أنها مصدر متاجرة، ولكن لا يحق لي أن أعرض عن اعتقادي الحديث، ولئن وجب علي أن أقضي في سبيل الانتصار له، أو أفقد ثروتي ومكتبتي فإني مستعد. فلم تحر مادلين جوابا؛ لأنها هي نفسها كانت متعصبة للمذهب البروتستانتي.
ثم إن يعقوب لوم اشتغل قليلا في مكتبته، ثم صعد مع ابنته إلى الطبقة العليا من البيت وفيها غرفهما، وبعد هنيهة أطفئ نور المصابيح، وساد السكون التام على المنزل. •••
أما جان بلترو فمضى يسير راكبا غير مسرع، وفيما هو خارج من مدينة أورليان ليسلك طريق باريس أبصر فارسين قد وصلا إلى باب المدينة وطلبا الدخول، فقال لهما الحارس: إن الدخول ممنوع إلا بجواز.
فاستاء أحد الفارسين، وقال: لقد تأخرنا.
فأجابه رفيقه: مهلا يا مولاي، فالأمر يسير، وما علينا إلا أن أستأذن من ضابط الحراس بالمرور. - لست أود أن يدري أحد بوصولي إلى مدينة أورليان. - ولكن ما من وسيلة لنا يا مولاي غير هذه الوسيلة، وما إخالك تود أن تقضي ليلتك تحت السماء. - افعل يا جيلو ما تراه مناسبا، وإنما استوثق من الضابط بالكتمان.
ولم يسمع بلترو محادثة الرجلين، لكنه أدرك مرادهما، ودهش لما رأى الضابط يخرج من مكتبه مبادرا إلى خدمة الرجل، آمرا الحارس بفتح الباب.
فقال في نفسه: يا للعجب من فارسين يأتيان إلى أورليان ليلا، وتفتح لهما أبوابها بغير جواز، وبمجرد أن يعرفهما الضابط المتولي الحراسة.
وأطرق بلترو يفكر. فلما مر الفارسان به عاد فلحق بهما. وسار الفارسان في الطريق الذي سار فيه قبلا عندما فارق بيت الكتبي، فقال في نفسه: أراهما ذاهبين إلى الشارع الذي كنت فيه، ولا ريب عندي في أن هذين الفارسين من رجال البلاط، ويشبه أحدهما، ولكن لا! فذلك غير ممكن. فإنه لا يرحل عن بلوا، ولا بد للملك من وجوده هناك.
وإذا به قد اضطرب؛ لأن الفارسين وقفا بباب مخزن الكتبي يعقوب لوم، فترجل أكبرهما عن جواده وساق رفيقه الجوادين إلى زقاق قريب، وكذلك ترجل بلترو وربط جواده عند عطفة شارع، وتمشى ملاصقا جدران البيوت حتى دنا من حانوت الكتبي، فاختبأ عند باب هناك وانتظر.
وأحس بحركة خفيفة كأنها إشارة، ثم أضاء نور على شرفة نافذة مادلين لوم، وسقط سلم من حبال إلى الشارع، فقبض الرجل على السلم، ووثب إلى غرفة الفتاة مسرعا، إلا أن ضياء المصباح أنار وجهه فعرفه بلترو، فجعل يده على الجدار كي لا يسقط مغمى عليه، ثم قال بصوت خافت: يا للداهية هذا فرنسوا دي جيز!
وثار الدم في وجه بلترو فجرد سيفه، وركض إلى البيت، فتعلق بالسلم حتى وصل إلى الشرفة، وهم بدخول الغرفة أيضا، وإذا بالدوق قد خرج منها وقتئذ، وضربه ضربة شديدة على رأسه، ثم طرحه إلى الشارع.
الفصل الرابع
أحد أبطال هذه السيرة
كان «برنار أفنيل» محاميا بارعا مقيما في باريس في بيت أنيق، وقد ترك له والده أطيانا ومالا، فزاد برنار المال والأطيان بجده واجتهاده، وكان من أهل الجد والإقدام، متزوجا من امرأة فتانة المحاسن اسمها مرسلين إلا أنها كانت طائشة تحب الملذات والمسرات.
وكان برنار قد ناهز الخمسين من عمره، أما زوجته فكانت دون العشرين سنا، ولا ندري كيف رضي بالاقتران بها، أو رضيت هي بالاقتران به، غير مراعيين ما بينهما من تفاوت في السن والخلق، إلا أنه كان يهواها، وإن لم تكن تهواه فلم يمنعها ذلك من تدبير شئون منزله كما يجب.
وعلاوة على كل اختلاف بينهما كانت هي كاثوليكية، وهو بروتستانتيا، وهذا الخلاف كان خطير الشأن في ذلك الزمن (وللأسف ما زال كذلك للآن).
ولبثت مرسلين عدة شهور تتضجر من الذهاب وحدها إلى الكنيسة إلى أن كان أحد الأيام ؛ إذ أبصرت في الكنيسة شابا من الأشراف حسن المنظر يرنو إليها باسما، ويقدم إليها الماء المقدس، فقالت في نفسها: خير لي ألا يكون زوجي معي، وكانت قد تلقت تربية حسنة، فما لبثت أن تناست ذلك الشاب ولم تفكر فيه، حاسبة أن الأشراف لم يخلقوا لمن كانت مثلها؛ لأنهم يميلون إلى السلوان والنسيان، ولا يعرضون عن سيدات البلاط إلا حبا في التنقل أو ضجرا منهن، ثم لا يلبثون إلا وقتا قصيرا حتى يرجعوا إليهن. فقالت في نفسها: لئن قدر علي أن أتزوج ممن لا أحبه، فإني أستطيع أن اختار لي حبيبا لا يجب أن يكون من طبقة الأشراف.
وفي ذات يوم ذهبت لتحضر صلاة العصر في يوم عيد، ولما انتهت الصلاة همت بالانصراف لكي لا تدع زوجها ينتظرها طويلا، وعندما أوشكت أن تطبق كتابها الصغير رأت ورقة زرقاء قد سقطت عليه، وعليها شريط ذهبي، وكلمات قليلة علمت أنها من محب عاشق يطلب ودها.
فقالت في نفسها: من يكون هذا الوقح الذي تجرأ على أن يكتب إلي؟ ولم تشأ أن تقرأ تلك الرسالة الغرامية، لكنها ما لبثت أن قالت: لا بد من معرفة ذلك المجرم لأعاقبه على اجترائه. ثم قرأت ما فيها، وإليك نصها:
أيتها السيدة النبيلة
على مقربة منك، في موضع خاف عليك، إنسان يرقب نظرة من نظراتك.
فقالت: لا شك أنه غبي من أهل بلاط الملك، ونهضت لتخرج من الكنيسة. فلما وقفت قرب جرن الماء المقدس اصفر وجهها، ولم تجسر على التقدم؛ لأنها أبصرت فتى واقفا أمامها باسطا إليها يده بذلك الماء، فقالت في نفسها: إنه لصاحب الرسالة التي قرأتها.
على أن ذلك الشاب لم يكن من أشراف حاشية الملك، وإنما هو طالب يتلقى العلم في كلية سوربون، واسمه «جاليو دي نرساك»، وكان طويل القامة، هزيل الجسم، صغير الرأس، أزرق العينين، أشقر الشعر، وكأنه فتاة بحسن وجهه، وكان رفاقه في المدرسة يدعونه «الوجه الصبيح». وقد درس اللغتين اليونانية واللاتينية، وكانت أسرته تنوي إلباسه طيلسان الراهب، أو ثوب الحاكم؛ لأن أباه مات في حصار «متس» وكان له أخوان قتلا في المبارزة، وكان أخوه الأكبر مقيما مع والدته في الريف يخاصم جيرانه، فرأت الوالدة المسكينة أن تجنب ولدها الباقي لها حمل السلاح؛ لأنه أصغر بنيها وأحبهم إليها، فأشفقت عليه أن يصيبه ما أصاب أخويه من قبل. فعهدت بتربيته إلى الأستاذ «برنابا مرفزان» من أساتذة كلية السوربون، وكان رجلا عالما إلا أنه سكير يحب اللهو والطرب. فلزمه «جاليو دي نرساك» وكان في بدء أمره تلميذا مجتهدا، غير أن مدة اجتهاده لم تطل أكثر من ثلاثة شهور، وأحب جاليو دروس التاريخ وكره سائر العلوم، وكان في أكثر الأوقات يناوئ العسس ويعاكسهم، ويبادر إلى سماع الوعظ عندما يعلم أن هنالك فتيات حسانا من البروتستانتيات، ويزاول لعب الحكم بالسيف (المثاقفة)، وكان أستاذه برنابا يغض الطرف عنه، وفي بعض الأحيان يشاركه في مسراته، إلا إذا تهور فيها تهورا كبيرا.
ولما رأى جاليو «مرسلين» شغف بها، فهجر دروسه ولذاته، وعكف على تتبعها ومراقبتها دون أن تشعر به. فمنذ ذلك اليوم صارت تراه في طريقها، وكان لطيفا رقيقا، شديد الاحترام والحياء حتى عطفت عليه وجرأته على الاقتراب منها، فأقسم لها يمين الوفاء حتى جعلها تحنث باليمين التي أقسمتها لزوجها.
وكان يحدث في ذلك العهد أمور دينية ذات شأن شغلت برنار أفنيل عن سلوك زوجته؛ لأن البروتستانت بدءوا يشرحون التوراة، ويجدون فيها كل يوم ما يوجب القضاء على بلاط فرنسا، والكردينال دي لورين، وأخيه فرنسوا دي جيز. وكان رجال طائفة البروتستانت يجاهرون بما تكلم به المجتمعون قبلا في فندق حملة السلاح ملمحين لا يجسرون على إيضاح وإفصاح.
على أن برنار أفنيل لم يكن على رأي القائلين باستخدام الشدة، وإنما يذهب إلى أن الدين لا يقاوم إلا بالشرع، ولكنه لم يتجرأ على مخالفة ذوي الأفكار الثائرة، وكان أبناء الطائفة جميعا يضربون على وتر واحد.
وفي ذات يوم سمع خطب الوعاظ، وخرج قاصدا بيته فأحس بيد وقعت على كتفه، وسمع قائلا يقول: السلام عليك يا برنار!
فأجاب: أأنت هنا يا لارنودي، وقد كنت أظنك مقيما في طوران؟
وكان برنار يميل كل الميل إلى الرجال المنتمين إلى أمير كوندة المفضلين عنده، ولارنودي يحب برنار اعترافا بجميله، لأنه هو الذي ترافع في قضية عديله جسبار مرافعة استحق من أجلها امتنان لارنودي وإن لم تجد جسبار نفعا.
فقال لارنودي: لقد عدت منذ صباح اليوم إلى هنا، ولما كان منزلي مهملا في غيابي فكرت في الإقامة عندك بضعة أيام.
فأجابه: أنت صاحب البيت يا سيدي لارنودي، فأهلا وسهلا ومرحبا بك! - شكرا لك، ولكنني لا أسألك ضيافة بسيطة. - تكلم، أي حاجة لك؟ - إني لفي حاجة إلى استقبال رجل عندك، والاجتماع به ومخاطبته سرا. - قلت لك إن البيت بيتك يا لارنودي، فافعل ما تشاء.
وسار الرجلان في طريق بيت برنار وهما يتكلمان في مواضيع مختلفة ليس لها شأن خاص، محاذرين التكلم في المواضيع الدينية خيفة أن يسمعهما أحد الكاثوليكيين، فلم يتداولا في أمر هام إلا مساء عندما ذهبت مرسلين تعد غرفة للضيف.
فقال لارنودي إذ ذاك: أيها العزيز برنار، إن ديانتنا تعدك من أنصارها، بل من أشدهم إخلاصا، وقد أزف وقت العمل.
فاعترت برنار هزة، وقال: إني متأهب للمرافعة أمام مجلس النواب. - إن مجلس النواب يبغضنا، فصوتك فيه لا يسمع! - إذن أية وسيلة تروم أن أتخذ؟ - أي وسيلة؟ وهل لنا غير القوة؟ - أتدعوني إلى مؤامرة؟ - نعم، وقد تهيأ كل شيء. - ومتى تعلن هذه المؤامرة؟ - في أوائل شهر مارس المقبل. إن بلاط الملك بين أيدي آل جيز، وهم شر أعداء مذهبنا. فلسوف نذهب إلى البلاط، وننقذ الملك منهم. - وماذا تفعلون بآل جيز وأعوانهم؟ - لقد تهيأت أسباب التوفيق، ومن يدري؟ فقد يسقطون قتلي.
فحدق برنار في وجه لارنودي مدهوشا، وقال: أتتجرءون على مهاجمة الدوق دي جيز والكردينال دي لورين؟ - ولماذا لا نفعل؟ - إنهما عمان للملكة ماري. - إن ماري ستوارت امرأة أجنبية، أما زوجها فرنسوا فهو مجرد من الإرادة، وقد انتزعت السلطة من أيدي أمرائنا الشرعيين، فمن واجبات أشراف الفرنساويين أن يقاتلوا في سبيل إعادة السلطة إلى أمرائنا.
فلم يجب برنار . ومما لا ريب فيه أنه كان يحب مذهبه ويفضله على سائر المذاهب، إلا أنه أكبر تلك المؤامرة وخاف منها؛ لأنه كان رجلا مسالما ذا ثروة كبيرة، فبات يسأل نفسه عما يصيبه ويصيب زوجته مرسلين، ووظيفته في مجلس النواب، وأملاكه إذا خسر الثائرون أو المتعصبون، أو إذا علم الدوق دي جيز بأن لارنودي بات ليلة في منزله، وزاره فيه خفية شخص مجهول. ولم يفكر برنار في الاستعلام عن اسم ذلك الشخص المجهول؛ لأنه يعلم أنه لا بد أن يكون عدوا للدوق دي جيز، أو هو شريف من رجال البلاط لا يروم أن يراه أحد في باريس، في حين أنه يظن موجودا في طوران. فلما نهض لارنودي قال لبرنار: إني ذاهب لأبحث عن الشخص الذي يجب علي الاجتماع به عندك، فلا تدع أحدا يقف أمامه أو يبصره عند مروره. فهل فهمت؟
فأحس برنار بالرعدة تسري في عروقه، وفكر يقول: ويحي لقد صرت من المتآمرين على السلطة الحاكمة دون أن أروم ذلك، وهذا بيتي صار ملجأ لزعماء المؤامرة، ويلاه، لو درى مسيو دي جيز بذلك!
الفصل الخامس
غرام وسياسة
وفيما كان برنار أفنيل يرتعد من مجره تفكره في إغضاب آل جيز ومعاداته إياهم، أبصرت زوجته مرسلين الفتى جاليو دي نرساك يتمشى تحت نافذة غرفتها وهو لابس أفخر ملابسه، متقلد خنجرا، يختال عجبا كأنه قائد الحراس، فاحمر وجه مرسلين، وأشارت إليه تحييه. ثم نزلت إلى غرفة المائدة فألفت زوجها حائرا لا يدري كيف يفعل، واستشار امرأته كعادته فصاحت، أيزور بيتك أحد المتآمرين، وتدع القوم يتفاوضون عندك في أمر يضر بالدولة؟ ألا إن في ذلك إضرارا بك من كل وجه، وقد يودي بحياتنا معا، فحذار!
فقال بصوت الخاضع الذليل: إذن ما رأيك؟
قالت: أين الكردينال دي لورين اليوم، أفي باريس؟
أجاب: نعم، وأظنه لم يرجع إلى البلاط.
قالت: اذهب واجتمع به؛ لأنه يريد لك الخير برغم مذهبك السيئ، وأطلعه على المؤامرة، فتنقذ أملاكنا من الخراب، وتنقذ نفسك من القتل والإفلاس إذا لم يفلح لارنودي. - ولكن كيف أصنع إذا درى لارنودي؟ - ومن ذا الذي يخبره؟ - أصبت أيتها الحبيبة، فسوف أذهب غدا فألقى الكردينال دي لورين. - قد يفوت الوقت غدا. - إذن أنت ترين أن أذهب الليلة إلى قصر دي جيز؟ - لا رأي لي، وإنما أبديت فكري لك. - أصبت يا مرسلين، فأنت حكيمة في كل حال، والآن علي بعصاي وردائي، وفضلا عن ذلك، أليس من واجبات رعايا الملك أن يطلعوه على كل مؤامرة مضرة بالدولة؟ ألا عفوا يا مرسلين، فإنني أتركك الآن مرغما؛ لأنني ذاهب إلى قصر دي جيز.
واستصحب خادمه، وخرج من البيت، فاصطدم عند العتبة بجاليو، وكان ينظر إلى النوافذ غير مكترث لمن في الشارع. فقال المحامي: لا شك أن هذا الطالب سكران. فأجابه جاليو بقوله له: أنت أحمق، وجعل يحرك خنجره في غمده.
ولم يتجاوز برنار طرف الشارع حتى كانت مرسلين عند الباب يطفح وجهها بشرا. فتناولت يد الطالب، وقالت له: يا لك من غبي مغفل! قال: لماذا؟ - لأنك أتيت إلى بيتي! - أمن الغباوة والغفلة أن أجيء لأراك؟ - لقد خاطرت بملاقاة زوجي! - إن خنجري معي أيتها السيدة، وهو طويل ماض، وفيه من المضاء ما يكفي لشك رجلين معا. - لا تكلمني عن الخناجر والسيوف يا حبيبي جاليو، فأنت باسل كسائر رجال البلاط. هذا أمر أعرفه، ولكن ليس من شأنك القتال واستخدام السلاح. - ومن يدري؟ فإنني كلما رأيت رجال السلاح مارين أشعر بالدمع يجري على خدي، فما الكتب وعلم الحقوق من شأن أمثالي، بل هي من شأن الجبناء الرعاديد، وهل من حرفة يا مرسلين أفضل من الحب والنضال، أو من النضال والحب؟ - أنت تخيفني بهذا الكلام يا عزيزي جاليو، فلا تعده على سمعي؛ لأنني أخشى عليك الردى. فماذا فعلت اليوم؟ - لقد تغديت عند أستاذي، وتركته ثملا بالخمرة التي أرسلت بها إليه والدتي.
قالت: ثم ماذا؟
قال: ثم شهدت مبارزة اثنين من أصدقائي. - أرجو ألا يكون قد مات أحدهما! - بل أحدهما (بارانس) مشرف على التلف. - وا رحمتاه للمسكين! - الذنب ذنبه. فقد أصر على قوله أن ليس في الوجود امرأة شعرها أشد شقرة من شعر الحسناء مارجو، وأن شعر الفتانة «ليزة» ليس بشديد السواد، وكل الناس يعلمون أن شعر ليزة أشد سوادا من ظلام الليل. - ومن تكون مارجو وليزة أيها الخبير بالجمال؟ - لا تسألي عنهما فإنهما من بنات الهوى. إلا أنهما ملكتان بين بنات طبقتهن، كما أن كاترين وماري ملكتان بين نسوة البلاط.
قالت: أتعرف بنات الهوى يا جاليو؟
أجاب: أليس على المرء أن يعرف كل شيء في الدنيا؟ وذلك قسم من أقسام دروسنا، بل لعله أهم فصل منها برعت فيه. - ثم ماذا؟ - ثم عدت إلى الفندق فألفيت صاحبه غير من عهدت؛ لأن المالك القديم أثرى وارتحل. أما المالك الجديد فقد أتانا من مدينة نانت. - أتراه يكتم السر كسلفه؟ - إنه أصم كحجارة القبور. - الخوف لا يفارقني يا عزيزي جاليو، وأخشى على الدوام أن يشتهر حبي لك، ويبلغ الأمر زوجي فيقتلني، ويقضي على هنائنا وسرورنا. - ومن ذا الذي يجيء باحثا عنك في منزل طالب علم؟ لأنك لا تخرجين من البيت إلا للصلاة والاعتراف. فاحسبيني كاهنا، فإن السيدات ينتظرن عند الكاهن وقتا طويلا ريثما يجيء دور اعتراف كل واحدة منهن. - لا تجدف؛ لأنني أتطير من هذا الكلام.
وسار الاثنان إلى حجرة الطالب، وكانت على بعد خطوتين من كلية السوربون، وكان صاحب النزل ينتظرهما على الباب وقبعته بيده، فقالت: مرسلين لعشيقها ممازحة: ما باله قد كشف اليوم رأسه؟ ترى هل شعره جميل كشعر الحسناء مارجو؟ - يا لك من خبيثة فهل أنت غيرى علي منها؟
ثم مال إلى صاحب النزل، فقال: ما اسمك يا صاح؟
أجاب: خادمك نيكول بوصه.
قال: هات لحما باردا وفاكهة وخمرا جيدة إلى غرفتي. - سوف يرى سيدي رأيه في الخمرة التي وردت علي من غاسقونيا منذ ثلاثة أيام.
وكان نيكول كاذبا؛ لأنه لم يكد يصل إلى باريس، ولم يرد عليه شيء من غاسقونيا كما زعم.
فقال جاليو: أنت تدري يا نيكول أنني رجل محب للوحدة، وأن ما من امرأة دخلت قبلا غرفتي.
أجاب: إني أقسم على ذلك يا عزيزي جاليو . - لست بحاجة إلى القسم، وإنما تذكر فقط!
وجعل جاليو يده على خنجره، ثم لحق بمرسلين، وقد سبقته إلى السلم. •••
ولنعد إلى لارنودي. فقد ترك بيت المحامي بعد أن ثبت لديه أنه ما من رقيب في جوار البيت، ولا من عين ترى رفيقه القادم، فاتجه إلى شارع «سن أنطوان» فوصل إلى باب عند منتهاه، وكانت هناك شرذمة من الفرسان ينتظرونه. فلما وقعت أبصارهم عليه تقدم إليه أحدهم فحياه. فقال له لارنودي: رعاك الله يا روبر دلاهاي، أين الأمير؟
أجاب: إنه هنا، ولكننا لا نود أن ندعه يذهب وحده معك. إن الكردينال دي لورين لا يزال في باريس، ونخشى أن تصادف أحد الأشراف من أعوانه.
قال: إن الكردينال قد سافر في صباح اليوم يا مسيو روبر، فما من خطر يخشى على الأمير إذا أتى معي، وعندي منزل أمن في البلد، أما هذه المواضع الخالية فليست موضع أمن. - إذن أنا ذاهب لأنبئ الأمير بوصولك، وبعد بضع دقائق سار الأمير مع لارنودي، فسارا إلى بيت برنار أفنيل. فلما وصلا إلى عتبة الدار قال الأمير: ألا يرانا أحد؟
فأجابه لارنودي: لا!
قال: ألا يرانا أهل بيت أفنيل؟
أجاب: لقد طلبت منه إخلاء البيت، ولست أسمع صوتا، فلا شك أنه صرف من عنده.
ودخل الرجلان وصعدا إلى المنزل المعد للارنودي، وخلع الأمير رداءه وارتمى على مقعده وهو يقول: ألا تعسا لأمير مثلي، دمه من دم الملوك، ولكنه يضطر إلى الاختباء كأنه مجرم. قاتلك الله يا مسيو دي جيز فإنك تضطرني كل يوم إلى ما لا يجمل بي.
فقال لارنودي: لا يمضي زمن قصير حتى يغدو المسيو دي جيز أسيرا عند مولاي أمير كوندة. ثم خفض صوته وقال: إلا إذا مات دي جيز قبل ذلك: وكان لويس دي بوربون أمير كوندة يومئذ في الثلاثين من عمره، ومن يراه لأول مرة ويتأمل قصر قامته، ودمامة خلقته لا يحسب أنه بطل الحروب التي شهرها هنري الثاني، والزعيم الحقيقي لأتباع مذهب كلفين، والنبيل الظريف المحبوب من سيدات البلاط، والرجل الذي يهاب لحدة فهمه كما يهاب لمضاء سيفه، بل الرجل الذي كان أعداء الدوق دي جيز يعدونه خلفا لذلك الدوق. إلا أن أمارات العظمة والكبر كانت بادية على وجه الأمير، وهو برغم انحناء كتفيه أول فارس في الأقطار الفرنساوية إذا ركب فرسا.
وقال للارنودي: أما الآن وقد صرنا إلى هذه الخلوة، أفلا تحدثني بما جرى لك في سفرك؟
أجاب: لقد وصلت يا مولاي إلى مدينة نانت منذ أيام، وفي وسعي أن أقول لك: إن كل شيء قد تهيأ وتدبر. - هل وصل نواب الولايات؟ - نعم كلهم. - ما عدد جنودنا؟ - ثمانية آلاف أو عشرة آلاف، وحدث ولا حرج عن حماسة زعمائهم وكرههم للدوق دي جيز. - مما لا ريب فيه أن ذلك الدوق المختال لا يعرف للوقاحة حدا، ويكاد يوهم الناس أن منزلة قومه أشرف من منزلة الملوك نسبا. ألا مهلا يا ابن عمي، فقد يمكن أن تمتد إلى السلطة أيدي النساء والأولاد، ولكن لا يزال يوجد في أسرة سن لويس رجال، وأنت يا لارنودي فاعلم أنني لا أحب الشدة والعنف. - نحن آتون لنقدم ملتمسا إلى الملك. - في أي يوم؟ - في يوم 10 مارس (آذار) أو ما يقاربه، ولكن هل يبقى البلاط في مدينة بلوا؟ - الأمر يسير على ما أرى. فإنكم تصلون ليلا، ولا يشرق الصباح بنوره حتى تقبضوا على ابن عمي دي جيز، فتحسنون معاملته كما يليق، وإذ ذاك أتولى قيادتكم، ثم نرى في إرشاد الملك إلى الصواب. أما كاترين والدة الملك فسوف تكون معي. نعم، إن الملك لا يحبني، إلا أنه يحب زوجته، فلا يعصاني طويلا، ثم إن أخي أنطوان لا عزيمة له، فسوف أبقي على أمين الختم وأبعد سن «أندري»، ولكن ما رأيك يا لارنودي، هل تظن أن أشراف البلاط يخفضون رءوسهم أمام رجل أحدب (يعني نفسه)؟
فأجاب لارنودي: يعلم أشراف البلاط يا مولاي أنك سيد نبيل كريم باسل مخلص للملك.
قال: أنت تحب الإطراء يا لارنودي، فإنه لا يكفي لإخضاع بلاط فرنسا أن يكون المرء كريما باسلا، وقس عليه بلاط الوالدة فلورنتين. وثق أن لحسن صورة ابن عمي تأثيرا في القوم، يفوق تأثير بسالته وكرمه، وكاترين لم تحبه؛ لأنه جندي باسل، بل أحبته؛ لأنه ظريف الهيئة حسن الرواء. والنساء يا لارنودي في بلاط كاترين أعظم سلطة من الملك نفسه.
وأجاب لارنودي: نعم، ولكن سلطتهن مقصورة على من يستسلمون إليهن، فلم يجب أمير كوندة.
فقال لارنودي بعد سكوت قصير المدة: أي شأن في الجيش يكون لبلترو؟
قال: أتعني دي ميرة؟
أجاب: نعم، فهو الذي أرسلته إلي إلى نانت ليخبرني بأنك ستكون في باريس في هذه الأيام.
قال: دعه يفعل ما يحلو له.
قال: ألم يكن فيما مضى جاسوسا؟
أجاب: أعرف ذلك، وأهل البلاط يحتقرون الرجل. على أنه أسدى أيادي بيضاء في حصار متس. فهو من كرام الناس وشجعانهم.
قال لارنودي: وهو يبغض الدوق دي جيز بغضا لا يساويه فيه أحد من المتآمرين.
أجاب: ذلك غريزي فيه، وأظنه يقتله إذا تمكن من قتله. فراقبه عند القبض على الدوق، فإنني لا أروم سفك دمه. أما الآن وقد اتفقنا على كل أمر فإني مفارقك يا لارنودي. - دعني أسير معك، وأتولى حراستك يا سيدي. - بل البث عند صديقك أفنيل، فلست بمسافر إلى بلوا غدا صباحا، ولي في باريس شغل خاص. - ألا تنتهي من عشرة النساء يا مولاي. - اسكت، واسأل الله لي توفيقا.
فشيع لارنودي الأمير إلى باب البيت، ونظر إليه وهو يبتعد، فلما غاب عن نظره قال: إن هذا الأمير ما برح شجاعا يصفح عن أعدائه ويهزأ بالأخطار! ألا كن مطمئن القلب يا لويس دي بوربون فإن أصدقاءك ساهرون عليك، ولسوف يفتكون بالدوق دي جيز قبل أن يتمكن من قتلك.
الفصل السادس
بلاط فرنسوا الثاني
لما رجع المحامي برنار أفنيل إلى بيته لم يجد فيه زوجته فتعجب وصاح قائلا: كيف تركت البيت الساعة وأنا في أشد الاحتياج إلى رأيها؟ وبعد قليل عادت زوجته مرسلين، وقالت: لقد كنت في الكنيسة يا صديقي، أسأل الله لك النجاح في سعيك. فما الذي قاله لك الكردينال؟
أجاب: إنه رحل اليوم .
قالت: رحل إلى أين؟ - لقد لحق ببلاط الملك، فكيف العمل؟
ولاح لمرسلين الهناء والحرية من خلال ستور هذا الحادث، فلم تتردد، بل قالت: لا بد من سفرك إلى بلوا فتلقى الكردينال هناك.
وفي اليوم التالي سافر أفنيل فوصل إلى بلوا في يوم أحد، وكان الكردينال وسائر رجال البلاط في الكنيسة. فشاور أفنيل قائد الحراس في أمره فأشار عليه بالانتظار عند باب الكنيسة لعله يرى الكردينال وقت خروجه منها.
وما عتم أن انفتح بابها فانبعث من داخلها عطر البخور والطيوب، وطرقت أذنيه نغمات الأرغن في آخر القداس، وقد علمنا أنه كان بروتستانتيا فغمغم يقول: قبحا لهذا المذهب الذي يشبه مذهب الوثنيين عباد الأصنام.
إلا أنه لم يتمكن من الاسترسال في تأملاته بشأن المذهب الكاثوليكي؛ لأن القداس كان قد انتهى وخرج أهل البلاط من الكنيسة، فأبصر أفنيل شابا لابسا صدرة بيضاء عليها صليب، يتقدم وهو معجب بنفسه. وكان ذلك الشاب فرنسوا الثاني الابن البكر لكاترين دي مدسيس، ولم يبلغ العشرين بعد، ومما يسهل تحققه أنه كان ألعوبة بين أيدي رجلين حازمين هما فرنسوا دي جيز وأخوه الكردينال دي لورين. وكان الملك متهلل الوجه في ذلك اليوم؛ لأنه قد مضى أسبوع كامل لم ير فيه ابن عمه أمير كوندة، ولم يكن فرنسوا الثاني يحب ذلك الأمير، ولسروره سبب آخر، هو أنه أمر باتخاذ الأهبة للصيد، وكان الصيد من ملذات الملك؛ لأنه يستريح في أثنائه من سماع الطعن على البروتستانتيين والكاثوليكيين والثائرين والناقمين، ثم إنه يتمتع وهو في الصيد بصحبة زوجته الملكة ماري.
وكانت زوجته ماري ستوارت ملكة اسكتلندا وفرنسا تمشي وراءه، وقد بهر حسنها الأبصار، وأزرى بحسن كل فتانة من غادات البلاط، وكان شارل نسيبها يمشي إلى جانبها ناظرا إليها نظرات ملؤها الإعجاب.
وكاترين دي مدسيس تمشي وراء كنتها مرتدية السواد، وكأن سواد ثيابها وصمة في ذلك السناء والبهاء اللذين حولها، وما من أحد يستطيع أن يحزر عمر كاترين. فقد كانت ذات حسن بقي فتانا؛ لأنها رشيقة القوام، لها جيد ناصع البياض ، ويدان طالما حسدتها كنتها ماري ستوارت على بياضهما وصغرهما. ثم إنها كانت متأنقة في لبسها الأسود، تنخفض أبصار عظماء المملكة أمام بصرها، ولم تكن تدعى أم الملك، بل الملكة الوالدة. فتقدمت تمشي بين أجمل حاشية من حواشي الملكات في العالم، وبين نسائها «ديانا دي بواتيه» و«أميرة كوندة» و«دوقة دي جيز» و«مدام ديانا» ابنة هنري الثاني غير الشرعية، وغيرهن من السيدات. أما الرجال فكانوا يمشون وراء كاترين ونسائها، وفي مقدمتهم أمراء لورين، والغطرسة والكبرياء ظاهرة على وجوههم، وحركاتهم شاهدة بعظم سلطتهم. فلما رأى «أفنيل» موكب السيدات والحاشية ضاع رشده فلم يتجرأ على مخاطبة الكردينال دي لورين، ولم يفق من ذهوله وخجله حتى أبصر بين الجمهور صديقا له اسمه للمان دوزي، وكان سكرتير الكردينال، فكلمه، وبعد هنيهة أدخله ذلك الصديق مكتب الكردينال، وكان عنده أخوه فرنسوا. فقال أفنيل: أرجو عفوا من مولاي الكردينال، فما أقدمت على مقابلته إلا لأمر خطير يتعلق بحياته. - بحياتي أنا؟ - نعم، وحياة مولاي الدوق.
فقال الدوق: وهل يوجد من يتجرأ على مؤامرة ضدي، بل ضدنا؟ فأجابه أفنيل: نعم يا مولاي.
قال: إذن سأصدر أمرا إلى ملازمي بإعداد بعض المشانق للمتآمرين. - وا أسفاه، إن بعض المشانق غير كافية. - ما معنى هذا الكلام يا أفنيل؟ - ليست المؤامرة المدبرة مكيدة يسيرة يراد بها اغتيال، وإنما هي مؤامرة كبيرة. - أظن أن القائمين بها من طائفة البروتستانت، تلك الطائفة اللعينة التي تحاول رفع رأسها. ألا فلتحذر! إن رءوس الرعايا إذا ارتفعت كثيرا أمر الملوك خدمهم المخلصين بقطعها.
وقال الكردينال: لا تنس يا أخي أن المحامي أفنيل بروتستانتي.
أجاب: أعرف ذلك حق المعرفة، فهو الذي رافع في قضية جسبار ديهو عديل لارنودي المخلص لأمير كوندة.
وهنا تفرس في وجه أفنيل وقال: لعل أمير كوندة في جملة أولئك المتآمرين؟
أجاب: أجهل ذلك يا مولاي.
قال: عجبا لك يا أفنيل وأنت البروتستانتي التقي الذي هاجمني بلسانه مرارا كيف جئت اليوم تكشف لي سر تلك المؤامرة الموجهة ضدي أكثر مما هي ضد الملك؟
أجاب : لا أنكر يا مولاي أنني بروتستانتي. إلا أنني - قبل كل اعتبار آخر - من رعايا جلالة الملك الأمناء، ومن طباعي أنني أكره العنف، ولذلك أنبأتك آسفا بما علمته، فلا تسألني عن أكثر من هذا البيان، فقد فعلت ما يجب علي والسلام.
وهم بالانصراف فقال له الدوق: بل البث ها هنا. إن في وجودك في باريس خطرا يقع عليك، ثم إنك لم تطلعنا على كل شيء. فمتى يكون موعد هجوم المتآمرين؟ - في أوائل شهر مارس القادم، يا مولاي. - إذن بعد أيام قلائل؟ - نعم يا مولاي، وسوف يأتي المتآمرون إلى بلوا ليقدموا ملتمسا إلى الملك.
قال: ويومئذ يفتكون بي أو يطلبون إلى فرنسوا الثاني إبعادي. لعمر الحق! إن الخطة حسنة، والآن سيذهبون بك يا أفنيل إلى منزل تقيم فيه، وتتلقى أوامرنا.
ففكر أفنيل في أن مرسلين لا بد أن تنتظره، لكنه قال في نفسه: إن أسوار بلوا خير لها من الأسواق الكبيرة، ولئن طال زمن إقامته في بلوا فلا يصعب عليه أن يبعث برسالة إلى زوجته فيستحضرها، فانقاد إلى المسكن الذي أمر له به الدوق دي جيز، ولما فارق الأخوين لبثا هنيهة وهما صامتان.
وكان فرنسوا دي جيز وأخوه الكردينال دي لورين يومئذ في أول شبابهما، تلقيا العلم، وأولعا بالمذهب الكاثوليكي، وكانا باسلين حازمين محبوبين من سكان باريس، مكروهين في بلاط الملك. أما الملكة الوالدة فلم تكن تجرأ على مناوأتهما، وأما الملك فكان أمامهما خلوا من كل إرادة وعزيمة، وهما متحدان اتحادا عجيبا، ساعيان على مهل إلى غرض واحد، ولا يكادان يجسران على أن يبوح أحدهما به للآخر، وقد صارت إليهما شئون المملكة يأمران فيها وينهيان، ويتناولان من خزائنها المال، ويحكمان باسم ابن أخيهما الملك، ومما يزيد نفوذهما وعظمتهما اتحادهما، فإن أباهما كلود دي لورين أوصاهما بالاتحاد، وقال لهما: إن الأسرة التي يتحد أعضاؤها وهم عديدون، قد تدرك أبعد شأو، ولذلك كان غرض كل واحد أو واحدة من أسرة لورين واحدا، هو تعظيم بيت لورين.
فقال الكردينال: علام عولت يا أخي؟ - على اجتذاب أعدائنا هؤلاء إلى معركة طاحنة. - لست أعني بكلامي لارنودي، وإن كان على ما أرى زعيم العصابات وكبير المتآمرين، ولكن وراءه ابن عمنا أمير كوندة.
قال: لنضرب المتآمرين أولا، ثم نرى كيف نتخلص من الأمير، ولعلنا نجد من الأسرى من يخونه. - وإذا لم نجد فيهم خائنا أو لم نجد بينهم متهما للأمير؟ - ألا تحسب حسابا للاستنطاق يا أخي، على أننا سوف نحصل من الملك على ما نبتغي، والفضل يعود إلى ماري، فهل رأيت الملك لما كان يحملق إليها بصره اليوم في الكنيسة؟ - نعم، ولا خوف علينا من هذا الهوى، فإن الطبيب (فرتل) أكد لي أن فرنسوا لا يعقب وارثين.
وفيما كان أميرا لورين يتكلمان بهذا الكلام عن بكر هنري الثاني وهو المحسن إليهما، انفتح باب الحجرة التي كانا فيها، وقال أحد الحراس: الملك!
ودخل الملك فخاطب الدوق قائلا: عجبا منك يا ابن العم، ما أراك مستعدا للذهاب إلى الصيد والقنص؟ - إننا لا نذهب إلى الصيد والقنص في هذا النهار أيها الملك. - ولكنني أشعر بضجر وسأم إذا لم تكن معي، ولئن لم تصحبني فإن ماري تكتئب وتقطب وجهها. - لا شك أنني لم أحسن الإيضاح أيها الملك، إذ قلت لك إننا لا نذهب إلى الصيد والقنص في هذا النهار، وإنما أردت أن أقول: إن البلاط بأسره لا يذهب. - ما معنى هذا الكلام؟ ألم أصدر أمرا في هذا الصباح باتخاذ الأهبة؟ ألم يتلق ناظر الصيد ذلك الأمر أيضا؟
أجاب الدوق: لا قدرة لنا على الصيد اليوم. - ولماذا يا ابن العم المحترم؟ - لأن البرية لا أمن فيها. - أليس عندي حراسي؟ وفضلا عن ذلك فمن يجترئ على مهاجمة ملك فرنسا؟ - إن أعداءنا لا يرهبون أحدا أيها الملك. - أوضح أيها الدوق معنى كلامك، فإنني لا أفهمه.
وقد هاج الحنق الملك لحرمانه لذة الصيد في ذلك النهار، وأخذه ارتعاد، وأظلم وجهه إلى أن قال الكردينال مستمهلا متأنيا في تلفظه: لقد اكتشفنا اليوم مؤامرة. - قال الملك: ومن يدبرها ويديرها؟
أجاب: لم ندر حتى الآن. فإن للمتآمرين زعيما نجهله، وهم خاضعون الآن لواحد من أشراف بلاط الملك. - من هو؟ - هو لارنودي على الغالب. - إن لارنودي روح ابن عمي كوندة ويده اليمنى! - لسنا نتهم أمير كوندة أيها الملك. - وإنك لمخطئ يا عماه؛ لأن ابن عمي كوندة مدبر تلك المؤامرة، ولا يخفي علي ذلك، ولكن على أي أمر عزمتما، وماذا تصنع؟ إني أراكما مطمئنين كأنه لا خطر علي! ألا جرد سيفك يا عماه وهجوما على العدو!
ولقد احتدم الملك فأثر فيه احتدامه، فترامى على كرسي وهو يلهث تعبا، ثم أصيب بحمى مفاجئة، فظهرت على وجهه بقع صفراء، وانسكب العرق من جبينه، ولمعت عيناه وتاه بصره، وجعل يده على سيفه وهو لا يقوى على تجريده. فنظر الدوق وأخوه إلى ذلك الفتى العليل البدن، ثم همس الدوق في أذن أخيه يقول: إذا أشبه بنو «فالوي» هذا الشاب الضعيف فإن سلالتهم تنقرض في القريب العاجل.
وقال الملك فرنسوا الثاني: ماذا نفعل أيها الدوق؟ - نرتحل عن بلوا. - أنتقهقر أمام أعدائنا؟ - كلا أيها الملك، ولكن نخادعهم، والحرب خدعة، ولا بد أن يصلوا بعد أيام إلى أسوار بلوا، فلا يجدون فيها أحدا منا فيفسد قسم من تدبيرهم، وإذ ذاك يلحقون بنا إلى أمبواز؛ لأننا سائرون إليها، ومعلوم أن أمبواز محصنة، وفيها يسهل علينا الهجوم فنسحق المتآمرين سحقا قبل أن يتمكنوا من الوصول إلينا. - أنقبض على الأمير؟ - إنا لا نزال نجهل أيها الملك توليته رئاسة القوم.
وإذ ذاك سمعوا وقع حوافر خيول في إيوان القصر تحت نوافذ الكردينال، فأطل الملك من النافذة، ورفع صوته مناديا ابن عمه أمير كوندة؛ لأنه رآه تحت النافذة وقد وصل ساعتئذ من باريس، وقد نهكه التعب. فدخل وانحنى أمام الملك، فقال له بلهجة تشف عن تهكم: لماذا تركتنا؟ ألا تجد الآنسة دي ليمول كافية لمكثك في بلاطنا؟
أجاب: لقد كنت في الصيد أيها الملك مع بعض رجالي، وفكرت في أن وجودي عندك لا يفيد.
قال: أنت واهم يا ابن العم، ومنذ الآن لا تفارقنا.
فخفض كوندة رأسه، ونظر إلى وجه الدوق فرأى فيه شيئا من السخر، وقال في نفسه: لعل الملك وعميه عارفون بقدومي الساعة من باريس.
وانثنى الملك إلى فرنسوا دي جيز، وقال له: مر بالتأهب للسفر، فصاح كوندة: أنرتحل عن بلوا!
أجاب: نعم يا ابن العم، فهل في ذلك ما يحبط مقاصدك؟ إنا مسافرون في هذا المساء. - إلى أين؟ - لست أدري حتى الآن يا ابن عمي أي جهة نقصد، ولكن سوف تصحبنا فترى، ومضى الملك وهو محتدم حانق.
الفصل السابع
في أمبواز
وفي اليوم التالي كان بلاط الملك في أمبواز، وقد جهل رجال الحاشية ووصائف الشرف والملكتان السبب الذي من أجله ارتحلوا عن بلوا، وأراد آل جيز والملك أن يفتضح المتآمرون، أما أمير كوندة فلم يكن الكلام في هذا الشأن من مصلحته، وأما المحامي أفنيل، فلم يكن يجسر على الخروج من المخدع الذي اختص به.
فلما كان يوم 10 مارس (آذار) شعر القوم بحركة أو حادثة خطيرة، إلا أنه لم يتبين لأحد ما هي.
أما المتآمرون، فكانوا يأتون عصابات تؤلف كل منها من خمسمائة رجل إلى ستمائة. يتوافدون من البرية مختبئين في الغابات والقصور والفنادق، وهي عصابات غريبة؛ لأنها مؤلفة من جنود، وعامة ومقاتلين وبروتستانتيين وقرويين، جاء أكثرهم في الموعد المضروب مغمضي الأعين، حاسبين أنهم إنما أتوا ليقدموا ملتمسا إلى الملك، والرؤساء وحدهم كانوا يعلمون أن القصد من ذلك المسعى قهر الدوق دي جيز، وهؤلاء لم يروا إلا التظاهر بغرض صالح. أما لارنودي فكان حاضرا في كل مكان يرى في الطرق والفنادق، وفي مقدمة كل عصابة ناقلا إلى الرؤساء أوامره الأخيرة. إلا أنه كان قلقا؛ لأنه لم يتلق نبأ من أمير كوندة، ومع ذلك فقد حسب أن الحذر قضى على الأمير بالسكوت، وألا بد أن يلقاه وقت دخول المدينة مستعدا لتولي رئاسة المتآمرين، ولقد أخل بخطته انتقال الملك ورجاله من بلوا إلى أمبواز، إلا أنه تحاشى الخلل بسرعة.
ففي مساء يوم 9 مارس (آذار) لم يكد يدخل الفندق الذي اتخذه مقاما متوسطا حتى التف بردائه، واضطجع قرب الموقدة، ويده على قبضة سيفه والأخرى على غدارته . فنام ساعات ولم يستيقظ إلا عندما أطفأ صاحب الفندق أنواره استعدادا لإغلاقه. وإذ ذاك أبصر لارنودي في زاوية من مخدعه عينين محدقتين فيه، فقال في نفسه: لقد وقع بصري قبلا على هاتين العينين.
وكان كثير الارتياب، شأن من يهم بأمر خطير، فاتجه إلى تلك الزاوية من الحجرة حاملا مصباحا، ثم وقف وقال: هذا بلترو!
أجاب: نعم، أنا ذاك يا مسيو دي لارنودي. ألم تكن تتوقع أن تراني؟
قال: بلى، ولكن في غير هذا المكان، وإنني كنت أحسبك الآن في أمبواز.
أجاب: أصبت، وكان ينبغي أن الحق بالبلاط، إلا أن المسيو دي جيز أمر بإقفال الأبواب قبل الوقت المعتاد، فاضطررت إلى المبيت هنا.
فتفرس لارنودي في وجه الرجل، وصاح: ما دهاك؟ وما هذا الذي في رأسك؟
أجاب: إنه تذكار من الدوق دي جيز.
قال: هل دس عليك من يقتلك؟ - كلا لم يدس علي أحدا، بل تولى الأمر بيده، ولئن لم يفلح فليس الخطأ خطأه. - حدثني بذلك يا بلترو. - قصتي قصيرة. كنت أهوى فتاة حسناء، فتنت مدينة أورليان. - قال: لعلها ابنة الكتبي لوم؟ - نعم، وأبوها صديقي كما تعلم. فلما عدت من مدينة نانت، أردت الاجتماع بهما، وفي ذلك المساء بعينه قضت الصدفة بأن أقتفي خطوات الدوق دي جيز، وكان ذلك ساعة هممت بمغادرة أورليان. فتبعته حتى رأيته وقف بحانوت الكتبي يعقوب لوم، وأبصرت سلما من الحبال تدلى إليه من شرفة مادلين، فتسلق الدوق على الحبل، وصعد إلى حجرة تلك الفتاة التي كنت أهواها.
قال لارنودي: قبحه الله من فاسق!
قال بلترو: ألا تذكر يوم سألتني في نانت عما إذا كان يوجد سبب شخصي يحملني على معاداة الدوق دي جيز وأجبتك أنني إنما أبغضه؛ لأنه عدو مليكي ومذهبي. فالآن أنا أبغضه؛ لأنه عشيق مادلين، وأسأل الله أن يبقي على حياته إلى أن ألتقي به وأقتله بيدي. - ولكن كيف جرحت؟ - تبعته وما كدت أصل إلى الشرفة حتى انفتح باب غرفة الفتاة مادلين، ثم شعرت بألم شديد في رأسي، فسقطت من الشرفة إلى أرض الشارع ، ولبثت ممددا هناك حتى الصباح. فلما فتح يعقوب لوم مكتبته أبصرني فأدخلني بيته، وعالجتني مادلين من غير أن تتكلم، ولم أخاطبها بكلمة؛ لأنني لم أقو على توبيخها، ولا شك عندي أن الدوق أغراها وخدعها، وقال لها إنه من رجال البلاط دون أن يعرفها بنفسه.
قال لارنودي: إن مصابك يا بلترو يشدد حبل ولائنا واتحادنا، وإنما نحن، أنا وأنت، لا غرض لنا من حياتنا إلا الانتقام لأنفسنا! - هذا صحيح. - لقد أقسمت لي إذ كنا في مدينة نانت على أن تنتقم لي إذا مت قبلك انتقامك لأحد أقربائك. - إني لا أزال على عهدي وقسمي. - شكرا لك، ولست أدري هل نفلح في مشروعنا أم لا؟ غير أن نفسي تحدثني بالخيبة. فإذا هلكت. - أكون أنا حاضرا يا مسيو لارنودي، أما أنا فأشعر أنني لا أموت إلا بعد أن ينتقم لي.
وخرج الرجلان من الفندق للاهتمام بمعدات الهجوم. •••
وبعد رحيلهما ببضع دقائق وقف بغل وحصان بباب الفندق، وكان على البغل امرأة، أما الحصان فكان يمتطيه شاب. فترجل الشاب وأقبل على المرأة فمد إليها يده ليساعدها على النزول. ثم طرق باب الفندق، وطلب غرفة وسريرا وعشاء. فتذمر صاحب الفندق ودمدم ساخطا على الذين يسافرون ليلا إلا أنه لما رأى دينارا وهاجا يلمع بيد الشاب ذهبت عنه كشرته، وبادر إلى الطبقة السفلى من الفندق ليأتي بالنبيذ المطلوب. فلما خلا الشاب إلى المرأة قال لها: قاتل الله زوجك أيتها السيدة! كيف رأى استقدامك من باريس، وقد كنا فيها على أتم نعيم وسرور، وايم الحق لقد كان في وسعنا أن ندعه وشأنه بضعة أسابيع أيضا.
قالت: لقد أخبرتك يا جاليو أن لهذا الأمر علاقة بحياتنا وثروتنا، فإن زوجي سافر من باريس مسرعا مبادرا إلى البلاط فمنعوه من العودة، فطلب إلي اللحاق به، فهل في ذلك ما يدعو إلى العجب؟
أجاب: لقد كان يجب على زوجك - أيتها السيدة - أن يفكر في أن السفر لا يخلو من خطر إذا كانت الطرق مزدحمة باللصوص، ولم نصادف منذ هذا الصباح إلا سكارى وجنودا مسلحين وأشرارا كأن ملك إسبانيا محاصر مدينة متس.
1
قالت: يظن زوجي أن معي خدما أمناء، ولكن هل خفت أيها الطالب من الرجال المسلحين الذين رأيناهم في طريقنا؟
أجاب: أنا خفت؟ أنا جاليو دي ترساك أخاف! وحدق في وجه مرسلين، ثم قال: إني أجهل الخوف، ولا أفهم معناه، لكنني أعجب لاجتماع الرجال الذين صادفناهم في الطريق، وأكثرهم مدجج بالسلاح، وبعضهم يقرأ التوراة.
قالت: لعلهم من البروتستانتيين.
أجاب: ما أحسب هؤلاء الوعاظ يتقلدون السلاح، ويسيرون إلى أمبواز، وقد انتقل إليها بلاط الملك، فهم لا يجرءون.
قالت: لا تنظر إلي يا جاليو هذه النظرات. فأنا أعرف أنك باسل، ولكنني أتوسل إليك أن تدع خنجرك جانبا إذا نشب القتال غدا. - وهل ينشب القتال غدا؟ - أنى لي معرفة ذلك؟! - إذن فلماذا تكلمينني عن ذلك؟
وجاء صاحب الفندق باللحم المقدد والخمر فذاقها جاليو، وقال: إنها خمرة جيدة، وسوف أهدي إليها أستاذي برنابا، ولم يكد يتم هذه الكلمات حتى ضرب باب الفندق، ففتحه صاحبه، ودخل رجل بادن أحمر الوجه صغير العينين. فما كاد يراه جاليو حتى صاح: هذا أستاذي! فأجابه: نعم أستاذك أيها الجاهل! قال: هذه كلمة لا أطيق سماعها يا برنابا، فارجع فيها وإلا تكدرت منك.
أجاب: إني رجعت فيها عن طيبة خاطر.
قال: والآن اجلس أيها العالم الشهير قريبا منا، وحدثنا فإنني لك سامع، واسمح لي بأن أعرفك بأجمل امرأة جلست إلى وجهك القرمزي لأول مرة.
قال: إني لأعجب من مبارحة تلميذي لباريس، وكيف ألجأني إلى اللحاق به!
قال: كيف لحقت بي؟
أجاب: إني اكتريت بغلا إلا أنه لطيف فيلسوف. - لقد أثر في هذا البرهان الذي يدلني على ولائك. فاشرب يا أستاذي، والذي أراه أن النعاس قد تغلب عليك، بل أرى البهيم قد نام.
وكان برنابا قد أطبق عينيه وفمه ملآن بما دسه فيه من طعام، وكانت الصبية قد لزمت الصمت أمام الأستاذ. قالت: إني لأخشى أن يكون قد عرفني. فأجابها: لا تخافي، وهبي أنه عرفك فهو كتوم، وقلما يهمه النظر إلى وجوه النساء ؛ لأنه لا يحب إلا الكتب والخمر والطعام. - وهل يحبك أنت؟ - على سبيل العادة، فهو قد تبعني؛ لأنه اعتادني، وعلاوة على ذلك فإنه من ألطف الندمان وإن تجاوز الخمسين، وعنده حكايات مطربة على الدوام، وكيس ملآن قد ينفعني عندما أفارقك. - أتروم أن تفارقني يا جاليو؟ - وا أسفاه إنك تصبحين بعيدة عني حالما تدخلين أمبواز. أما الآن وقد وصلت إليها فلا حاجة بك إلى رفيق. فما رأيك إذا رجعت إلى باريس؟ - هل اشتقت إلى ليزة ومارجو؟ - لا، ولكن لأفكر فيك هنالك. أما إذا لبثت وحيدا في أمبواز فإني سأتحرش بالحراس وأقاتلهم تلهبا. - لا حاجة بك يا جاليو إلى مثل هذا التلهي، فإن المرأة لا يصعب عليها أن تلقى من تهواه عندما تشاء، وأنا أهواك كما تعلم.
وهكذا بقيا يتحدثان حتى سمعا غطيط برنابا، فتنبها إلى أن وقت الرقاد قد حان. فاضطجعا وأفاقا على دوي الطلقات النارية، وكذلك أفاق برنابا من نومه، إلا أنه بقي متمسكا به برغم رأي صاحب الفندق ونصحه له بالنهوض. •••
أما لارنودي وبلترو فقد راقبا التأهبات، وكانا قد ركبا جوادين ودارا دورة حول أمبواز، واجتمع المتآمرون في الطرق منتظرين بذاهب الصبر طلوع النهار ليدخلوا المدينة، وبعد أن تحققا أن كل شيء قد أعد كما ينبغي أرادا أن يتعرفا أحوال المدينة، فأبصرا بعض الحراس عند جدرانها يتمشون كعادتهم والأبواب مفتوحة كالعادة أيضا، والسكينة سائدة على المدينة، وأبصر بلترو نورا من خلال نافذة من نوافذ القصر الذي يقيم فيه الملك وبلاطه، فقال: لا شك أن أمير كوندة ينتظرنا.
فأجابه لارنودي: وعسى ألا يكون هذا النور في غرفة الدوق دي جيز، وألا يكون ساهرا يترقب.
ثم رجعا فألفا ثلاث كتائب، وجعلا عند كل باب كتيبة، ووقف لارنودي في أشد المواقف خطرا عند أحد الأبواب، وعهد إلى كل من بلترو وبول دي رشيان بالوقوف أمام البابين الآخرين، ثم تقدموا.
وكان حاكم أمبواز، وهو الدوق دي نيفار، داخل السور يراقب، فدخل وقتئذ على الملك وصاح: لقد تقدموا أيها الملك!
قال الملك: لا شك أنهم أبناء مذهب كلفين، وزعيمهم لارنودي.
أجاب: إنا نجهل ذلك أيها الملك، ولا ندري سوى أن العدو يدنو منا.
قال: إذن فجردوا السيوف واهجموا على الهاجمين، فهم ألد أعداء مملكتنا!
واستيقظ القصر من رقدته إذ ذاك، ودخلت إحدى الوصائف على الملكة الوالدة تقول لها: إن العصابات المسلحة هاجمة على المدينة، وإنهم من البروتستانتيين.
ثم خرج الملك وعيناه حمراوان يكاد الدم يفيض منهما، وسيفه مجرد بيده وهو يقول: إني لا أرى ابن عمي كوندة، فأين هو؟
فأجابه أمير كوندة وكان يرى ويسمع قال: إني أعددت أمضي السيوف لمقاتلة أعداء الملك.
وهو لم يكن يجهل أن كل شيء يظهر في بلاط الملك، فقضى ليلته عند عشيقة له في القصر ليبعد عنه الظنون. فقال الملك: إن أشياع مذهب كلفين هاجمون علينا، وهم بضعة آلاف تجرءوا على مليككم، فلا بد من إنفاذ العدل، والمأمول من عمنا الحبيب الدوق فرنسوا دي جيز أن يسير بكم إليهم.
وجرد الأشراف سيوفهم، فقال الملك مخاطبا أمير كوندة: على أبناء أمراء البيت المالك أن يكونوا حضورا ساعة الخطر، وسوف يوليك عمنا الدفاع عن أحد الأبواب.
فأجابه أمير كوندة: إنني أتمنى أيها الملك أن أموت في سبيل خدمتك!
الفصل الثامن
القتال
في ذلك الوقت نشب القتال، وعلا دوي الرصاص الذي نبه جاليو دي نرساك، ومرسلين، وبرنابا، وللحال غصت شرف الأسوار بالمقاتلين، وتساقط الرصاص مطرا على لارنودي ورجاله، وخر القتلى ركاما. إلا أن ذلك الموت الزؤام لم يثن المتآمرين، بل زحفوا إلى الأمام حتى وصلت كتائبهم الثلاث إلى خنادق المدينة، وإذا بالأبواب قد انفتحت فجأة، وخرج منها الفرسان جماعات كثيرة فهجموا على المحاصرين، وكان هؤلاء قد نهكتهم مشقات السفر، ورقودهم ليلة ملتحفين السماء، وقلما توقعوا لقاء عدو حازم فتفرقوا في الحال، وكان الدوق دي جيز في مقدمة أولئك الفرسان الذين هاجموا لارنودي ورجاله. فعزم لارنودي على أن يقاتل متقهقرا مع رجاله، فلم يلق السلاح، ولم تتمكن الكتيبتان الأخريان اللتان يقودهما بلترو ودي رشيان من الثبات أمام جنود مستريحين، فتقهقروا كذلك، ووقف جنود الدوق متعجبين من سرعة انتصارهم، غير عالمين أن معظم المتآمرين إنما توافدوا لرفع ملتمس إلى الملك، وكان وقوف جنود الدوق دي جيز سببا في اتحاد المتآمرين والتفافهم حول لارنودي فقال لهم: لا شك أنه كان بيننا خائن سوف نحاكمه فيما بعد، أما اليوم فليس أمامنا إلا القتال متراجعين، فليصرف كل منكم جنوده مجتنبا لقاء جنود الملك، وسوف نلتقي الليلة في ضواحي بلوا، وسيظن الدوق دي جيز أننا انهزمنا، وإذ ذاك نتدبر.
وكان لارنودي يتكلم بلهجة تبعث الطمأنينة في النفوس، إلا أنه أحس بأن الهزيمة تامة فلم يتجرأ على التلفظ باسم أمير كوندة، وهو لا يدري إذا كان قد تخلى عنه أو قبض عليه فهو سجين، وأقبل فرسان الملك، ووصل بعضهم شاهرين سيوفهم، وكانوا عشرين فارسا.
فتواثب بعض السكارى إلى لارنودي، واصطفوا حوله لعلمهم ألا بد من وقوعهم أسرى، ففضلوا السقوط في القتال على عذاب الاستنطاق. فودع لارنودي أصدقاءه، وألجأ بلترو ودي رشيان إلى الرجوع، مبينا لهم أن وجودهما مع الجند مما لا بد منه خوفا من الهزيمة، وكان الفرسان العشرون لا يزالون على بعد خمسين خطوة من لارنودي.
وإذا به قد أبصر الدوق، فصاح الرجال: أطلقوا النار على الدوق!
أما الدوق دي جيز فنادى فرسانه قائلا: إلى الأمام! اقتلوا البروتستانتيين!
ولم يصب الرصاص الدوق، فقال لارنودي: قتله الله ألا يصيب اللعين الرصاص! ألا أطلقوا النار يا قوم مرة ثانية.
ثم تقهقروا شيئا فشيئا حتى وصلوا إلى الفندق.
فصدعوا بالأمر، ولما انقشع الدخان ظن الفرسان أن جنود لارنودي قد أخلوا لهم الطريق، فقال أحدهم - وهو البارون دي برداليان من رجال الدوق: تبا للجبناء فقد هربوا.
فأجابه الدوق: كلا، لم يهربوا فقد أبصرت لارنودي في طليعتهم، ولارنودي لا يهرب دون أن يقاتل بسيفه.
وقبل أن يصل الفرسان إلى مقربة من الفندق اعترضتهم مركبة يجرها جنود لارنودي.
وكان المقيمون في الفندق يراقبون المعركة بقلق، وقد وقفت مرسلين إلى كوة تنظر منها إلى القتال، والفتى جاليو دي نرساك بقربها يتلظى شوقا إلى مساعدة لارنودي . أما صاحب الفندق فقد أوى إلى زاوية يبكي ويلعن رجال الحرب، وكذلك الأستاذ برنابا فقد توسل إلى تلميذه طالبا إليه أن يرافقه إلى الطبقة السفلى من الفندق ظنا منه أن رصاص المتقاتلين لا يصل إلى تلك الطبقة، وقعد هناك يطالع أشعارا من نظم سنيكا موضوعها احتقار الخطر.
وأمر الدوق دي جيز برداليان بأن يدور حول الفندق ويهاجم مؤخرة لارنودي، ولحق بالفرسان بعض حملة البنادق من جنود الملك فمروا بين الخيل، وبات هكذا لارنودي بهذه الحركة التي أتاها برداليان محاطا بالسيوف والبنادق.
وشاهد جاليو دي نرساك كل ذلك، فقال: لا شك أن هذا الشريف شجاع، وحرام أن يقتله الجنود دون أن يساعده أحد. فتشبثت مرسلين به تقول له: بحقك يا حبيبي جاليو لا تذهب.
قال: لا تحاولي أن تمنعيني، بل البثي ها هنا، ولا خطر عليك. إني عزمت على القتال.
وفيما كان جاليو نازلا سمع طلق البنادق، وقد خر رفاق لارنودي قتلى إلا أنه هو بقي واقفا مستلا سيفه منتظرا من يهجم عليه. فناداه جاليو، صبرا أيها الرجل الشجاع فإني آت لنصرتك!
ووثب وثبة صار بها إلى جانبه، واختطف سيفا من يد رجل بروتستانتي كان مع لارنودي، وصرخ في وجوه فرسان الدوق قائلا: ويحكم يا لئام ألا تخجلون وأنتم عشرون من مهاجمة شريف واحد؟
فاستضحك الفرسان إلا أنهم لم يأتوا بحركة، وكانت الطريق ضيقة، ومن يتقدم يخاطر بجواده ونفسه، وصاح الدوق: بادروا إلى قتل هؤلاء البروتستانتيين!
فأجابه جاليو: أما أنا فلست منهم أيها المولى.
قال: إذن ما شأنك معهم؟
أجاب: إني أقاتل مع الأضعف، وهو من تروم اغتياله.
ثم خفض صوته، وقال للارنودي: إن جوادي في فناء الفندق فخذه واهرب من الباب الخلفي؛ إذ ليس عنده أحد فتنجو، أما أنا فإنني فتى ولا يفتكون بي.
إلا أن لارنودي لم يتمكن من الجواب على هذه الكلمات؛ لأن البارون برداليان حمل بندقيته وأقبل، فأطلق النار على صدره فسقط صريعا على جثة لافين صاحب سره، وكان قد جرح قبل ذلك وأغمي عليه. أما جاليو فما برح مجردا سيفه شاتما الفرسان، فقال الدوق دي جيز: هاتوا هذا الغلام إلى أمبواز.
ولكن لم يكن إنجاز ذلك الأمر من الهنات الهينات. ففيما كان الدوق دي جيز يطارد الهاربين هجم البارون برداليان على جاليو، فما لبث البارون أن أصيب بجرح في كتفه من سيف جاليو. فأمر رجاله بإطلاق النار على خصمه، إلا أن جاليو كان مغرما بضرب السيف كارها للطلقات النارية، فدخل الفندق، وأقفل بابه، فوجد مرسلين أمامه تتوسل إليه وهي تكاد تموت رعبا. فسار بها إلى بستان الفندق، وكان جواده هناك فركبه وأركب مرسلين أمامه. وفيما كان برداليان يقتلع باب الفندق مع رجاله فر جاليو من باب البستان. •••
وهكذا كان هلاك المتآمرين على يد الدوق دي جيز، فامتزجت دماؤهم بمياه نهر اللوار، ودام الذبح والتقتيل حتى امتد ستر الظلام، وكان الجنود يسوقون الأسرى إلى المدينة أفواجا.
أما أمير كوندة فلم يفارق الموضع الذي أقامه فيه الدوق دي جيز بأمر الملك، ولم يتجرأ على مخاطبة أولئك الأسرى؛ لأنه كان يتوق إلى معرفة ما جرى للارنودي، ولا يدري هل قتل وضاع كل أمل؟ وفيما هو يفكر أبصر جاليو دي نرساك مقبلا وأمامه مرسلين على الجواد منقبة الوجه. فلما اقترب جاليو سدد إليه أحد الحراس بندقيته، وقال له: أأنت من أنصار القداس أم من أنصار الوعظ؟
والمراد بأنصار القداس الكاثوليكيون، وبأنصار الوعظ البروتستانتيون.
فارتبك جاليو من هذا السؤال، لكنه وقف وصاح: ليحي الملك!
وإذ ذاك رأى فارسا أعرج يأمر الفرسان وينهاهم وهو لابس أفخر اللباس، فعلم أنه أمير كوندة، فصاح أيضا: ليحي الأمير!
فرفع رأسه، وقال: دعوه يدخل.
فقال الحارس: لعله يا مولاي أحد المتآمرين.
وهكذا دخل جاليو المدينة مع مرسلين زوجة المحامي أفنيل، ولم يكد يسير قليلا حتى سمع وقع خطى وراءه، فانثنى فرأى الأمير يشير إلى زقاق فدخله فتبعه إليه، وقال له: أتدري ماذا جرى في الطريق؟
أجاب: لقد قدمت البلد، ونزلت في أول فندق إلى يسار المدينة، وأيقظني في الصباح دوي رصاص البنادق، فأبصرت جنودا وقرويين مسلحين ، وهم قاصدون إلى المدينة، وما لبثوا أن دحرهم فرسان طلعوا عليهم فجأة. - هل رأيت قائد أولئك القرويين والجنود؟ - رأيت شريفا باسلا قد سقط وقت تقهقرهم، ولا أدري إذا كان رئيسهم. - صفه لي. - إنه طويل القامة، على وجهه أمارات العزم، أسود الشعر يخالطه بياض.
فخفض كوندة صوته، وقال: لعله هو، فهل مات؟ - نعم عند قدمي. - هل كنت في جملة المقاتلين؟ - لا، ولكنني رأيت ذلك الشريف الباسل وحيدا يقاتل عصبة، فنزلت من الفندق لمساعدته عليهم. - وكيف نجوت منهم؟
فضحك جاليو، وقال: لقد كانت نجاتي بأعجوبة. - مع صاحبتك هذه؟ - نعم. - ما اسمك؟ - جاليو دي نرساك طالب في كلية السربون. - إذن تعال غدا يا مسيو دي نرساك إلى القصر، واطلب مقابلتي فيه، فقد أكون محتاجا إليك. - ليت لي نصيبا في خدمتك يا مولاي؛ لأن نفسي لا تميل إلى تلقي العلوم ودرس اللاهوت كما يروم أهلي. - أتفضل تقلد السيف؟ - نعم يا مولاي. - إذن إلى الغد. - إلى الغد يا مولاي.
وأوصل مرسلين إلى زوجها في القصر، أما هو فاتجه إلى فندق ودخله، فأكل وشرب وقعد يفكر، فخطر في باله أستاذه برنابا، فقال: ماذا جرى له يا ترى؟ وكان جاليو يحب برنابا فلم يتمالك أن فارق الفندق ومضى يبحث عنه.
قلنا إن ذلك الأستاذ اختبأ وقت المعركة في الطبقة السفلى. فلما سمع الجنود يقولون: «أين ذهب الطالب اللعين؟ فلا بد من قتله!» قال برنابا في نفسه: لقد أمنت عليه الآن، وصبر حتى خلا الفندق من الجند فصعد إليه، ولما رآه صاحبه قال له: أأنت هنا؟
فأجابه: إني أجتنب كل فرصة تسنح لسفك دماء الناس، فأين الطالب الفتى؟
قال: لقد مضى دون أن يدفع إلي مالا فلا بد من أن تدفع أنت، بل تدفع عن سائر الناس. فإن مركبتي تحطمت، وبابي اقتلع، وجملة ما أطلبه منك عشرة ريالات، فلا تخرج من هنا إلا بعد أداء هذا المبلغ.
وكان القدر كبيرا، والأجرة كثيرة بالقياس إلى مبيت ليلة على كرسي في بدروم الفندق، إلا أن برنابا دفع المبلغ لشدة مسالمته ، وقال : هل تدري إلى أين اتجه صديقي الفتى؟
أجاب: أظنه مضى إلى أمبواز.
قال: شكرا لك.
وسار برنابا فالتقى بجاليو عند أبواب المدينة فهنأه بالسلامة، ثم قال له: ما هذا الجنون الذي دهاك؟ أتلقي بنفسك إلى التهلكة؟
أجاب: سوف تلومني فيما بعد يا أستاذي، أما الآن فأنت جائع عطشان، إلا إذا كنت قد تناولت شيئا من المخزون في الطبقة السفلى التي كنت فيها.
قال: لم أذق طعاما منذ صباح اليوم، فهل تعرف فندقا صالحا؟
وبعد نصف ساعة كان برنابا يلتهم دجاجة، وينظر مليا إلى زجاجة أمامه من خمر بورجونيا. فقال لتلميذه: هل عقدت النية على ترك المدرسة؟ فأجابه: نعم، يا أستاذي. قال: لم ذاك! أجاب: لأنني أريد أن أكون من رجال الأمير كوندة. قال: أتعني ذلك الأحدب?! وأي نفع لك من خدمته؟ أجاب: نعم، إنه أحدب، ولكنه أشجع من الدوق دي جيز عم الملك، ومحبوب من نساء البلاط جميعا.
وقال برنابا: إن المرأة مخلوق بديع يوجد في أبخرة الخمر المعتقة كما يوجد في أروقة قصر اللوفر. ألم تفدك مني القدوة الصالحة؟ ألم تنفعك آرائي السديدة حتى أردت الرجوع عن العيش الرغيد، عيش العلماء؟ أتقر عيناك بالاضطجاع على الثرى البارد حينما أكون متمددا على سرير جيد وفراش لين؟ أيطيب لك القتال وتلقي ضربات السيوف حينما أكون مستلقيا على كرسي واسع مريح من خشب السنديان أطالع قصائد ونزار؟ أنت تعلم أن التعرض للحرب والنضال يقضي عليك أحيانا بالامتناع عن الأكل أو باتخاذ خبز القروي قوتا، في حين أن مائدتي مغطاة على الدوام بغطاء أبيض كالثلج، عليه قناني الخمر المعتقة والثمار الناضجة واللحوم الطيبة وغيرها من المآكل الشهية، فهل تستطيع يا جاليو أن تهجر ذلك كله، وتقاسي شظف العيش؟
قال جاليو: أصغ إلي يا أستاذي؛ لأني أريد أن أسترشد برأيك. قال: تكلم. قال: إني أهوى امرأة حسناء منذ بضعة شهور. قال الأستاذ: قد عرفتها فهي زوجة المحامي! قال: لقد سمعت كلامك يا أستاذي دون أن أسبقك بالكلام، فاسمع كلامي إلى آخره. إني أهوى امرأة حسناء كتب إليها زوجها وهو في أمبواز يستقدمها إليه فصحبتها إلى هنا، ونزلنا في فندق، واستيقظنا عند الصباح على وقع الرصاص، فبادرت أنت إلى القبو مختبئا فيه، ولبثت أنا عند النافذة، فشهدت قتالا بين جماعة من الفرسان، ورجل واحد، فأسرعت إليه لأسعفه.
فقال برنابا: وأخطأت يا جاليو؛ إذ إن الأقوى يستحق الاحترام.
قال جاليو: إن الرجل قتل أمامي، وأراد قاتله الفتك بي فضربته بسيفي واحتجبت عنه. قال الأستاذ: وأحسنت باحتجابك فقط، قال جاليو: ولما وصلت إلى أمبواز أمر أمير كوندة بدخولي البلد، وطلب مني أن أذهب إلى القصر فألقاه فيه. فوعدته بما شاء، وتوسلت إليه أن يستخدم سيفي. قال: ومتى تمضي إلى القصر? أجاب: غدا، وإن طالبا صغيرا مثلي لا يقوى على مقاومة مثل ذلك الشريف الذي جرحته اليوم. أما إذا كنت من رجال أمير كوندة فلا يصعب علي الدفاع عن نفسي. قال برنابا: هذا كلام يقارنه الصواب يا بني، ولكن بقي أمر لم تفكر فيه، هو أن والدتك لا توافق أبدا على احترافك حمل السلاح.
قال: ولكنك ستكتب إليها يا أستاذي.
قال: أأكتب إليها أنك تروم استبدال طيلسان الراهب بتقلد السلاح؟!
أجاب: نعم يا أستاذي الحبيب. نعم، تكتب إليها ذلك حبا بي، وتؤكد لها أنني أحسنت عملا.
قال: كيف ذلك، وأنا لست على رأيك؟
أجاب: دعني أيها العزيز أملي عليك الرسالة التي ستكتبها إلى والدتي، وأما أنت فما عليك إلا أن تذيلها بتوقيعك.
قال: وأنا فماذا أصنع عندما تصير واحدا من رجال البلاط؟
أجاب: أزورك مرة في كل أسبوع، وكلما زرتك تعد طعاما فاخرا، وشرابا طيبا في أقداح من أفخر البلور.
الفصل التاسع
جيز وكوندة
وفي اليوم التالي كان البارون دي برداليان - من رجال الدوق دي جيز - وهو الذي ضربه جاليو بسيفه، طريحا على مقعد أمام نافذته في القصر يلعن سوء حظه، فأبصر شابا قد دخل القصر وهو متهلل الوجه، وفيما كان يسأل نفسه: أين لقي ذلك الشاب؟ رآه قد مال إليه، وحياه تحية حسنة، وقال له: عفوا يا سيدي، هل لك في أن تدلني على مسكن أمير كوندة؟ فأجابه: اصعد في السلم الكبير الذي تراه هناك، فإن منازل الأمير في الطبقة الأولى.
قال: إني خادمك يا سيدي، وأشكرك كثيرا. - ليس في الأمر ما يوجب الشكر، ولكن هل لك في أن تشرفني بمعرفة اسمك الكريم؟ أجاب: اسمي جاليو دي نرساك يا سيدي.
قال: وأنا اسمي البارون دي برداليان.
قال: أرجو أن تعدني في جملة أصدقائك أيها البارون.
وبعد هنيهة صاح البارون، يالله هذا هو الطالب الذي ضربني بالأمس، وألجأني اليوم إلى ملازمة هذا الكرسي. إلا أنه كان بالأمس لابسا ثوب طالب من مدرسة السوربون، أما اليوم فهو يلبس لباس ظرفاء البلاط، ويذهب ليلقى أمير كوندة. فالمسألة غامضة.
وكان جاليو قد وصل إلى منازل الأمير وهو لا يدري ماذا يفعل، وكان الأمير يروح ويجيء في غرفته، وقد علم أن لارنودي مات، وأن المتآمرين تفرقوا، فكان ينتظر بذاهب الصبر أن يرى الملك، ليتحقق أنهم لا يتهمونه بالاشتراك مع المتآمرين. فلما وقع بصره على جاليو قال له: ادخل أيها الطالب، أجاب: إني أتيت عملا بأمر مولاي. قال: هل تعرف اسم الرجل الشريف الذي سقط قتيلا أمامك أمس؟ أجاب: لقد بلغني اليوم أنه يدعى المسيو دي لارنودي. قال: ولماذا دافعت عنه؟ أجاب: لأنه كان واحدا يقاتل عشرين.
فنظر الأمير إلى جاليو مدهوشا فقال له: إذن أنت فتى شجاع كريم.
أجاب: إني من الأشراف يا مولاي، وكل الذين دعوا باسمي شرفوه بأعمالهم. قال: إن البارون دي برداليان حانق عليك. أجاب: لست أعرفه. قال: هو الذي جرحته أمس.
فضحك جاليو. فقال الأمير: أراك راغبا في دخول البلاط، وقد استبدلت ثوب الطالب بثوب آخر. أجاب: لولاك يا مولاي لربما تم قتلي على يد جنود الدوق دي جيز، فدعني أصير من رجالك!
أجاب: لقد سرني ذلك منك يا دي نرساك، ولكنك تدري أنني لست ذا سلطة كبيرة، وإنك ربما اضطررت إلى القتال لأجلي. - إنما أردت الانضمام إليك يا مولاي لرغبتي في القتال.
فقال الأمير: إني ذاهب للتسليم على الملك، فإذا صحبتني ربما التقيت بالبارون دي برداليان، فلا أرى لك أن تفارق مسكني، وسأرجع لألقي إليك بعض الإيضاحات.
ومضى الأمير إلى الرواق الأكبر، وقد اجتمع فيه البلاط. فلاحظ لساعته إعراض رجال الحاشية عنه كأنهم خافوا الافتضاح إذا أقبلوا عليه، وإذ ذاك نادى الحاجب بقدوم الملك.
فتقدم فرنسوا الثاني تتبعه الملكة الوالدة وعماه الدوق دي جيز والكردينال دي لورين، وهما على بعد قليل عنه، فقال الملك: لقد رأيتم العصاة أيها السادة يرفعون علم الثورة، ويمشون إلى أمبواز، وإنما تفرقوا وانهزموا بحسن فراسة عمنا العزيز الدوق دي جيز، وبالتدابير التي اتخذها، وقد أسرنا منهم عددا كبيرا، ولسوف يستنطقون حتى نعرف منهم اسم زعيم الثورة؛ لأنهم إذا ثبت أن قائدهم كان يدعى المسيو دي لارنودي، وهو الرجل الذي كان ابن عمنا كوندة نصيره في كل زمان ومكان، فمما لا ريب فيه أيضا أن ذلك الرجل لم يتجرأ على مباشرة مشروعه لو لم يجد عضدا أعظم منه.
وهنا رشق الملك أمير كوندة بنظرة بغضاء، وكان الأمير يسمع وكأن الحديث لا يعنيه، وتحولت إليه الأنظار، واتسع نطاق الفراغ بينه وبين بطانة الملك، فقال الملك: إن خادمنا الأمين البارون دي برداليان قد تمكن من قتل الثائر لارنودي، وإلحاقه بأخيه جسبار، ولما رأينا جرأة بعض رعايانا قد تعاظمت، لم نجد بدا من توسيع سلطة عمنا دي جيز، وهو الذي دافع عنا ببسالته المشهورة. وقد كتبنا له براءة في هذا اليوم، وخولناه بها النيابة العامة على مملكتنا فرنسا، وأمرنا رعايانا الأمناء المخلصين بأن يساعدوه على أعدائنا وأعداء ديننا.
وأقبل الملك يتحدث مع عمه دي جيز عاطفا عليه، ثم دخل حجرته بعدما أعلن أنه ذاهب للتنزه في البرية بعد ظهر ذلك اليوم.
فلما ارتفعت الشمس في قبة الفلك خرج الملك، وتبعه بلاطه فاجتاز الموكب ساحة البلد، وارتفعت أصوات المرتاعين؛ لأنهم أبصروا في تلك الساحة آلات الإعدام، والحراس يقودون إليها الأسرى، ويقتلونهم دون محاكمة. فقال الملك: إن الجلاد قد عاني اليوم تعبا فمر بإعطائه خمسين دينارا مكافأة له .
وقيل للجلاد إن قتل الناس من غير محاكمة خارج عن القانون. فأجاب: إنهم لصوص، ونحن نقتلهم بقطع رءوسهم كما نفعل بالأشراف فلا يحق لهم أن يشكوا.
وقال الدوق دي جيز للملك فرنسوا الثاني: كذلك يهلك أعداء مذهبنا وأعداء الملك!
وتجرأ أمير كوندة وحده على الكلام، فصاح: إن هذه المذبحة فظيعة جدا!
وكان بلاط الشوارع مصبوغا بالدم، والجثث مطروحة في كل مكان، وقد انتهزوا من ظلام الليل فرصة فذبحوا عددا وفيرا من الأسرى. ولما خرج الموكب من المدينة، وأمكن أن يروا قسما من أسوارها دنت كاترين من ابنها، وقالت له: انظر أيها الملك!
وأرته الأسوار، وقد اتخذ الجلادون شرفاتها لحبال الشنق، فأبصر جثثا قد جردت من الملابس تتأرجح في الفضاء.
وحجبت الملكة الوالدة وجهها براحتيها، وهي تكرر قولها: انظر أيها الملك!
فقال لها: ألا ينبغي أن نعاقب الثائرين يا أماه؟
فأجابته: ولكنهم على كل حال رعاياك، ولسوف تحتاج إلى سواعدهم في يوم نضال.
قال: إن أشرار الرعايا لا يصلحون للجندية.
ولقد توسلت الملكتان إلى الملك كثيرا طالبتين إليه أن يأمر بالكف عن ذبح الناس، فلم تفلحا إلا في اليوم التالي. فلم ينج من القتل إلا عدد قليل من هؤلاء التعساء.
الفصل العاشر
موعد غرام يتحول إلى بعثة سياسية
ولما رجع الملك من نزهته قصد الدوق دي جيز البارون دي برداليان ليشكره على قتله أردنودي فألفاه كثير الامتنان من انعطاف الملك فرنسوا الثاني ومدحه إياه. ثم قال له الدوق: أخبرني ماذا فعلت بالطالب الذي ضربك بسيفه؟ قال: إن اللعين قد فر مني، ولكنني سأدركه في القريب العاجل؛ لأنه موجود هنا في القصر.
قال: وكيف ذلك؟
أجاب: إنه عند الأمير!
فبهت الدوق دي جيز، وصاح: إذن فقد كان ذلك الفتى من رسل الأمير كوندة! ألا قل لي يا برداليان، أقادر أنت على المشي؟
أجاب: نعم، إذا كان القصد منه خدمتك وخدمة الملك!
قال: إذن تعال معي وعجل.
فسار به الدوق إلى حجرة فرنسوا الثاني، وكرر على سمعه شكوكه، فتململ الملك، وأجاب: سوف نتكلم عن ذلك غدا يا عماه، أما في هذه الليلة فإنني أروم محادثة الملكة، ولك أن تقيم حراسا على أبواب أمير كوندة ريثما نرى.
وفيما كان الدوق وبرداليان خارجين من حجرة الملك أبصرا شابا مر بهما، وهو يحاول أن ينزل قبعته على وجهه، فقال برداليان بصوت منخفض: هذا هو يا مولاي.
وكان الشاب جاليو، وهو مبادر إلى موعد من مرسلين، فاختبأ الدوق والبارون في موضع مظلم، ثم تبعاه، فنزل جاليو إلى سلم الحراس، وألقى كلمة المرور وخرج من القصر.
فقال الدوق لبارداليان: ألا تخاف من جرحك؟
فأجابه: أظنه يندمل تماما إذا تمكنت من إمساك هذا الفتى الأبله.
قال: لا ينبغي لنا قتله، ولكن يجب أن نعرف المكان الذي يقصده.
وسار جاليو إلى الفندق والرجلان يتبعانه، فلقي أستاذه برنابا، فقال له: إني بحاجة إلى غرفتك يا أستاذي. - ألا تزال مشغولا بالحسان يا أيها التلميذ الصالح؟ ما أظنك إلا مقتولا ذات يوم بكيدهن. - بل ذات ليلة. - بل ذات ليلة، ولكن ماذا أفعل أنا إذا تركت لك غرفتي؟ - تشرب زجاجة، وتنام. - أأنام على المائدة؟ - بل حيث تشاء، ولكن عجل هذه حبيبتي أقبلت!
وعاد يستقبل مرسلين، فأصعدها السلم قبل أن يتمكن الدوق والبارون من التفرس في وجهها. بل لبث الرجلان يرصدانه في زاوية القاعة حتى نزل هو ومرسلين. وكان برنابا قد تنبه إليها وهو متظاهر بالنوم، فأنذر جاليو وقال له: إن هذين الرجلين جاسوسان فحذار منهما.
فارتعد جاليو خيفة أن يكون أحد الرجلين أفنيل زوج مرسلين. فلما لم يخاطباه اطمأن قلبه، وقال في نفسه: إنهما يرصدان غيري. إلا أنه عقد النية على أن يضلهما في الطريق من الفندق إلى القصر، وأدركت مرسلين مراده فلم تتلفظ بكلمة، وسارا معا، وكان الرجلان يتبعانهما، وتبين لجاليو أنهما لا يتحولان عن اللحاق به، فلم يجد بدا من أن يلجأ إلى أيسر الوسائل، وهي أن يقصد إلى القصر، ويفترق عن مرسلين قبل الوصول إلى بابه، فتدخل وحدها، ثم يدخل وحده كأنما لا أحد يتبعه.
وقال الدوق: أظنه قد وقع بين أيدينا في هذه المرة.
وأوسع الخطى ليدخل القصر وقت دخول جاليو، إلا أن هذا سمع وقع خطى الرجلين وراءه، فما كاد يبلغ فناء القصر حتى اختبأ وراء عمود، وكانت مرسلين قد وصلت إلى مخدعها من غير عائق، وأخذ الدوق وبرداليان يبحثان عن جاليو ويسألان الحراس، فلم يعرفا عنه شيئا، وطافا في فناء القصر مرارا، ثم اتجها إلى السلم، وإذ ذاك ترك جاليو مخبأه، واقتطع قطعة من ردائه، فلف بها حذاءيه لكي لا يسمع لخطاه صوت، وتبع الدوق والبارون برداليان حتى رآهما وقفا بباب أمير كوندة، وأبصر أحدهما يلصق عينه بثقب الباب، وسمعه يغمغم ويقول: لا صوت ولا ضياء، فقد احتال الخبيث علينا ونجا منا.
واستمرا سائرين في الرواق حتى وصلا إلى باب عنده حارسان، فقال الدوق: هل رقد الكردينال؟ فأجابه أحد الحارسين بقوله: كلا يا مولاي. فدخلا غرفة الكردينال، وصبر جاليو وقد سمع قول الحارس «يا مولاي» مخاطبا الدوق، وأبصر الرجل الآخر يرفع يده إلى كتفه متنهدا متوجعا، فعلم أنهما الدوق وبرداليان. وبعد هنيهة رأى الحارسين قد غلبهما النعاس، فلم يتردد، بل مشي ولا صوت يسمع لقدميه لالتفاف حذاءيه بالنسيج حتى وصل إلى الباب فرآه غير موصد بمفتاح، وحمله الفضول على فتحه فسمع صوتا واسم أمير كوندة يتردد في أثناء الحديث، إلا أنه لم يفهم ما يقال. فدخل وأقفل الباب وجعل خنجره بيده، واتجه إلى ستر من القطيفة يفصل بين الإيوان الذي وصل إليه، والحجرة التي صدر منها الصوت، وهنا وقف مرهفا للسمع أذنيه، وكان الدوق وبرداليان يحدثان الكردينال بما رأيا، فقال الكردينال: الراجح أن ذلك الشاب جاسوس للأمير، وأن المرأة التي اجتمع بها في الفندق إحدى وصائف كاترين، وأنها استخدمتها للمراسلة بينها وبين أمير كوندة، والآن شكرا لك يا برداليان فاذهب؛ لأن لي حديثا طويلا مع الدوق. وعند ذلك صاح الدوق بحدة يقول: ما بالك يا أخي، وهل من حاجة بنا إلى برهان آخر يشهد باجترام الأمير؟ الرأي عندي أن نضرب أعداءنا قبل أن يشتد ساعدهم، ويصيروا قادرين علينا فيضربونا. - إن ناظر أختام الدولة والقائد الأكبر لضابط الملكة لا بد أن يكونا من أعدائنا أيضا. - لنضرب أولا ابن عمنا كوندة، أما الآخران فسوف نهتم بهما فيما بعد، ولئن كنت على رأيي دعني أشكوه غدا في مجلس الملك فيدعوه إليه، وإذ ذاك يسهل علينا القبض عليه، ومعلوم أن جميع رجاله مبتعدون الآن عن البلاط. - هذا هو الرأي الصواب. فأنا أنتظر كاترين، وأسبر غور نيتها، ولئن رأيت فيها أقل رغبة في تعضيد الأمير هاجمناه كما تقول. - إلى الغد يا أخي، ومضى الدوق.
وقد تأثر جاليو من سماعه هذا الكلام، وكان من أسرار الدولة وقتئذ، وفيما هو يهم بالانصراف انفتح باب خفي في الجدار فبادر إلى الاختباء مرة ثانية وراء ستر القطيفة. ثم أبصر امرأة، وإذ ذاك قام في سريرته نضال انتهى بقوله لنفسه: إذا انطوى حديث الكردينال مع هذه المرأة على غرام ومطارحة، غادرتهما وشأنهما، وإذا كان فحواه سياسة لبثت أسمع خدمة لمصلحة الأمير، وتلقى الكردينال تلك المرأة بقوله: لقد كنت أخشى ألا تأتي الليلة.
فأجابته: إن في محادثتي لرجل فاضل مثلك سروري الأوفر، ولا سيما إذا شاورتك فيما يعرض لي، ويؤثر في من الأفكار.
فرفع الكردينال صوته، وقال: كنت خائفا ألا تأتي أيتها السيدة؛ لأن أسقف شارتر
1
في المدينة على ما قيل لي. - وأي شأن لي مع أسقف شارتر؟ - لقد أحببته أيتها السيدة. - هل تظن ذلك أيها الكردينال شارل؟ ولعلك على صواب. إنما تذكر أمرا هو أنه لا ينبغي للعاقل أن يناقش الحساب امرأة على ماضي حياتها. - لو علمت بأنك مقيمة على حبه حتى اليوم لسعيت إلى قتله. - بغير محاكمة؟ - بغير محاكمة. - أنعم بها من وسيلة حسنة للتخلص من الناس، ولكن لم ذلك؟ - لأنني أهواك أيتها السيدة، وأنا غيور! - هذه أشياء هائلة تبوح لي بها، فهلا لاحظت ولدي وعبوسه اليوم؟ - إن حبه للدين يهيجه كثيرا. - إن أخاك استخدم ذلك الحب الديني للفتك بجميع أصدقاء ابن عمي أمير كوندة، وهو عمل غير حميد! - بل هي حرب صالحة، فهل تحبين أمير كوندة ؟ - كلا، وهل أهتم بالسياسة؟ إني لا أفهم شيئا من أنظمة الحكم، ولكنني رأيت الدم المهراق غزيرا. - إنه دم أعداء الكاثوليكيين. - بل دم الفرنسيين يا كردينال، ولو كنت في مكانك لأشرت على الملك بالرأفة. - أترانا نتكلم الآن في السياسة. - لا، ولكنني امرأة فأنا أتكلم بما يشعر به فؤاد المرأة. - أترومين أن أعضد الأمير؟ - ولماذا تسألني هذا السؤال بشأنه دون سواه؟ فهل يخشى عليه من أحد؟ ولقد تلفظت كاترين دي مدسيس بهذه الكلمات دون أدنى اكتراث، فقال الكردينال في نفسه: إنها لا تعرف شيئا، ولا ترتاب في شيء.
وقالت كاترين أيضا: دعنا من هذه الشئون السياسية، ولنتكلم كلام الفلاسفة الحقيقيين عن خبث الرجال وغدر النساء.
وهنا لم يشأ جاليو أن يسمع أكثر مما سمع، فخرج على مهل فمر بين الحارسين الراقدين، وقصد إلى منزل أمير كوندة فأطلعه على ما جرى أمامه، فقال له: هل أنت على يقين؟ فأجابه: على أتم يقين يا مولاي. قال: إذن غدا أكون سجينا؟
أجاب: نعم، إلا إذا سافرت يا مولاي.
قال: وماذا قالت الملكة الوالدة عندما كلمها الكردينال عن مهاجمتي؟
أجاب: لا شيء يا مولاي، بل رأيتها تبتسم كأنها سمعت حديثا عن حلية نفيسة.
فقال الأمير في نفسه: أتتركني هي أيضا؟ وهل نسيت أن مرافقنا واحدة؟ ألا تبا لهذا البلاط اللعين، بلاط المكر والماكرين!
وإذ ذاك سمع جاليو صوتا خفيفا، فمال إلى الموضع الذي صدر منه الصوت، فأبصر ورقة صغيرة فالتقطها، وقدمها إلى الأمير قائلا: هذه الورقة لمولاي ولا ريب. فتناول أمير كوندة الورقة، وطالع فيها هذه الكلمات!
حذار لنفسك واهرب إذا قدرت!
كاترين
فتهلل وجه الأمير، وقال: لقد أخطأت في ارتيابي بكاترين، فهي مخلصة للأسرة المالكة. إذن إلى الغد يا ابن عمي دي جيز، وأنت يا جاليو اذهب فنم هنيئا، فلست تدري إذا كنت تنام غدا.
قال: إنني أرحب بالقتال منذ الآن.
واضطجع جاليو في غرفة مجاورة لغرفة الأمير.
الفصل الحادي عشر
مجلس الملك
ولما استيقظ جاليو كانت الشمس قد دخل نورها مخدعه، ففتح عينيه وسمع قائلا يقول له: يلوح لي يا عزيزي جاليو أنك تحب الفرش الوثيرة التي في بلاط الملك؟
فأدار وجهه فأبصر البارون دي برداليان عند مدخل الغرفة ينظر إليه نظرة الساخر المتهكم، فلم يقطب وجهه، بل أجابه: إني على الدوام أحب الفرش الوثيرة. - رأيي ألا تزدري فرش الفنادق. - نعم إذا كنت على سفر، ولكن يلوح لي أنني تشرفت قبل الآن بلقائك. - صدقت، فإنك رأيتني ثلاث مرات. - ألم أستعلم منك عن طريقي حين وصولي إلى القصر؟ - نعم، وهي مرة واحدة فقط. - لست أذكر غيرها. - عجبا لمن كان في سنك، ويفقد ذاكرته! - لعل ذلك من التربية والعادة، ولكن تفضل بالدخول إلى هنا. - كلا، فإني لا أستطيع التقدم. - وأي مانع يمنعك؟ - إني مقيم هنا على حراستك، ولا يحق لي الدخول على منزل الأمير. - مقيم على حراستي أنا؟ فهل صرت من القواد العظام حتى صرت أنت حارسا عندي؟ - ربما كان ذلك. - تكرم بالإيضاح. - إن الملك أمرني بالوقوف هنا لأمنعك من الخروج، وهكذا لم يبق لك من رجاء في مواعدة وصائف الملكة، ولا في التنزه في المدينة. - أنت يا سيدي تنم على وصائف الملكة. - وكيف ذلك، فهل نسيت أيضا موعدك ليلة أمس؟ - موعدي ليلة أمس؟ - لا تمزح فقد خرجت أمس من القصر. - أنا؟ - إني رأيتك بعيني. - أهذه إحدى المرات الثلاث التي رأيتني فيها؟ - نعم أيها الطالب. - أنت واهم يا سيدي فلست طالبا، وإنما أنا موظف عند الأمير، ولكن هل لك في أن تخبرني عن الموضع الآخر الذي اجتمعنا فيه أيضا؟ أجاب: حبا وكرامة، كان التقاؤنا على الطريق الذي بين باريس وأمبواز قرب فندق في ساعة قتال، ورصاص البنادق يتطاير في الفضاء. - أتلك هي المرة الثالثة؟ - نعم، وفيها تلقيت منك ضربة سيف على كتفي، وأشار برداليان إلى كتفه. - يسوءني كثيرا ما أصابك، ولكنني لا أتذكر أنني لقيتك في ذلك الموضع أو غيره.
ونظر إلى برداليان نظرة ساذج، حتى جعل هذا يسأل نفسه عما إذا كان واهما. أما جاليو فأدرك أنه لا يفيده في ذلك الحال إلا الاحتيال ، وقد أقيم الحراس على حجرة الأمير بأمر الملك، وليس لدى الأمير أحد ينصره أو يدافع عنه.
فقال: إذا اعتبرنا ما نحن فيه الآن فإننا سجينان، أنا ومولاي الأمير، وأنت السجان. أفتأذن لي بإنباء سيدي الأمير؟ - لقد أنبئ الأمير. - من أنبأه؟ - أنا يا سيدي، وقد مضى زمن وأنا أقرع بابك هذا حتى اضطر جناب الأمير إلى أن يفتحه بنفسه وأنت نائم ملء جفونك. - ذلك من فضل الشباب. - ذلك من نتائج التعب، وليس بمنكر على من يجول في الأسواق ليلا أن يتعب. - صدقت، إلا أنني نسيت ذهابي بالأمس إلى مقابلة غرامية، ولكن بحقك يا مسيو برداليان، إلا ما أنبأتني عن تلك الحبيبة، أتراها حسناء؟ - أظنك تسخر بي يا رجل، فحذار!
فكاد يرميه جاليو بكلمة لاذعة إلا أنه أمسك عنها، ونهض غير مكترث، وأخذ يتمشى في المخدع حتى وصل إلى النافذة ففتحها ليستنشق الهواء. لكنه تعجب لما رأى فرقة من حملة البنادق تحت النافذة، وفي ذلك الوقت رفع أمير كوندة الستر عن بابه، ونادى جاليو واجتذبه إلى وسط غرفته، وقال: تكلم واخفض صوتك، فقد سمعت ما قلته لهذا البارون اللعين، وإني لراض عنك. - لقد فعلت ما قدرت عليه. - هل تظن أنك أفلحت في تحويله عن اعتقاده؟ - لست على يقين، وإنما أظنه قد تزعزع اعتقاده شيئا. - تذكر ما أوصيك به الآن، فإذا سئلت فقل إنك إنما دخلت البلاط بناء على طلب رفع إلي من والدتك، وإنني عرفت والدك فيما مضى، واتخذتك وصيفا لي حافظا ولاءه، وأما مشاجرتك في الفندق، وقد أفلحت فيها، فأنكرها بتاتا. - سمعا وطاعة يا مولاي. - واعلم ألا قيمة ها هنا لغير البسالة والدهاء، فيجب على المرء أن يحسن ضرب السيف وتدبير الحيلة، ولا تعرض عن وصائف الملكة فهن ثرثارات لا يكتمن سرا عمن يحسن ملاطفتهن ومداعبتهن، وقد بدأت أمس بما يعجب ويدهش، فاستمر على ذلك. - شكرا لك يا مولاي. - واختر من أسلحتي السيف الذي تجده أفضل السيوف، ومن خيلي الجواد الذي يسمع صوتك، واحش غداراتك على الدوام، فلسنا ها هنا في موضع دعة وأمن، ولكننا سنقصد النافار
1
في القريب العاجل. فهل تعجبك الأسفار وملاقاة الأخطار؟ - إني لها يا مولاي. - إني ذاهب إلى مجلس الملك، فاتبعني وجرد سيفك نصف تجريد من غمده، والبث مستعدا للدفاع عني عند أول دعوة مني. واتجه كوندة إلى باب مخدعه دون أن يظهر عليه شيء من الاهتمام بحاله كسجين. فقال له البارون دي برداليان: عفوا يا مولاي، فإنني على الرغم مني لا أستطيع أن أدعك تخرج من هنا؛ لأن الأوامر التي لدي بهذا الشأن شديدة.
فأجابه الأمير: لئن حاولت منعي من الخروج فأنت تلجئني إلى قتلك.
فأثر هذا الكلام في البارون، إلا أنه قال: ومع ذلك فإنني لا آمن غضب الملك إذا تركتك تخرج. - قل غضب الدوق دي جيز لا الملك. ألا فاعلم يا هذا إن أمراء البيت المالك لا يطيعون غير الملك، وقد تركتك تمثل في هذا الصباح روايتك المضحكة، أما الآن فأرجو منك أن تترك بابي هذا. على أنني ذاهب لألقى فرنسوا الثاني، وقد أذنت لك بأن تكون من حراس الشرف فتلحق بي.
واجتاز الأمير أروقة القصر بعظمة حتى وصل إلى قاعة المشورة، فقال: افتحوا أيها الحراس!
فأجابوه: إن جلالة الملك مجتمع على عميه آل جيز.
قال: افتحوا أيها الحراس!
فأجابوه: لقد تلقينا أمرا بألا نفتح لأحد.
فلم يجب كوندة، لكنه التفت إلى جاليو، وقال له: تقدم أيها الشريف، ما دام هؤلاء القرويون الغلاظ لا يفعلون ما يجب عليهم فافعل أنت.
فتقدم جاليو ففتح الباب، ودخل كوندة الإيوان الذي أسموه قاعة المشورة، وقال للحاجب: أنبئ الملك بقدوم الأمير دي كوندة.
فتردد الحاجب إلا أن نظرة الأمير كانت فصيحة فلم يتمالك أن زحزح الستر، ونادى بصوت يضطرب فقال: مولاي أمير دي كوندة!
فامتنع المتحدثون عن الكلام، ونظر الملك والدوق دي جيز وأخوه الكردينال والملكة الوالدة إلى القادم متعجبين؛ لأنهم حسبوه سجينا يحرسه البارون دي برداليان.
فصاح الأمير بكبر: يلوح لي أن حضوري يضايقكم!
فأجابه الملك بلهجة الغضب قال: لقد كنا نظن يا ابن العم أنك في مسكنك !
وكان عما الملك يحدثانه منذ الصباح بما عرفاه في ذلك الليل، ويحاولان أن يستصدرا منه أمرا نهائيا بالقبض على أمير كوندة، وكادا يحصلان عليه عند دخول الملكة الوالدة، إلا أنها جعلت تلقي الأسئلة عليهما، وتوري وتلمح حتى منعت ابنها من التوقيع على ذلك الأمر، ولما حضر الأمير تحير أعداؤه، فقال متمهلا: مما لا شك فيه أن ابن عمي دي جيز كان يفضل ألا أجئ إلى هنا، إلا أنني علمت بأن جلالتك عقدت مجلسا، ولما كنت من أمراء البيت المالك، وكل مجلس لا يمكن انعقاده بدوني، أتيت لأبسط رأيي الحقير في هذا المجلس الكبير، ولأؤكد إخلاصي لجلالة الملك.
فتبسمت كاترين، وأدرك كوندة أنها نصيرته فيما يروم، فقال: على أن لدي شئونا خطيرة أردت أن أحدثكم عنها، وأرجو من جلالة الملك أن يدعو إلى هذا المجلس المسيو دي مونمورانسي
2
في هذا الصباح، وسيدعى إلى هنا.
فتبسم الأخوان تبسم اكتئاب، وهمس أحدهما في أذن الآخر يقول: لقد فسد تدبيرنا.
فأجابه: إن هذه المرأة أقوى منا يا شارل فلا بد من إهلاكها، وفي أثناء ذلك تناولت كاترين يدي ابنها ملاطفة، وهو لا يحفل بتلك الملاطفة؛ لأنه لم يحب أمه قط، وزال ما كان له من العطف عليها منذ ما تزوج ماري ستوارت. فكان يرى في والدته حماة زوجته وعدوة عمي حبيبته.
وإذ ذاك فتح الباب، ودخل القاعة مونمورانسي، فانحنى أمام الملك وكاترين، وسلم على الدوق دي جيز وأخيه باحتقار، ودنا من أمير دي كوندة، ثم قال: هل دعوتني أيها الملك؟ - لقد دعوتك لأقف على رأيك بشأن المؤامرة الفظيعة التي كدنا نذهب ضحاياها. - لقد اجتزت البلاد أيها الملك، وأجهل ما هي المؤامرة التي تتكلم عنها جلالتك، وإنما عرفت أن التأديب كان هائلا، وأن وقت الرفق والرأفة قد أزف.
فعض الدوق دي جيز شاربه، وأخذ ينظر إلى ضفاف اللوار، فقال مونمورانسي: هل عرفتم زعماء المؤامرة؟
أجاب الملك: نعم.
قال: وهل من الممكن معرفة أسمائهم؟
فلم يجب الملك، غير أن أمير دي كوندة استل سيفه من غمده ، وجعله على منضدة، وألقى قفازه إلى جانب السيف.
فصاح الملك: ما معنى هذا؟
قال أمير كوندة: لقد مضت ثلاثة أيام، وحولي جواسيس مجهولون يرقبون حركاتي وسكناتي، والشكوك الدنيئة حائمة حولي، وأعدائي الخائنون لا يهابون مهاجمة أمير من بيت الملك، ولا يرهبون لويس دي بوربون (يعني نفسه) وهم جبناء، يمنعهم جبنهم من الهجوم نهارا وعلانية، فيعمدون إلى السعي والنميمة سرا لإهلاكي. وقد رأيت في صباح هذا اليوم حراسا وقوفا عند بابي وتحت نوافذي، كأنني من المجرمين. ولقد سألت يا مسيو دي مونمورانسي عن زعماء المؤامرة وأسمائهم، فأنا أجيبك أنه لا يوجد شاهد واحد يدل على أولئك الزعماء، ولقد اجتهدوا كل الاجتهاد في حمل الأسرى المساكين على الاعتراف كذبا بما لا يعرفون، وقد تلفظ بعضهم بأسماء ضخمة، وإنما كان ذلك تخلصا من عذاب الاستنطاق الهائل، وعلى هذه التهم توكأ أعداؤنا ليدخلوا على الملك الشك في إخلاصنا. أما هؤلاء الزعماء الذين لم يشأ جلالة الملك ذكر أسمائهم فإني أذكرها لك يا مسيو دي مونمورانسي، أو أنا أذكر لك من يتهمونهم خفية، فأولهم أنت!
قال مونمورانسي: أنا! ومن ذا يتجرأ؟
أجاب أمير كوندة: ما من أحد هنا إلا ويتجرءون عليه. أجل، إنهم يتهمونك أنت، ثم يتهمون زعيم المستشفى، ويتهمون معكما الأمير لويس دي بوربون.
قال مونمورانسي: أنت أيها الأمير؟
أجاب: نعم أنا، ولم يتجرأ أحد حتى الآن على التكلم أمامي عن هذه الوشاية الدنيئة، ولكنني مطلع على ما يجري في البلاط، ومن يدري ما يكون لو لم أقدم إلى هنا للدفاع عن نفسي؟ كان يمكن أن يسفك الليلة دم أمير ينتمي إلى سن لويس! على أنني أيها السادة أجهل، وأود أن أجهل، مصدر هذه التهم، ولكن إذا تجرأ أحد على إعادتها فأنا أسأل جلالة الملك أن يتكرم علي فيأذن لي بقتله في مبارزة. هذا سيفي وهذا قفازي أطرحهما أمام النمامين!
وكان لهذه الكلمات وقع خطير على السامعين، فتناولت الملكة الوالدة مسبحتها، وبادرت إلى عد خرزاتها، واصفر وجه الملك اصفرارا شديدا، وظهرت عليه بقع صفراء هي آثار مرض اتصل إليه من مولده، وأما مونمورانسي فلم يكد يتمكن من إخفاء سروره؛ لأنه كان ألد عدو لآل دي جيز، وأما الدوق وأخوه الكردينال فلم يعرفا ما يفعلان. فقد استرد أمير كوندة في ساعة ما كانا يظنان أنه أضاعه، ورأى الدوق دي جيز أنه يستحيل الاعتراض، فعول على اتخاذ خطة المسالمة ريثما يتمكن من سوق الأمور إلى الجهة التي يرومها، فنهض وقال: إن هذه التهم ولا شك دنيئة فظيعة، وأحسبها تحط من قدري كما تحط من قدر ابن عمي الأمير، ولئن وجب قتال لأجلها، فلا يكون من شهداء لويس دي بوربون أحد قبلي؛ لأنني أعد هذا الدفاع شرفا لسيفي.
ودنا الدوق دي جيز من أمير كوندة، فلم يسع هذا إلا الاعتراف بدهاء ابن عمه، فقال له: أقر لك بأن كلامك لا يدهشني، وهو ما ينتظر سماعه من بطل مثلك، فأنا أشكر لك هذه المؤازرة.
قال: ألم يكن ذلك من واجباتي؟
فاستطار الفرح كاترين، وقالت: بل ذلك من واجبات كل خادم للملك.
وهكذا حصل أمير كوندة على ما أراد، فخرج من قاعة المجلس رافع الرأس تيها، فوجد عند الباب خادمه الأمين جاليو يحدث برداليان ويقول له: نعم، إني لم أتقلد سيفا من زمن إلا قريب، ولم يعلمني أستاذي إلا المصارعة، فإن بقيت مصرا على منازلتي، فإننا سنضطر إلى ترك سلاحنا جانبا، والمصارعة حتى يفوز أقوانا جسما.
أجاب: إذن إنا ننتظر حتى تتعلم استعمال السلاح؛ لأن المصارعة ليست من شأني. - هذا هو الرأي الصواب أيها البارون. أفتأذن لي بمفارقتك؟ - بل أنا أصحبك؛ لأن حياتك عزيزة لدي.
وهنا قال أمير كوندة: لا حاجة لي بهذه الخدمة منك يا مسيو دي برداليان، وأشكرك على مصاحبتك إياي.
فأشار الدوق دق جيز إلى برداليان يأمره باللحاق به، وابتعد الأمير مع جاليو، فقال برداليان للدوق: لا يهنأ لي عيش حتى أقطع أذني ذلك الفتى المغفل. - ألم تفتح معه باب الخصام؟ - ذلك مستحيل، فهو لا يسمع إلا ما يعجبه سماعه، وإذا سمع كلمة مؤلمة أخذ يدندن . - لعله جبان؟ - كلا، ولكن لا بد له من سبب يحمله على اجتناب المشاجرة في هذا الوقت، ولعل لديه أمرا من مولاه الأمير! - عليك بمراقبة المولى والشاب فقد أخطأنا مرماهما اليوم، ولكننا سنصيبهما في وقت غير بعيد.
الفصل الثاني عشر
كيف فاز أمير كوندة مرة ثانية على الدوق دي جيز
ولما رجع أمير كوندة إلى منزله بادر الدوق دي جيز إلى ملاقاة الملك مرة ثانية، فرآه يرتعد من تذكر الحادث الذي وقع أمامه. وكان مونمورانسي قد مضى، والكردينال ممتعض ينظر إلى السهى صامتا يسأل عما حمل أخاه على الرجوع عن عدوه. أما كاترين فكانت تتظاهر بأنها تصلي.
فلما جلس الدوق قرب أخيه قال له: هل لك في إيضاح معنى خروجك من هنا الساعة؟
فأجابه: لقد سرنا في طريق غير قويمة؛ ولذلك لم يكن بد من الرجوع.
قال: كيف ذلك ونحن واثقون بأنه كان زعيم المؤامرة؟
وقالت كاترين: إنه من أمراء البيت المالك في فرنسا!
قال الكردينال: ليس في نظر العدالة أمير أو كبير!
فقال الدوق: أصبت يا أخي، ولكن ليس ذا وقت التعرض له. فهل أبصرت النار التي اتقدت في عينيه، والطمأنينة التي لاحت عليه وهو يتكلم؟ وقد يكون موته سببا في فتنة عامة، وفي تصديق المنشورات والكتب المهيجة التي تطبع، وتنشر في كل يوم، ولا تتضمن إلا الطعن على آل جيز. فهم يتهموننا بأننا نروم ملاشاة الدم الملكي.
قال: أنت تبالغ يا أخي!
أجاب: أنا أبالغ؟ خذ وانظر!
وألقى الدوق على المنضدة كتابا صغيرا على الصفحة الأولى منه هذه الكلمة: «النمر». مطبوعة بالأحمر وتحت هذه الكلمة صورة «أرمة» بيت جيز فقال: إليك ما يكتبونه ضدنا.
فنظر الكردينال في الكتاب وصاح غاضبا: من أين هذا؟
فأجابه الدوق: من أورليان. - أتعرف اسم الكتبي الذي تجاسر على طبعه؟ - كلا، غير أن فيلار تلقى أوامري بهذا الشأن، وسيقبض على الكتبي ويشنق غدا، ومن سوء الحظ أن الوشايات والسعايات تنتشر بسرعة، فقد وزعت ألوف من هذا الكتاب، فلا بد لنا من أن نبرهن لأعدائنا أن هذه المطاعن افتراء وكذب. أما أمير كوندة فسوف نلقاه عندما تقوى جيوشنا، وكن مطمئن القلب يا أخي فذلك أمر لا تطول مدته.
وكانت كاترين تسمع هذه المحادثة وهي صامتة، والملك يصغي دون مشاركة في الحديث مع أن الأسئلة تتعلق بتاجه، وذانك الرجلان قابضان بأيديهما على نصيب المملكة، ولم ينبهه من ذهوله إلا الأمل بالقبض على أمير كوندة، فقال: نعم، لا بد من مراقبته، ومتى قدرنا على القبض عليه ومحاكمته و...
وهنا هاجه الغضب فنهض وتمشى إلى النافذة، وقال: الهواء الهواء وإلا اختنقت!
فوثبت كاترين إلى ولدها، وقد أدركت مراده، إلا أنه لم يستنشق الهواء حتى تراجع إلى الوراء، وسقط مغشيا عليه، وفيما كانت والدته تنهضه دنا الدوق والكردينال من النافذة فتقهقرا في الحال؛ لأن الهواء كان يحمل رائحة خبيثة فاسدة صادرة من الجثث التي أسرع إليها النتن، وكانت ملء شوارع المدينة، ورائحتها ملء الفضاء فيها وفي ضواحيها، وقد شنق يومئذ من البروتستانتيين عدد كبير في كل مكان حتى في جوار القصر، وقرب النهر.
وبعد هنيهة استفاق الملك، فكانت أول كلمة نطق بها قوله: هيا بنا نسافر!
فقال الدوق: إلى أين؟ - إلى شنونسو، أو إلى بلوا، أو إلى حيث تريدون، فإن الرائحة هنا لا تطاق، وقال الدوق: ولكن متى يكون السفر؟
أجاب الملك: في هذا اليوم بعينه، فلست أريد المبيت ها هنا. فتدبروا يا عماه، إن هذه الرائحة تؤذيني.
وخرج ووالدته كاترين تسنده.
وبعد بضع ساعات كان البلاط يسير إلى شنونسو، وحملوا الملك على محفة، وقد أصابته حمى شديدة، وقال الطبيب فرنل: إن الخطر ينذر حياته إذا بقي في أمبواز.
وتبع آل جيز الملك وهم حانقون؛ لأن سفره حبط تدابيرهم. وأخبر أمير كوندة بما جرى، وكان قد خرج راكبا جواده، فقال إنه لا يرجع إلا في المساء؛ وذلك لأن سفره أعاد إليه حريته، وعرف الأخوان أن الأمير لم يتردد طويلا فيما عزم عليه، وأنه إما أن يكون قد سافر إلى باريس، أو إلى النافار، وكان في هذه المملكة أخوه أنطوان دي بوربون ذو الشأن والسلطة والأميرة دي كوندة، وإنه متى ابتعد عن البلاط أمكنه أن يهيئ فتنة جديدة، ويجمع جنودا. فلما وصل الدوق دي جيز والكردينال إلى شنونسو أرسلا إلى أمير كوندة رجلا اسمه دي جنليس لكي يكون جاسوسا عليه، فلم يرض كوندة أن يقابله إلا في اليوم التالي، فقال له جنليس: لم أشأ يا مولاي رجوعا إلى البلاط قبل أن أعلم إذا كان لديك ما تقوله لجلالة الملك.
فأجابه: لا شيء عندي سوى أنني ألحق بالملك عند تمكني من ذلك، وإذا رام الاطلاع على خبري، فقل له: إنني خادمه المطيع الخاضع ونسيبه الودود، وإنني برغم التهم التي رميت بها عنده سوف يرى مني إخلاصا دائما، إلا إذا أكرهني على اعتناق غير مذهبي، فأنا لا أسمع قداسا، وأحتج على الإكراه في الدين. - هذه أنباء سيئة ليتك تعهد بها إلى غيري. - حبا وكرامة يا مسيو جنليس، ولئن لم تبلغ رسالتي فأنا سأبلغها بنفسي، وآمل أن ألقى أخي ملك النافار، ولست ألقاه إلا بعد الاستئذان من ملك فرنسا.
وبعد رحيل جنليس، نادى أمير كوندة جاليو فقال له: إن الوقت لا يتسع للحديث، وقد فهمت كنه ما ينويه ابن عمي دي جيز. فهو يروم أن يقتادني إلى باريس، وهو فيها السيد المطلق والآمر المطاع، أو إلى مجلس النواب، وله فيه الكلمة العليا، وقد خسر ابن عمي المعركة الأولى منذ يومين، فخير لي أن أتمهل لأتمتع بفشله وانتصاري. فهل تود يا جاليو أن تقابل برداليان مرة ثانية؟
أجاب: لا يلذ لي شيء مثل أن أتحفه بضربة ثانية من سيفي لعله يتأدب معي. - إياك والمبارزة في هذا الوقت، وإنما يجب أن تعلن على رءوس الأشهاد أنك راحل إلى باريس لتلتحق بالبلاط، ثم تسبقني يوما واحدا. - وبعد اليوم الواحد؟ - متى انقضى النهار ولم تجدني أتيت تظهر الدهش والتعجب، فيسألونك عني، فتمازح برداليان حتى يلوح لك أن دائرة المزاح قد ضاقت، فتسافر لاحقا بي إلى غسقونيا.
ولقد أنجز جاليو الأمر فوصل إلى شنونسو، وكان الملك قد عزم على الوقوف فيها أياما قبل الاستمرار إلى باريس. فظل جاليو ثلاثة أيام يجاوب رجال البلاط عن مولاه أمير كوندة، ولما رأى أن المستفهمين قد قل وثوقهم بكلامه عزم على السفر. إلا أن مرسلين وعدته بليلة في حديقة شنونسو، فسار إلى الموعد ولقي حبيبته في خميلة ملتفة، وهي ترتعد فرحا وخوفا، إلا أن سرورهما باللقاء لم تطل مدته؛ لأن حملة البنادق أحاطوا بالخميلة من كل جهة، وكان فيهم الدوق دي جيز وغيره من رجال الدوق. فقال الدوق: هل تحققت يا برداليان من دخوله هذه الخميلة الكثيفة؟ فأجابه: نعم.
قال الدوق: سدوا المنافذ! وهل عرفت السيدة التي سبقته إلى هنا؟ - كلا، فإنها كانت مبرقعة. - لا جرم أنها صاحبته التي اجتمع بها في الفندق. إذن فنحن نكرههما على أن يسلمانا رسالة كاترين المكتوبة إلى أمير كوندة، فإني على يقين من أن الملكة الوالدة تراسل الأمير، وأن جاليو هو الرسول.
ثم رفع الدوق صوته، وقال: اقبضوا على الاثنين!
وسمع جاليو هذه الكلمات، فقال في نفسه: هيهات، يا مرسلين تنبهي جيدا إلى ما يجري. متى سمعتني أصرخ «إلي أيها البواسل» اهربي إلى ناحية القصر؛ لأن الطريق تكون وقتئذ خالية لك.
وضاقت دائرة المهاجمين شيئا فشيئا، وقال الدوق: اخرجا وإلا فالنار!
إلا أن جاليو كان يحاول أن يعرف عدد خصومه، فتحقق أن ممشيين من المماشي الثلاثة المؤدية إلى الخميلة قد وقف فيهما بعض الأشراف متقلدي السيوف وحملة البنادق، وأن الثالث ليس فيه إلا اثنان من حملة البنادق. فقال في نفسه: إذن ويل لهما، وفي أسرع من رد الطرف وثب عليهما، فطرحهما على الأرض بضربتين من قبضتيه قبل أن يتمكنا من العلم بوجوده، وصاح لساعته: «إلي أيها البواسل!»
فتواثب الدوق ورجاله مزدحمين في الممشيين، وفي أثناء ذلك كانت مرسلين قد انسلت إلى طريق القصر، ومن سوء الحظ أن المهاجمين سمعوا وقع خطى مرسلين فحاولوا اللحاق بها، غير أن المسافة التي بين ذلك الموضع والقصر كانت بعيدة، فقالوا: سوف نقبض عليها قبل أن تصل، وهو أمر عول جاليو على أن يمنع وقوعه، ولما وصل الدوق ورجاله إلى الممشى ألفوا جاليو شاهرا سيفه، فقال برداليان: هذا هو!
فقال الدوق: افعل به ما شئت يا برداليان، ولكن لا تقتله.
فأجابه جاليو: شكرا لك أيها الدوق، فإن انعطافك ملأ فؤادي سرورا.
ثم جالد برداليان بسيفه حتى أدناه من وجهه، واضطر الدوق إلى مد يده ليمنع صاحبه، وإذا بالرجال الثلاثة قد أخذوا يتجالدون بالسيوف وجاليو يتقهقر شيئا فشيئا، وكان قد استند إلى شجرة، وأمن أن يضرب من خلف، فاكتفى بأن جعل يمد سيفه إلى صدر الدوق تارة، وإلى صدر برداليان تارة أخرى بسرعة مدهشة، حتى لم يجسر أحد منهما على الدنو، وما زال يدافع عن نفسه ويمانع حتى خذلته قواه وأيقن أن مرسلين نجت، ثم خذلته ساقاه فانحنى فأصابته ضربة من سيف الدوق جرحته، وأقبل الرجال فأمسكوه، وقال له الدوق: إن هذا الفتى شيطان في صورة إنسان.
قال برداليان: إنه قتل اثنين.
قال الدوق: ولو أنه التقى بكل منا على حدة لجرحنا نحن الاثنين.
فضحك برداليان وقال: انظر إلى صدرتك يا مولاي فإنها مخضبة بدمك.
قال الدوق: كصدرتك أنت! فانظر إليها.
فقال برداليان: نعم، ولكن هذه الجروح خدوش.
وذلك أن جاليو أصابهما بجراح خفيفة تدل على حذق وبراعة كبيرة في لعب السيف. فقال برداليان: هذا هو الذي ضربني بسيفه تلك المرة قد تحققت من معرفته اليوم.
ولما وصلوا إلى القصر بحثوا في جيوب جاليو فلم يجدوا معه رسالة، وتكلم الدوق عن استنطاقه، فظن جاليو أن وقت الاستنطاق قريب، فتظاهر بالإغماء، فطرحوه في سجن عند قنطرة جسر، وفي اليوم التالي عصبت جراحه، وجيء به إلى الدوق دي جيز فرآه جاليو غاضبا؛ لأن دي جنليس جاسوسه وافاه بأنباء سيئة، وذلك أن أمير كوندة وصل إلى بلوا فأنبأ حكام المدينة أنه لاحق ببلاط الملك، لكنه لم يبتعد عن أسوار المدينة إلا قليلا حتى انحرف إلى طريق آخر، وصحبه رجل اسمه روبر دلاهاي فأعمل في شاكلة جواده المهماز سائرا في طريق بواتيه، وقال جنليس أيضا: إن الأمير لقي في بواتيه شريفا لا يزال يجهل اسمه فصحبه إلى غاسقونيا.
فكان الدوق تلقاء هذا الخبر السيئ، خبر نجاة عدوه، يروح ويجيء في الحجرة، وأحس جاليو بالهلاك فقال في نفسه: أتظاهر بالبله، وإذا بالدوق قد تمشى إليه، وقال له: أهكذا تخدعنا يا رجل؟ أجاب: أنا يا مولاي؟ قال: نعم أنت. هيا فأعد على سمعي الإيضاحات الحقيقية التي تلقيتها من مولاك. أجاب: لقد أمرني الأمير بأن أسبقه وأنتظره في البلاط. ورفع جاليو بصره إلى السماء.
فقال الدوق: ألم تكن تدري بأنه ينوي نية أخرى؟
قال: وهل كان ينوي غير ذلك؟
أجاب: بلا شك؛ لأنه سافر إلى غسقونيا.
قال: سافر الأمير؟ سافر بدوني؟ أواه، لقد كنت أتمنى أن أصحبه في سفره! تلفظ بهذه الكلمات بلهجة صدق وأسف حتى نظر إليه الدوق منذهلا، وقال: قسما بشرفي لست أدري إذا كان هذا اللعين صادقا أو كاذبا فلم يبق إلا الجلاد، علي بفيلار (اسم الجلاد).
وللحال أقبل فيلار، وكان مشهورا بالقسوة، فارتعدت فرائص جاليو لما رآه، فقال له الدوق: أتعرف هذا الرجل؟
أجاب: لا يا مولاي.
قال: إنه سجين لا يريد الكلام، فعليك أن تحل عقدة لسانه!
وفيما كان فيلار يدنو من جاليو دخلت الملكة الوالدة حجرة الدوق، فقالت له: إن ولدي يروم الرجوع إلى باريس، ويطلب إليك أن تأمر بالتأهب للرحيل.
أجاب: سمعا وطاعة يا سيدتي فغدا نسافر.
فقالت: من هذا الشاب؟
أجاب: سجين قبضنا عليه أمس أنا والمسيو دي برداليان، وهو شاب ذو علاقات بوصائفك.
قالت: ما اسمه؟
أجاب: اسمه جاليو دي نرساك.
ولم يكن جاليو قد تكلم بعد، إلا أنه أمل خيرا من قدوم الملكة، فرفع بصره إليها مستعطفا، وقال: اسمي جاليو دي نرساك، من رجال الأمير، وهم عازمون على تعذيبي.
قالت: عازمون على تعذيبك؟! ألم تكن مع الأمير عندما سافر؟
أجاب: نعم يا سيدتي.
قالت: وهل يتأخر مولاك عن الحضور؟
فقال الدوق: نعم يتأخر ولا شك؛ لأنه فر إلى غسقونيا لعلمه بأنه مجرم، وأرسل إلينا وصيفه هذا ليخادعنا به، ولا يريد هذا الغبي أن يتكلم، فعهدنا إلى فيلار بحل عقدة لسانه.
وكان فيلار قد لصق بجاليو وأمسك يده، فتقدمت إليه الملكة ونظرت إليه، وقالت: مسكين!
ثم خفضت صوتها وهمست تقول للجلاد: لك خمسون دينارا إذا ادعيت أن آلات التعذيب ليست عندك.
وقال الدوق: خذ الفتى فإننا لاحقون بك.
أجاب: نعم، ولكن ليس في طاقتي أن أفعل شيئا هنا.
قال: لماذا؟ - لأننا رحلنا على عجل من مدينة أمبواز، فغادرت فيها آلاتي. - أليس لديك شيء منها؟ - كلا يا مولاي، ولا يسعنا استنطاق هذا الشاب إلا حين وصولنا إلى أورليان أثناء ذهابنا إلى باريس. فعض الدوق شفتيه، ولم يدر في خلده أن الجلاد كاذب؛ لأنه قضى زمنا طويلا في خدمة الدوق، وكان فيه أمينا فاكتفى بأن لعن قلة توفيقه. فقال الدوق لجاليو: صبرا إن العذاب لا يفوتك.
أجاب: ليس لدي ما أقوله يا مولاي في أورليان، ولا ها هنا زيادة على ما قلت.
الفصل الثالث عشر
ما وراء طبع الكتب المهيجة من الخطر
كان الأستاذ يعقوب لوم يتمشى في حانوته في أورليان مسرورا، ولاحظته ابنته فلم تر على وجهه أمارات الانزعاج كالعادة، فقالت له: ها قد طابت نفسك يا أبت فلست أراك مكتئبا. - نعم يا ابنتي، فإنني اليوم أشد سرورا مني بالأمس. - أكنت مغموما يا أبت ولم تخبرني؟ - لم أكن مغموما، ولكن القلق أزال سروري. ألا تذكرين ذلك الكتاب الذي سلمني إياه بلترو؟ - نعم، هو كتاب عنوانه «النمر» كتب ضد الدوق دي جيز. - نعم، وقد توسلت إلي كي لا أطبعه، إلا أنني طبعته خفية عنك، وكان شديد اللهجة والطعن حتى جعلني أفقد راحتي، وكان يخطر لي على الدوام أن أحد رسل الدوق قد يعثر عليه في مكتبتي. - لقد أتيت أمرا إدا يا أبت. - لا خوف يا بنية، فلم يبق عندي إلا رزمة واحدة من هذا الكتاب، وسوف يأتي صباح اليوم رسول من عند أمير كوندة ليأخذ تلك الرزمة. فإذا جاء غدا أحد من رجال الدوق إلى هنا لم يجد عندي شيئا.
واستمر الكتبي يصف الكتب والأوراق، وانهمكت مادلين في شغل البيت. إلا أنهما سمعا وقتئذ ضجة في الشارع، وأحسا بقوم مقبلين إلى الحانوت.
وكان في المدينة رجل اسمه ماتيو، ينوب عن الجلاد فيلار في مهمة التعذيب، وقد تلقى أمرا بالبحث في مكتبة يعقوب لوم عن الكتب. فاتجه بجماعة من رجاله إلى حانوته فدخله فرأى اصفرار الأموات على وجه يعقوب، فقال له: إن اصفرارك يدل على اجترامك، وعلى أن ضميرك غير مستريح.
فأجابه لوم: إن ضمير الرجل الصالح المستقيم مستريح على الدوام.
فرفع ماتيو كتفيه وأخرج كتابا من محفظة معه، وأطلع الكتبي عليه قائلا له: أتعرف هذا؟
فأدرك لوم أنه هالك.
فقال ماتيو: أتعرف هذا الكتاب؟ إنك لا تريد مجاوبتي على سؤالي، فابحثوا يا رجال.
ولم تطل مدة البحث؛ لأن أحد الرجال وجد الرزمة في إحدى زوايا الحانوت فحملها إلى ماتيو، فأخرج منها مائتي نسخة شبيهة بالنسخة التي كانت معه.
فرفع يده على كتف لوم، وقال: إني أنوب عن الملك والدوق دي جيز وأستاذي فيلار في القبض عليك!
فأجابه الكتبي: لا يصيبنا إلا ما كتب الله لنا!
وفي الحال أخذ الرجال بتلابيبه، وأوثقوا يديه وعزموا على اقتياده إلى القصر، وإنفاذ العدل في القصر أسرع وأعجل من إنفاذه في سجن المدينة، وكانت مادلين تتأمل ما يجري مرتاعة، والدمع يهطل على وجنتيها. فلما أمر ماتيو باقتياد أبيها ترامت على قدمي ذلك الجلاد الشقي، وقالت: كلا يا سيدي، حاشا لله وللمروءة أن تفعل. أناشدك الله لا تحرم ابنة من أبيها، وأتوسل إليك أن تتركه لي فليس لي أحد سواه، وهو قومي وأسرتي.
فقال: ردوا هذه الحسناء!
قالت: إذن أتأذن لي بأن أرافقه وأشاطره الأسر، فإذا مات أموت معه؟
قال: بل البثي في بيتك، فليس لدي أمر بالقبض على غير أبيك، فلا أسوق أحدا سواه.
ودفع الفتاة عنه بعنف، فسقطت على قدمي أبيها مغمى عليها. فانحنى لوم وقبل ابنته، ثم اتجه إلى الباب، وقال بصوت هادئ: إني مستعد فلنذهب.
وانتشر خبر القبض على يعقوب لوم، فكان وقعه على جماعات البروتستانت وقع الصاعقة. أما الكاثوليكيون ففرحوا وطربوا، وأخذوا يتكلمون عن ثروة الرجل، ويقولون: إن مصدرها نشر الكتب المهيجة، ورأوا إعدام الرجل عدلا وإنصافا، واستطالت الألسنة على مادلين فذكروا قصة الرجل الذي وجد صريعا تحت نافذتها، وفيما كانت الفتاة المسكينة تصلي عند المساء في حجرتها أسمعوها الكلام القارص والإهانات الجارحة، فلم تنم ليلتها، ولما كان الصباح قصدت القصر، وهي ترجو أن يؤذن لها بمقابلة أبيها وتوديعه، فمنعها الحراس. فقالت لهم: إنه أبي يا قوم! إن السجين أبي، وأريد أن أراه فأي خطر يخشى مني، وأنا امرأة ولا سلاح معي؟ فلماذا تطردونني؟
فأجابوها: اذهبي فالقي الملازم ماتيو فهو الذي يتولى شنق أبيك غدا.
وفي اليوم التالي اجتمع جمهور غفير في ساحة أورليان، وظلت مادلين ليلتها تسمع وقع المطارق على الخشب. فلما كان الصباح رجعت إلى القصر عازمة على انتظار والدها، وللحال انفتح الباب الكبير، ومر أمامها موكب من الحراس والجند والجلاد ماتيو يمشي وراءهم، ويجيل بصره الوحشي في الجمهور، وقد ألبسوا يعقوب لوم ثوبا أسود، وأحدق به أعوان الجلاد.
فتخطت مادلين الصفوف، وارتمت على صدر أبيها، فأراد ماتيو التفريق بينهما غير أن بقية رحمة منعته من ذلك، فرافقت الفتاة أباها حتى المشنقة، وهي تنظر إلى وجهه، وكانت تمشي على مهل شاعرة بأن كل خطوة تدنيها من الساعة الهائلة، ساعة تغدو ابنة يتيمة. أما يعقوب فلم يتكلم، بل تهيأ لأن يموت موت الشجعان دفاعا عن مذهبه. ففكر في الشهداء الماضيين، وفي سيره على خطتهم واقتدائه بهم.
ولما آن وقت افتراق مادلين عن أبيها تولاها الضعف والجزع، فقال لها: لا تجزعي يا بنية فموعدنا السماء.
فقبلته لآخر مرة، وركعت على الأرض مخفية وجهها بين راحتيها. فتلفظ الجلاد بكلمات مؤداها مجازاة الخائنين بما يستحقون من عقاب عادل. فهتف الجمهور وصاح يقول: ليمت عدو الدين! وليمت عدو الدوق دي جيز!
وهنا قال الجلاد ماتيو: تعذرني يا كتبي جهنم إذا لم أنجز فيك أمر الدوق دي جيز؛ لأنه أمرني بشنقك على خشبة عالية، ولكن الوقت لا يتسع للبحث عن شجرة فأنا أشنقك بالحديد.
وطوق عنقه بطوق من حديد، وضغطه به فأزهق روحه كما فعل بجسبار عديل لارنودي فيما مضى.
فلبثت مادلين وقتا طويلا في ذلك المكان، ولما خطر لها الانصراف وجدت بلترو بقربها، وكان قد سافر ليلته بطولها ليرى صديقه في أواخر حياته، فأمسك بيد الفتاة، ومشى وإياها إلى البيت، فقالت له: إليك كل ما نمتلكه من مال فادفعه إلى أولئك الأنذال حتى يأذنوا لك بنقل جثة أبي.
فأجابها: سأفعل يا مادلين.
قالت: شكرا لك يا بلترو، فإني لم أر سواك في وقت الشدة.
ودفع بلترو ثلاثين دينارا حتى تمكن من أخذ الجثة ودفنها، وعاد إلى مادلين فسار بها إلى المدفن، وجاء بقسيس ليلا فصلى على الميت. ثم إن مادلين أكرهت صديقها الوحيد بلترو على المبيت عندها تلك الليلة، فقال لها: لست قادرا على قبول هذه الدعوة خيفة أن ينثلم صيتك.
فأجابته بكآبة: إن المدينة كلها تحسبني فتاة ساقطة، فلا صيت لي، وغدا نتكلم عن الماضي، وعن المستقبل.
وفي اليوم التالي نزلت مادلين إلى الحانوت فأبصرت فيه كل ما يذكرها بأبيها فبكت بكاء شديدا، ولحق بها بلترو فمدت إليه يدها، وقالت له: أنت أخي فأنا أحبك حب الإخاء، ويحق لك أن تطالبني بإيضاح عما مضى.
قال: يالله ولم الكلام عن أشياء مضت؟
قالت: يجب أن تعرف كل شيء، ولا بد لي من عفوك. فقد كنت تهواني، وحملني جنوني على أن أحتقر هواك، إلا أن ذلك لا يمكن تلافيه، كنت أهوى الملازم فرنسوا، وهو الذي كاد أن يقتلك في إحدى الليالي، وألقاك تحت نافذتي، وكنت أجهل أنك الرجل الذي وثب إليها من الشارع.
فسبقها الكلام قائلا: هل تعرفين يا مادلين اسم الرجل؟
أجابت: اسمه فرنسوا، وهو ملازم، وقد وعدني.
قال: يا لك من فتاة مسكينة! لقد وعدك بأن يقترن بك، أليس الأمر كذلك؟
وفي تلك الدقيقة سمعا قرع الطبول في الساحة، وارتفعت أصوات الناس، فارتعد بلترو وصعد إلى شرفة البيت فتبعته مادلين، فأبصروا جمهورا من الأشراف لابسين أفخر الملابس، وهم يتقدمون المركبات إلى ساحة أورليان.
فقالت مادلين: ما هذا؟ أليس بلاط الملك؟
أجاب: نعم يا مادلين، هذا موكب الملك فرنسوا الثاني، فإنه راجع إلى باريس مارا بأورليان.
وإذا بمادلين قد مدت يدها إلى أحد الفرسان، وقالت لبلترو بصوت خشن: من ذاك الفارس؟
فلم يحر جوابا.
قالت: تكلم بحق السماء!
أجاب: هو فرنسوا دي جيز.
قالت: يا للداهية.
وسقطت على الشرفة من غير حراك؛ لأنها عرفت به الملازم فرنسوا. فوثب إليها بلترو، وحاول تنبيهها، وإعادة رشدها إليها، وكان يغمغم الكلام قائلا: ويل لك يا دوق فرنسوا، وويل لقومك؛ لأن كل ما جرى يستحق القصاص.
الفصل الرابع عشر
ليلة جميلة
كان الدوق دي جيز قد عزم على الوقوف في أورليان ليأمر باستنطاق جاليو دي نرساك، وكان معنى الاستنطاق في ذلك الزمن تعذيب المتهم بآلات التعذيب، ولكن لما ذكر للدوق اسم الكتبي الذي شنق بالأمس أوسع الخطى خائفا أن تجمعه الصدفة بمادلين. فاكتفى بأن أمر برداليان بشدة مراقبة سجينه، ولقد كان سفر السجين على مركبة مقفلة محوطة برجال مسلحين تلقوا أمرا بقتل السجين إن هو حاول فرارا، وفيما كانوا خارجين من أورليان، قال جاليو لبرداليان: إني أرى لك وجها باسما بشوشا وطلعة بهية. - هب الأمر كذلك. - إن توفيقك ينسيني حبيبتي الحسناء، وكان جاليو يحاول بمثل هذا الكلام أن يحمل سجانه على الثرثرة والهذر؛ لأنه رآه يطالع تذكرة، وقال في نفسه لعلها تذكرة غرامية ضرب له فيها موعد، فإذا ذهب إليه تمتع جاليو بحريته ساعة من الزمن.
وفيما كان جاليو يأكل طعامه عند المساء أحس بورقة في اللقمة فارتعد، ولما أشعل الحراس مصابيحهم انتهز تلك الفرصة فقرأ في الورقة هذه الكلمات:
كن مستعدا في هذه الليلة، إنا نسعى لك.
فقال في نفسه: هذه رسالة من الملكة الوالدة؛ لأن ورقها معطر وكتابتها دقيقة، وأطل من المركبة فأبصر البارون ما زال يقرأ تذكرته، وكانوا قد وصلوا إلى موضع يقال له أرتناي، ودخل بعض الأشراف بيوتا فيه ترجى منها حسن الضيافة، وأما القسم الأكبر منهم فتهيأ للرقاد في المركبات، ولم يشأ جاليو رقادا من غير أن يخاطب برداليان، ويتمنى له الهناء التام في ليلته، فقال له: أسأل الله لك يا عزيزي برداليان أحلاما تبرز فيها لك حور الجنان متبرجات متزينات، فقد عزمت على الرقاد.
وبعد هنيهة تمدد جاليو على وسائد المركبة، وأخذ يغط غطيط المستغرق في نومه، ولبث برداليان بقربه ساعة، وأخذ يشدد التنبيه على رجاله بالمراقبة والحراسة. ثم بادر إلى موعد ضربته له إحدى وصائف الشرف في التذكرة الآتي نصها:
عزيزي البارون
متى وصلنا إلى أرتناي، وانطفأت الأنوار، ونام سجينك، تعال إلي وقف تحت نافذتي، فإني أود سماع كلماتك الغرامية.
أناييس
فلما مضى برداليان فتح جاليو عينيه، وجعل ينظر إلى الطريق، وكان عنده أربعة من الحراس، رابعهم زعيمهم، وكان يتمشى الثلاثة وهم يتحدثون، أما الزعيم فكان واقفا وحده يترنم بأنشودة غرامية، ويقول في نفسه: قاتل الله الوحدة!
وكأنما أجاب الله دعاءه فمرت به وقتئذ ماشطة الملكة، وهي فتاة إيطالية اسمها «جذابة»، فقال لها: إلى أين؟ أجابت: إني أتنزه أيها الزعيم واقتطف الأزهار. قال: ألا تخافين من التنزه ليلا؟ أجابت: أنا أخاف؟ أنت تدري إنني لا أخاف الرجال. قال: لا يليق بك يا جذابة أن تسيري وحدك ليلا، فبحقك إلا ما أذنت لي بصحبتك؟
وبهت جاليو لما رأى تلك الإيطالية قد تناولت يد الزعيم، فقال في نفسه: إن جذابة هذه سريعة الانقياد!
ولم يكد ينطلق الزعيم والإيطالية حتى أقبل خادم يحمل زجاجات ملأى. فقال له أحد الحراس: إلى أين؟ فأجابه: إني أبحث عن جنود البارون برداليان. قال: لقد وصلت، فنحن جنوده. قال: لقد سرني ذلك؛ لأن ساعدي يكاد ينكسر من ثقل هذه الزجاجات. أحقا إنكم جنود البارون؟ أجاب: نعم، فما الذي تحتاجه منهم؟ أجاب: إن البارون أرسل إليكم هذه الزجاجات. - أيروم حفظها لدينا؟ أجاب الخادم: بل أرسلها لتشربوها. - غدا؟ أجاب: بل الليلة. فإن البارون طروب، وقد ود أن يطرب جنوده مثله. ثم إنه أعطاني هذا النرد.
قال أحد الجنود: هذا يصلح للعب، وليس لدينا نقود . فقال الخادم: ولقد أرسل إليكم نقودا كذلك، لكل منكم ستة دنانير.
فأجابه الجندي: ليس ذلك الكرم من عادات سيدنا البارون، فهل لك في مشاطرتنا اللعب والخمر؟ - حبا وكرامة يا أصدقائي.
وكان جاليو يرى ويسمع فظن أن حورية من حور الجنان أتت هذه المعجزات لنجاته، وللحال شرب الجنود الخمرة، وتفرقت الدنانير بين أيدي الرجال من رابح وخاسر، كما تفرقت الخمرة في الرءوس فأسكرتهم. فقال جاليو في نفسه: لم يبق إلا أن أنتظر الدفعة الأخيرة، وما وراءها إلا جواد وسيف ونقود، يا لله! أفي يقظة أنا أم في منام؟ ذلك لأنه أبصر امرأة تتمشى على مهل، فمرت على مقربة من الجنود، وقد أخذهم النعاس، ففتحت باب المركبة وأمسكت يد جاليو، وقالت: تعال!
فارتعد جاليو وقد عرف الملكة الوالدة، فتبعها من غير أن يتلفظ بكلمة، فخرجا من أرتناي، وتجاوزا الحراس بعد أن ألقت الملكة كلمة المرور. فقال لها جاليو: إلى أين أيتها السيدة؟
أجابت: اخفض صوتك يا غلام فإن الجواسيس حولنا، وقد يسمعنا سامع.
ولم يتجرأ جاليو على الكلام، فسارا حتى ابتعدا عن أرتناي، وجاليو يعجب بتلك المرأة التي تتحمل مشقة السير أكثر من كل وصيفة من وصيفاتها، وإذا بوقع حوافر جواد قد طرق آذانهما، فقالت الملكة: قد وصلنا!
وكان للطريق عطفة وقف عندها رجل بيده زمام جواد مسرج، وعلى سرجه سيف طويل وغدارتان وخنجر، فصاح جاليو: إنك أنقذتني يا سيدتي، فشكرا لك من صميم فؤادي.
قالت: وكيف جرحك؟
أجاب: إنه شفي تماما الآن.
قالت: قد يسيل دمه من حركة الجواد، فخذ هذا المرهم إنه يتمم الشفاء.
أجاب: أزيدك شكرا يا مولاتي وأسألك: أي حاجة لك؟
قالت: إن أمير كوندة ينتظر وصولك، فلا تنكر علي أمرا قد حزرته. فخذ هذه الرسالة إليه، ولا تسلمها لأحد سواه. فإذا تبعك أحد فاعمل في شاكلة جوادك المهماز، وتحت السرج نقود كافية لشراء جواد آخر، وإياك أن تدع الرسالة تسقط منك، أو تصير إلى يد سواك.
أجاب: سوف أهلك يا سيدتي قبل أن أسلمها إلى أحد .
قالت : وتسلم الأمير هذه الرسالة التي كتبتها الآنسة دي ليمول.
وكان ضوء القمر مشرقا على وجه الملكة، ودهش جاليو من حسنها، فقال: إنى لك يا مولاتي روحا وجسدا. بل أنا مستعد لأن أموت في الدفاع عنك، ولكن أود ألا أموت دون أن أتزود بنظرة من وجهك.
فتبسمت الملكة وحلت من عنقها تصويرة مصغرة لطيفة، دائرها مرصع بالحجارة الكريمة، ودفعتها إلى جاليو. فتناولها منها ولثم يدها، ثم وثب إلى جواده. فتأملته الملكة هنيهة، وأشارت إليه إشارة وداع، وقالت: أدعو لك بالتوفيق، فتشجع!
وللحال اختفى جاليو، وعادت الملكة إلى أرتناي وهي تقول: عسى أن تكون أناييس قد تمكنت من حجز البارون عندها.
وكانت أناييس قد اجتذبت البارون برداليان إلى الجهة الأخرى من القرية، وتمكنت من استبقائه لديها حتى انتصف الليل. فشيعها إلى بيتها، وهو يقول لها: ما أحلى هذه الليلة يا حبيبتي!
فقالت له: كفى يا بارون تغزلا، فلي حاجة إليك. - تكلمي. - لقد عهد إليك الدوق بالقيام على حراسة شاب جميل المنظر. - نعم، هو جاليو دي نرساك رسول أمير كوندة! - يقال إنه صبيح الوجه. - قد يخطئ القائلون. - ويقال إنه حلو المعاشرة، بارع الظرف. - ذلك ضلال. - وإنه شجاع! - بل يحسن الدفاع عن نفسه إذا هجم عليه مهاجم ليقتله. فما مرادك من هذه الأسئلة المتوالية؟ - أود أن أرى سجينك غدا. - ما هذا الخاطر الذي خطر لك؟ - عدني بذلك يا بارون. - وهل أستطيع أن أرفض؟
ومضت إلى موضعها بين وصائف الملكة، وعزم برداليان على الذهاب إلى فراشه للرقاد، لكنه رأى أن يرقب سجينه قبل ذلك، ولما تبين له من بعيد أن أنوار الحرس مطفأة تولاه شيء من القلق. ثم تحول قلقه إلى انزعاج لما لم يجد زعيمهم قرب المركبة، ولما اقترب وأبصر جنوده نائمين ملء جفونهم في وسط الطريق، وبجوارهم زجاجات الخمر الفارغة والنرد، هاج هائجه حنقا، ودخل المركبة فلم يجد جاليو فيها، فضرب برجله أحد الجنود وبعد عناء أيقظه، وقال له: ماذا تفعل يا حيوان؟
فنهض يمسح عينيه، ويقول: إني، أنام.
قال: تنام وتغفل عن الحراسة، والسجين؟
فكرر قوله: الحراسة والسجين؟ ثم تساقط على الأرض من شدة السكر.
فاضطر برداليان إلى إيقاظ كل جندي واحدا بعد واحد، وتنبيههم جيدا حتى وقف الثلاثة أمامه وهم يترنحون سكرا. فقال لهم وصوته يرتجف غضبا: ما معنى هذه الزجاجات الفارغة؟
فأجابوه: إنها زجاجاتك أيها المولي!
قال: وكيف ذلك؟
قالوا: إنها تلك التي أرسلت بها إلينا مع الخادم.
قال: أنتم مخطئون، ولا يزال السكر آخذا منكم. فما هذا الكلام؟
فأجابه أحدهم: هو الحقيقة.
قال: أين زعيمكم؟
أجابوا: زعيمنا؟!
وقال أحدهم: لست أدري إذا كان ينبغي أن أتكلم.
قال برداليان: ويك تكلم وإلا قتلتك!
أجاب: إن زعيمنا ذهب مع امرأة!
قال: من تلك المرأة؟
أجاب: اسمها «جذابة».
قال: لعنة الله على الإيطالية اللعينة. إني وقعت في الشرك!
وللحال عقد برداليان نيته على أمر، فبادر وأخبر أحد رجال الدوق دي جيز أن سجينه قد تمكن من الفرار، ولم يزده بيانا سوى أنه سيلحق به، ثم غادر جنوده، ولم يكونوا في حالة صالحة للمساعدة، فاختار ستة آخرين وأركبهم أفراسا، ووثب وإياهم في طريق أورليان وهو يعتقد أن جاليو قد سافر إلى غسقونيا.
الفصل الخامس عشر
صديق لجاليو
كان الفندق الذي أقام فيه برنابا، أستاذ جاليو من أحسن الفنادق. فلم يأسف على فراق تلميذه في بادئ الأمر؛ لأنه أعجب بطعام الفندق وشرابه. غير أنه ما لبث أن أدركه الملل، وتولاه الضجر والسأم، فعول على الرجوع إلى باريس، وخامره شيء من القلق؛ لأن تلميذه كان قد وعد بأن يعرج على أمبواز قبل أن يلحق بأمير كوندة. فجلس عند المساء قلقا، ولم يشعر بشهية للطعام، وإنه لكذلك وإذا بتلميذه جاليو قد ظهر عند باب الفندق محجبا بالعرق والغبار. فهجم عليه برنابا بلهفة واشتياق. فبدره بقوله: الطعام قبل كل شيء!
وجلس الأستاذ والتلميذ إلى مائدة في غرفة برنابا؛ لأن جاليو لم يشأ أن يتعشى في القاعة العامة. فلما شبع جاليو وارتوى قال لأستاذه: سل الآن ما بدا لك. قال: حدثني بخبرك واكفني مئونة الاستفهام. ماذا وقع لك بعدما تركتني للوحدة والوحشة؟ أجاب: كيف تذكر الوحدة والوحشة وأنت في فندق أنيق قد اشتهر في بلاط طوران بمطبخه وحلواه وخموره؟ قال: لقد تركتني يا ناكر الجميل، ولو لم تعد لانتقلت من الحياة إلى الموت.
أجاب: لو وقع ذلك لكان الخطب جللا. فقد سافرت مع الأمير حتى أوصلته إلى البلاط وانتظرت، ولما رحل الأمير ولم يرجع قبض علي دي جيز وحبسني، ولولا الملكة كاترين لأسلمني إلى الجلاد، وهو فيلار شر الجلادين. قال: ألم أشر عليك بأن تبقى في مدرسة السوربون بدلا من السقوط في مفاسد البلاط ومهالكه؟
أجاب: ليس ذلك بالأمر الذي يستحق الذكر بعدما أنقذتني كاترين مرتين: الأولى: في شنونسو، والثانية: في أرتناي.
قال: إن كاترين هذه ملكة عظيمة.
أجاب: منذ ليلتين نصبت شركا على يد خادمة إيطالية لسجاني، وسكر السجانون الآخرون، ثم أقبلت الملكة بنفسها علي.
قال: الملكة بنفسها؟
أجاب: نعم، فتناولت يدي وأعطتني جوادا وذهبا وسيفا، وغدارتين وخنجرا نفيسا، ورسالة إلى أمير كوندة، فأنا سفير يا أستاذي، وقد بحت لك بسري فأقسم لي على أن تموت قبل أن تبوح به.
فانشرح صدر برنابا لسرور تلميذه، ورفع زجاجة خمر بيده، وقال: إني أقسم لك. ثم قال: إن هذه الملكة بديعة، ولا أدري لماذا يفضل عليها الملك فرنسوا الثاني دوقة من فالنتين، وآل مدسيس أقدم نسبا؟ قال جاليو: بل يقال إن أسرتها قد تعاطت التجارة قديما. أجاب: كلا يا بني.
وهنا أخذ الأستاذ يسرد على تلميذه نسب أسرة مدسيس بإسهاب، حتى قال جاليو: تالله لئن لقيت الملكة كاترين لأطلعنها على تاريخ قومها.
فطفق برنابا يفيض في شرحه حتى غلب النعاس جاليو، فحمله كأنه يحمل طفلا صغيرا، ووضعه على فراشه، وقعد إلى جانبه لكي يرقب يقظته، إلا أنه ما لبث حتى نام مثله، وفيما كان جاليو يرى في حلمه مرسلين والملكة كاترين، ضرب باب الغرفة ضربات متوالية عنيفة، فصاح الأستاذ: مهلا بحق السماء! فعندي غلام نائم. فقيل له: افتح! قال: من أنتم؟ قيل: افتح باسم الملك!
فنهض جاليو وبادر إلى النافذة ليثب منها إلى الأرض ويفر، فأبصر تحتها ثلاثة رجال يحملون الحراب، فقال: ويلاه لقد فسد كل تدبير، ولكن لماذا تركتني أنام يا أستاذي؟ فأجابه: لقد كنت نائما نوما عميقا.
وتكرر النداء من الخارج فعرف جاليو صوت البارون دي برداليان. فتناول رسالة الملكة ودسها في ردنه حتى يبتلعها بسهولة عند الحاجة. ثم حشا غدارتيه وعلقهما في نطاقه، وشهر سيفه الطويل، وأعد خنجره، ثم طلب إلى برنابا أن يختبئ في إحدى الخزائن.
وكان برداليان ورجاله بالباب يصرخون، افتح الباب! واستمر ذلك بضع دقائق، ثم انكسر الباب تحت صدمات المهاجمين، فأبصر جاليو جماعة من الرجال قد ملئوا الدهليز، وكان أحدهم يحمل مصباحا فأطلق عليه جاليو النار فخر صريعا، وانطفأ مصباحه معه، وكان جاليو قد لاحظ جهة الباب فطرح عنده كل ما أمكنه طرحه من صحون وزجاجات وكراسي حتى قال برداليان: ما أحسب الذين في داخل هذه الغرفة أقل من عشرين رجلا.
إلا أن جاليو لم يقتنع بفوزه الأول. ففيما كان برداليان نازلا ليعد هجمة ثانية جذب السرير إلى أمام الباب، وكان يأمل بذلك أن يتمكن من طلقة نارية ثانية، إلا أنه لم يكن قد حسب حسابا لمن في الخارج. ففيما كان يسدد غدراته إلى أحد رجال برداليان سمع النافذة وراءه تفتح، فانثنى وأطلق النار على رأس أحد الجنود، وكان قد صعد إلى الشرفة، وسدد إليه الطلق، وهكذا قتل جاليو رجلين، إلا أنه لم يبق له إلا سيفه وخنجره، وفيما كان جاليو يطرح قتيله من الشرفة كان برداليان قد قلب السرير والأمتعة وتقدم إلى عدوه ومعه أربعة رجال، ومعلوم أن البارون تلقى أمرا بألا يقتل جاليو، بل يقبض عليه حيا، وقد ظن جاليو أن ساعته الأخيرة قد دنت، وركع برنابا يصلي في مخبئه. فاستند جاليو إلى الجدار بعدما اجتذب إليه خوانا وكرسيين، وجعل يمد سيفه الطويل إلى الرجال، فلم يجسروا على الدنو منه برغم حرابهم. فاضطر برداليان إلى الهجوم عليه بنفسه قائلا لرفاقه: اهجموا عليه أنتم من جانبيه.
وللحال ناله جاليو بضربة سيف على كتفه اليسرى، وقال له: لقد ظننت أن هذه الكتف تحسد تلك.
فصرخ برداليان من شدة الحنق والكمد، وهجم على عدوه، وقلده رجاله حتى ضايقوا جاليو مضايقة ظن معها أن هلاكه محقق، ومع ذلك فلم يصب إلا بخدوش هشمت ساعديه وكتفيه فتجلد. ثم دنا أحد الجنود رافعا حربته، وإذا بجاليو قد طعنه في عينه بخنجره فارتمى المسكين من غير حراك على الخوان فانقلب معه، وزال حصن كان جاليو يحتمي به. فلما رأى سائر الرجال خلو الساحة تقدموا، فصاح بهم برداليان: لا تقتلوه، وإنما اضربوا ساقيه.
فارتعد جاليو لعلمه بما وراء نجاته من عذاب يلقاه من يد الجلاد، وأشفق برنابا على تلميذه فاضطرب وهو في مخبئه أشد اضطراب، وللحال خطر له خاطر عجيب، فقبض على زجاجة خمر، وخاطبها بقوله: انطلقي أيتها الزجاجة المحبوبة رسولا إلى هؤلاء الرجال المسلحين، فأبلغيهم أن في الخمر منافع للناس، وأطفئي أنوارهم وأنقذي تلميذي العزيز.
ثم صوبها إلى البنادق الثلاث فرماها بالزجاجة، فانصب ما فيها على ذبال البنادق فتقهقر الرجال الثلاثة مذعورين، ولجئوا إلى الباب، فاعترضهم رجل طويل القامة، وقال لهم: إلى الوراء أيها القتلة، يا من لا يستنكفون من مهاجمة شريف واحد وهم عشرة.
ثم قال لجاليو: مهلا أيها البطل إني نصيرك.
وكان جاليو في أشد الاحتياج إلى هذه المساعدة؛ لأنه كاد يفقد حواسه، وتأخر برداليان لينظم القتال تنظيما آخر، فانتهز جاليو هذه الفرصة فتخلص من الرجل الأخير حامل الحربة، وكان نصيره الجديد قد طرح اثنين من حملة البنادق، فبقي برداليان بين سيفين، فلاح له أن أجله قد دنا، وخطر لجاليو أن يرديه قتيلا، إلا أنه أبى أن يقتله ومعه رجل آخر، فقال له: سلم نفسك! أجاب: أبدا! قال: إذن نأخذك أسيرا.
ولم يكن برداليان قادرا على مقاتلة ذينك الرجلين؛ لأن صديق جاليو الجديد كان ماهرا مثله في ضرب السيف، فما لبث أن أصيب بجرح وسقط مغمى عليه، فانثنى الطالب إلى منقذه، وصاح يقول: لست أعرفك يا سيدي، وإنما أعرف أنني لولاك لكنت قتيلا. فحياتي لك واسمي جاليو دي نرساك من رجال أمير دي كوندة.
فأجابه: إن الأمير جندي شجاع، وقد قاتلت تحت إمرته، ويعجبني أنني أسديت يدا إلى واحد من رجاله البواسل، واسمي ترولوس دي مزغونة.
فتأمل الرجلان وقتئذ ساحة القتال فأبصرا الجثث مبعثرة، والكراسي مقلوبة، وصاحب الفندق بالباب حاملا مئزره بإحدى يديه، ماسحا بالأخرى عينيه، ورأس برنابا بارزا من باب الخزانة، وقد تنهد، وقال: يا له من منظر فظيع!
فقال صاحب الفندق: ومن يدفع لي ثمن ذلك كله؟
فعطف جاليو على البارون وفحص جراحه فلم يجد فيها جرحا مميتا. فوضعوا الجرحى على الفرش، ونقلوا القتلى، وأعد صاحب الفندق لائحة بمبلغ كبير تمكن جاليو من دفعه من مال الملكة الوالدة. فخلا الصديقان وبرنابا، فقال جاليو: أي جهة تقصد يا سيدي، أشمالا أم جنوبا؟ فأجابه: كنت ميمما بلاط فرنسوا الثاني في طلب التوفيق، فهل لك في مساعدتي؟
فأجابه: نعم، ولكن الأمير ورجاله ليسوا على وفاق مع بلاط الملك في هذه الآونة، وإني ذاهب إلى غاسقونيا لألحق بالأمير.
قال: لست أرى الطرق طرق أمان، فهل لك في استصحابي؟
أجاب: حبا وكرامة، ولكن ذلك السير يرجعك إلى الوراء.
قال: لا يهمني ذلك. فأنت تعرف الأمير بي فيذكر أنني كنت من المقاتلين تحت لوائه، ثم نرجع معا إلى البلاط. فما رأيك؟
وتصافح الرجلان. فقال برنابا: وأنا فماذا أفعل؟
فأجابه جاليو: أنشئ خطبة بليغة عن القتال الذي شهدته، وفصل فيها كل ما رأيته من بداءة المعمعة حتى وصول دي مزغونة، وقد كان سيفه آية النصر لنا.
فقال مزغونة: ولماذا لا تسافر معنا أيضا؟
قال: إلى غاسقونيا؟
أجاب جاليو: نعم، فإن الفراخ هناك طيبة، ولحمها طري، والخمرة جيدة، وشربها لذيذ، والفتيات حسان فاتنات. - إذن فقد وجدت ضالتي.
قال جاليو: وما رأيك إذا لحق بنا أعداؤنا؟
قال: ما أظن هذا البارون يستطيع لحاقا بنا، فهو لا ينهض عن فراشه إلا بعد أيام طويلة، وأنا أعرف الطرق فلا أدع أحدا يهتدي إلى آثارنا.
قال جاليو: إذن هيا بنا نسافر. وهكذا سافر الثلاثة .
الفصل السادس عشر
في التصويرة التي نبهت فضول دي مزغونة
وصل جاليو وترولوس إلى قصر يقال له «بو» فاستقبلهما الأمير أحسن استقبال، وبعد أن أخبره جاليو بما وقع له، قال الأمير: استريحوا الآن أنت وصديقاك، واصبروا.
فأعجب برنابا بهذا الجواب، وكان برنابا أنعمهم بالا، وأحسنهم حالا؛ لأنه عكف على طعامه وشرابه، وود إنفاق العمر بين الطاس والكاس في ذلك الموضع الذي رآه أشبه بجنة عدن.
أما ترولوس وجاليو فقد تمكنت بينهما أواصر المودة، وتوثقت عرى المصافاة والمصادقة، وكان ترولوس على مذهب البروتستانتيين، فانضم إلى رجال أمير كوندة، وقد سر ذلك الأمير؛ لأنه عرفه من أنصاره في حصار متس، وكان هذا الشاب في نحو الخامسة والثلاثين، طويل القامة، حسن المنظر، كثير التفكير والتأمل. فهو في ذلك على عكس ما اتصف به جاليو الفكه الخلق، الحلو المعاشرة. إلا أن بين الصديقين جامعة أخرى هي البسالة الحقيقية، وحب التعرض للمخاطر، وكان يلذ للأمير التنزه معهما على ضفاف نهر الغاق، أو في الوديان التي تحدق بها هناك الجبال الشامخة. فلما كان ذات يوم، قال الأمير لجاليو: ما أراك تحب بلادنا وجبالنا؛ لأنك لا تكلمني عنها، فأجابه: إني لمعجب بها كل الإعجاب؛ لأنها جنة الله في أرضه، ومتى وصلنا إلى بلاط الملك سمعت مني وصفها البديع، وقال الأمير لبرنابا: وأنت فما رأيك أيها الأستاذ؟ فأجابه: من لي بصرف العمر في هذا البلد السعيد؟
وبعد صمت قصير المدة، قال الأمير لجاليو: ما رأيك في مهمة تذهب بها إلى البلاط؟ فصاح جاليو: إني للمهمات يا مولاي، فإن شئت سافرت الليلة! قال: وأنت يا دي مزغونة؟ أجاب: أرجو أن تأذن لي فأصحب صديقي. قال: لقد تبين لي أن جمال هذه البلاد لم يؤثر فيكما، إذن تسافران غدا.
فأظلم وجه برنابا، إلا أنه لم يجسر على اعتراض. فقال الأمير: إلا أنكما أجزلتما الولاء لبرداليان وعاملتماه بكرم الخلق، ولا بد من أن تجتمعا به هنالك، فأجاب جاليو: ليتنا نستأنف القتال معه. فضحك الأمير، وقال: لست أرتاب في ميلكما إلى مبارزته ، ولكنني أود أن أعرضكما لغيره، فاسمع يا جاليو. إن الملكة الوالدة قد أخذت تشعر بضعف العزيمة، والعجز عن مقاومة آل جيز وحدها، وفي الرسالة التي وصلت إلي منها على يدك تعدني بالمساعدة لدى الملك إذا رضيت بالرجوع إلى البلاط.
وفيما كنت أفكر في السفر بعثوا إلي بالماريشال سنت أندريه جاسوسا يرصد حركاتي وسكناتي فرابني أمرهم، ومعلوم أن مجلس الأعيان يجتمع قريبا في فونتنبلو، ولكنني قبل أن أذهب إلى هذا الاجتماع أردت الاطلاع على ما ينويه البروتستانتيون أهل البلاد الشمالية، فأرسلت إليهم رسولي لاساج فذهب فأوصل الرسالة، ولما عاد بالأجوبة تمكن فيلار الملازم عند آل جيز من القبض عليه، وأطلع الدوق دي جيز وأخوه على الرسائل التي كتبها إلي أشراف البلاد الشمالية، وكان بينها كتاب من قائد الجيوش هناك يعرض به علي مساعدته، وكذلك كان بينها كتاب من الفيكونت شارتر ليس عليه توقيع غير حروف متفرقة، ولم يكن في الإمكان معرفة التوقيع لولا أن المسكين عندما كانت تهواه كاترين قبلا كان قد كتب إليها أبياتا لطيفة ما برحت تضعها بين صفحات كتاب صغير للصلاة تحمله كل يوم. فلما قابل آل جيز بين الخطين تحققوا أن صاحب الكتاب هو الفيكونت شارتر، وفي ذلك الكتاب يقول الفيكونت شارتر: «إني مخلص لك أخدمك جهدي وأنصرك على كل مخلوق ما عدا الملك والملكة الوالدة وأبناء البيت المالك في فرنسا» فقبض آل جيز على الفيكونت شارتر، وطرحوه في قلعة الباستيل، وقد أمرت كاترين على أثر ذلك بأن يمكن السجين من استنشاق الهواء النقي في فناء القلعة. فعليكما أن تسافرا غدا إلى باريس، وتحاولا إنقاذ ذلك الرجل الكريم الذي عقد أعداؤنا نياتهم على إهلاكه.
قال جاليو: ثم ماذا يا سيدي؟
أجاب الأمير: ثم تنتظرانني في ضواحي البلاط، وتنبئان كاترين بقرب وصولي.
ولقد فرح الصديقان بهذه السفرة، أما برنابا فكان لا يفتأ يذكر النعيم الذي فارقه، ويقول: لقد كنا بخير وسلام في غاسقونيا.
فلما وصلوا إلى باريس نزلوا عند نيكول بوصه، ولما رأى برنابا وجه نيكول العريض والمائدة الفاخرة التي أعدها نسي أحزانه، فأكل برنابا حتى امتلأ جوفه، فقال له نيكول: إلى أي جهة أميل يا ترى؟ إلى جهة الأمير أم إلى جهة آل جيز؟
فأجابه برنابا: إلى جهة النقود يا صديقي. •••
ولما أمسى المساء خرج جاليو مع ترولوس قاصدين إلى ناحية الباستيل فاقتربا من القلعة. فقال ترولوس لصديقه: قد يكون هلاكنا في هذه المهمة التي نباشرها الآن، وقبل العمل أود منك أن تطلعني على سر.
أجاب: تكلم يا صديقي فليس لي سر أكتمه عنك.
قال: ما هذه التصويرة التي معك؟ لعلها من حبيبتك مرسلين؟
أجاب: لا. - إنما عنيت التصويرة التي رأيتها مرارا على صدرك وقت الرقاد، فهل جاءت من امرأة تهواها؟ - كلا، فلست مجنونا لأهوى ملكة. - أملكة هي؟ - نعم؛ لأن عليها صورة كاترين دي مدسيس، تناولتها من يدها ليلة هربي من أرتناي، ولكن ما بالك؟ وما هذا الاصفرار الذي بدا على وجهك؟ - يا للداهية، إن ما أنا فيه فظيع! آه، إنني مجنون يا صديقي فما حم واقع، ولا مرد له ولا دافع! لقد مضى زمن وأنا أرى هذه الصورة، فأنا أهوى الملكة، وكنت غيورا منك. كنت أضطرب من هاتين العينين، ويزعجني التفكر فيهما كلما أويت إلى فراشي! وخيل لي أنني أخون صداقتنا بحبي للمرأة التي تهواها أنت. أما الآن فقد علمت أنك لا تهواها، بل علمت أن التي أهواها هي والدة الملك! ألا تعسا لي! بمثل هذا الغرام يهلك رجل مثلي.
ولم يكد جاليو يتعجب من شيء فقال: ولماذا يهلك به رجل مثلك؟ وهل تيأس من تلك المرأة التي تقدم على كل شيء؟
فوصلا إلى الباستيل، وأخذ يبحثان عن موضع فناء القلعة، وهو الموضع الذي أشار إليه الأمير في حديثه، وقال: إن الفيكونت شارتر يخرج إليه للتنزه في كل يوم فردهما الحراس، فابتعدا على أن يرجعا ليلا، وكان الظلام شديد الحلك حين رجعا. فزحفا على ضفاف خندق حتى بلغا المكان الذي تجري منه إلى السجن المياه، فقال جاليو: إنما ندخل من هنا. فالبث في موضعك لأرقب الموضع فإنني أود أن أفحص الممر الذي أشار إليه الأمير في إيضاحاته الخاصة.
ونزل إلى الماء فسبح فيه فوصل إلى قبة ترتفع قدمين فوق الخندق، وقد غطس بدنه في ماء ووحل. فعثر بباب من حديد كالشباك، فقال: واعجبا من باب متين كهذا يكون في مجرى المياه، ولكن من حسن الحظ أننا قادرون على اقتلاع بعض قضبانه الحديدية. قال هذا الكلام واقتلع قضيبا إلى جانب القفل بخنجر معه حتى تمكن من مد يده وإدارة القفل، فدار الباب على رزاته وانفتح، فمر جاليو سابحا حتى انتهى به العوم إلى فناء مزروع أشجارا، وكان ذلك المكان متنزه الفيكونت شارتر، فقال جاليو: إذا أعددنا ثلاثة أفراس عند باب سن أنطوان، واتخذنا الخناجر، تم لنا النجاح. ثم رجع إلى الموضع الذي غادر فيه صديقه فألفاه ينظر إلى السهى مسترسلا في تأملاته، فقال له: حسبك يا هذا فما عشق الصور بمحمود. قال: لا تمزح، ولا تهزأ بي فإني عاشق حقا. قال: إذن كان الأجدر بك ألا تمد يدا إلى إنقاذ الفيكونت شارتر. فقد قيل إنها كانت تحبه. قال: لا تكلمني عن ماضي تلك المرأة يا جاليو فإنني قد تناسيته، وأنا أهواها، ولا غرض لي من حياتي إلا أن أخدمها وأموت في سبيل هواها.
فقال جاليو: لعمر الحق هذه أول مرة أفلحت فيها كاترين بأن كانت السبب في هوى مجرد عن الأغراض.
قال ترولوس: وعن الأمل أيضا!
وقال جاليو: ولم ذلك، أولست شريفا مثل الفيكونت شارتر الذي عزمنا على إنقاذه؟ ألا فاذكر ذلك يا ترولوس، كل شيء ممكن حدوثه في بلاط فالوا! •••
وبعد يومين قبيل الفجر كان حراس الباستيل يوزعون على أسواره، وحاكمه يلقي بعض الأوامر. فهم جاليو بمباشرة العمل فأوقفه صديقه، وقال: بل أود أن ألقى الرجل وأراه قبلك. فنزل ترولوس إلى ضفاف الخندق، ووصل إلى الفناء الذي كان الفيكونت يتنزه فيه، والمجرى الذي وقف ترولوس عنده كان محجوبا بالأشجار الغضة، فانتظر عنده ولم يره أحد، ومن ذا الذي يخطر في باله أن في العقلاء من يتجرأ على إنقاذ سجين من الباستيل عند طلوع النهار. فلبث ترولوس منتظرا حتى أزفت الساعة التاسعة فانفتح باب الفناء، وخرج الرجال يتقدمون سجينا تلوح على محياه أمارات النبل والذكاء. فقال ترولوس في سره: هذا هو صاحبنا الفيكونت شارتر.
ثم انزوى الحراس إلى زاوية، وتركوا السجين يتنزه كما يشاء فمر المسكين مرارا أمام الأشجار الغضة، ثم ارتمى على مقعد هناك، وإذ ذاك سمع وراءه قائلا يقول: أتسمعني يا سيدي؟
فاهتز الفيكونت، وبعد هنيهة جعل يده على فمه، وقال: هل جئت لتنقذني؟ فأجابه: نعم، قال: قل ما اسمك؟ أجاب: لست تعرفه. قال: من مرسلك؟ أجاب: أمير دي كوندة.
فنهض الفيكونت ودنا من حراسه فرآهم منهمكين في لعب النرد. فعاد إلى مكانه قرب الشجر، وقال لترولوس: كيف يتسنى لك إنقاذي؟ فأجابه: وراء هذه الأشجار ساقية ماء يفضى منها إلى خندق، فاتبعني، ولسوف نتخلص بسهولة من كل من يحاول اللحاق بنا، وقد جئناك بسيف. فإذا اجتزنا الفندق قصدنا باب سن أنطوان، وهناك خيلنا تنتظرنا لنهرب.
فلمعت عينا السجين من الأمل بالنجاة. ثم غمغم يقول: ماذا أفعل بهذه القيود؟ قال: إليك منشارا أتيت به فإذا تمكنت من كسر إحدى حلقات قيودك قبل الوقت المعد لنزهتك عدنا إليك غدا.
وناوله ترولوس منشارا جعله الفيكونت في ردنه. غير أن الباب انفتح وقتئذ، وطلعت منه امرأة لابسة السواد، فنهض السجين لاستقبالها، ثم لما عرفها سقط على مقعده يقول بصوت خافت: رباه هذه كاترين! كاترين هنا!
وغمغم ترولوس يقول: هذه هي! وا حر قلباه، ما أجملها!
فتقدمت الملكة يصحبها حاكم الباستيل، وكانت تقول له: لقد فهمت مرادي. إذا تقدم أحد رجال البلاط وأنا ها هنا فلا تدعه يدخل. قال: سأصدر الأوامر بهذا الشأن.
ومضى حاكم الباستيل والجنود معه، فخلا المكان للملكة كاترين وعشيقها القديم، ولم يتلفظ الفيكونت بكلمة؛ لأنه لم يدر معنى تلك الزيارة. فسكت منتظرا سماع كلام الملكة، فقالت له: أكنت تعد مؤامرة على الملك أيها الفيكونت؟
أجاب: أنا يا سيدتي؟ إني لا أزال أجهل السبب الذي من أجله أمر الدوق دي جيز بالقبض علي.
قالت: لقد أمر بالقبض عليك؛ لأنك أعددت مؤامرة مع الأمير.
أجاب: ذلك مستحيل، فأين البرهان؟
قالت: البرهان كتاب منك.
قال: مني أنا؟
أجابت: نعم، وجدوه مع رسول اسمه لاساج.
قال: لست أعرف ذلك الرسول، ولا يمكن أن يوجد معه كتاب مني.
قالت: ألا تزال ماهرا في المخادعة؟ ألا تذكر مخادعتك إياي مع إحدى وصائفي؟
قال: من منا نحن الاثنين خادع الآخر؟
قالت: كفى ولا تهن والدة الملك!
أجاب: إذن أخبريني لماذا أتيت تكدرين صفو وحدة السجين؟
قالت: إنما أتيت لأراك، وهل تسأل النساء عن الأسباب التي تدعو إلى تفكيرهن؟ لقد خطر لي المجيء إلى هنا فأتيت.
أجاب: ما دام الأمر كذلك فقد خطر لي الآن أنك أنت الآمرة بانتشالي من قصري، وطرحي في هذا السجن الهائل.
قالت: أقسم لك على أن ذلك لم يكن بأمر مني يا شارتر. - ولكن كيف تمكن دي جيز من مطالعة رسالة لم أكتب منها شيئا؟ - يا لك من غلام ساذج. ألا تدري أن قراءتها ممكنة إذا غطست في الماء الغالي؛ لأنك كتبتها بحبر خاص؟
قال: وهل تكلم لاساج؟
أجابت: نعم، بعد التعذيب.
قال: كيف أمكن آل جيز أن يعرفوا أن الرسالة مني؟
أجابت: ألا تذكر أبياتا كنت أرسلتها إلي أيام كنت تهواني؟ فهذه الأبيات كنت أحملها على الدوام في كتاب للصلوات. قد أطلع عليها الكردينال، وعرف ناظمها. إذن تكون أنت الخائن نفسك.
فانطفأ غضب الفيكونت؛ لأنه لا يستطيع أن يحقد على امرأة حرصت على أبيات كتبها إليها فنسي ما هو فيه، وجعل ينظر إلى كاترين، فقالت له: ما بالك لا تجيب؟ أجاب: بماذا أجيب أيتها السيدة، فقد صرت إلى السجن، ولم يبق أمامي إلا أن أهلك، وأنا شريف. قالت: أتهلك أنت وأنا نصيرتك؟ قال: أنت نصيرتي أيتها السيدة؟ قالت: أنبئني بما تحويه تلك الرسالة. أجاب: ليس فيها إلا مطاعن على آل جيز، وإظهار ولاء للأسرة المالكة.
قالت: وماذا كتبت فيها عني؟ أجاب: لا شيء، وهل أتجرأ على الكتابة عنك في رسالة إلى رجل آخر؟ قالت: إذن فليس فيها كلمة من شأنها أن تفضحني؟ أجاب: أبدا. قالت: وأين الرسائل التي كتبتها إليك قبلا؟ قال: بحقك لا تحرميني منها، فهي كل تعزيتي الأخيرة.
فمدت الملكة يدها إلى صدرة الفيكونت شارتر، وأخرجت منها رزمة عليها شريط من حرير، فجعلتها في صدرها، وكان يبكي وهو صامت، ثم قال: لماذا أخذتها مني؟ قالت: إن الدوق دي جيز عازم على استنطاقك، وقد يتجرأ على أخذ هذه الرسائل منك. أجاب: إن رسائلك خالية من التوقيع. قالت: إن الدوق وأخاه يعرفان خطي. فماذا يجري للملكة الوالدة إذا حصلا على برهان يؤكد لهما هفوتها. على أنني سأنصرك في البلاط عند الملك، وقد تطول مدة أسرك؛ لأن ابني كاره لأمير كوندة، وأنت من أعوانه. إنما ثق بأنه ما من أحد يستطيع الفتك بك.
وقد تهلل وجه كاترين منذ ما حصلت على رسائلها، فنهضت وقالت: أنا التي مكنتك من التنزه في هذا الفناء. فأجابها: شكرا لك، وإنما آمل منك أن تمكنيني من التنزه خارج هذا السجن تحت سماء طوران.
فعطفت عليه الملكة، ولثمت جبينه، وقالت: أودعك أيها الحبيب. وكان الفيكونت شارتر قليل الوثوق بالملكة فلم يشأ مخاطبتها عن فراره، فتركها تمشي، إلا أنها رجعت بعد دقيقة ممتقعة اللون حنقا، وحاكم الباستيل يتبعها وهي تقول: ألم أقل لك لا يدخل أحد إلى هنا؟ فأجابها: لم يكن في إمكاني أن أدع الدوق دي جيز واقفا عند الباب.
فقال ترولوس والفيكونت شارتر معا: الدوق دي جيز؟ فغمغمت الملكة تقول: رباه ماذا أفعل الآن؟
فنهض الفيكونت، واقترب من الملكة، وقال لها: إنما يهمك أيتها السيدة ألا يراك الدوق ها هنا. أجابت: بلا شك يا حبيبي، والويل لي إذا رآني.
وبقي حاكم السجن وراء الملكة بعيدا عنها قليلا، وهو يحرك قبعته بيده حائرا، فقال الفيكونت: يوجد وسيلة يسيرة، وهي أن يرجعني حاكم السجن إلى سجني سريعا فيتبعني الدوق إليه، وإذ ذاك يمكنك الفرار.
قالت: هذا هو الرأي الصواب. فأسرع يا مسيو دي برسان (اسم حاكم السجن ) وخذ السجين إلى سجنه، ودبر كيف شئت كي لا يمر الدوق بالفناء، وإلا فويل لك مني!
فانحنى الحاكم، وأمسك يد الفيكونت، فلما صار إلى عتبة الباب أشار إلى الملكة كي تختبئ وراء الأشجار.
فوثبت كاترين إلى الموضع الذي كان مختبئا فيه ترولوس، ولما رأته أمامها بهتت وارتاعت، وقالت له: من أنت؟ وماذا تفعل ها هنا؟ فأجابها: أنا رجل يهواك أيتها السيدة ويموت فداك.
ولقد وصل الدوق إلى القلعة، وفي نيته استنطاق الفيكونت شارتر، فأبصر مركبة وخدما عند الباب، إلا أنهم بملابس ليست ملابسهم، أما المركبة فقد انتزع عنها الشعار الملكي، ولكن الدوق عرف الخدم، وأحس بإحدى الدسائس الخفية. فدخل القلعة، وأخذ يحقق النظر، ويتفقد كل مكان وكاترين واجفة الفؤاد، واقفة قرب ترولوس. أما هذا فكان مسترسلا في لذة القرب من تلك الملكة غير مفكر في خطر موقفه، وكان كل منهما ممسك أنفاسه، وقد حاول الحاكم إمساك الدوق غير أن هذا وثب إلى الفناء، وسرح بصره في كل ناحية، ثم عاد إلى القلعة فانطبق الباب وراءه، فقالت كاترين: لقد نجونا! فقال ترولوس: لقد وجب الرحيل من هنا أيتها السيدة.
قالت: ويلاه، وكيف ذلك وحرس الدوق عند الأسوار؟ وهل يمكن الخروج من هنا دون أن يروني؟ قال: أيصعب عليك أن تجتازي خندقا؟ أجابت: كلا. قال: إذن فاتبعيني. قالت: إلى أين؟
فلم يجب ترولوس، وخاف ألا تكون الملكة قادرة على المرور مثله في ذلك الخندق، إلا أنه رآها تبتسم، وتشير إلى حجر في زاوية، ثم قالت له: ارفع هذا الحجر.
وذلك لأن الملكة الوالدة كانت تعرف مخارج القلعة السرية التي لا يعرفها إلا أعضاء الأسرة الملكية، وذلك واحد منها. فرفع ترولوس الحجر فأبصر بابا أمامه، فقالت: لندخل، ودخلا، ثم أقفلا الباب بعد أن أرجع ترولوس الحجر إلى موضعه، وسارا في ممر محفور في الجدار حتى وصلا إلى باب مشرف على الخندق ففتحه ترولوس بسهولة، ونزل حتى وصل إلى فم الخندق، ونادى جاليو فأقبل يقول: أين الفيكونت شارتر؟ فأجابه: يستحيل إنقاذه.
قال: وكيف أتيت من هناك؟
أجاب: سوف تعرف ذلك. أما الآن فلا بد من إنقاذ الملكة كاترين.
قال: الملكة؟
أجاب: نعم. فانزل إلى الخندق إن الماء فيه قليل، وفي وسعنا حمل الملكة إلى الضفة الأخرى. قال: لم أفهم شيئا.
فأجابه: سوف تفهم كل شيء.
فأطاع جاليو وهو يظن أن رفيقه قد جن. أما مزغونة فحمل الملكة على ساعديه، وساعده جاليو فنقلاها إلى ضفة الخندق دون أن تبتل ملابسها بالماء. أما جنود القلعة فقد هاج فضولهم قدوم الدوق إلى الباستيل فلم يلتفتوا إلى الأسوار، وهكذا اجتازت الملكة مع الرجلين، ولم يجدوا في طريقهم إلا حارسين من حرس الدوق أرادا أن يمنعاهم من السير. إلا أن جاليو ومزغونة كانا إليهما أسرع من الصاعقة فطرحاهم قتيلين بضربتين من خنجريهما قبل أن يتمكنا من استخدام سلاحهما.
وقال ترولوس: وا رحمتاه للجنديين المسكينين. قالت: ذلك ما كتب لهما، ولا يجب أن يبوحا بما علما.
ثم خرج الثلاثة من باب سن أنطوان فوصلوا إلى الفندق أي إلى موضع الخيول. فقال جاليو: إلى أية جهة نقصد؟ فأجابته الملكة: إلى فونتنبولو.
فلما صاروا على مسافة من باريس، قالت الملكة لهما: أخبراني الآن أي معجزة حملتكما إلى خندق الباستيل؟
ولم يكن ترولوس قادرا على الجواب؛ لأنه كان في أشد حالة من الانفعال، فأجابها جاليو: ذلك سر يا مولاتي. قالت: أتكتم عني سرا؟! إلا أنني واثقة من أنكما كنتما تحاولان إنقاذ سجين. أجاب: لست أريد أن أكذب يا سيدتي. قالت: وذلك السجين هو الفيكونت دي شارتر. فأجابها: ربما كان ذلك يا مولاتي.
فأطرقت كاترين تفكر، وقد أدركت أنها بوجودها في السجن حالت دون نجاة ذلك الفيكونت السيئ الحظ، وأنه بذل حريته فداء عن حريتها، فأثر فيها ذلك البرهان بمقدار ما يؤثر في تلك المرأة برهان مثله، وهي لم تكن تهوي شيئا مثل القدرة والسلطان.
ثم قالت: كيف قدمت إلى هنا يا مسيو جاليو دي نرساك بعدما غادرتك متوجها إلى غاسقونيا؟
أجاب: لقد رجعت يا سيدتي مع صديقي ترولوس كونت دي مزغونة، وهو أشجع رجل في الدنيا، وكاد يقتلني ليحصل مني على التصويرة التي أذنت لي بأخذها منك.
فاصفر وجه ترولوس، وقال: هذا صحيح. فقالت كاترين: وماذا جرى لرسالتي؟ فأجابها: لقد أوصلتها إلى الأمير. قالت: ورسالة الآنسة دي ليمول؟ أجاب: أوصلتها إليه كذلك. قالت: ولماذا بقي الأمير في غاسقونيا؟ أجاب: لأنه في حاجة إلى معرفة ما ينويه أشراف هذه البلاد قبل أن يدخل البلاط. قالت: ألأجل ذلك أرسل لاساج؟ أجاب: نعم. قالت: وهو الذي أرسلكما لإنقاذ الفيكونت دي شارتر من الباستيل؟ أجاب: نعم. قالت: إن ابن عمي أمير كوندة صديق وفي يا جاليو، فتقدم وانظر لئلا يكون أمامنا عدو ينوي قطع طريقنا.
فتقدم جاليو بجواده إلى مسافة مائتي خطوة، ثم تركه يتمشى على مهل وهو يفكر في الحوادث التي قضت عليه بإنقاذ الملكة كاترين بدلا من إنقاذ الفيكونت شارتر. أما كاترين فأقبلت على الكونت دي مزغونة تتفرس في وجهه، وقالت له: اذكر أنك طارحتني الحب منذ هنيهة. فأجابها: إني خاطبتك يا مولاتي بما يطفح به فؤادي. قالت: ألا تحسب حسابا للخطر الذي يحيق بمن يهوي ملكة إذا لم يكن أميرا من سلالة لملوك؟ فأجابها: لست أبالي بالخطر والهلاك إذا مت، وأنا قادر على القول إنني عشقت. نعم، أنا أهواك، ونحن الآن وحدنا فلا مانع يمنعني من مخاطبتك كما أشتهي، ولا حائل يحول دون أن أبثك سر فؤادي، ولسوف تهزئين بي متى علمت كيف دخل هواك فؤادي. لقد كانت مع جاليو تصويرة رأيتها، قالت كاترين: إنه اختلسها مني اختلاسا، قال: لقد أعجبتني تلك الصورة ورأيتها جميلة، بل أجمل من كل ما رأيت. فتعشقتك من مجرد النظر إلى الصورة ودون أن أعرف من أنت، ولم أدر أنها صورة الملكة كاترين إلا منذ أيام فقط. فبكيت يومئذ وكدت أموت يأسا وغما، وحسبت نفسي مجنونا؛ لأنني تعشقت ملكة يعجب بها ويحبها كل الناس، وإذ بي قد أبصرتك، وخدمتك، وكلمتك. آه يا سيدتي، مريني بأن أموت إذا شئت، ولكن قولي لي إنه ليس في مخاطبتي إياك بهذا الكلام إساءة كبرى، وإنك تصفحين عن اجترائي.
قالت: إني أحب كل فتى جريء أيها الكونت.
وحثت كاترين جوادها فلحقت بجاليو، وبقي ترولوس كالمجنون يقول: إني أسيرك أيتها الملكة، وأسيرك دائما أبدا!
الفصل السابع عشر
العاشق الجديد
قضى فرنسوا دي جيز ساعتين في الباستيل باحثا فيه عن الملكة الوالدة، وعظم استياؤه وحنقه لما لم يجد لها أثرا، وجعل حاكم السجن يقسم أنه لم ير امرأة دخلت الباستيل. أما الفيكونت دي شارتر فقد أهانه، وقال له: أنت شريف غادر. فسخط فرنسوا وأمر بالتضييق على ذلك السجين، وفيما كان راجعا من القلعة قاصدا إلى ناحية باب سن أنطوان وقف أمام جثتي الحارسين، فأمر بدفنهما، واتجه إلى ذلك الباب، فقيل له: إنه قد خرج منه منذ ثلاث ساعات رجلان يصحبان امرأة لابسة ثيابا سوداء. فقال في نفسه: هي الملكة ولا ريب، فمن الذي أخرجها من الباستيل يا ترى؟
ولكنه لم يهتد إلى جواب على هذا السؤال فطأطأ رأسه، وسار إلى فونتنبلو وهو يعزي نفسه بقوله: قد اقترب وقت اجتماع مجلس الأعيان، وسأكون في المجتمع السيد الآمر، ولا يجسر أمير كوندة على الحضور.
وسار في الطريق الذي سارت فيه الملكة الوالدة وجاليو وترولوس قبله بضع ساعات، حتى وصل إلى فونتنبلو ليلا فألفى القصر غاصا بأعيان البلاد، ووجد أخاه الكردينال في غرفته يتمشى مضطربا، فقال له: ما بالك يا أخي؟ إني أرى على وجهك علامات الاضطراب. فأجابه: إني شاهدت موكب ابن عمنا مونمورانسي فرأيته كبيرا، وعدد رجاله يفوق الحصر، وكأنما أراد به نكايتنا وإذلالنا. قال: ألم تأمر جيوشنا بالأوبة إلى فونتنبلو؟
أجاب: نعم، ولكن كان قد مضى الوقت؛ لأن موكب مونمورانسي وصل أولا، واتخذ له مواقف ومحطات على أبواب المدينة، وأصبح متسلطا على طريق باريس.
قال: وهل من شاغل آخر يشغل فكرك؟
أجاب: نعم، فإن مونمورانسي قابل الملكة الوالدة مقابلة دامت وقتا طويلا.
قال: يا له من شيخ محتال.
قال: هل من نبأ عن أمير كوندة؟
أجاب: لست أظنه يأتي ولا يأتي أخوه؛ لأن رسائل الدعوة لم ترسل إليهما إلا متأخرة.
قال: لعلك مخطئ في ذلك.
قال: ما معنى هذا الكلام؟
أجاب: ألا تتذكر وصيف أمير كوندة ذلك الفتى المحتال المدعو جاليو دي نرساك؟ - نعم، وهو الذي كنت قبضت عليه. - وفر في أرتناي. - لقد صادفته الليلة يمشي في زقاق ضيق، ويرجح عندي أنه أرسله إلى هنا جاسوسا، ولعله لاحق به.
قال الدوق: دعنا منه. أما من مشاغل آخر يشغل ذهنك يا أخي؟ فتنهد الكردينال، وقال: لعلك تروم التكلم عن الملكة الوالدة.
واصفر وجهه، ثم قال: هنالك الخطر الحقيقي يا فرنسوا، فإن هذه المرأة تروم أن تعبث بنا وتطردنا من البلاط، وقد مضى يومان لم يرها فيهما أحد ها هنا، وقال نساؤها إنها مشغولة بالصلاة. فحاولت اليوم الدخول عليها من الممر السري فوجدته لأول مرة مقفلا. فلما كان المساء تكرمت بقبولي زائرا بعد مونمورانسي، فأبصرت في مخدعها ثوبا وحذاءين، والغبار يعلوهما وكأني بها قد وصلت من ...
قال الدوق: من باريس ولا شك.
قال الكردينال: وماذا فعلت فيها؟ أجاب: ألا تدري؟ إنها ذهبت لعقد مؤامرة مع الفيكونت دي شارتر، وهي التي أشارت بطرحه في الباستيل.
قال: هل زارت الباستيل؟
أجاب: بل زارت الفيكونت فيه، وتمكنت على الرغم من كل تدبير دبرته من التخلص مني دون أن ألقاها.
قال الكردينال: وماذا قال لك شارتر؟ - لقد ارتاب بي، فأمرت بالتضييق عليه، وطرحه في سجن أشد رطوبة من سجنه الأول.
قال الكردينال: أحسنت بذلك يا أخي، فإنني أشد الناس بغضا لمن أحبتهم، وهل تظن الآن أنها لا تذكر ودادي؟ اسمع ما قالته لي يا أخي. قالت: «إن الكنيسة تحظر عليك أيها الكردينال أن تغازل امرأة»، أواه، لقد تمنيت أن تنقاد إلي بالسياسة أو بالطمع، أكثر من ذي قبل، ولئن امتنعت عني فلا أريد أن تميل إلى غيري.
قال الدوق: من ذا يتجرأ على حبها؟
أجاب: لا أدري، ولكن هل تذكر يا أخي كيف كانت تلمع عيناها فرحا يوم كانت تهوى شارتر اللعين، وأي اضطراب كان في صوتها؟ فقد لاحظتها اليوم يا فرنسوا ، فهي عاشقة، وعاشقة غيري.
فأجابه الدوق: إذن سوف نقتل عشيقها الجديد؛ إذ لا بد من أن تكون لك وحدك دون سواك.
ثم إن الدوق ذهب فتفقد مواقف الجند والحراس الذين أقامهم على حراسة الملك بعد حادثة أمبواز، وفيما هو عائد إلى مخدعه لفت بصره رجلان رآهما كأنهما يتخاصمان عند القصر فدنا واختبأ وراء شجرة وأنصت إليهما. فقال أحدهما: ألا تأتي معي؟ فأجابه الآخر: دعني، دعني أنظر إلى النافذة. قال: ألا تأتي، ألا تنتهي من هذا الجنون؟ أم تروم مني أن أتخذ السماء غطاء والثرى وطاء.
وتظاهر المتكلم بأنه يتمدد على الثرى، فأجابه رفيقه: صبرا، فإنها اقتربت إلى نافذتها وفتحتها، وتميزت وجهها، وقد أشرق عليه ضياء الكواكب.
وكان الدوق يرقب الحركات ويسمع الحديث. فلما رأى الشاب يمد يده إلى النافذة، رفع بصره فعرف نافذة الملكة. فقال في نفسه: إن أخي على صواب، وهذا الشاب حسن المنظر. إلا أنه - من سوء حظه - لم يستطع أن يرى وجهه؛ لأنه كان محجوبا بردائه. فلما سار مع صديقه حاول اللحاق به، إلا أن الشابين اختفيا في زقاق ضيق، فرأى من الحكمة أن يرجع عنهما.
الفصل الثامن عشر
مجلس الأعيان
في اليوم العشرين من شهر أغسطس (آب) سنة 1560 اجتمع أعضاء مجلس الأعيان من أطراف البلاد الفرنساوية، وسائر أنحائها في قصر فونتنبلو، وكان معظمهم وقوفا، وأقبل مونمورانسي في مقدمة جمهور غفير من رجاله، وكان الملك ينتظره مع الملكتين في حجرته. فمثل بحضرته، وقال: لقد جئت أيها الملك صادعا بأمرك. فأجابه: لقد سرني أن أراك بيننا؛ لأنك تفارقنا كثيرا؛ ولأننا في حاجة إلى آرائك، ولكن لا أدري لماذا يقل وجودك معنا؟ فهل تحسب نفسك آتيا إلى بلاط عدو؟ إن حرسك الكثير يعدل حرسي أنا.
فأجابه: إن رجالي أيها الملك رجالك، وكلهم مخلص صادق يتمنى الدفاع عنك والموت لأجلك.
قال: لعلنا نحتاج إليهم، فإن أعداءنا وقحاء يزداد اجتراؤهم علينا كل يوم، والآن هيا بنا إلى المجلس!
وبعد هنيهة دخل الملك مجلس الأعيان، وتبعته الملكتان ماري وكاترين، ووراءهما شقيقا الملك ، وآل بوربون ولورين، والدوق دي جيز وأخوه وغيرهم ممن يضيق المقام عن إيراد أسمائهم. فتكلم الملك قائلا: لقد جمعناكم أيها السادة للمفاوضة في شئون مملكتنا، ونروم أن يتكلم كل منكم بنزاهة ضمير، وقد تلقينا ملتمسا من المسيو دي شاتيليون سوف تسمعون نصه.
ثم التفت الملك إلى الأميرال دي شاتيليون، وقال: تكلم.
فنظر الدوق دي جيز وأخوه الكردينال كل منهما إلى الآخر؛ لأنهما كانا ينتظران أن يكونا البادئين بالتكلم في ذلك المحفل، ونظر الكردينال إلى وجه كاترين ليطالع فيه ما يخامر نفسها، فرآها تبتسم كأنها غير مكترثة لما أمامها، وأما الملكة ماري فظنت أن ذلك المجلس السياسي تطول مدة انعقاده، وأن ما يقال فيه ممل فكان السأم ظاهرا على ملامحها.
ووقف الأميرال دي شاتيليون، وهو من أنصار المذهب الكاثوليكي، فقال: إن أصل الاضطرابات ناجم عن التعصب والاضطهاد الديني، وأن المضطهدين (بفتح الهاء) سلموه ملتمسا لجلالة الملك ليس عليه توقيع، ولكن خمسين ألف نورماندي قد يوقعون عليه عند الحاجة، ومؤداه وجوب اجتناب الوشايات التي يرمى بها أبناء المذهب البروتستانتي. فهو يطلب إلى الملك والمجلس أن يختصوهم بمواضع وهياكل يمكن فيها إلقاء الوعظ علنا، ومباشرة الشئون المتعلقة بمذهبهم وعبادتهم.
ثم نهض آخر فشبه الدولة بعليل لا يمكن شفاؤه إلا بتشخيص علته، فنهض الدوق، فقال: إنه مستعد لتقديم حساب عن إدارة الحربية والجيش، وقال الكردينال: إنه يؤدي حسابا عن المالية؛ لأنه ناظرها، وأعلن أن النفقات تزيد مليونين وخمسمائة ألف ليرة عن إيرادات البلاد. ثم تكلم كثيرون، وتفرقوا وفي يد كل منهم مذكرة للمواد التي يشاور فيها الملك، وكان موعد انعقاد المجلس الثاني في اليوم الثالث والعشرين من ذلك الشهر، وخرج الملك مع الملكتين، واستصحب المسيو مونمورانسي، وكان معنى ذلك، عند الدوق وأخيه، انحراف الملك عنهما وقرب زوال حظوتهما عنده. فقال الكردينال: إذا عرفنا كيف نتصرف كانت النتيجة حميدة لنا. فأجابه الدوق: لا جرم أن الضربة آتية من ناحية الملكة. قال الكردينال: بلا شك!
وفي ذلك المساء أقيمت حفلة راقصة، وكان الدوق يراقب فيها كاترين فرآها تجتنبه. فتمتم الكلام قائلا: حذار أيتها الملكة العظيمة، فإن عينيك تلمعان لمعانا كثيرا، فويل لك إذا جاء عشيقك الليلة فوقف تحت نافذتك!
ولما انتصف الليل أطفئت أنوار القصر، وسكنت حركة المدينة، إلا أن الأنوار لم تنطفئ في المدينة كلها، ولا سكنت الحركة في كل مكان، فقد رقد فرنسوا الثاني وزوجته رقاد عاشقين في أول عهد هواهما، ولكن الملكة الوالدة لم تنم، وكذلك الدوق وأخوه الكردينال، ونام زوج مرسلين، أما هي فلم تنم، بل كانت ساهرة إلى جانب نافذتها، والسماء صافية، والكواكب طالعة، والشذا يتضوع في الهواء، وقد هبت نسماته من ناحية الغابات، فحملت ما في أزهارها من طيب، والبلابل تغرد، ومرسلين معجبة بما في تلك الليلة من دواعي السرور، غير أنها آسفة على فراق حبيبها.
وفيما هي كذلك كان ترولوس وجاليو يسترقان الخطى في طريقهما إلى القصر. الأول: يأمل أن تطل حبيبته الملكة من نافذتها، والثاني: يرجو أن يرى مرسلين، ويقول في نفسه: سوف أتغنى تحت نوافذ القصر فتعرف صوتي. فلما صارا إلى المكان المقصود جعلا يتمشيان تحت النوافذ التي ظلت مقفلة حتى تولاهما الضجر. فقال ترولوس: لقد ذهب سعينا ضياعا!
قال جاليو: ما رأيك فيما إذا دعوناها؟ فقال ترولوس: ويك! هل جننت؟ فأجابه: كلا يا عزيزي، غير أن النساء ما برحن يعشقن الغناء، وصوتي رنان رخيم، وقد تلقيت الفن عن أستاذي الخبير، فدعني أقلد البلابل أو أسكتها، ولئن سمعتني مرسلين فسوف ترى عجبا. سوف تفتح النافذة، ثم تظهر الملكة وتطرح إليك سلما من حبال فتتسلق عليه، وأما أنا فأمضي طروبا راضيا بفوزك.
وأحس ترولوس بخطى قريبة، فقال: يوجد هنا من يرصدنا. فأجابه جاليو: لا!
قال: بل هناك رجال مختبئون كامنون لنا.
قال: ويل لمن يتعرض لنا.
قال ترولوس: بل تعال نرجع.
أجاب جاليو: هيهات، فلا أرجع دون أن أرى.
وكان جاليو يحمل مصباحا سريا فوجه نوره إلى الجهة التي أشار إليها صديقه، فلما لم ير أحدا، قال له: دعني أغني. قال ترولوس: بل سر بنا وغدا نعود.
قال جاليو : أأسير، ولا أتعرض لمثل هذه الحادثة؟
ورفع جاليو عقيرته
1
فأخذ يتغنى بشعر مدة خمس دقائق، حتى انفتحت نافذة الملكة، فسكت المغني، وقال لترولوس: تقدم لأختبئ أنا، ولك أن تقول إنك أنت المغني!
ثم ظهرت امرأة في النافذة واحتجبت في الحال. فارتعد الرجلان، وكانت مدام مرسلين ساكنة في طبقة تحت الطبقة التي تسكن فيها الملكة فلما سمعت صوت جاليو أطلت كذلك، وتراجعت بعد أن صاحت صيحة ذعر وارتياع. فقال الرجلان: يا للغدر، واقتربا إلى خندق هناك، وكانت الجهة الثانية المعارضة من الطريق غاصة ببضعة رجال، شاهرين سيوفهم، واقفين يمنة ويسرة في عرض الطريق يمنعون المرور.
فتفقد جاليو غدارتيه، ثم جرد سيفه، وقال لترولوس: افعل فعلي ودعني أدير القتال، وارتعد ترولوس خوفا من أن يكون قد فضح الملكة بجرأته، فلم يشته إلا أن يجرح جرحا عريضا، وينطرح في الخندق. أما جاليو فإنه حيا أخصامه ممازحا، داعيا لهم بالطرب والحبور، ثم قال: ماذا تريدون أيها السادة؟ فقال له واحد منهم بصوت خشن: سلما سيفيكما!
فأجابه جاليو: اعلم يا مولاي أن سيفي رفيق لي قديم، فلا أستطيع مفارقته. قال الرجل: يا لك من ثرثار، إذن فسوف نأخذه منك رغما عنك.
وتقدم الرجل فألقى جاليو نظرة سريعة إلى ما وراءه فأبصر شجرة عند ضفة الخندق أغصانها، منحنية على جدار القصر، فقال لرفيقه: الزم ساق الشجرة فلا نجاة لنا إلا من هناك.
ودنا رجل من الرجلين، وقال قائل: استسلما وإلا فأنتما هالكان. فقال جاليو: إني أعرف هذا الصوت، وقد سمعته في وسط معمعة، وما هو بصوت برداليان، ولكنه صوت الدوق دي جيز! ومن هذا الرجل اللابس ثياب الرهبان؟ لا شك أنه أخوه الكردينال. إذن فلا يغض شرفي أن أقاتلهما بسيفي؛ لأنهما من أندادي.
وقد فكر في التخلص من شر أعدائه، وأشدهم أذية؛ أي حملة البنادق، وكانوا ينتظرون أمرا لإطلاق النار، ورأى الدوق دي جيز أن يقبض على الرجلين دون أن يقتلا. فهمس جاليو في أذن رفيقه يقول: أطلق النار على حملة البنادق! فدوى صوت أربع طلقات فسقط أربعة رجال من حملة البنادق وبقي واحد، فصاح به الدوق: ويك أطلق النار! إلا أن جاليو كان قد تمشى إليه وطعنه بسيفه وعاد في أسرع من لحظة إلى مكانه قرب ترولوس، ولم يبق أمامه إلا خطوة توصله إلى الشجرة. فتناول الحراس بنادق الرجال الذين سقطوا صرعى وقدحوا الزناد لإشعال فتيلها، ومعلوم أن موقف الجنود بإزاء الأشراف محفوف بالخطر إذ كانوا يسلحونهم، ولا يأذنون لهم باستخدام سلاحهم دون أمر، ولذلك كانوا يقتلون قبل أن يتلقوا الأمر، وقبل أن يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم.
وهاج حنق الدوق دي جيز لفشله الوقتي فوثب على جاليو وهو يصيح: هذا دي نرساك من رجال ابن عمي كوندة، ونحن قابضون عليه هذه المرة لا محالة، فقال له جاليو: أتظن ذلك يا مولاي؟ فأجابه: بلا شك! فسلم سلاحك وإلا أمرنا بقتلك. قال: إني أفضل القتال بالسيف.
وسمعت مرسلين وهي في حجرتها اسم دي نرساك فأكبرت الأمر وأشفقت أن يقتل حبيبها تحت نافذتها ففكرت في إنقاذه وإدخاله القصر، وبعد أن تحققت أن زوجها مستغرق في النوم خرجت من حجرتها وهي حائرة، فنزلت في السلم ووقفت مضعضعة الحواس، وإذا بامرأة واقفة أمامها تقول لها: إلى أين؟ أجابت: لست أدري. قالت المرأة: إن رحى القتال دائرة أمام القصر، فهل لك صديق بين المقاتلين؟ قولي ولا تكذبيني فالوقت أضيق من أن يتسع لجدال. أجابت: نعم. قالت: من صديقك؟ أجابت: هو جاليو دي نرساك.
فتنهدت المرأة وقالت: إن بعض المصالح السياسية تقضي علي بالدفاع عن الرجلين فأروم إنقاذه. إلا أنني ملكة فلا يسعني أن أفضح نفسي، فإليك سلما من حبال، اطرحيه من النافذة التي فوق سلم القصر، فيبصره الرجلان، ويجتازا الخندق إليه، ثم يتسلقان عليه وننقذهما. فهيا وأسرعي!
فناولت مرسلين رزمة الحبال، وبادرت إلى النافذة التي أشارت إليها الملكة كاترين، وعقدت طرفي السلم في قضبان النافذة، وقبل أن تطرحه نظرت نظرة إلى من تحتها، فإذا بها ترى رجال الدوق يتراكضون إليه، وقد جردوا سيوفهم، ووقف جاليو أمامهم يدفعهم عنه بسيفه ، وأراد ترولوس مساعدته إلا أن جاليو قال له: اصعد إلى الشجرة واستخدم الغدارتين.
وكان بين رجال الدوق جاسوسه جنليس، وهو من الماهرين بضرب السيف، فلاحق جاليو وضايقه، فأطلق ترولوس النار عليه فرماه جريحا. فقال جاليو: عافاك الله يا أخي!
ولقد فرق الطلق الناري المهاجمين، واعتصم ترولوس بالشجرة بعيدا عن سيوف الرجال، وطلب من جاليو غدارته ليحشوها وهو في موقفه العالي، وسمعه الدوق فقال: لله در هذين البطلين!
وكان جاليو قد انتهز فرصة من اضطراب المهاجمين فاستند إلى الشجرة، وأدرك ترولوس مراده فأمسكه من كتفيه فرفعه إليه فكانا كلاهما بين الأوراق.
فزعق الدوق وأخوه زعقات المجانين من شدة الحنق؛ لأنهما وهما أميران عظيمان مصحوبان بعدد من الجند، قد هاجما رجلين على حين غرة ولم يفلحا، ولم يفلح الذين حملوا البنادق؛ لأن الرجلين كانا محتجبين بورق الشجرة والرصاص يتطاير منها فيطرحهم قتلى. أما سائر الرجال فكانوا يقاتلون بسيوفهم ولم يكونوا يحملون غيرها، وسيف جاليو أطول وأقتل؛ لأنه يصيب به المقاتل من مكان مرتفع. فقال الدوق: لم يبق سبيل لنجاتهما إلا بالخندق والجدار فهما أسيران، فليذهب أحد منكم وليرجع بالرجال، فقال ترولوس لجاليو: والآن كيف نصنع؟ قال: هات الغدارتين، ووثب إلى الضفة الأخرى.
فوثب ترولوس إلى لسان ضيق من الأرض عند أسفل الجدار، وكان ذلك عندما عقدت مرسلين السلم بالنافذة، ولم يلتفت المهاجمون إلى ما جرى أمامهم، وقد بهتوا من جرأة ترولوس، فلم يدر في خلدهم أن الوثوب من الشجرة إلى الأرض أمر ممكن، وإذا بجاليو قد نزل، وصار إلى جانب صديقه شاهرا غدارتيه، وقال: إذا تقدم إلي أحد أيها الدوق فهو هالك لا محالة، ولئن حاولتم هجوما علينا تلقيناكم بالسيف، ثم خفض صوته، وقال: ما هذا؟
وقد أحس بشيء على رأسه، فقال: هذا سلم، فاصعد يا ترولوس. قال: من أين لنا هذا السلم؟ قال: اصعد ولا تسأل، وكان ترولوس قد صعد حتى بلغ الطبقة الأولى بأسرع من رد الطرف، وسدد إليه أحد الرماة رصاصة فلم يمهله جاليو، بل أطلق على الرجل غدراته فرماه صريعا. فقال الدوق: يا لك من غلام زنيم فلا بد من قتلك عند صعودك؛ إذ تعجز عن استخدام سلاحك وأنت صاعد، والظاهر أن ترولوس أدرك ما يجول في ذهن الدوق فنزل سريعا وطلب الغدارتين من جاليو، وقال له: سوف أدافع عنك عند صعودك. فصاح الدوق: أين الرجال؟ إن هذين الشقيين يوشكان أن يتخلصا منا. ولكن في أي مكان عقد هذا السلم؟ ما أراه من غرفة الملكة، فمن يتجرأ على حماية الشقيين؟
وكان ترولوس في أثناء ذلك قد وصل إلى النافذة، ونزل منها إلى الرواق في داخل القصر فلم يكلم الملكة ولا مرسلين، وكانتا أمامه، بل أطل من النافذة، ورفع صوته وقال: تعال يا صديقي ولا تخف، فعندي غدارتان كافيتان لقتل من يسدد المرمى إليك.
وصعد جاليو عاجلا، ثم سحب السلم، وفيما كان الصديقان يشكران الملكة وهي تفكر في إتمام نجاتهما انفتحت حجرة المحامي أفنيل زوج مرسلين، ولم ير في بدء الأمر إلا زوجته، فقال: ماذا أتى بك إلى هنا؟ قالت: لقد راعني دوي البنادق. قال: من هذان الرجلان، ومن هذه المرأة؟
ثم وقف مرتاعا من جرأته، وكانت الغيرة قد حملته عليها، فقال ما قال، لكنه لما عرف الملكة اعترته هزة، فدنت منه، وقالت له: اعلم أيها المحامي أنك لم تر، ولم تسمع شيئا في هذه الليلة، وأنك تجهل وجود رجلين ها هنا معي، وإذا سئلت فقل إنك لم تفارق مخدعك. تلك إرادتي فاذهب. قال: أقسم لك يا ذات الجلالة على أنني سأنسى كل هذا! أجابت: لست في حاجة إلى قسمك، فعد مع زوجتك، وهي صديقتنا وسوف نذكرها دائما، وإذ ذاك ارتفعت الأصوات وانفتحت الأبواب، فعلمت الملكة أن الدوق آت مع رجاله يبحث عن الشابين، فقالت لهما: اتبعاني إلى غرفتي. قالا: شكرا لك.
ومرت بسلم سري فوصلت إلى غرفتها، وخبأت ترولوس وجاليو في مخدع لا منفذ له إلا من قرب سريرها، وقالت لهما: البثا ها هنا، ومهما تسمعا لا تأتيا بأدنى حركة.
وظل الدوق في بحثه، وأقام أعوانه في الدهاليز والمماشي . ثم صعد إلى النافذة التي كان فيها سلم الحبال معلقا، وكانت لا تزال مفتوحة، وبعد هنيهة امتلأ الرواق بالأشراف والسيدات، وفتح المحامي أفنيل وزوجته باب حجرتهما، وتقدما يمسحان أعينهما. فقال الدوق للمحامي: إن نافذة حجرتك قريبة إلى هذه النافذة، ألم تسمع شيئا؟ قال: متى؟ أجاب: منذ هنيهة. قال: كأني سمعت ضجة عند أسفل القصر، فظننت أن بعض الجنود سكروا. قال: لست أتكلم عما جرى في أسفل القصر، ولكن عما جرى هنا، قال: هنا؟ أين؟ فقال الدوق: في هذا الرواق؟ أجاب: أتمزح يا مولاي؟ قال: لقد دخل القصر رجلان من هذه النافذة. قال: لم أر، ولم أسمع. فهدر الدوق ودمدم، وقال: تالله لأفتشن القصر حتى أجد الشقيين.
ونزل الدوق وأقبل الأشراف رجال الملك والملكة يسألونه عن معنى تلك الضوضاء، واستيقظ الملك بغتة فأخذه القلق، واستعلم فقال الدوق: أجيبوه بأنه لم يحدث أمر ذو شأن، سوى مشاجرة بين الحراس. ثم قصد إلى حجرة الملكة الوالدة يصحبه الكردينال فتلقتهما كاترين وهي بملابس النوم، وقالت: بحقكما أزيلا ما خامرني من الانزعاج، ماذا جرى، فقد قيل لي إن المسيو جنليس جريح؟ أجاب الدوق: نعم جرحه صديق لابن عمك اللعين دي كوندة. قالت: من ذاك؟ أجاب: هو المدعو دي نرساك، وهو الذي أنقذته قبلا من عذاب الاستنطاق. قالت: تبا له، ألم يزدجر؟ أجاب: إنه لا يزدجر، ولا يؤخذ، وقد أفلت الليلة منا كما أفلت صديقه مستعينين بسلم من حبال طرحته إليهما امرأة من القصر. قالت: يا لله! لا جرم أن إحدى وصائفي تهوي ذلك الوصيف دي نرساك. إذن لا يحق لك أيها الدوق أن تشكو إذا كانت صاحبة الحيلة امرأة. قال: لا بد من القبض على الشقيين. أجابت: أرجو ذلك، ولكن كيف كنتما خارج القصر في مثل هذه الساعة؟
فارتبك الدوق لهذا السؤال، وأجاب: لقد كنا في خدمة الملك. قالت: كأنكما من الحراس؟ فأنعم بكما من خادمين مخلصين.
فخجل الأخوان، وقالت الملكة: الشيء بالشيء يذكر، لقد تلقيت نبأ جديدا عن أمير كوندة وهو من تكرهانه . قال الإخوان: أحقا أنك تلقيت نبأ عنه، وماذا يقول؟ أجابت: إن رسالته مكتوبة من زمن، ولم تصلني إلا في هذه الليلة، سلمني إياها شريف وصل من غاسقونيا، وسوف أعرفكما به غدا، وهو شاب لطيف المنظر، والآن أودعكما وأرجو لكما ليلة سعيدة.
فانطلقا، واستمر ذلك البحث وقتا طويلا دون فائدة. ثم سادت السكينة على القصر.
الفصل التاسع عشر
فرنسوا الثاني
لقد علم القراء في الفصل السابق بما كان من فشل الدوق دي جيز وأخيه الكردينال ليلة نجا منهما جاليو دي نرساك وصديقه ترولوس بعناية الملكة كاترين دي مدسيس.
واشتغل قصر فونتنبلو بالحديث عنهما في صباح اليوم التالي، فكان الكل معجبين بجرأة ذينك الرجلين اللذين قاوما الدوق دي جيز تلك المقاومة، وتخلصا منه بمعونة امرأة من نساء القصر، وشكا الملك إلى والدته من سوء سيرة وصائفها فدافعت عنهن، وقالت إنهن أجدر بالشفقة. ثم غيرت موضوع الحديث.
فلما انتصف النهار أظهرت رغبتها في التنزه، وكان الكردينال يرصدها ويرقبها، وقد جاء إلى البلاط بحجة التسليم عليها. فرأى بين الأشراف الذين يتبعونها شابا جديدا، لابسا ثيابا قاتمة اللون، رافعا رأسه، تيها على الأقران، فقال في نفسه: هذا وجه لم أعرفه قبلا، ولعله الرسول الغسقوني الذي أشارت إليه كاترين في حديثها أمس. ثم قال للملكة: هل استرحت أيتها السيدة من متاعب الليلة البارحة؟
فأجابته: نعم أيها الكردينال.
قال: لعل هذا الشريف رسول ابن عمي أمير كوندة؟ وأشار إلى ترولوس. فأجابته: نعم يا عزيزي الكردينال، وهو كما تراه فتى من خيرة الفتيان أدبا وبسالة وكمالا.
قال: إنه يكفي أن يكون من ذويك، أيتها الملكة.
قالت: اسمه ترولوس كونت دي مزغونة، ولئن رأى أخوك إحدى الفرق في حاجة إلى قائد، فهذا الكونت يعجبه. فكن نعم الوسيلة لديه.
قال: سأفعل يا سيدتي. ثم حياها وابتعد وهو ممتعض يقول في نفسه: أيكون ترولوس هذا بطل الليلة السالفة؟ وهل أتى من غاسقونيا حقا؟ وهل تهواه الملكة الوالدة؟
وكان الكردينال على علم بأخلاق كاترين دي مدسيس وتماديها في الهوى، فقال: ربما أحبت هذا الكونت، واتخذته نديما لها، وحظيا عندها، ولكن أتراه ذا مطامع؟ تلك أسئلة مرت في ذهنه كأنها أسرار معقدة.
ولو سأل كاترين نفسها عنها لما قدرت على جواب، وربما استمالها إلى الشاب ما رأت من بسالته وإقدامه، وقد عرفت له الجميل؛ لأنه حاول التقرب إليها بوسيلة غير الوسائل التي تتخذ في البلاط، وأحست بشيء من الاضطراب لما تأملت نظراته العميقة، ورأته يختلف عن سائر الشبان الظرفاء الذين يلاطفونها كملكة لا كامرأة حبيبة.
ولما خرج الدوق دي جيز بالأمس من غرفتها فتحت باب المخدع الذي حبست فيه الصديقين، وكان جاليو يصارع النعاس، أما ترولوس فكاد يجن سرورا فوثب وجثا أمام الملكة ولثم يديها، فقالت له: يا لك من فتى جاهل، أتخاطر بحياتك هذه المخاطرة؟
فأجابها: إنما خاطرت بها لأجلك يا سيدتي.
قالت: ولقد كدت تقتل.
أجاب: لو قتلت لعددت نفسي سعيدا؛ إذ أكون قد قضيت، وأنت ناظرة إلي.
قالت: إذن أنت تهواني قليلا.
قال: أتسألينني عما إذا كنت أهواك، آه لست أدري يا سيدتي كيف أبوح لك بما في قلبي، وإنما أقول: إنني عبدك، وإن حياتي لك تفعلين بها ما تشائين. مري بموتي أمت طاعة لك. •••
وانعقد مجلس الأعيان مرة ثانية بعد يومين لم يحدث فيهما أقل تغيير، وظل الملك يظهر كل الميل إلى مونمورانسي. فكان آل جيز يضربون أخماسا بأسداس، ويعدون المعدات. فلما انعقدت الجلسة في اليوم الثالث والعشرين من شهر أبريل (نيسان) أمر الملك أسقف فالانس بالكلام، فقام وأوسع أبناء المذهب الجديد (البروتستانت) طعنا، وامتدح آل جيز، وتشاءم من الحالة الحاضرة، وأشار على الملك بأن يقتدى بداود النبي والملك الذي نصر دينه، وأذل الأديان الأخرى، ثم طلب إلى الملكتين أن يرددا مزامير داود في صلاتهما، وأطال في هذا الموضوع. ثم نهض أسقف بروتستانتي آخر فدافع عن أبناء شيعته، وطلب لهم الرفق، وتلاه مونمورانسي فخاطب بقوله: من الخطر أن يتخذ الملك هذا الجم الغفير من الحراس، ولا فائدة منهم إلا أنهم يحدثون ارتباكا، ويتطلب وجودهم نفقات كبيرة، فإن الملك محبوب من رعاياه، وهو ليس بحاجة إلى جيش من الحراس، وحاشية لا يحصى عددها.
وكان هذا الكلام أشبه بشكوى من الدوق دي جيز، فنهض الدوق، وصاح بحدة: لقد تبين يا مسيو دي مونمورانسي أنك لم تشهد مؤامرة أمبواز، فإن الرعايا الأمناء أتوا يومئذ مدججين بالسلاح بحجة أنهم يرومون أن يرفعوا ملتمسا إلى الملك، ومنذ ذلك اليوم اضطررنا إلى إقامة هذا العدد الكبير من الرجال لحراسة الملك، وهو ما تلومنا عليه الآن، ومما لا جدال فيه أن الملك يحتاج إلى خدم صالحين وجنود بواسل، وهو قادر على استخدام الجيوش، ولئن قدرت على أن تضم إلى صوتك أصوات خمسين ألفا فلا يصعب على الملك أن يجد مليونا من رعاياه الأمناء يوافقونه ويخالفونك فيما تروم، وكل ما يريده جلالة الملك مقبول لدينا. أما رأيي في مذهبك الجديد فلا يتحول ولا يتبدل. إني أعتبره كارثة مشئومة على فرنسا!
وكان صوت الدوق عاليا خشنا، وكلامه قاسيا، فاهتز الحضور خوفا من شر العاقبة، ولم يتمالك مونمورانسي والبروتستانتيون أن رفعوا الأيدي، وقال مونمورانسي: ما العمل بهذا التعصب الذميم!
وإذ ذاك اقترح الكردينال شقيق الدوق دي جيز جمع حكام الولايات، وترك كل عمل موقوفا إلى حين اجتماعهم، وقال: إن الملك يحق له وحده أن ينظر فيما يختص بالأمن العام.
فصاح مونمورانسي: هذا اقتراح خال من العدالة؛ لأنه يسلمنا إلى أيدي الحكام وأكثرهم أعداؤنا.
فقال الملك: هل نسيت أن للملك وحده الحق في حفظ الأرواح والأموال؟
أجاب: لماذا تسن القوانين أيها الملك ضد البروتستانت؟ وهم قوم مسالمون مخلدون إلى الهدوء والسكينة، ولا أمنية لهم إلا ممارسة شئونهم الدينية، وليس فيها إضرار بأحد.
وفيما كان مونمورانسي يتكلم بهذا الكلام دخل قاعة المجلس شريف يكاد يحجبه العرق والغبار، وطلب مخاطبة الدوق دي جيز أو مقابلة أخيه الكردينال. فخرج الأخوان، وبعد هنيهة رجعا، وكل منهما مكفهر الوجه، فقال الملك للدوق: ما وراءك يا عماه؟
فأجابه: إن أعداءك أيها الملك لا يفتئون يسعون سعيهم ضدك.
قال: ما معنى هذا الكلام؟ - لقد حاولوا اليوم ما هو شر من حادثة أمبواز، ولكنني لا أستطيع التكلم ها هنا. - بل تكلم! - لست أعلم أيها الملك إن أعداءنا سيحسبون كلامي افتراء؟ إن لمذهب البروتستانت المخيف أعوانا ونصراء قادرين، وكم من مغرور يود أن يقتادك أيها الملك إلى طريق الرفق والرحمة في حين أن الضرورة تقضي باستخدام العنف والقوة. - زدنا إيضاحا أيها الدوق!
وكان أكثر الحضور قد نهضوا يتململون ضجرا، وجعل مونمورانسي يده على قبضة سيفه، ولبث القوم منتظرين ما يكون، وشرع الدوق يفض رسائل عديدة بين يدي الملك، وفيها أن البروتستانت في جهات متعددة قد ثاروا وحاولوا مهاجمة مدينة ليون، واستفزاز المدن المجاورة، وإن أملاك البابا في بعض هذه النواحي قد هدمت.
فصاح الملك: ما بال هؤلاء البروتستانت لا يرعوون؟ فهم يرومون الاستيلاء على مدينة ليون، بينما نحن نبحث في الملتمس الذي رفعوه إلينا على يد مونمورانسي.
ثم أمر حاكم ليون - وكان حاضرا تلك الجلسة - أن يعود إلى تلك المدينة عاجلا. فأجابه: أنه يسافر في ذلك المساء.
فقال له: اذهب واعضد السلطة الملكية، وقد أذنت لك بفتح المدن والقصور بالمدافع، واستخدام القوة لإهلاك كل مقاوم، ومعاقبة كل من يقصر عن القيام بما يجب عليه، وصادر أموال السكان عند احتياجك إلى القوت لرجالك ولخيلك.
فصاح مونمورانسي: إذن هذه حرب مدنية.
فأجابه الملك: إن البروتستانت بدءوها فالذنب ذنبهم، ولا بد لنا من الدفاع عن تاجنا.
قال: أناشدك الله أيها الملك أن تمنع وقوع هذه الحرب.
أجاب الملك: سنفعل ما نراه واجبا حسنا.
ثم مر الملك بوالدته ومونمورانسي وسائر الأعيان والكبراء دون أن يخاطب أحدا، ودنا من الدوق دي جيز وأخيه، فقال لهما: إني شاكر لكما يا عمي المحبوبين هذه المساعدة التي جاءت في وقتها، ولي حاجة إليكما هي أن تتما تقاريركما، فإن هؤلاء الثائرين لا يأتون عملا من تلقاء أنفسهم.
قال الدوق: يوجد دلائل على أنهم تلقوا أوامر بهذا الشأن.
أجاب: نعم، كالأوامر التي تلقاها لارنودي فيما مضى. فمن يكون صاحب هاتيك الأوامر؟ فلم يجب الدوق ولا أخوه.
فقال الملك: إنكما لا تجسران على اتهام أحد؛ لأن المجرم ينتمي إلى الأسرة المالكة. إذن فأنا أرفع صوتي وأسميه. إن تلك الأوامر ولا ريب عندي آتية من غاسقونيا أو أمير كوندة.
قالت كاترين: إنك تتهم يا بني من غير برهان.
فأجابها: لست أجهل أيتها السيدة أن أمير كوندة من أصدقائك، وهو قد أرسل إلينا ذلك الرسول الذي ألحقته بك منذ أيام، بدلا من أن يكون في جملة الحضور. أليس في ذلك إقرار بمشاركته في قضية أمبواز؟
فسكت الجميع؛ لأن إصرار الملك على الشكوى من أمير كوندة ألجم الأفواه، وأوجب على أعز أصدقائه السكوت.
فقال الملك: هيا بنا يا عمي الحبيبين لنكتب الرسائل إلى عمالنا وقضاتنا وحكامنا، وندعو الحكام إلى جمعية عامة.
وانصرف الملك، فتبعته زوجته والملكة، والدوق دي جيز، والكردينال.
أما كاترين فإنها قالت: اليوم خمر، وغدا أمر.
الفصل العشرون
الملك في باريس
كانت باريس قائمة قاعدة من شدة القلق والفزع منذ ما اتصلت بها حادثة أمبواز، ولم يكن فيها أحد قادرا على أن يتبين وجه الخطر الذي يخشى وقوعه. إلا أن الكاثوليك كانوا يذهبون إلى أن البروتستانت علة ذلك الخوف والخطر، والبروتستانت يعتقدون كذلك أن الكاثوليك هم منشأ الاضطرابات، ومصدر القلاقل والهواجس، وفيما هم كذلك شاع أن الملك تعطف فعقد النية على المرور بعاصمته أثناء ذهابه إلى أورليان حيثما تعقد مجالس الحكام، ومعلوم أن الباريسيين يحبون مشاهدة موكب ملك شاب، وملكة حسناء، وبلاط زاهر، فكان ذلك النبأ سببا في رجوع السرور إلى المدينة الكبرى، واجتمع جمهور غفير عند باب سن أنطوان ينتظر ذلك الموكب مبتهجا، وكان بين ذلك الجمهور نيكول بوصه صاحب فندق حملة السلاح، وقد جاء ليظهر تعلقه بالملك والأستاذ برنابا وجاليو وهما نازلان في فندق نيكول.
وكان جاليو قد عاد إلى باريس يوم ذهب الدوق دي جيز للصيد والقنص، فغافل رجال الدوق وخرج من القصر. فلما وصل إلى باريس أخذ يتمرن على استعمال السيف مع رجل إيطالي، ويدرس التاريخ على أستاذه برنابا، ويستعد للدسائس الجديدة والمناضلات.
وكان الجند يكره الجمهور على الوقوف في جانبي الشارع، وامتلأت النوافذ بالفضوليين، ولاحظ جاليو - ولم يكن يفوته شيء - نافذة أمامه ليس فيها أحد، وكانت في ذلك الشارع النافذة الوحيدة التي لا يطل منها أحد، وقال نيكول: هنا قوم لا يحبون الملك. إلا أن الأصوات سكنت عندما أقبلت فرقة من الفرسان، فتذكر الشعب مواكب هنري الثاني وفرنسوا الأول، وأقبل الملك أيضا في لباس الحرب، وتلا الحراس حملة الطبول فكانت أصواتها تدوي وتحول دون سماع الهاتفين، وكانت تدق دقات الحرب وهو ما لم يتوقعه الجمهور. فكان كلما هم بالهتاف للملك والجند والحراس ورأى ذلك السلاح والاستعداد الحربي تخفت أصواته.
وكان جاليو في جملة المشاهدين، فاكتأب من ذلك المشهد. أما نيكول فأسف؛ لأنه ترك فندقه، وأما برنابا فقال له: لقد أنبأتك أن الموكب لا يكون في هذه المرة سارا، فأجابه جاليو: ذلك من تدبير الدوق دي جيز. قال: أتظن ذلك؟ أجاب: كيف لا؟ إن الدوق لا ينكر عليه أمر كهذا، فهو يدري أن شعب باريس ينتظر الملك ليهتف له، فأدخله المدينة كما يدخل بلدة قد افتتحها بسيفه.
ومر الموكب أمام الجمهور، فقال نيكول: ما أكثر الفرسان الحاصلين على الوسامات، فأجابه جاليو: وا أسفاه! إنهم لم يحصلوا على وساماتهم إلا بالمداجاة والمصانعة لا بالبسالة وقوة السيف.
ولما ظهر الملك للأقوام كادوا يهتفون له كعادتهم إلا أنهم رأوه ممتقع اللون متعبا كأنه شبح ميت، فسكتوا، وكانت كاترين قد اقترحت دخول الملك المدينة في موكب بهيج؛ لعلمها بأن الناس مفتونون بتلك الظواهر، الزواهر، ولا تجهل أن ملوك فرنسا كانوا في كل زمن يتقربون إلى شعبهم بمثل تلك المواكب. غير أن الدوق دي جيز أشار على الملك بغير هذه، إذ قال له: إن باريس ممتلئة بالأعداء ففيها البروتستانت في كل زقاق وسوق وشارع، فلا بد من أن نبرهن لهم على أن لملك فرنسا قوة مسلحة، وأنه مستعد للقتال عند الحاجة.
ولذلك لم يلبس الملك إلا اللباس الخالي من كل زخرف، وهو ابن عشرين سنة يحب الزهو والإعجاب، ويقضي أيامه في مداعبة زوجته الصبية. لكنه انقاد إلى مشورة الدوق مرغما، وكان العرق ينسكب من جبينه. أما الدوق فكان على عكس ذلك مستويا فوق سرج جواده مدرعا، يحجب درعه ثوب من القطيفة الحمراء موشاة وشيا نفيسا، وفيما كان الأشراف شاهرين سيوفهم ترك سيفه مغمدا، وأطلق العنان لجواده، وكان أعلى من جواد الملك؛ فارتفع في الجمهور الهتاف له، بدلا من الهتاف للملك.
وظل جاليو ينظر إلى النافذة المفتوحة التي لم يطل منها أحد، وفيما كان أشراف الملك وفرسانه يمرون أطلت من تلك النافذة امرأة لابسة ثيابا سوداء، وهي فتانة المحاسن، وقد ظهرت للفرسان فبهتوا، ولما رآها الدوق دي جيز اصفر وجهه، وأوقف جواده من غير انتباه، ثم حثه على السير، وللحال دوى طلق بندقية من قرب المرأة، وأصابت ثوب الدوق رصاصة لم تتجاوز الدرع، فقال الملك: ما هذا؟
فأجابه الدوق: لا شيء أيها الملك سوى أنها رصاصة أخطأت مرماها.
قال: سوف يعذب الشقي الذي أطلقها، ثم يشنق!
أجاب: اعلم يا مولاي أن القتلة لا يستحقون هذا الاهتمام.
فلما تحقق الجمهور أن الدوق لم يصب بسوء استرسل في حماسته، وارتفع الصياح من كل ناحية، ليحي الدوق دي جيز!
وتواثب كثيرون إلى البيت الذي صدر منه الطلق فكسروا بابه وأبواب غرفه، ولما وصلوا إلى النافذة لم يجدوا أحدا. ولما أمسى المساء شاع نبأ الحادثة، وقال القائلون: إن البروتستانت هم الذين أقدموا على ذلك، ولم يتمكنوا من الاحتجاب إلا لأنهم باعوا نفوسهم من الشيطان.
ولما وصل الملك إلى اللوفر استقبل أعضاء مجلس النواب، وقال لهم: قد يخامر التعجب سكان مدينتنا من دخول الملك كمحارب، على أنكم تعلمون أننا وفقنا إلى معرفة المجرمين الحقيقيين الذين ارتكبوا الجناية الفظيعة في أمبواز، فهم أمراء أسرة بوربون، وأخصهم لويس دي بوربون أمير كوندة، فإن لابن عمنا دي كوندة أصدقاء عديدين في باريس، ولسنا نجهلهم، وحسبنا برهانا تدبيره الشائن الذي سعى به ضد عمنا الدوق دي جيز، ولذلك جمعنا جنودنا لنكون في أمن على شخصنا. فاذهبوا أيها السادة، وأعيدوا ما سمعتموه على كل سكان باريس مدينتنا المحبوبة.
وعند المساء اجتمع جاليو وبرنابا في فندق نيكول، وضرب الباب، فقال جاليو: لعل القادم ترولوس؟
فأجابه ترولوس: نعم، جئت لأحييك أيها الصديق، وأنت أيها الأستاذ الفاضل.
قال: ولك منا التحية أيها الكونت بعدما تركتنا.
أجاب: كلا، ولكنني لم أكن قادرا على الرجوع إلى باريس دون أن ترجع الملكة؛ لأنني كما يعلم جاليو قد صرت من رجالها.
قال جاليو: نعم بهذا المنصب السعيد!
أجاب: وا أحر قلباه، إني به لسعيد سيئ الحظ معا، وآه لو تدري ما انطوى عليه بلاط فرنسوا الثاني من مفاسد ومكائد.
قال: ما إخالك تشكو ما دمت ترتع مع الراتعين.
وبعد أن أكلوا، أوصل جاليو برنابا إلى مخدعه، ثم اتجه الشابان إلى اللوفر، فقال جاليو: ألا تنبئني عن مرسلين؟
أجاب: إنها صارت من نديمات الملكة؛ لأن بين المرأتين سرا يمنع كلا منهما أن تخون الأخرى. أما المحامي أفنيل فإنه لا يتجرأ على مفارقة البلاط، ولا أظن إلا أنه أتى أمرا يعنف عليه نفسه؛ لأن عمله كاد يقضي عليه بالقدوم إلى باريس.
قال جاليو: ذلك من الممكنات، ولكن هل عرف الدوق اسم رفيقي الذي صعد في سلم الحبال معي؟
أجاب: لقد حلف الدوق بأن يشنقك يوم يجدك.
قال: لله دره من رجل كريم الخلق.
قال ترولوس: أما أنا فإنه لن يعرفني قط، وأنت تدري أن الملكة عرفتني بالبلاط في اليوم الذي تلا يوم الحادثة، وقالت: إنني رسول أمير كوندة، ولم أفارق الملكة منذ ذلك اليوم، فإن كاترين اختارتني لأصحبها في نزهاتها، وكنت أضطرم هوى بقربها، وأنتظر منها إشارة لأدنو منها عند ركوبها جوادا أو مركبة.
وهنا تبسم، وقال: لكنني أخشى مضايقتك بخبري. قال: ألست أخي في السلاح؟ فتكلم. - إن الملكة أذنت لي بالاقتراب منها ونحن في الغابات، والوصائف الإيطاليات اللواتي يصحبنها مخلصات لها فلا تخشى خيانة منهن، ويومئذ حدثتني بسيرتها الماضية، وما أصابها من يأس وذل في عهد زوجها وعشيقته ديانا دي بواتيه، وقد أراد هنري الثاني تطليقها، وهي الحسناء الفتانة. ولطالما جلست إليها تحت أشجار الأدغال أقرأ وإياها أناشيد بترارك وقصائد دانت، وكانت كلما قرأنا محادثة غرامية تأمرني بأن أتلو كلمات العاشق، وهي تنشد أبيات العاشقة، وكذلك كنت أطارحها الهوى. - إنك خجول يا صديقي. - أنت غلام، فهل فاتك أن هذه المرأة ملكة، وأنها ملكة حسناء كثيرة العشاق، وقد أذنت لي بمخاطبتها عن غرامي، وتفضلت علي بأن ألقي إليها بتلك العبارات المحرقة التي ينظمها الشعراء في سلك قصائدهم الرنانة؟ فهل أستطيع أن أطلب إليها شيئا آخر؟ وهي قد كانت تقول لي: «أنت يا ترولوس قبس من نور ظهر في سماء حياتي المحجبة بالغيوم.» وإنما دعتني باسمي، دون لقبي؛ لأنها طلبت مني أن أدعوها كاترين. فلما أبيت، قالت لي: هل تغير أبيات دانت لتحشر بينها قولك أيتها الملكة؟
ودخل الصديقان إلى اللوفر فتناول ترولوس يد جاليو، وأوصله إلى نافذة ينبعث النور منها، وقال له: هناك تنام عشيقتي. فأين عشيقتك؟ أجاب: نعم، كنت ذات يوم أنشد أشعار بترارك، فطلبت إلي كاترين إعادتها مرتين، ثم قالت لي: إن صوتك يعذب عندما تقول: «أهواك»، فضاع صوابي وفقدت رشدي وعدلت عن التكلم بالأشعار، وكنا في صميم غابة بديعة من غابات فونتنبلو، مبتعدين كثيرا عن الحاشية، والهواء يحمل طيبا، فنسيت الملكة أنني شريف مسكين لا أنتمي إلى الأسرة المالكة، والآن أودعك!
فتركه جاليو حتى دخل القصر، وعاد يقول في نفسه: وا رحمتاه لفؤادك أيها الصديق، ولا قدر الله أن يغدو ألعوبة بين يدي تلك المرأة فتكسرها في ساعة لهو ولعب. •••
ولم يقف الملك وجيشه في باريس إلا يوما واحدا، ولكن جاليو اكتشف في ذلك اليوم أمورا خطيرة؛ لأنه تجول في البلد، فطاف في شوارعها وأسواقها، ودخل فنادقها وحاناتها، وتجرأ حتى على دخول قصر اللوفر غير خائف أن يصادف الدوق دي جيز مع علمه أنه أقسم على إهلاكه، وتمكن من التقاط عبارات رابته وأوجس منها خوفا على مولاه أمير كوندة؛ لأنه سمع القوم يتكلمون عن إنفاذ العدل في مجلس أورليان، وأمير كوندة مدعو إلى ذلك المجلس، ولا بد من ذهابه إليه . فرأى جاليو أن الواجب يقضي عليه بالسير إلى أورليان لينذر سيده بما ينويه الملك، وينقل إليه الجملة التي خاطب بها أعضاء النواب.
فسبق جاليو موكب الملك، ولما علم أستاذه بعزمه على السفر بكي شفقة عليه، وقال له: ألا تزال تخاطر بنفسك؟ ألا تدري أن المخاطر ليس بمحمود وإن سلم، «وما كل مرة تسلم الجرة» كما يقول المثل.
أجاب: بل أرجو السلامة يا أستاذي، وأعتقد أن طالعي سعيد، وأن الله لم يقدر لي الهلاك.
قال: لو أنك مسافر لتلحق بامرأة تهواها لفارقتك غير آسف، ولكنك مسافر لتلقي بنفسك إلى التهلكة. - إني ذاهب لألقى أمير كوندة، وبيني وبينه عهد، مراعاته فرض واجب علي، ولست أدري أي ويل يحيق به. إلا أن نفسي تحدثني بقرب وقوع خطب جسيم، فلا بد لي من الانضمام إلى الأمير في وقت الخطر، وهب أني أقمت معك، فما أرانا نسر بالإقامة وهذه حالتنا. ألم تر أن الكآبة دخلت باريس مع حاشية الملك وبطانته؟ ولعل وراء الحجاب خيانة مدبرة، فإذا نبهت الأمير كفيته شرها. على أن بشاشتي وطلاقة محياي لم تمت، بل هي راقدة، فلو أردت الضحك اليوم لما قدرت، ولا أشتهي إلا مبارزة أكون فيها فائزا أو خاسرا، فليس ذا وقت العشق والغرام.
قال: مع السلامة يا عزيزي جاليو، وإني أتبعك عن بعد ومتى عدت متبرما متضجرا من هذه الحياة التي تكتنفها الدسائس والمهالك تجد عندي زجاجات ملأى بالراح وكتبا تزينها قصائد شعرائنا المجيدين.
الفصل الحادي والعشرون
كلام الملك
وصل جاليو إلى أورليان بعد ثلاثة أيام، فألفى الكآبة والغم سائدين فيها سيادتهما في باريس، ووجد فيها أحد أصدقاء الدوق دي جيز اسمه فيليب دي مرسيلي، قدم المدينة منذ أوائل شهر أكتوبر (تشرين الأول) مأمورا بنزع السلاح من سكان المدينة، ولقد أنزل هذا الرجل جنوده في بيوت السكان الذين يعلم أنهم من أبناء المذهب الجديد (البروتستانت) وطرح في السجن من أبى قبول هؤلاء الجنود.
ونزل جاليو في فندق صغير في زقاق مظلم قرب نهر اللوار، ثم أخذ يطوف في المدينة، وأول نبأ وصل إليه هو أن الله أراد الانتقام لسكان تلك المدينة من حاكمها، فسلط عليه منذ يومين داء النقرس فبات يصرخ من شدة الألم، وخطر لجاليو أن ينظم أبياتا بهذا المعنى، وفي اليوم التالي قرأ سكان المدينة أبياتا مكتوبة على ورقة ملصقة على باب بيت الحاكم، ولا بأس من ترجمتها للقراء، قال فيها:
يا من يمر! أتدري لمن هذا القبر، وما حوى من المخازي؟ فهو قبر رجل لا أمنية له من دنياه إلا أن يكون جلادا لعباد الله. أنفق العمر ولم يأت حسنة، ولذلك رأى الله أن يعاقبه؛ لأنه تعالى لم يطق فظاظته، فرماه بداء النقرس ليكون عبرة لكل من يمر بهذا المكان.
واستمر جاليو يتفقد شئون الناس حتى وصل إلى بيت يحوط به الجند من كل ناحية، وهو مسور بالحديد، فقال لأحد الجنود: ما هذا البيت المشئوم؟ وهل يقيم فيه أحد؟ فأجابه الجندي: كلا. قال: لعله لأحد أبناء المذهب الجديد اللعين؟ أجاب: بلا شك.
فأخذ جاليو يضحك، ثم ضرب بيده كتف الجندي، وقال: ما أظن الأمير يواصل السير إلى هنا لو درى بهذا المنزل المعد لسكناه.
قال الجندي: صه! إني لأخشى أن يسمعنا أحد من أصدقاء الأمير.
قال جاليو: أصبت، فما كل الناس كاثوليكيين مثلنا!
ومضى وهو منكمش الصدر، وقد فهم المراد من قولهم في باريس أن سينفذ العدل في أورليان، وفيما كان مارا قرب الأسوار أبصر قلعة تحدق بها فرقة من حملة البنادق، وقسيسا ينظر إليها نظرة المتشفي، فقال له جاليو: ألا ما أنبأتني يا أبت عن البروتستانتي الذي يكابد عذاب هذا السجن؟
قال: ألا تعرف اسم هذه القلعة؟ فهو يغني عن الإيضاح.
قال جاليو: وما اسمها؟
أجاب القسيس: اسمها قلعة الأميرال، يا بني.
قال: لقد فهمت، فإنها معدة لذلك الشيخ اللعين جسبار، زعيم تلك الطائفة الممقوتة ونصيرها.
ورجع جاليو إلى الفندق يفكر في ذلك الذي يسمونه عدلا. ثم تقلد سلاحه وعول على مفارقة البلدة ليلقى أمير كوندة ويحذره، وفيما كان راحلا عن أورليان دخلها الملك في موكبه الحربي الذي أحزن أهل باريس، وكان فيليب دي مرسيلي، صديق الدوق دي جيز، قد أقام حراسا في كل شارع وساحة من ساحات المدينة، وشمل الرعب أهل المدينة كما شمل نواب الأقاليم الذين وفدوا ليحضروا مجتمع الحكام.
فلم يهتف للملك أحد، واستقبل جلالته مختار البلد، واسمه جيروم جروسو، وهو رجل كان متهما بالاشتراك في مؤامرة أمبواز، فقال له: «إذا لم تصلح سيرتك عاقبناك معاقبة يعتبر بها الآخرون.» وكان جيروم هذا قد هيأ خطابا ليلقيه بحضرة الملك مضمونه احتجاج السكان على هذه المعاملة، وإظهار إخلاصهم للملك. فعلم فيليب دي مرسيلي، رسول الدوق بالخطاب، فلما وقف جيروم ليلقيه صاح: هذا هو قائد البروتستانت!
فذعر جيروم المسكين، وعظم ارتياعه لما رأى ما في نظرات الملك من الشراسة، فاضطرب وتلعثم، وللحال اتهمه فيليب دي مرسيلي أمام الملك بأنه اعترضه في نزع سلاح السكان، فقال الملك: لقد بلغني سوء تصرف هذا المختار من زمن طويل، فاطرحه يا مسيو دي مرسيلي في السجن، ولينظر القضاة في قضيته غدا.
وهكذا كانت فاتحة عمل الملك الأمر بالقبض ظلما على ذلك الرجل الشهم، وتهيأ الحراس للهجوم والدفاع كأنهم في مدينة عاصية يحاولون إخضاعها.
هذا وأمير كوندة قضى شهورا وهو يشاور نفسه في الأوبة إلى بلاط الملك وإجابة الدعوة، ولا يدري هل يذهب وحده أو يستصحب أصدقاءه ورجاله، وكان الملك قد كتب من فونتنبلو إلى ملك النافار شقيق أمير كوندة يطلب إليه أن يستصحب أخاه ليبرر نفسه من التهم الملقاة على عاتقه. ثم إنه أرسل إلى غاسقونيا رسولا، هو الكردينال دي بوربون، وألحقه بآخر هو البارون دي كرسول، وأكد الاثنان لأمير كوندة أن حقوقه كأمير من الأسرة المالكة أو الدم الملكي ستحفظ وتراعى، وكانت لزوجة أمير كوندة وحماته مراسلات مع نساء البلاط، فأشارتا على الأمير بألا يلبي تلك الدعوة، وحذرتاه من الانقياد إلى ملك فرنسا. إلا أن أخاه ملك النافار أقنعه بالذهاب معه. فسافرا معا، وهما لم يقرا كيفية دخولهما على بلاط الملك، ولحق بهما بضعة آلاف من الأشراف إلى ليموج، ووعدهما زعماء المذهب البروتستانتي بجيش مؤلف من ستة آلاف رجل، إلا أن وصولهما على تلك الصورة يدل على معنى الحرب والتأهب للنضال. وجاءهما رجل اسمه أرميناك يزعم أنه قريبهما، وهو في الحقيقة مأجور من الدوق دي جيز، فأكد لهما حسن نية الملك فرنسوا الثاني. فأكره ملك النافار الأمير أخاه على عدم استصحاب رجاله وأصدقائه بحجة ألا حاجة إليهم.
وأرسل الدوق دي جيز الماريشال دي ترم لاستقبالهما فتلقاهما بالاحتفاء المشكور، فأولاهما ذلك ثقة وحسن ظن، ولما لقي أمير كوندة جاليو في ضواحي أورليان، كان ممتلئا بالآمال الحسنة. فوقف جاليو أمامه ففرح بلقياه، وقال له: حياك الله يا جاليو!
فأجابه: لقد سرني لقاؤك يا سيدي.
قال الأمير: لقد ظننتك سجينا أو ميتا؛ لأنني لم أتلق خبرا عنك، وبت أسأل نفسي عما إذا كنت قد هجرتني. - معاذ الله أن أتركك يا مولاي. - وماذا جرى للفيكونت دي شارتر المسكين، ألم تفلح في إنقاذه من محبسه؟
فتعجب جاليو من شهامة الأمير؛ لأنه لم ينس صديقه السجين، وهو أجدر منه بالإنقاذ من كيد الماكرين، فأجابه: ليس غرضنا الآن يا مولاي إنقاذ الفيكونت دي شارتر، وإنما إنقاذك أنت! ولا يزال في الوقت متسع لرجوعك، فعد إلى غاسقونيا، واجمع أصدقاءك، ولا تأت إلى أورليان إلا وحولك جيش قادر على حمايتك.
قال: شكرا لك يا جاليو على ما فعلت لأجلي، ومن كان أميرا يسره أن يجد من يخدمه خدمتك إياي دون نفع ولا جدوى؛ لأنك تخدم أميرا لا مال عنده ولا قوة له، وربما بات في الغد سجينا أو أسيرا، ومد يده إلى يد جاليو يصافحه، ثم قال: إذن أنت تظن أن وراء الأكمة ما وراءها؟
أجاب: لا مجال للظن يا مولاي فإني متيقن، وحبسك حاضر كحبس الأميرال دي شاتيليون. - وهل تدري كيف يقبضون علي؟ أعند دخولي أورليان، أم عند الملك، أم في مجلس الحكام؟ - إني أجهل ذلك يا مولاي، ولكنني على علم بأن القوم قد هيئوا محاكمتك والحكم عليك. - ومع ذلك فما إخالهم يتعرضون لي بأذية ؛ لأنني أمير، دمي من دم الملوك، وقد أبلغت الملك خبر قدومي إلى أورليان قبل نهاية شهر أكتوبر، فغدا أكون فيها.
قال جاليو: إنك تلقي بنفسك في أتون التهلكة!
أجاب: ليس الموت يروعني، وفضلا عن ذلك فقد وعدت، ولا أخلف وعدي، والأفضل عندي أن أحاكم، ولا أرجع في كلامي رجوع كاذب، بل حسبي ما يحدق بي من الدسائس التي أريد إزالتها. وهل أكون أنا المذنب إذا شاء الدوق دي جيز تحويل ملتمس أمبواز إلى مؤامرة؟ هل أكون المذنب إذا كان الكاثوليكيون يلجئون أتباع مذهب كلفين إلى الدفاع عن أنفسهم؟ وهل أكون المذنب إذا ثار ماليني وحاول الاستيلاء على مدينة ليون برغمي؟ وهل أكون المذنب إذا كان أحد القواد البروتستانت يروم الانتقام لأخيه؟ إنهم يحسبونني علة لكل ويل ينزل بفرنسا، ولكل خطب يقع فيها. والأجدر أن يهتدي ملك فرنسا إلى الصواب فيعلم أن آل جيز علة هاتيك العلل، لا أمير كوندة! فليحبسوني، وليحاكموني، وليحكموا علي!
وفي اليوم التالي وصل ملك نافار وأمير كوندة إلى أبواب مدينة أورليان، وكان الدوق قد علم بوصولهم من أعوانه، فجمع المقاتلين من جند وحراس وسلحهم تسليحا كاملا وصفهم صفا محكما، أوله عند باب البلد، وآخره عند قصر الملك.
فقال الضباط: هل من عدو مفاجئ؟
فأجابهم الدوق: نعم، وإنه ألد عدو للملك أيها السادة.
وأراد بعض الأشراف مقابلة الأمير إلا أن الدوق لم يأذن بمقابلته ومقابلة أخيه لأحد غير أقربائهما كالكردينال دي بوربون، والأمير دي روشسوريون. وغاظ ملك النافار وأخاه ذلك الاستقبال السيئ، وزاد طنبور سخطهما نغمة أن بعض الضباط الذين سمعوا كلمات الدوق دي جيز تظاهروا بأنهم يهينون الأميرين. غير أن أكثر من كان معهما جرد السيوف، وفي الجملة جاليو، فوصل الأميران من غير حادثة تذكر إلى قصر الملك. (وهذا القصر منزل عمدة المدينة) فدهشا لما أبصرا الأبواب الكبرى مقفلة، وطلبا من الحراس فتحها فأجابوهم بشراسة أن الأبواب الكبرى لا تفتح إلا للملك.
فقال أمير كوندة في نفسه: لقد كان جاليو مصيبا. وترجل وأخوه عن فرسيهما ومعهما الكردينال دي بوربون والأمير دي روشسوريون فدخلوا «بلاط الشرف» ولما علم الملك بقدومهما جلس في أعلى أريكته مع عميه وسائر رجال البلاط، فلم يتقدم لاستقبالهما أحد من الأشراف، واستمر الملك يتحدث مع عميه كأن الأميرين غير حاضرين.
هذا وقد صعد الأخوان درج الأريكة الملكية، وألقيا تحيتهما على الملك، فقال لهما ببرود: ها قد جئتما يا ابني العم بعدما طال الأمد على دعوتنا إياكما.
واضطرب ملك النافار من هذا الاستقبال البارد فلم يجب بكلمة، إلا أن أمير كوندة لم يرتبك، بل قال: إننا لا نكون قادرين على خدمتك أيها الملك ما دمنا في البلاط؛ لأن مناصبنا قد انتزعت منا، والأمر بالعكس إذا كنا في الولايات فإنا نستطيع أن نقوم بالواجب علينا.
قال الملك: عندنا ضباط يتولون خدمتنا في جميع الولايات.
وكان أمير كوندة يتوقع تعرض الدوق دي جيز وأخيه، إلا أنهما لم يكادا يسلمان عليه وعلى أخيه، ثم نهضا كأنهما لا يودان التداخل في شئون عائلية لا تعنيهما.
فانثنى الملك إلى أمير كوندة، وكأنه نسي ملك النافار، وقال: إنك كثير التشكي من إدارة المملكة، إني أعرف ذلك يا ابن العم.
وإذ ذاك وصلت الملكة الوالدة، وقد أظهرت كل مودة للأميرين بعدما ابتعد عنهما أكثر رجال الحاشية، وشعر كوندة بالفراغ حوله، فطلبت الملكة الوالدة إلى ولدها أن يأتي معها وتبعها الأميران كذلك. فاجتمعوا اجتماعا عائليا في غرفة الملكة.
وكان أمير كوندة ينتظر أن يكلمه الملك، إلا أن فرنسوا الثاني كان منفعلا أشد انفعال، فقال للأمير: لقد اتصل بي من مصادر عديدة أنك روح المؤامرات، وأنني ومملكتي هدف لسهامها، وما دعوتك إلا لأطلع منك على الحقيقة. - لست أدري أيها الملك من الذي يتهمني، ولكنني أؤكد لجلالتك أن الساعين بي كاذبون. - وهل كانت الرسائل التي كتبها إليك أصدقاؤك كاذبة؟! وهل كذب أسرى أمبواز، وهم مشرفون على الهلاك؟ وهل كذب دي رشيان، وماليني، ومونبرون، وغيرهم من الثائرين الذين يتخذون من اسمك درعا لمباشرة أعمالهم الشائنة؟ وهل كذب البروتستانت عندما ادعوا أنك زعيمهم؟ - كل هذه التهم أيها الملك افتراء محض، وليس مصدرها من ذكرتهم، بل مصدرها آل جيز دون سواهم! - لا تهن أفضل أصدقائي، وأصدق الناصحين! - لقد أتيت أيها الملك غير مستصحب جنودي ولا متقلدا سلاحي، وكان في وسعي أن أجعل بصحبتي جيشا عرمرما، لا بعض أصدقاء، فهل كنت أسلك هذا المسلك معك لو كنت أنوي غدرا بك وقياما عليك؟ ولا شأن لي فيما فعله ماليني من هجومه على ليون، ولا علاقة لي بثورة دي رشيان، فالرجل إنما ثار؛ لأنه طالب عدل، وثار وقد قتل أخوه ظلما. - أيطلب العدل واحد من أبناء ذلك المذهب الساقط؟
أجاب الأمير: إن أبناء ذلك المذهب الساقط، كما تدعوهم أيها الملك، هم رعاياك قبل كل اعتبار آخر، بل هم مخلصون لك كأبناء المذهب الكاثوليكي، وهم على الأقل أبناء الأرض الفرنساوية، لا غرباء كالناصحين اللذين تحبهما وتكرمهما وهما غير فرنساويين.
قالت كاترين: لا ينبغي يا ولدي أن تعامل أمراء من البيت المالك في فرنسا هذه المعاملة، وإن أمير كوندة لا يروم إلا أن يخدمك بصدق وشهامة، فثق به كما أنا واثقة.
فأجابها الملك: إنك ما برحت تنصرين أعدائي أيتها السيدة. أما أنا فإني أحسن الدفاع عن سلطاني.
ثم نادى قائد حراسه المسيو شافيني، وقال: سلمه سيفك يا ابن العم.
وأنت أيها القائد سر به إلى المسكن الذي أمرت بإعداده للأمير.
قال أمير كوندة: أسلمه سيفي؟
أجاب الملك: نعم.
قال: أتتجرأ على إصدار أمرك بالقبض علي؟
أجاب: ألست الملك؟
قال: ومن ذا الذي تجرأ فوقع على الأمر الصادر بالقبض علي؟ لا جرم أن آل جيز هم الفاعلون!
قال الملك: أطلع ابن عمي - أيها القائد - على الأمر الذي بيدك.
فألقى الأمير نظرة على ذلك الأمر المكتوب، وقال: لا بأس! فهذا اسم الملك فرنسوا حفيد من كان يدعو نفسه أول شريف في فرنسا موقع على أمر ينقض به كلامه. إلا أنك يا ذا الجلالة قليل الاحترام لكلامك. وأبناء فالوي، سلالة سن لويس، كأبناء البوربون، لكنهم تناسوا كرامة أجدادهم ونبذوا شرفهم. قال: أنت تتجرأ على إهانة مليكك؟
أجاب: يحق لي أن أرفع رأسي تيها يا فرنسوا؛ لأنني لم أرجع في كلامي قط، ولم أحنث بوعودي وأقسامي، وها أنت قد رجعت في كلامك، كما حنثت بوعودك وأقسامك.
فنهض الملك وهو يرتعد غضبا، ومد يده إلى الباب، فانحنى الأمير نحو الملكة الوالدة، وقال لها: كان الدم الطاهر الشريف ساريا في عروق أسرتك من قبل، ولست أدري أيتها السيدة إذا كان دمك الذي أفسده. بل أجهل إذا كنت كاذبة أو إذا كنت تنطقين بالصدق عندما تتكلمين.
فأجابته كاترين بكآبة: اعلم أيها الأمير أنني لست الآن بملكة فرنسا، ولقد أصبت، فإن والد زوجي فرنسوا الأول لم يكن ليأتي مثل هذا العمل، وأقسم لك بذلك الملك الذي كان يحبني كأنني ابنته، على أن دعائي لك يصحبك في سجنك.
فدنا الملك من والدته، وصاح يقول: أهذه هي واجبات الوالدة؟ أنت تهينينني أمام ألد أعدائي! إن هذا لا يليق بك أيتها السيدة.
فحيا أمير كوندة كاترين بإجلال وإكرام، والتفت إلى قائد الحراس، وقال: إني مستعد للحاق بك، وإليك سيفي، فهيا بنا!
ولبث أنطوان دي بوربون ملك النافار صامتا، وخرج مع أخيه، لكنهم منعوه من مصاحبته، وكان الكردينال دي بوربون، وهو شقيق أمير كوندة أيضا، ينتظر نتيجة المقابلة عند الباب، فقال له الأمير: لقد كان كلامك الحامل على الطمأنينة سببا في إهلاك أخيك.
وأحس جاليو بالدموع تسيل على خديه عندما مر به، فرآه الأمير ومد إليه يده، وقال: أودعك يا عزيزي جاليو، فإنك لم تقل إلا الحقيقة.
فأجابه: وا أسفاه يا مولاي! - خذ فرسي فلست بحاجة إليه بعد اليوم، وأودعك! ورآه جاليو من بعيد يدخل مع قائد الحراس ذلك السجن المشئوم الذي وقف به منذ أيام.
ودخل الدوق دي جيز وأخوه حجرة الملكة الوالدة، فأبصر الملك في أسوأ حال؛ لأنه أصيب بنوبة عصبية شديدة بعدما عمل بمشورتهما، وألقى القبض على ابن عمه، وأغمي عليه. فمددته كاترين على سريرها وكشفت الملابس عن صدره، وجعلت تدلك صدغيه بالماء البارد، فأفاق فرنسوا شيئا فشيئا إلا أن وجهه ظل ملطخا ببقع صفراء. فلما عاوده رشده، قال لكاترين: أين الملكة؟
أجابت: إني أمامك يا بني. - إني أروم أن أرى زوجتي الملكة دون سواها. فأنت لا تحبينني، بل أنت من أعدائي. فابعث يا عماه من يدعو الملكة!
ولما وافت ماري ستوارت دهشت من ذلك الانقلاب الذي تولى زوجها، ومن اكفهرار وجهه، فتأملها الملك بانعطاف، وقال لها: هل تحبينني؟
أجابت: ما هذا السؤال أيها الملك؟
قال: وأنت يا عمي شارل (يعني الكردينال) هل تحبني؟
فتناول الكردينال إحدى يديه.
فقال: وأنت يا دوق، يا سيفي القاطع، أمسك يدي الثانية.
فتناول الدوق يده الأخرى، ونظر الملك إلى الثلاثة الذين كانوا أمامه، وهم كل من كان يحب. أما كاترين فقد تراجعت عنه، ولم يخاطبها أحد منهم، فكانت تلك الضربة موجعة؛ لأن ابنها أنكرها، فخرجت من مخدعه تمشي الهوينا، وكان ترولوس عند الباب فأمسكت يده واجتذبته إلى دهليز مظلم، وقالت له: لم يبق لي أحد سواك، فهل تحبني أنت؟
فأجابها: كيف تسألينني هذا السؤال يا سيدتي؟ أولا تعرفين مني ما يكون جوابي عليه؟
قالت: أيحملك الحب على أن تطيعني في كل شيء حتى في القتل؟
قال: من الذي ترومين قتله؟
فتوقفت عن الجواب وكانت تنوي أن تقول له: «ابني».
وأدرك ترولوس منها ذلك فنظر إليها مرتاعا، فقالت: ويلاه! قال: أنت ترومين الانتقام يا مولاتي! قالت: لقد أصبت بعارض جنون يا ترولوس. آه ما أسوأ حظي! لا يوجد أحد في هذا البلاط أحبه غيرك، أنت وابني الآخر، هنري!
الفصل الثاني والعشرون
الدوق والكردينال
وفي الليلة التالية حضر الكردينال إلى حجرة الملكة الوالدة ليزور الملك، فمنعه ترولوس من الدخول، فقال له: إني أريد مقابلة الملكة الوالدة وهي تنتظرني.
فأجابه: إني جندي يا مولاي، ولا أعتبر إلا الأوامر التي أتلقاها من رئيسي، وقد صدر إلي الأمر بأن أمنع أيا كان من الدخول إلى هنا. - حذار يا هذا، فإنك وقفت في طريقي مرارا حتى الآن. - من يخدم الملكة يا مولاي لا يخشى بأس أحد.
وإذ ذاك خرج فرنل طبيب الملك من الحجرة فوثب الكردينال إليه، وقال له: أنبئني عن الملك. - إنه ضعيف جدا. - وهل يخشى عليه؟ - علم ذلك عند ربي أيها الكردينال. وابتعد مسرعا.
وإذ ذاك تمكن الكردينال من الدخول، فأبصر الملك كأنه مغمى عليه لا يعي شيئا، وكانت ماري ستوارت زوجته قد انصرفت عنه، وبقيت كاترين ساهرة عنده تنقل حبات سبحتها بين أصابعها، فخاطبها الكردينال برقة، قال: يا سيدتي. فلم تجب!
فقال لها: إني أروم مخاطبتك أيتها السيدة في أمر خطير.
فرفعت إليه رأسها بكبر وعظمة، وقالت: لم أكن أظن أنه يوجد في بلاط فرنسا رجل واحد يحق له ألا يدعوني بذات الجلالة!
فأجاب الكردينال بجرأة: لقد كان لي ذلك الحق فيما مضى.
قالت: لقد مضى ذلك الزمن يا كردينال، فما هذه الجسارة التي تبدو منك؟ وكيف تذكرني بذلك أمام ابني وأنت تراه مريضا؟
فارتعد الكردينال من كبرها، وأوجس خوفا من أن تكون قد أحست بشيء من السلطة والقوة. فإن أمير كوندة قد بات سجينا، وملك النافار قد بثت عليه العيون فلا ينجو، والأميرال كبير طائفة البروتستانت يوشك أن يصل، وسجنه مهيأ له، وأعوان أمير كوندة قد طرحوا في السجون، ولم يبق أحد تعتمد عليه الملكة، وليس في البلاط إلا أنصار آل جيز، ومجلس الحكام، وقد تألف منهم ومن أصدقائهم، وجميع النواب كاثوليكيون. فما معنى ذلك الكبر الذي تظهره الملكة؟ فهل طالعت صفحات الغيب وعرفت ما يكون؟
جالت هذه الخواطر في ذهن الكردينال، وبعد صمت قال: إن الملك في حالة سيئة، غير أن عناية طبيبه تشفيه عاجلا إن شاء الله.
فلم تجب كاترين، لكنها ذكرت وقتئذ جملة تلفظ بها الطبيب «فرنل» منذ زمن طويل؛ إذ قال لها: سترزقين أولادا أيتها السيدة إذا عملت بمشورتي، «غير أن أولهم يموت شابا شهيد عنايتي به» فقالت في نفسها: هل أزف الوقت يا ترى؟
وقال لها الكردينال أيضا: إن أمير كوندة بين أيدينا فموته، وهو ألد عدو لنا، قريب جدا، ولئن أبدى الملك شيئا من التردد أفلا تساعديننا؟
فلبثت الملكة صامتة واستمرت تعد خرزات سبحتها، فانصرف الكردينال مذعورا. •••
واستيقظ أمير كوندة في اليوم التالي على جلبة الجند وضوضاء الخدم الذين كانوا يروحون ويجيئون أمامه، فصاح: ما معنى هذا؟ ولماذا؟
فأجيب: ذلك بأمر الملك.
قال: نعم به من ابن عم حبيب، وما هذا الخوان الذي تضعونه في داخل حجرتي؟
قالوا: هذا أمر الملك! - وما هذا الغطاء الذي عليه؟ أهذا بأمر الملك أيضا؟ - نعم، أيها المولى. - ولماذا؟ - للاحتفال. - أي احتفال؟ - هذا أمر الملك والسلام.
فهمهم الأمير ودمدم وولى وجهه شطر الجدار، وبعد هنيهة صار الخوان هيكلا، ودخل قسيس يصحبه اثنان من رجال الدوق للاحتفال بقداس، وتقدم أحدهما إلى الأمير، وقال له: تعال فاقض واجب الصلاة؛ لأن الملك يرى أن للصلاة تأثيرا حسنا على نفسك.
فصاح الأمير بحدة: دعوني منكم ومن صلاتكم، إني أحب القتال والنضال في رائعة النهار، ولكنني لا أحب أن يستهزئ بي أحد، ولم أحضر إلى هنا للجدال في الدين، ولكن لأتبرأ من تهم باطلة رميت بها ظلما، فاذهبوا وأنبئوا الملك أنني أنتظر القضاة لمحاكمتي، ولا أنتظر كهنة البابا.
وأرسل الملك فرنسوا الثاني إلى الأمير رسولين، هما أخواه ملك النافار والكردينال دي بوربون؛ ليطفئا جمر غضبه، ويكلماه عن مصالحة تعقد بينه وبين آل جيز. فلم يسمعا منه غير هذه الكلمات، قال: لا وسيلة إلى صلح بيني وبين ذينك الرجلين إلا بالسيف الطويل القاطع.
وبذلك أصدر الملك أمرا إلى رئيس النواب، وإلى مستشاري ذلك المجلس، والنائب العمومي وكاتبه، بالحضور إلى حجرة الملك لتلقي الإيضاحات، والشروع في محاكمة السجين، وانقضت أيام، وقد ارتبكت اللجنة التي عهد إليها بتحقيق قضية الأمير؛ لأن ذلك السجين استوجب رأفة جميع الأعضاء.
وفي يوم 30 نوفمبر (تشرين الثاني) أطلع الرئيس الملك على تفاصيل الاستنطاق، وكان ذلك بحضور الدوق دي جيز وأخيه، فإن كوندة أبى المجاوبة على كل سؤال يوجه إليه، وقال: «إن تلك المحكمة التي تألفت لمحاكمته لا سلطة لها عليه. فهو يرفع شكواه إلى المترائس على مجلس النواب في بلاط المجلس في باريس، وإلى سائر المجالس المجتمعة فيها ، ولا ينبغي أن يحاكم أمير - دمه من دم الملوك - بغير هذه الطريقة.»
فقال الملك: إن جرأة هذا الرجل لا نظير لها، فما لنا ولتحقيق دعواه؟ وإذ ذاك دخلت الملكة كاترين، وقالت لولدها: إن زوجة الأمير ترجو مخاطبة جلالتك.
قال: قد علمت أنها جاءت لتسألني عن زوجها، فلست أريد مقابلتها. إلا أن تلك المرأة كانت لاحقة بكاترين فدخلت برغم الحراس حتى دنت من فرنسوا الثاني، وارتمت على قدميه باكية، وقالت: دعني بحقك أيها الملك أدخل على الأمير في السجن، فلا أكلمه إلا بعذب الكلام ورقيقه. إني أريد أن ألقاه قبل موته.
قال: لقد كنت منعت دخولك علي، وأنت تعلمين كما أعلم أن الأمير أكبر وألد عدو لي، وقد حاول الاعتداء على حياتي وعلى الملكة، فأقسمت على الانتقام منه، وسوف أنتقم.
قالت: عفوا أيها الملك، عفوا، وارحم ابن عمك فهو من لحمك ودمك، وقد سعى به الوشاة، وهو يحبك ويحترمك، ويحترم تاج فرنسا أكثر من كل واحد من رعاياك.
قال: إنك تحسنين الكذب أيتها السيدة، ولست تجهلين مقاصد زوجك ونياته الفاسدة. على أن الأوراق التي وجدت عند أمك تبرهن على مشاركتك في ذنبه.
فرفعت كاترين صوتها، وقالت: ليست هذه المعاملة لزوجة أمير من أبناء البيت المالك في شيء من الشفقة!
فأشفق الكردينال أن ينعطف الملك أو يرق فؤاده، فقال لزوجة الأمير: إنك تضايقين الملك! فطردت تلك المرأة بخشونة، إلا أن هذا الأمر أنهك الملك، فكانت علامات الموت ظاهرة على وجهه، وقلق الكردينال؛ لأنه خاف أن تفوت الفرصة فلا ينفذ حكم على أمير كوندة، فعول على أن يحاول أمرا مع الملكة الوالدة لعلها تنضم إليه وإلى أخيه، فطلب مقابلتها، ولما انفرد بها قال لها: ألا تخشين أيتها السيدة حلول نازلة ببيتنا؟
فأجابته: أظنك تريد أن تقول: بيت ملك فرنسا؟
وكأنه لم يستأمن جوابها، فقال: لئن وقع مصاب على البيت المالك، فإن السلطة تنتقل إلى أيد غير صالحة.
فرفعت الملكة رأسها، ونظرت إليه مليا، فقال الكردينال: نعم، فإن خليفة الملك لا يزال قاصرا، فنيابة الملك تئول - إذ قضى الملك - إلى ملك النافار؛ أي إلى أول أمير من الدم الملكي. فتبسمت الملكة لهذا الخاطر؛ لأن ملك النافار لا يحفل بسلطة لاشتغاله بهوى النساء، إلا أنها لم تجب.
فقال الكردينال: لئن صارت نيابة المملكة إلى ملك النافار بعد وفاة الملك، فإن الخطر يحدق بك وبنا على السواء.
فحملقت إليه كاترين بصرها، فقال: نعم، فإن ملك النافار يغدو ألعوبة بين يدي أخيه أمير كوندة، وهذا الأخير لا ينسى سجنه، ولا القضية التي أقمناها عليه، ولا ينسى أننا لم نعبأ بطلبه استئنافها، وأننا اتهمناه بالاضطراب الحادث في البلاد، وهنا توقف الكردينال، فأشارت إليه الملكة إشارة ملؤها الاحتقار، وقالت: كل ذلك من عملك أنت لا من عملي أنا. فأمير كوندة كاره لك ولأخيك، ولكنه محب للملك ولوالدة الملك. - لئن تولى الوصاية ملك النافار فأنت هالكة. - كلا، فربما كنت أنت يومئذ من الهالكين. أما أنا فلا، وأمير كوندة لا ينسى دفاعي عنه أمام الملك. كما أن زوجته الأميرة لا تنسى أنني عضدتها في هذا اليوم. - أراك لأول مرة ساذجة أيتها الملكة. فإن كوندة لن يحفل بك ولا يهمه إلا طمعه الأشعبي، ولنتكلم بحرية. إن السلطة بين يديك وأيدينا؛ أي بين يدي والدة الملك وأيدي عميه، وما من أحد منا يروم فقدها. - بل أرجو منك أن تصلح كلامك ليغدو مطابقا للواقع. إن السلطة بين يديكما - أنت وأخيك - لا بين يدي أنا. إن أنا إلا امرأة منفردة، وهل من قوة لي؟ - ما هذا الكلام أيتها السيدة؟ أفلا ترين أنك الحزب الأقوى، وحسبك برهانا على ذلك أنني أطوع لك من بنانك، ولكن لا يفوتك أن مرافقنا واحدة، ولا بد لنا - قبل كل شيء - من إهلاك أمير كوندة وأخيه ملك النافار. - لم يصدر عليهما حكم. - سيصدر غدا. فيجب التوقيع على حكم إعدامهما قبل موت ولدك، هذا أمر لا غنى عنه، وسوف تكونين مساعدة لنا على إنجازه. فأبعدي أمير الأختام ومن بقي من أعوان الأمير، وإذ ذاك تصبحين ملكة فرنسا حتى يبلغ الملك شارل سن الرشد ، وأصبح أنا وزيرك الأول.
فخفضت كاترين رأسها، وجعلت تحرك حبات سبحتها، فقال لها الكردينال بقلق ظاهر: ما رأيك يا سيدتي؟
فظلت صامتة وقتا طويلا، ثم قالت: إني أصلي إلى الله لأجل شفاء ولدي.
فوثب الكردينال خارجا من عندها، وقد رأى منها القسوة لثاني مرة. فلم يكد يغيب عن نظرها حتى نادت ترولوس، وقالت له: تذهب الساعة وتدعو إلى هنا أمين الأختام، وليأت خلسة، ثم تسلم هذه الرسالة إلى جاليو، مع أمر مني بتسليمها إلى أمير كوندة، وجاليو حاذق فطن، فلا أشك في أنه يفلح.
ودفعت إلى ترولوس رسالة دسها في جيب صدرته، وبعد هنيهة كان أمين الأختام عندها، واسمه لسبتال، فقالت له: عهدي بك ذا رأي وتدبير، والوقت حرج فأسعفني بنصحك. إن الملك مشرف على التلف، وقد أنذرني بموته الطبيب فرنل. قال: يا لله!
قالت: إذا مات ولدي فماذا نصنع؟
أجاب: نهتف هتافا عاليا «ليحي الملك» وننادي بشارل التاسع ملكا. - إن شارل التاسع قاصر. فإلى من تئول الوصاية؟ - إلى ملك النافار بالاسم، وإليك بالفعل. - فاعلم أن الدوق دي جيز وأخاه يرومان إهلاك ملك النافار وأمير كوندة، وقد تجرأ الكردينال فطلب مساعدتي على هذا العمل. - يا له من شقي شرير. إن أمراء البيت المالك دعامة البلاط وركنه، وموت أحدهما يحدث فراغا عظيما في الأسرة المالكة، واعلمي أيتها الملكة أن الأمة ترجو فيك رجاء حسنا، وتأمل من بنيك الثلاثة الباقين أملا عظيما. فتولي شئون مملكتك، ولا تكوني خادمة مستشاريك. - وماذا نفعل بأمير كوندة؟ - نوقف دعواه. - شكرا لك على حرية فكرك، واعلم أن الطبيب يتوقع وفاة الملك، فإذا وصل إليك النبأ المشئوم، فاحضر إلي سريعا؛ لأنني سأحتاج إليك. •••
وفي ذلك المساء اقترب شاب يلبس رداء واسعا إلى باب السجن الذي سجن فيه أمير كوندة. فصاح به الحارس، مهلا يا هذا، إلى أين؟ فأجابه: إني أريد مقابلة عمي. - ومن عمك؟ - هو طباخ الغرفة. - لم أكن أدري أن له ابن أخ. - بل له واحد حسن الهيئة والشكل، وأنا ذاك الواحد. - لكن الدخول ممنوع من غير إذن. - إن الإذن معي وهو في جيبي. فمد إليه يدك. - ألا يسعك أن تريني إياه؟ - ألست تراني أحمل الهدية التي جئت بها إلى عمي؟ مد يدك إلى جيبي ولا تخف!
ففعل الجندي، ولكنه لم يجد في الجيب إلا عشرة دنانير.
فخفض الرجل صوته، وقال: خذ هذه الدنانير، فهي خير من كل إذن مكتوب، ولك مثلها عند عودتي إذا لم تتكلم.
فأجاب الحارس بوقار: ادخل! وفي ذلك المساء وجد أمير كوندة تحت وسادته هذه الرسالة:
كن مستعدا، وأطل مدة الاستنطاق ما استطعت؛ لأن الملك يحتضر.
كاترين
الفصل الثالث والعشرون
فراش ملك فرنسا عند احتضاره
كان جاليو يتململ ضجرا في الزقاق الضيق الذي اتخذ له فيه مخبأ ومسكنا، ولكنه لم ير من الحكمة أن يتعرض للأنظار في بلد حاكمها المطلق الدوق دي جيز.
إلا أنه سمع يوم 25 نوفمبر (تشرين الثاني) ضجيجا عاليا، فالتف بردائه وخرج من مسكنه، فأبصر الجماهير تسير إلى الساحة الكبرى. فلما وصل إلى الموضع المقصود أبصر عنده فرسانا وحملة بنادق وجنودا، وسمع قرع الطبول، ثم تلاوة خطبة لكاتب المحكمة المخصوصة التي ألفت لمحاكمة أمير كوندة وهذا نصها:
إن الملك، أيها السادة، يعلمكم بما يأتي
غدا سيعدم في هذه الساحة من مدينتنا المحبوبة أورليان، الأمير الخطير، لويس دي بوربون أمير كوندة، ثاني أمراء البيت المالك، قصاصا له على ذنوبه وخيانته للملك، وكذلك يهلك في هذه البلاد كل عدو لله وللملك، وليكلأكم الله جميعا بعنايته.
وتفرق الحكام والفرسان عقيب ذلك مغادرين جمهور الناس في أسوأ حال من الانذهال، وكان جاليو في جملتهم. فلما سمع ما سمع هاله الأمر. فقال في نفسه: ألم يكن في وسع كاترين إنقاذه؟ وهل تمكن الملك من إصدار هذا الحكم وهو على فراش الموت؟ وذلك لأن خبر ضعف الملك قد ذاع في البلد، وانتشر وعلم الخاصة والعامة أنه لا يحب والدته، بل يحب عميه وزوجته دون سواهم. آه ليتني ألقى ذلك الدوق اللعين وأخاه وأبارزهما. ثم أخذ يلعن الدرع التي أنقذت الدوق من رصاصة القاتل المجهول يوم دخول الملك بموكبه الحربي مدينة باريس.
وبعد أن طاف جاليو في البلد عاد إلى مسكنه فألفى ترولوس في انتظاره، فترامى على صدره، وقال: قضي الأمر أيها الصديق!
فأجابه: كلا، وقد أرسلت إليك الملكة هذه الرسالة؛ لتوصلها إلى الأمير، وهي تقول لك: إن تأخير الإعدام يوما واحدا قد ينجي الأمير.
قال: وكيف السبيل إلى ذلك التأخير؟ فسلمه كيسا مملوءا بالدنانير، وقال له: إن الملكة تعتمد على ذكائك ودهائك.
قال: حبا وكرامة، وأخذ يستعد في ذلك النهار، وعندما انتصف الليل قصد إلى ساحة الإعدام حاملا رزما عديدة. فلما وصل إلى مقربة من الحراس الذين يحرسون دكة الإعدام، سأل بسذاجة ظاهرة عن المحكوم عليه، فهزأ به الحراس، وقالوا له: ويك يا رجل، ألست من سكان أورليان، ألم تسمع بالحكم الصادر على أمير كوندة؟
قال: أتعنون ذلك البروتستانتي اللعين؟ ثم صاح: لا بد من بقائي هنا حتى أكون أول من يشاهد مصرعه.
وفتح إحدى الرزم فأخرج منها ست زجاجات من الخمر، ونفح الحراس بعشرة دنانير، فأذنوا له بالدخول تحت خيمة الإعدام، فقال في نفسه: الآن تيسر لي عملي.
وعكف الحراس على زجاجاتهم يشربونها ليلا، وينظرون إلى الدنانير. فلما انتصف الليل تساقطوا سكارى إلا قليلين كانوا يتمشون متوكئين على بنادقهم، وإذا بأحدهم يقول: ألا تسمع صريرا من ناحية دكة الإعدام؟
فأجابه رفيقه: كلا.
قال: أصغ قليلا، وسمعا صوتا خفيفا من تلك الناحية، فقال الحارس الآخر: يا لك من غبي، هذا غطيط الرجل المتعصب الراقد هناك.
قال: صدقت، واستمر الرجلان يتمشيان.
وكان الصرير من ناحية جاليو، لكنه غير صادر من صدره، بل من منشار قصير في يده نشر به ثلاثة أعمدة من خشب المشنقة، وإذا به يسمع وقع خطى خفيفة، فرفع ذيل ستر الخيمة، ورأى رجلا وامرأة أمامه، وقد وقفا قرب المشنقة. فسمع جاليو زفرات متقطعة، فقال في نفسه: إنها إحدى عشيقات الأمير أتت مع خادم لها، فخير لهما ولي أن يذهبا ويتركاني أتم عملي.
وجثت المرأة كأنها تصلي وتلثم الأرض، ولبثت كذلك هنيهة ورفيقها ينظر إلى الوراء، ويرصد الناس. فهاج فضول جاليو وأنصت لصلاتها، فسمعها تقول: هنا قتلوك يا أبت شنقا كأنك من أشرار الناس، غير أن ساعة الانتقام قريبة. ثم نهضت وابتعدت مع رفيقها فرآهما جاليو يدخلان بيتا أمام ساحة الإعدام، فقال: سوف نجلو غامض هذه المسألة فيما بعد.
وعمد إلى العمود الرابع فتمكن من نشره، وأصبحت المشنقة لا تحتاج إلى أكثر من صدمة خفيفة فتسقط، ولما تحقق أن الحراس غير متنبهين إليه تناول وعاء من الرزم التي جاء بها، وغط فيه ريشة، ثم أخذ يرش الألواح بسائل من الوعاء ويبتسم سرورا. فلما شمل القطران الخشب عمد إلى ما هو أصعب وأشق؛ لأنه كان ينوي إضرام النار من غير أن ينبه الحراس، ومن حسن حظه أن الجو كان حارا، فقدح جاليو زنادا بين قطعتين من خشب، فلما تطاير شرر قليل ألقى في النار ما جاء به من يابس النبات، وجعل ذلك قرب الألواح، ثم زحزح ستر الخيمة، وسرح البصر فلم يجد أحدا من الحراس أمامه، فأطلق ساقيه للريح.
ولم يبتعد أكثر من خمسين خطوة حتى لفت بصره ثلاثة رجال أقبلوا إلى ذلك البيت الذي دخلته المرأة والرجل منذ هنيهة، فقال: هل من مؤامرة جديدة يا ترى؟
ووقف الرجال الثلاثة على بعد خطوات من ذلك البيت، وكان في الطبقة الأولى مصباح ضئيل النور، فانطفأ نوره في الحال.
ولو تمكن أحد من دخول الغرفة التي كان النور فيها لسمع فيها المحادثة الآتية بين فتاة وشاب؛ إذ كانت الفتاة تقول للشاب: هل تحققت ما أنبأتني به؟ فأجابها: رأيت الرجل أمس، وأول أمس، وفي الأيام السابقة من هذا الأسبوع. - وهل يأتي إلى هنا؟ - نعم، يخرج من القصر مصحوبا ببعض الأشراف من باب سري، ويتقدم مستمهلا فيفحص البيت وبصره إلى النافذة، ولقد كان في وسعي محاولة قتله مرتين، ولكنني لو لم أسدد المرمى جيدا لقبض علي أصدقاؤه، ولذهب انتقامي ضياعا. على أنني قادر من هنا أن أصيبه. فإذا أخطأته لا يتعذر علينا الفرار والاختفاء إلى حين سنوح فرصة أخرى . إني لا أزال ألوم نفسي؛ لأنني أخطأته في باريس. - وددت أن أكون حاضرة ساعة قتله، ولا بد من ذلك، فهل فهمت يا بلترو؟ قال: لقد وعدتك وعدا صادقا وكفى. قالت: شكرا لك. قال: ألا ترين الآن هؤلاء الرجال الثلاثة الذين يجتازون الساحة؟ فهم، هم. قالت: أطفئ المصباح.
ففعل، وساد الظلام، وإذ ذاك وقف الرجال الثلاثة، وقال أحدهم: كأنني أبصرت نورا. فأجابه رفيقه: ذلك من أشعة القمر المنعكسة على زجاج النافذة يا مولاي. - كلا، بل أبصرت نورا. فقال الرفيق: هل كانت ابنة الكتبي بارعة الشكل؟ أجاب: إنها أجمل من كل سيدة في البلاط، أيها العزيز. ثم إنني لا أدري أي قوة خفية تجتذبني إلى هذا البيت. - هل تصفح الفتاة عنك وتغض الطرف عن أمرك الذي صدر بقتل أبيها؟ - لقد أنبأتك عشرين مرة أنها تحسبني ملازما من الضباط العاديين. ولكن، ماذا أرى؟
ولقد سمعوا وقتئذ صوت زفير نار تضطرم، فانثنى الدوق ورجاله إلى ناحية المشنقة فأبصروا ألسنة اللهب ممتدة على الأرض، فصاح الثلاثة يا للداهية!
وكان هؤلاء الثلاثة الدوق دي جيز ورجلين من أعوانه، فقال الدوق: لا جرم أن كاترين صاحبة هذه الفعلة الشنعاء.
ودمدم بلترو من داخل البيت وشتم، وقال: لقد نجا هذه المرة أيضا. فأجابته مادلين: صبرا يا بلترو، فإن الله ساقه إلينا قبلا، وسوف يسوقه أيضا.
وكان الحارسان اللذان عند المشنقة ينظران إلى النار مبهوتين متعجبين. فأقبل الدوق عليهما، وصاح بهما: يا لكما من غبيين. من الذي أضرم هذه النار. قالا: من الذي أضرم النار؟ قال: نعم، من أضرمها؟ من أتى إلى هنا؟
فتردد الحارسان قبل أن يجيبا، ثم قال أحدهما بصوت خافت: هو الشيطان ولا شك!
قال الدوق: ويك، هل تعرف من أنا؟ أجب سريعا! - وهل أدري يا مولاي؟ وهل في وسعي أن أقول غير ما قلت؟
قال الدوق: إذن فالشيطان أضرم النار؟
وتعاظمت النار فسقطت أخشاب المشنقة، وانبعثت رائحة القطران من أنقاضها، وتوافد الناس إلى الموضع، وشاع الخبر حتى بلغ القصر، وللحال أقبل موكب من الرجال يحملون المشاعل.
وأقبلت الملكة كاترين، فقالت بصوتها الرخيم: ماذا جرى أيها الدوق؟ ومن أين هذه النيران؟
فاحتدم الدوق سخطا، وأقبل الملك أيضا، فقال الدوق لكاترين: لعلك أدرى مني بمصدر هذه النيران أيتها السيدة.
وكانت رائحة القطران قد امتزجت برائحة نسيج محروق، ولم يبق من المشنقة إلا حطام يتصاعد الدخان منه، وكان جاليو ينظر إليه من بعيد، وهو يكاد يرقص فرحا. على أنه لم يكن راضيا تمام الرضى باحتراق نصف المشنقة، فجعل يقول في نفسه: هل كان الصيدلي كاذبا؟ إلا أنه لم يتم جملته هذه حتى ارتفع ضياء أخضر، وانتشرت رائحة تزهق الأنفاس وتضيق الصدور، ثم طلع ضياء أحمر بعد الأخضر، ثم تعددت ألوان اللهب فجعل الحارس يصلي، ويقول: لقد كنت على يقين من أن الشيطان هو صاحب هذه الفعلة الشنعاء! وقد مر بي، وأبصرت قدمه وكأنها المسحاة!
أما الملك فجعل ينظر إلى ذلك المشهد، وقد أظلم وجهه، فدنا منه الدوق وقال: هذا من تدبير أولئك البروتستانتيين الملاعين؛ ولأنه تدبير شيطاني!
قال: لقد أصبت يا عماه، فلتقم هذه المشنقة غدا، وليعدم الدوق في اليوم التالي على مرأى من جميع الشعب.
فقالت كاترين: ألست ترى يا بني أن لله يدا في ملاشاة هذه المشنقة؟
فأجابها: لو أن صاعقة من السماء هبطت عليها لقلت إن الله أرسلها، ولكن هي نار الجحيم التي أحرقتها. فالشيطان قد أتى ليساعد أصدقاءه وأعوانه.
ولقد تلفظ الملك بهذه الكلمات بلهجة هائلة، ثم قال: من حسن الحظ أن رجالي الأشراف يحوطون بي. فلسوف يجزى المجرمون في حادثة أمبواز بما كسبت أيديهم! نعم، ويل للبروتستانتيين! وليمت كل خائن!
ثم جرد سيفه وتقدم إلى أنقاض المشنقة متوعدا مهددا، ولم يتجرأ أحد على الوقوف لإمساكه، ونظر آل جيز بعضهم إلى بعض، فقال الدوق: إنه يهذي هذيان المحتضر!
وضرب الملك بسيفه الهواء، ثم وقف بغتة؛ لأن الدخان المنبعث عن الحريق كاد يخنقه. فأفلتت يده سيفه، ثم سقط على الأرض وهو يقول: ليمت كل خائن، وأغمي عليه.
فأراد الدوق دي جيز حمله على ساعديه ، إلا أن كاترين كانت قد سبقته إليه، وأكبت عليه، وهي تقول: ولدي ولدي!
فقال لها الدوق: دعينا نحمل الملك إلى غرفة زوجته.
فأجابته: بحقك دعني يا دوق، ودع ولدي، فهو ابني لا ابنك، على ما أعرف!
وحملت ولدها أمام أشراف البلاط فجعلته على محفة، وأمرت بالرجوع إلى القصر، ولما سمع الدوق دي جيز وأخوه صوت الملكة تأمر الخدم بحمل الملك إلى حجرتها خامرهم الرعب؛ لأن غرفة الملكة الوالدة بعيدة عن غرفة ماري ستوارت، فهي قد أبعدته عن نفوذ زوجته، ومنعتهم من التسلط على إرادته. فاجتمعوا لساعتهم في غرفة ابنة أخيهم للمفاوضة والاعتماد على رأي يعملون به.
وكانت ماري ستوارت زوجة فرنسوا الثاني في أسوأ حال من القلق منتظرة إياب زوجها، فلما رأت عميها، قالت لهما: أين فرنسوا؟ فأجابها الكردينال: إنه مريض.
قالت: هل من خطر عليه؟ - نعم، فلا ينبغي إضاعة الوقت. - إني مبادرة إليه.
قالا: بل البثي ها هنا.
قالت: كيف ذلك؟ فقد يموت دون أن أراه.
قال الكردينال: سترينه، إنما البثي ها هنا، فإني بحاجة إليك.
فأجابته: ماذا تريد يا عماه؟
قال: ألديك مفتاح خزانة زوجك؟
أجابت: نعم، ولكنني لا أستطيع أن ...
قال: أين هو؟
أجابت: ها هو.
قال: أفي الخزانة حكم الإعدام؟
أجابت: لا أدري يا عماه.
ففتح الكردينال الخزانة الحديدية، وكان فرنسوا الثاني يخفي فيها أوراقه وأمواله، فتناول ورقة كبيرة وطالع ما فيها. فقال له الدوق: كيف رأيت؟ - إن الحكم غير كامل، ولكنه قانوني، موقع عليه من جميع أعضاء المحكمة المخصوصة أو من أكثرهم.
قال الدوق: وأي توقيع ينقصه؟
أجاب: توقيع أمين الأختام، وتوقيع دوموريته. على أن الملك دعاهما اليوم. ألم تريهما يا ماري؟ - نعم، ولكنهما رفضا التوقيع على الحكم. - يا لهما من شقيين!
قالت: لقد وعدا بالتوقيع غدا يا عماه.
قال: نعم وعدا، ومتى علما بحالة الملك رفضا أيضا، أواه لقد خسر هذا الشاب قواه.
قال الدوق: إننا لفي غنى عن توقيعهما.
وقال الكردينال: ولكن ينقص الحكم توقيع آخر هو توقيع الملك. فهل تعرفين خط زوجك يا ماري؟ وتقدرين على تقليد خطه؟
أجابت: نعم يا عماه.
قال: إذن فاجلسي هناك، وأشار إلى مكتب، وقال: خذي هذا القلم.
قالت: فماذا أفعل؟ قال: وقعي.
قالت: أوقع ماذا؟
أجاب: وقعي على الحكم باسم زوجك!
قالت: ولكنه حكم بالإعدام! - ألم تكوني عالمة به؟ - لماذا لا تدع فرنسوا يوقع عليه؟ - لأنه لم تبق له قوة، فوقعي أنت!
فوقفت ماري ستوارت، وقالت: لا أفعل ذلك أبدا!
قال الكردينال: ألست كاثوليكية صادقة الإيمان؟
أجابت: بلى، ولكنني امرأة، ولا أوقع على حكم بالإعدام. - وقعي وإلا أهلكتك! - أهلكني يا عماه، فلن أوقع على هذا الحكم أبدا. - يا لك من ناكرة للجميل!
فدنت منه، وقالت: هل نسيت أنني الملكة؟!
ومدت يدها إلى الباب بعظمة، وقالت: أخرجا من هنا! فذهبا إلى حجرة الملكة الوالدة فوجدا ترولوس ببابها يمنعهما من الدخول. فقال الدوق: إنا بحاجة إلى مقابلة الملك!
أجاب: لدي أمر صريح، فلا تدخلا!
كان ذلك إلى يوم 4 ديسمبر (كانون الأول) وكانت ماري ستوارت تسهر كل ليلة قرب سرير زوجها، وقد بقيت فيه بقية حياة. أما طبيبه فقد فحصه لآخر مرة، ورأى أنه يوشك أن يموت. هذا وأمير كوندة ممتلئ صحة وشبابا منطرح على فراشه يعجب من تأجيل إعدامه.
فلما كان اليوم الرابع من شهر ديسمبر، قالت الملكة الوالدة لكنتها: اذهبي واستريحي.
فأجابتها: لا قدرة لي على مفارقة زوجي.
قالت: بل اذهبي، فمتى شعرت بالتعب أدعوك وأستريح.
وكانت ماري ستوارت منهوكة القوى، فذهبت وهي قلقلة الخاطر، فلم تبصر عند باب كاترين عميها، الدوق وأخاه الكردينال، وقد حاولا لعاشر مرة أن يدخلا على الملك ليحملاه على توقيع الحكم بإعدام أمير كوندة إلا أن الملكة الوالدة لم تأذن لهما بالدخول إلا وقت إغماء الملك.
وقال لها الدوق: بحقك دعينا أيتها السيدة ندخل لنرى الملك لآخر مرة!
فقالت: إن ولدي لا يستطيع أن يرى أحدا، ورجعت إلى حجرتها وقعدت في مكانها قرب سريرها، وكان الطبيب يفحص العليل ويتوقع وفاته، وبعد ساعتين فتح الملك عينيه، وانتصب قاعدا على سريره، وقال: أين ماري ؟ أين الملكة؟
فأجابته والدته: إنها ذهبت لتستريح يا بني. - أود أن أراها وأودعها يا أماه، فاطلبي حضورها. - نعم يا ولدي، ولا تتعب نفسك من غير فائدة.
قال الملك للطبيب: اذهب يا عزيزي فرنل وجئني بماري وعمي الدوق دي جيز وأخيه، فإنني أود أن أراهم قبل موتي. فاذهب أنت؛ لأن والدتي لا تفعل ما أطلبه إليها. فنهض فرنل واتجه إلى الباب فاستوقفته كاترين، وقالت: ما معنى هذا؟
فأجابها: لم يبق فيه يا سيدتي إلا ذماء (بقية الروح) وبعد بضع دقائق يستوفي مدته، وهذا أمر قد أنذرتك به منذ عشرين عاما، وخرج. فأخذت كاترين تروح وتجيء في الحجرة مضطربة، وقد نسيت ابنها؛ لأن آل جيز مقبلون، وقد يتمكنون في تلك الساعة الأخيرة من انتزاع السلطان من يدها والوصاية على ولدها، وحمل الملك على توقيع حكم بإعدام أمير كوندة. ورأت نفسها وحيدة دون عضد ولا نصير، ولا قوة على أسرة جيز.
وكان ترولوس بالباب واقفا شاهرا سيفه، فذهبت إليه، وقالت: إنهم آتون، فهل ترضى بأن تموت لأجلي عند الحاجة؟
قال: تكلمي يا مولاتي.
قالت: لا تدع أحدا يدخل الغرفة حتى ولا الملكة! ولا تفتح الباب لأحد إلا بأمري.
أجاب: إني أقسم لك على الطاعة. فأوصدت كاترين الباب، وترامت جاثية، وكان ابنها ينظر إليها مبهوتا، وهي عاكفة على الصلاة أو على تحريك شفتيها، وتقليب حبات سبحتها بين أصابعها.
فقال الملك: لقد أتوا يا أماه! فافتحي الباب! هذه ماري آتية! وسمعت وقع خطى تقترب.
فقال لها: افتحي الباب، أريد منك أن تفتحي الباب!
فلم تأت كاترين بحركة، وطرق سمعها صوت جدال في الخارج، وقائل يقول: لا يدخل أحد إلا بأمر من الملكة الوالدة.
فغمغمت كاترين تقول: ألا شكرا لك يا حبيبي ترولوس.
فنهض فرنسوا الثاني لآخر مرة، ونظر إلى أمه نظرة حانق غضوب، ثم زفر زفرة حرى وارتمى على فراشه، وقد قضى نحبه، ولقي ربه. فأقبلت كاترين عليه تتأمله، وتقول: لقد مات حقا.
وذهبت إلى الباب وفتحته، ودخل الدوق دي جيز والكردينال وماري ستوارت وكأنهم مجانين ، وكان الدوق يحمل الحكم وعليه التواقيع العديدة، وهو حكم إعدام أمير كوندة فاختطفته كاترين من يده، وطرحته في النار، وصرخت تقول: لقد تأخرت يا ابن العم، فإن ملك فرنسا قد مات.
قال: يا للداهية، مات ولم يوقع على الحكم! ووثبت ماري ستوارت إلى جثة زوجها، وهي تقول: كلا، لم يمت فإن بدنه لا يزال حارا. عد بربك إلي يا حبيبي فرنسوا، واسمع صوتي أنا ماري، أنا زوجتك التي تحبها.
ولما تحقق آل جيز موت الملك لم يحفلوا بجثته، فعادوا إلى كاترين وهم ينوون نيات فاسدة، وكانت قد تظاهرت بالرقة واللطف، وحزرت ما يجول في ذهن كل من الأميرين. لكنها لم ترهبهما فإن ترولوس كان قريبا منها، وللحال أقبل جمهور الأشراف وبينهم أمين الأختام ووراءه أمراء البيت المالك أولهم شارل البكر. فدنا أمين الأختام من فراش الميت، وصاح بصوت جهوري: مات الملك فرنسوا الثاني! فليحي شارل التاسع!
وكان شارل التاسع يومئذ غلاما، فوقف ونظر إلى مربيته، وردد الحضور الهتاف فكانوا ينادون: ليحي الملك شارل التاسع! •••
وكان أمير كوندة وقتئذ في سجنه، والحراس يحدقون به وهو نائم ملء جفونه.
الفصل الرابع والعشرون
جثة فرنسوا الثاني
وفيما كانت ماري ستوارت - أرملة الملك فرنسوا الثاني - تبكي أحر بكاء قرب جثة زوجها، قصد آل جيز حجرة الملك المتوفى، وفتحا خزانته بالمفتاح الذي تسلماه من ماري ستوارت، وأخذا منها ثلاثين ألف دينار. ثم رجعا إلى منزلهما، ولحق بهما بعض القواد والأشراف من أنصارهما وكل منهم يقول: ماذا نصنع؟ وأي مصير يكون مصيرنا؟ فأجابهم الدوق: صبرا ولا تقلقوا فإن مدة الصبر لا تطول، وقد آلت السلطة إلى الملكة الوالدة، ولسوف نعرف نياتها في وقت قريب.
وقد انتشر خبر وفاة الملك فرنسوا الثاني في المدينة، فاطمأنت قلوب البروتستانتيين، وقل تعدي الكاثوليكيين عليهم.
ولم يكن جاليو مكترثا لمشاجرات أبناء الطائفتين، وإنما انصرف ذهنه إلى التفكر في أمير كوندة، وكان موت الملك سببا في تأجيل إنفاذ الحكم عليه، فجعل جاليو يقول في نفسه: هل يطلق سراحه؟ وتجرأ جاليو على دخول القصر بعد أن ارتدى أفخر ملابسه، وقال: لا حاجة بي إلى التنكر بعد اليوم!
وتقلد غدارتين وسيفه الطويل الذي جرح به جنليس وبرداليان، ودخل القصر فألفى الأشراف في اضطراب عام. فقال لجنليس - وهو من رجال الدوق، كما يذكر القراء: هل لك في أن تخبرني عن أمر؟ قال: ما هو؟ قال: إلى من تئول الوصاية على الملك؟ فنظر إليه جنليس مدهوشا، ولم يكن يعرفه، وقال: لست أدري! - وماذا عسى يفعل الدوق دي جيز؟ - لست أدري. - ومتى يحتفل بدفن الملك المتوفى؟
فأجاب جنليس: وهل لهذا الأمر من شأن؟!
ثم لقي جاليو رجلا آخر من رجال آل جيز، هو حاكم أورليان - وهو من نظم فيه تلك الأبيات التي ترجمناها في فصل سابق - فقال له: عفوا أيها الحاكم، إني قادم من أقصى الولايات، وأود أن أعرف متى يدفن الملك فرنسوا.
فرشقه الحاكم بنظرة حائرة، وقال: سيدفن عندما يراد دفنه، وليس هذا الأمر بالشاغل الذي يشغلني الآن. - إذن فأي شاغل لديك؟ - من أنت يا هذا؟ - من رجال الدوق دي جيز. - إذن فكن مستعدا. - لأي شيء؟ - للدفاع عن الدوق. - وهل من يتجرأ عليه الآن؟ - بلا شك. - ومن يقدم؟ - الملكة الوالدة أو ملك النافار، لست أدري. - أشكر لك هذا البيان، وها أنا ذاهب كي ألازم الدوق.
ودخل جاليو رواق القصر فصادف اثنين يتكلمان. قال أحدهما: إن الخطب جلل، وقال الآخر: وإنه لرزء جسيم.
فقال جاليو في نفسه: هذان رجلان يفكران في الملك حقا!
إلا أنه رجع عن رأيه عندما سمع تتمة المحادثة؛ إذ قال أحدهما: يظهر أن الحكم لم يوقع عليه من الملك قبل وفاته. فأجابه الآخر: يا لله ما أفظع هذا الإهمال. قال أحدهما: إذن فلا يمكن إنفاذ الإعدام. - لو تم إعدام أمير كوندة لكان المشهد نادرة حسنة. - ولكنا حصلنا على نفع جزيل. - نعم، ولكننا لسنا من أهل التوفيق.
فقال الآخر: لقد ساءت حرفتنا.
فتأمل جاليو المتكلم فإذا هو الجلاد، فقال له: هل لك يا سيدي في حاجة لي؟ قال: ماذا تروم؟ فأجاب: أين جثة الملك ؟ أجاب: لا أدري. قال: متى يدفن؟ أجاب: هذا أمر لا يعنيني أنا!
وهكذا كان جاليو يتخطى الجماعات حتى لقي المحامي أفنيل - زوج مرسلين - وقد عرفه المحامي؛ لأنه صرف بأسنانه لما رآه، فقال له جاليو: لقد سرني لقاؤك يا سيدي. فأجابه: وإني لكذلك. - إني حديث العهد بهذا البلاط، وأود أن أعرف أمرا. - ما هو؟ - متى يدفن الملك؟ - هذا سؤال لا شأن لي به، وأي غرض للناس في جثة لا روح فيها. - إذن ما غرض الناس من المجيء إلى هنا؟ - البث ها هنا وسوف تدري. فإن الملكة الوالدة دعت جميع خدم ابنها القدماء. - شكرا لك، وكيف حال السيدة مرسلين؟ - إنها سيدة محترمة بريئة من كل عيب. فانحنى جاليو أمامه، واستمر في طريقه وهو يقول في نفسه: لا بد لي من أن أرى الذين حول جثة الملك الآن قبل أن ألقى أمير كوندة.
وكانوا قد نقلوا فرنسوا الثاني إلى حجرته، ووضعوه على سريره، وكان عند طرف السرير أربع شمعات وامرأة تبكي، والتشويش سائد على الحجرة، وبعض الخزائن مفتوحة فارغة والأوراق مبعثرة، والملابس مطروحة على الأرض، وليس هناك حارس ولا خفير، وليس في الحجرة إلا زوجة الملك - ماري ستوارت ملكة فرنسا وإيكوسيا - تبكي وحدها على جثة زوجها.
ومعلوم أن جاليو لم يكن يحب فرنسوا الثاني، لكنه لم يتمالك أن وقف خاشعا أمام الباب، وفيما هو كذلك دخل رجلان يتبعهما شيخ أعمى، هو الأسقف دي سنليك، أما الرجلان فكانا من الحكام، فجثوا قرب الجثة، ونظرت إليهم ماري ستوارت نظرة شكر وامتنان.
فنزل جاليو إلى الرواق الذي اجتمع فيه رجال البلاط، وهناك علم أن الملكة الوالدة عزمت على استدعاء أمير كوندة لتطلق سراحه، وإذا بالملكة الوالدة قد أقبلت يصحبها ملك النافار والمسيو مونمورانسي وأمين الأختام، وطلبت أن يقف في حضرتها جميع أصدقاء الملك القدماء، ثم وقع بصرها على جاليو، وكان واقفا وقفة كبرياء قرب إحدى النوافذ، فقالت لترولوس: أليس هذا الشاب صديقك؟ فقل له أن يأتي إلى هنا.
فدنا جاليو من الملكة وجثا أمامها، فقالت له : اذهب يا مسيو دي نرساك، وخذ فرقة من حملة البنادق، وكن نائبا عنا في مخاطبة سيدك الأمير، وقل له: إننا أعدنا إليه حريته الشخصية.
وظن جاليو أنه يرى حلما، إلا أنه ظل رابط الجأش، فنهض واتجه إلى محبس الأمير، وفيما كان يقوم بتلك المهمة أقبل آل جيز وأصدقاؤهم، وكانوا جمهورا غفيرا فمثلوا بحضرة كاترين. فلما تحقق الدوق أن جميع رجاله حضروا الاجتماع التفت إلى الملكة، وقال لها: لقد طلبت حضورنا أيتها السيدة؛ لأننا من أصدقاء الملك المتوفى، وها قد أتينا نحن وأصدقاؤنا، وننتظر صدور الأوامر!
فأجابته كاترين بعظمة تقول: إن اجتماع أعضاء أسرتنا لم يتم بعد، قال: وكيف ذلك؟
قالت: لقد بعثت رسولا إلى الأمير، فلا يلبث حتى يأتي.
وإذ ذاك رجع جاليو، فاصفر وجه كاترين لما رأته منفردا، ولم تتمالك أن صاحت تقول: عجبا لك يا مسيو دي نرساك! كيف عدت وحدك؟ فأجابها: وا أسفاه!
قالت: ألم تقل للأمير؟
أجاب: بل قلت له إنك تعيدين إليه حريته الشخصية. فعهد إلي بنقل كلماته إليك، قال: «إن امتنانه عظيم جدا، ولكنه يستحيل عليه أن يخرج من سجنه مغادرا فيه شرفه؛ لأن حريته الشخصية تكون في هذه الحالة مسبة له وعارا، وإنما ينبغي أن ينالها باشتهار براءته ومعاقبة الذين اتهموه كذبا.»
وهنا تبسم جاليو، وكان استياء الكل عظيما، ولقد ظنت كاترين أن قبضها على السلطان يخولها السيادة، ولم يخطر في بالها أن سجينا واحدا قد يأمرها وهو في غيابة السجن. أما آل جيز فظنوا أن الأمير يغبط نفسه إذا خرج من محبسه سالما، وتكفيه سلامته بعد أن كاد ينفذ فيه حكم الإعدام. أما سائر رجال الأمير والأشراف فكانوا يأملون أن يقع صلح عام، وهم قد أشاروا على كاترين بعقد ذلك الصلح.
وبقي جاليو دون سواه منشرح الصدر بحمله إلى البلاط تلك الكلمات التي تدل على عظمة وخيلاء، ورأته مرسلين فأعجبت بمحاسنه في ذلك اليوم، ولم توافق زوجها أفنيل حين قال عن جاليو: «ما هذه الوقاحة؟ فإن هذا الوصيف يصلح لذلك المولى الشيطاني .»
ولما زال انذهال القوم وقف المسيو مونمورانسي وقال لجاليو: إن الأمير على خطأ، فامض وقل له: إن الإفراج عنه دليل كاف على براءة ساحته التي سيتضح ظهورها بخروجه من سجنه. فقالت كاترين: على أن الأمير ليس الآن بسجين، والجند الذين يحدقون بمحبسه الأول، هم الآن حراس له يأمرهم وينهاهم كما يشاء.
فأجابها جاليو: مولاتي، إن عزيمة الأمير ثابتة، وهو يدري أنه ليس بسجين، ويدري كذلك أنه لا يوجد اليوم في البلاط من يتجرأ عليه، وأنه قادر على المجيء إليه لينزل منه في منزلته التي لم يغادرها إلا بدسائس الماكرين. لكنه يعتبر نفسه سجينا إلى يوم يعلن مجلس النواب براءة ساحته. فقد اتهم علانية، وحكم عليه علانية، ونصبت المشنقة لإعدامه (وهنا تبسم جاليو)؛ ولذلك لا يرى بدا من إعلان براءة ساحته للجمهور.
وانحنى أمام الملكة، ثم تراجع، واتفق أنه وصل إلى قرب المحامي أفنيل وزوجته مرسلين أثناء رجوعه، ولم يعر المحامي التفاته إليه؛ لأنه كان منصرف الذهن إلى الشئون الهامة التي تجري أمامه. فلم يحفل بوصيف الأمير كوندة. فأخفت كاترين استياءها من إباء الأمير، واستمرت على إنجاز الخطة التي رسمتها في ذهنها من زمن طويل، فقالت: بالنظر إلى قصور ولدنا المحبوب شارل وعجزه عن التصرف الشرعي، نرى من موجبات الشرف ألا نلقي مقاليد السلطة إلى أحد سوانا، ولكننا نروم الاستناد إلى مساعدة أقربائنا، وخصوصا الخدم الأمناء للأسرة المالكة. فانحنى الأشراف أمامها.
وقالت أيضا: ولقد رأينا أن نحدث شيئا من التبديل في المناصب برغم حسن اختيار فقيدنا العزيز فرنسوا. فنحن نرجو من أصحاب المناصب أن يقدموا إلينا مناصبهم لنرى فيها رأينا ونقرها في مواضعها. فقد حاول أعداء أسرتنا الملكية أن يحدثوا شقاقا بيننا، بتحريض ابن عمنا ملك النافار على طلب الوصاية، فأبى ملك النافار بحركة تدل على أنه لا يريد ذلك.
ثم قالت: إلا أن ابن عمنا نسيب كريم، ومن الرعايا الذين يذهبون إلى مساعدتنا بكل قواهم. على أننا ندعو الآن كل من يروم معرفة أوامر الحكومة إلى طلب هذه الأوامر منا ، وبعد ذلك نهضت كاترين وغادرت القاعة، ودخلت مخدعها مصحوبة بملك النافار، وقالت له: لقد أساء أخوك كثيرا في تمثيل هذه الرواية الشائنة.
قال: إني آسف يا سيدتي.
قالت: لسنا نجهل ذلك، ولكن كيف يأبى المجيء للانضمام إلينا؟
قال: سوف نجيء به إليك أيتها السيدة، فلا تنسي.
قالت: أنسى ماذا؟ أجاب: وعدك لي.
قالت: بل سوف تحصل على النيابة العامة للمملكة، ولا أخلف وعدي، والمهم لدينا الآن أن لا نصغي إلى آراء آل جيز، وانقضت أيام على مفاوضات ودسائس، وكانت الملكة الوالدة تدعو إليها الدوق دي جيز في كل يوم، بل في كل ساعة، وفي كل مرة تلفح بانتزاع منصب منه، أو لقب، أو وظيفة، ولقد هم ذلك الجندي الجريء بأن يتولى قيادة رجاله ويقاوم الملكة الوالدة إلا أنه أحس بأن قواه تنفد سريعا، فلم يجد بدا من الانقياد إلى كاترين، وكان ملك النافار فرحا بالوعود التي أجزلتها له تلك المرأة الإيطالية، وما برحت ترددها له كلما سنحت الفرصة دون أن تنجز واحدا منها. هذا وأمير كوندة يلقى الإكرام من أولئك الجنود الذين حوله، لكنه ما زال يظهر أنه سجين.
وعالجت الملكة الوالدة صلحا بين ملك النافار والدوق دي جيز، فاستعانت عليه بعشيقة للدوق حتى تعاهدا على الولاء أمامها، وأقسم كل منهما على حفظ عهد ذلك الولاء دائما أبدا.
وكان أول عمل عملته أنها أفرجت عن صديقها الفيكونت دي شارتر، وكان هذا الشاب مشتهرا بحسن صورته إلا أن سجنه في الباستيل أودى بصحته فلم يكد يقوى على مبارحة سجنه والسفر إلى قصره فمات بعد زمن قصير.
ثم شعرت كاترين باتساع نطاق سلطتها، فلم تتردد في إرسال الكاردينال شارل دي لورين شقيق الدوق دي جيز إلى ديره.
وأجابها الكردينال يومئذ قائلا: هل تجدينني مضايقا لك في غرامك الجديد؟ إذن فليحذر ذلك الخليل الذي جئت به من الأزقة.
فقالت: حاذر أيها الكردينال أن أطيل مدة نفيك وإبعادك.
وهكذا غادرته يرجو ويأمل قربها، وكأنها وعدته بقرب إيابه إلى البلاط، فسافر ومعه من يلوذ به ، وفي اليوم التالي أقبل جاليو على أمير كوندة وهو مكتئب مغموم، فقال له الأمير: ماذا دهاك يا عزيزي جاليو، فإن لك هيئة المشنوق؟ - وا أسفاه، إن فؤادي قد ذهب.
قال الأمير: كيف مرسلين؟ - إنها سافرت مع زوجها المحامي في جملة من سافروا مع الكردينال. - وهل سافر الكردينال؟ - نعم، فقد ارتحل عن أورليان ليلا بأمر الملكة كاترين.
فأطرق الأمير يفكر، ثم قال لأحد رجاله: ما رأيك في هذا السفر؟ - أرى أن الفساد يسرع إلينا ونحن قعود، فقد آن لك أن تهتم بقضيتك، وترفعها بنفسك إلى مجلس النواب. - وهذا رأيي أيضا فلنتأهب للسفر، وما دام جاليو قد قطع من كل علاقة غرامية في أورليان فهو يصحبنا أيضا.
أجاب جاليو: بلا شك يا مولاي، وسافروا في اليوم التالي، وفيما هم مارون بالكنيسة الكبرى أبصروا بعض القسيسين وخمسة أو ستة من المصلين، فقال جاليو متشائما: ما كنت أود أن أرى مشهد جنازة يوم رحيلنا.
فأجابه الأمير: إنها جنازة ميت من عامة الناس، ولكن ما لي أرى أسقف «سنليس»؟
فقال جاليو: هو الرجل الوحيد الذي رأيته قرب سرير الملك فرنسوا، واختلط بعض الجند بالقسيسين، وكان أربعة منهم يحملون نعش الميت، ومروا بأمير كوندة وحاشيته، وسمع الأمير قسيسا يقول: صلوا لأجل الملك التقي فرنسوا دي فالوي الملك الثاني المدعو بهذا الاسم!
فكشف كوندة وأصدقاؤه رءوسهم وجثوا في ذلك الموقف، وقد أثر فيهم ما رأوا من الإهمال في ذلك المشهد، ولم يسر في جنازة فرنسوا الثاني أحد من حاشيته، ولا شيعه إلى المدفن أحد من أنسبائه، بل حمل جثته القسيسون وبضعة من الجند، وسار في مشهده أسقف أعمى واثنان من معاونيه.
فقال جاليو: إلى أين تسيرون بالملك؟
فأجابه قسيس: إلى مقبرة سن دنيس، وفيها مدافن الملوك، إلا أن قلبه بقي ها هنا في ضريح من رخام في وسط الكنيسة.
فدخل الكنيسة أمير كوندة وجاليو، وسجدوا قرب تلك البقية الباقية من عدوهما القديم، ولم يكن هناك لا حارس ولا قسيس.
الفصل الخامس والعشرون
سياسة الملكة الوالدة
كان قصر «فونتنبلو» في أوائل شهر أغسطس (آب) سنة 1561 حافلا بالأشراف والسيدات، وقد اختلط فيه الكاثوليكيون والبروتستانتيون. والملكة كاترين ما برحت تحب المجتمعات السارة، وقد لبس الرجال أفخر ملابسهم، وتزينت النساء بأبهى الزينات، وكان ذلك الزمن زمن المجادلات الدينية والأدبية، والوعاظ منتشرون في كل مكان، وأبناء المذهب الكاثوليكي يتهمون كاترين بإخلاصها للمذهب الجديد (البروتستانتي).
ولم يكن في ذلك القصر من ذاكر للملك فرنسوا الثاني إلا زوجته ماري ستوارت، وكان الكردينال قد أتى بها إلى فونتنبلو غير مشفق على نفسه من سخط الملكة الوالدة.
ولعل ماري ستوارت لم تحب من زوجها إلا المجد والسلطة، فلما ساروا به إلى الضريح منعوها من تشييع جثته، فأحست منذ خروج النعش بذهاب أمانيها وسقوط دولتها، وكانت كاترين دي مدسيس تكرهها، ولا ترى فيها إلا أنها المرأة التي سلبت منها ولدها، وانتزعت كذلك نفوذها عليه، ولقد رأت قبلا من كبريائها ما لا يسعها الصفح عنه، وذكرت أن ماري ستوارت هذه عنفتها ذات يوم بأنها ليست بذات نسب كريم، فعقدت النية على إبعادها إلى إنكلترة. أما آل دي جيز فذكروا لتلك الأرملة المسكينة معارضتها إياهم يوم طلبوا منها التوقيع على حكم الإعدام باسم زوجها، وامتنعت ذلك الامتناع الذي يدل على شهامتها، فكان الدوق يقول لها أحيانا كثيرة: إن الملكة الوالدة هي اليوم صاحبة الحول والطول، ولا تحبك فماذا يحدث لك إذا أصرت على البقاء في فرنسا. إن أنت إلا أرملة صبية لا نفوذ لها ولا شأن، على أن لك عرشا في إيكوسيا
1
في وسعك أن تتبوئيه!
فلم تجب ماري، وهي تعرف جبال مملكة إيكوسيا (اسكتلندا)، ولا ترى وجها للشبه بينها وبين سهول فرنسا الجميلة وجبالها البهيجة، وكان الاسكتلنديون شعبا خشنا يكاد يكون همجيا، ولا يمكن أن يقاس بالشعب الفرنساوي، فكانت تقول: ويلاه! من يبدل دينارا بدرهم؟ فلا أسافر الآن.
ولما نقل جوابها إلى الملكة الوالدة قطبت وجهها، وقالت: كفاني من عندي من الفتيات الجميلات في حاشيتي، فلا حاجة بي إلى أرملة ابني، إن ثيابها السوداء كالوصمة في بلاطي .
وبعد اللتيا والتي ضربت موعدا لسفرها هو يوم 16 أغسطس (آب)، وفي 15 منه أمرت كاترين بإقامة حفلة باهرة إكراما لماري، وكانت ماري في ذلك المساء مكتئبة مغمومة لا تكاد تجيب على كلمات التودد التي يخاطبها بها ظرفاء البلاط. ثم ما لبثت أن دخلت الرواق حينما كانت كاترين وحولها المعجبون بها، وكان الدوق دي جيز إلى جانب الملكة الوالدة ينظر بقلق إلى حركة الإعجاب التي تدور حول الملكة الصبية.
وإذا بغلام لا يتجاوز العشرة من سنيه قد تخطى الصفوف، وأقبل على ماري فأمسك بيديها الاثنتين، ونظر إليها نظرة مبهمة، وكان ذلك الغلام «شارل دي فالوي» ملك فرنسا باسم شارل التاسع، وبعد أن تأمل كنته وقتا طويلا، قال لها: لقد أكدوا لي أنك عازمة على الرحيل عن فرنسا، وهذا الخبر غير صحيح، أليس كذلك؟ إنني لا أريد سفرك.
فارتعدت ماري أملا، وقالت: وا أسفاه! لا بد من سفري أيها الملك، ولو عملت برغبة فؤادي لبقيت ها هنا، ولكن ظروفي وأسرتي يوجبان علي الرحيل، وهنا ترددت وكادت تبكي، فنظر الملك الفتى إليها متعجبا، وقال: من ذا يكرهك على السفر، ألست الملكة؟
فتبادرت الدموع إلى وجنتيها، وأجابت: كلا، كيف أكون الملكة وأنت الملك؟
قال: أريد أن تلبثي ها هنا فلا تسافري.
فقالت كاترين للمربية: خذي هذا الصبي، لماذا تركته يجيء إلى هنا؟
فأجابها الغلام: أنا أردت المجيء إلى هنا لأقبل الملكة، فإن حسنها عجيب!
فعطفت ماري ستوارت على الغلام، فقبلها بلهفة، وقال لها: عديني بألا تسافري حتى أراك غدا!
قالت: نعم غدا.
ولم تتمكن من التلفظ بكلمة أيضا؛ لأن انعطاف شارل عليها قد أثر فيها تأثيرا عميقا، فرفعت كاترين ابنها ودفعته إلى مربيته، ثم عادت إلى قرب الدوق دي جيز، وقالت له بلهجة خشنة: لقد آن لماري أن تسافر!
فأجابها: نعم أيتها السيدة.
ثم دعت كاترين ترولوس، وقالت له: أنت تعرف حاشية ملكة النافار، فاستعلم عما إذا كان قد طرأ طارئ جديد بينها وبين زوجها، وذلك لأن كاترين سمعت إشاعة عن ملك النافار مؤداها أنه ارتد عن مذهب كلفين إلى المذهب الكاثوليكي. فما لبث أن رجع إليها ترولوس بالخبر اليقين، قال لها: إن أحد القسس البروتستانتيين زار ملك النافار اليوم كعادته، فامتنع عن مقابلته، ودخل على زوجته من غير إنباء سابق بدخوله، وعنفها على تشبثها بمذهب البروتستانت، وأشار عليها بترك مذهبها، ولما جاوبته بخشونة احتدم وصاح في وجهها قائلا: ما أنت أهلا لأن تكوني زوجة أمير من آل بوربون، ولقد أتيت حماقة فظيعة يوم خطر لي الاقتران بك! ثم تركها وهو يقول: من حسن الحظ أن اقتراننا ذاك لا يدوم أبدا!
وكانت كاترين قد لاحظت ملك النافار فرأته يقترب إلى ماري ستوارت ويحدثها همسا، ففهمت مغزى ذلك الهمس، وكذلك تنبه الدوق دي جيز إليه إلا أنه لم يفهم المراد من تلك المجاملة، فقالت له كاترين: لا جرم أن ماري تروم الاستيلاء على القلوب التي تميل إلينا. قال: ما معنى هذا الكلام؟ قالت: إنها تتودد إلى ملك النافار كما كانت تتودد إلى زوجها، وعلمت بالأمس أن دامفيل قضى سحابة نهاره عندها.
قال الدوق: أتعنين دامفيل ابن مونمورانسي؟ - نعم، ولقد حدثتني بهذه الزيارة الآنسة دي موفال فقد سمعت ماري تقول: لئن ماتت زوجة دامفيل فإنني أتخذه بعلا. - هذه وشاية كاذبة.
أجابت كاترين: لعلها اليوم وشاية، لكنها غدا تغدو فضيحة، فلا ينبغي أن نفسح لها مجالا، ولما انتصف الليل أقبل الدوق دي جيز على ماري ستوارت، وقال: هيا بنا نسافر.
فأجابته: لا أسافر الليلة، ولكن بعد بضعة أيام!
قال: لقد أعددنا الأهبة للسفر، وهؤلاء سفراء مملكتك ينتظرونك في «ليث»، فمتى خرجت من المرقص فالبسي معطف السفر فنرتحل عن فونتنبلو قبل طلوع النهار، وانتشر خبر سفر ماري، ولما صعدت إلى مركبة السفر تألف حولها جمهور زاهر من أهل البلاط ليشيعها، فظلت تتوهم أنها ملكة حتى الدقيقة الأخيرة، وكان الدوق دي جيز إلى جانبها، وكثيرون من الأشراف قد أحدقوا بها، ورام بعضهم ألا يفارقها إلا بعد وصولها إلى اسكتلندا. فذرفت عيناها دمع الأسى والأسف، وأراد ملك النافار لحاقا بالأصدقاء الذين شيعوا تلك الملكة الراحلة، إلا أن الملكة الوالدة نادته بحجة أن له شغلا عندها بشئون المملكة. فلما انتهى لجب القوم المسافرين، وابتعدوا تنهدت كاترين كمن استراح من تعب، وقالت: الآن صرت ملكة فرنسا! أما الدوق دي جيز فرجع وهو يقول: لا بد من استئناف النضال، وها أنا وأنت يا كاترين، وسنرى من يفوز! •••
ولما انعقد مجلس الحكام لم يظهر الدوق في البلاط إلا نادرا، واقتدى به مونمورانسي والماريشال سن أندرة، وحضر المجلس الكردينال دي لورين وملك النافار فأبصروا بأعينهما كيف تقلص ظل نفوذهما. ثم انفض المجلس دون أن تظهر نتيجة لأعماله.
وفي اليوم التالي كانت كاترين في مكتبها تطالع كتابا مجلدا تجليدا نفيسا، فامتنعت عن المطالعة هنيهة لتلخص سياستها، وقالت: إن أمير كوندة عدو للدوق دي جيز، فهو ينصب له الأشراك، وملك النافار عدو للكردينال أخي الدوق، ومونمورانسي خصم لسن أندرة، وهذا عداء يفرق بين الجميع ويسلطني عليهم، والفضل في ذلك يعود إلى مواطني واضع هذا الكتاب.
ونظرت في كتابها، وقالت: ما أجمل هذا الفصل، وكان عنوان ذلك الفصل «أقسم لتملك» واسم مؤلف الكتاب «ماشيافل».
2
على أن كاترين فاتها أمر واحد وهو أن هؤلاء الكبار المتعادين قد أدركوا مرامها؛ لأن الماريشال سن أندري والدوق دي مونمورانسي تلقوا في ذلك المساء رسالة من الدوقة دي فالانتينو (وكانت هذه المرأة ذات نفوذ على الأميرين)، وإليك نص الرسالة:
اذهب عند منتصف هذه الليلة إلى قصر اللوفر دون أن تدع أحدا يعرف من أنت. فهناك صديق مخلص ينتظر وصولك. فاصعد إلى الطبقة الثانية، واضرب الباب الوحيد الذي ترى تحته نورا، أما كلمة المرور فهي: فرنسا ولورين.
ديانا دي فالانتينو
فذهبا في الوقت المعين دون تردد، فكانا في منتصف الليل عند باب واحد، فعرف كل منهما الآخر. فقال الماريشال: ما جاء بك إلى هنا يا مسيو دي مونمورانسي؟ فأجابه: وأنت أي أمر ساقك إلى اللوفر؟ ثم نظر كل منهما إلى الباب، وقالا معا: هذا باب حجرة الدوق دي جيز.
وقال الاثنان معا: إنه عدوي الألد ، وعندئذ انفتح الباب، وظهر الدوق يحمل مصباحا، فقال لهما: ادخلا أيها السيدان، فإن مدام ديانا كتبت إليكما عن هذا الموعد بعد أن طلبت منها الكتابة إليكما. فبهت الرجلان، إلا أنهما دخلا حجرة الدوق، فقدم إليهما كرسيين وجلسوا إلى مكتب عليه ورقة كبيرة بقربها دواة وأقلام وأختام.
فقال مونمورانسي: ألا توضح لنا معنى هذه الدعوة؟
قال الدوق: ألا يدهشك قدومك إلي؟ - إني متعجب من أمرين: أحدهما اجتماعي بك؛ لأنك كنت على الدوام عدوي، والآخر أنني ألقاك في هذا القصر بدلا من أن تكون في قصر آل جيز. - لو كنا في قصر آل جيز لراقبتنا العيون، أما في هذا القصر فما من أحد يظن أن ثلاثة رجال مثلنا يدخلونه من غير حاشية، ولو كنا في غير هذا الوقت لما صلح قصر اللوفر لاجتماعنا، أما اليوم فهو خير ملجأ لنا لغياب كاترين.
قال مونمورانسي: وهل أتينا إلى هنا للقيام بمؤامرة؟
أجاب الدوق: كلا يا سيدي، ولكن للدفاع عن أنفسنا، وما فرق بيننا إلا مصالح زهيدة جدا، ولذلك أردت أن أصافحكما معترفا بخطئي، وإني أقدم ولاية (دمارتين) ضمانة على صدق كلامي وعربونا لصداقتي. ومد يده إلى مونمورانسي فصافحه من غير اهتمام، منتظرا إتمام المحادثة. فقال الدوق: لا بد من تناسي أحقادنا، ثم الاهتمام باتحادنا لمقاومة الخطر المحدق بنا ومصدره امرأة.
فقال الرجلان معا: كاترين؟ - نعم، كاترين التي تناولت مقاليد السلطة من غير حق، وعبثت بحقوقنا وبالقوانين الفرنساوية، وشريعة الإفرنج تمنع النساء من التملك، بل تمنعهن من الوصاية، ولئن لم تتخذ كاترين لقب «الوصية» لاعتراض مجلس الحكام، فقد قبضت على السلطة، وإرادتها أصبحت مطلقة، وأشركت فيها ملك النافار، وهو غبي مغفل، وأمين الأختام، وهو شيخ تولاه الخرف، والأميرال كوليني، وهو بروتستانتي المذهب، فذلك لا يمكن دوامه.
قال الأميرال سن أندرة: نعم ذلك لا يمكن دوامه.
وقال الدوق: ولم تكتف كاترين بذلك كله، بل أعلنت أنها عازمة على مقاومة خدم الملك المتوفى وهنري الثاني، وأسماء هؤلاء الخدم مونمورانسي، وسن أندرة، ولورين.
قال الماريشال: إن هذه الإيطالية تستوجب أن يعلق حجر في عنقها وتطرح في السين.
فقال الدوق دي جيز: لا ينبغي أن ننسى أن عدوتنا امرأة، وحسبنا أن نجعلها في دير بعيد. أما قتلها فلا يليق بنا، ولا سبيل إلى الظفر بهذه المرأة إلا إذا اتحدنا اتحادا ثابتا، وتعاهدنا على التعاون بجميع الوسائل.
قال الماريشال: إني أسير معك في هذا الطريق أيها الدوق، وتردد مونمورانسي شيئا؛ لأن وفاءه القديم للبيت المالك كان حائلا دون موافقته على ذلك الاقتراح، لكنه ذكر أن هذه المرأة تروم أن تعامل كبار الدولة كما تعامل وصائفها.
فقال الدوق: ألا تقبل يا مسيو مونمورانسي بما قبلنا به؟
فأجاب: بل قبلت ورضيت.
فانثنى الدوق إلى الأميرال، وقال له: أتروم أن نكتب اتفاقنا على ورق ونوقع عليه؟
فأجابه الأميرال مرتبكا، قال: بل الكلام يكفي.
وقال الدوق: الكتابة أفضل. - إنني لا أحسن الكتابة إلا قليلا فاكتب الاتفاق أنت. - إن خطي لا يقرأ.
فقال مونمورانسي: أما أنا فلا أجيد كتابة شيء.
وقال الدوق: هنا ثلاثة أختام لمونمورانسي، وسن أندري، ودي جيز، قد اصطنعها أخي الكردينال، ولكن ما لنا ولها فنحن أشراف والقسم يكفي بيننا. ثم جرد سيفه ووضعه على المكتب، وقال: إنا نقسم بأسيافنا على أننا نتحد ضد الملكة كاترين، ونتعاون عليها تعاون صدق وأمانة في كل عمل نباشره. فجرد سن أندره ومونمورانسي سيفيهما، وقالا: إنا نقسم على ذلك.
الفصل السادس والعشرون
جاليو
في أوائل سنة 1662 كانت كاترين ظافرة بخصومها. فذهب مونمورانسي إلى شانتيلي، وبقي الماريشال سن أندره في باريس، أما آل جيز فارتحلوا عن البلاط، وقالوا إنهم يفضلون الابتعاد عنه ما دامت كلمة النافار أعلى من كلمتهم، وما دامت الملكة قد انتزعت السلطة من أيديهم، وسلمتها إلى ملك النافار والأميرال دي كوليني وغيرهما، ولما رأت كاترين أنها لا يستتب لها الملك إلا بالانضمام إلى حزب أو طائفة، عمدت إلى كبار أبناء طائفة البروتستانت فاتخذت قوتهم سندا لها ليدافعوا عنها وقت حلول الاضطرابات، وكاترين هي التي ذبحتهم بعد ذلك ذبح الأغنام كما سترى، ولقد أحسنت معاملتهم وقتئذ وبوأتهم صدور المجالس.
ومن سوء حظ الملكة الوالدة أن سياستها لم تخل من موضع وهن ونقطة ضعف، فإنها قبضت على السلطة، وأشركت فيها ملك النافار وهي غيرى منه، ولما آنس هذا الملك شيئا من القوة ندم على تخليه قبلا عن الوصاية وهي حق شرعي له، وكان يزعجه تحكم الملكة وأعوانها، ومعظمهم بروتستانتيون. فهمس الهامسون في أذنه يقولون له: إن السلطة بين يدي غلام. فإن الأخ البكر قد مات لضعف دمه، وربما كان أخواه مثله لاحقين به، ويومئذ من يكون الوارث غيرك؟ أنت أول أمير من الدم الملكي، غير أن فرنسا لا تطيق أن يجلس على عرشها رجل بروتستانتي، وهكذا تضمحل خلافة آل فالوي، وتبدل بغيرها، والله أعلم بمن.
ثم كانوا يهمسون في أذنه كلمات عن ماري ستوارت، وهم يعلمون أن لجمالها وقعا عنده، فحسنوا له الاقتران بها قبل أن تقترن بغيره، هذا إذا اعتنق المذهب الكاثوليكي علانية، وماري ستوارت ملكة اسكتلندا، ولا يبعد أن تغدو ملكة إنكلترة.
إلا أن ملك النافار ظل مترددا إلى أن قرأ يوما إعلانا كأنه صادر من البروتستانتيين (وقد ظهر تزويره نكاية بهم) وهم يهزءون به، ويتغزلون فيه بجمال ماري ستوارت. فهمهم ودمدم، وقال: سوف يرى البروتستانتيون الملاعين كيف أغيظهم وأسحقهم.
ولما عاد عند المساء إلى فونتنبلو أعلن للجميع أنه اعتنق المذهب الكاثوليكي وطلب من زوجته الاقتداء به. فرفضت وامتنعت، فأمرها بالسفر إلى غاسقونيا. وأما كاترين فأثر فيها النبأ، وفكرت في التدابير التي تتخذها لمعارضة أماني ابن عمها.
ولما انعقد مجلس الحكام طرحت أمامه مسألة محاسنة البروتستانتيين وإمتاعهم بالحقوق العادلة التي يطلبونها، وهذه مسألة كانت منبوذة في عهد فرنسوا الثاني، فطلبت إصدار براءة بها.
وفيما كان المجلس منعقدا والبحث دائر فيه بين الوزراء البروتستانتيين وأمين الأختام، وبعضهم يهنئ بعضا، أقبل ملك النافار مدججا بسلاحه والغضب باد على وجهه، فوجه خطابه إلى كاترين، وقال بصوت جهوري: لسنا نريد أن تتم هذه المسألة دون مصادقتنا وموافقتنا. إن فرنسا بلاد كاثوليكية، وأنا رجل كاثوليكي فلا أرضى بأن ينعقد مجلس الملك الخاص على هذه الصورة المعيبة.
قالت الملكة: لقد نسيت نفسك يا ابن العم.
قال: كلا، لم أنس نفسي. فأنت تدرين أيتها السيدة - كما أدري أنا - أن هؤلاء المتمذهبين بالمذهب الجديد محتالون منافقون، فلا بد من إخراج هذا الوباء من البلاط، وقد آن للمخلصين في خدمة الملك أن يظهروا إخلاصهم!
وأسهب في الكلام، فانحنى بالتعنيف على أمين الأختام وسائر الحضور. إلى أن قال: نعم أيتها الملكة، اطردي هؤلاء القوم أو فانضمي إليهم. أما أنا فإني أنبذهم وأقاومهم، ويحق لي أن أكون الوصي على المملكة، وسأكونه إذا شئت، ولا تنقضي أيام قلائل حتى تري أبناء عمك آل جيز ها هنا، والكردينال أخاه، والماريشال سن أندري، والمسيو دي مونمورانسي، وسائر القوم الكرام الذين رأيت إبعادهم عنك، فأولئك أقرب الناس مودة إلى الملك.
ولم تستطع الملكة ثباتا أمام ملك النافار، فلطالما خادعته من قبل. فأتم خطبته قائلا: إذا لم يرتحل عن البلاط، كوليني ودندلوت البروتستانتيان، فهو يأمر الجيوش بانتشال الملك، ويحق له أن يفعل؛ لأنه نائب الملك وصاحب السلطة على الجند.
فاضطر كوليني ودندلوت إلى الاستقالة، وسافرا إلى باريس لاحقين بأمير دي كوندة.
أما أمير دي كوندة نفسه فكان متململا متضجرا من الإقامة في باريس لبعده عن بلاط الملك، وكذلك كان جاليو فإنه مل الإقامة بعيدا عن مرسلين؛ لأنها ما برحت مع زوجها، وقد انضم إلى الكردينال ولاذ بحمايته.
وكانت المجادلات الدينية في ذلك الوقت تمزق وحدة الأمة المنقسمة إلى طائفتين، وتعتقد كل طائفة أنها أفحمت غريمتها بالبراهين الدامغة والحجج القاطعة، وفي أثناء ذلك تلقى أمير كوندة أن آل جيز قد استعادوا سطوتهم ورفعوا رءوسهم وتهيئوا للرجوع إلى البلاط، فعهد إلى جاليو بالمراقبة والاستطلاع، فقال: وافرحتاه بهذه المهمة التي عهدت بها إلي يا مولاي. فقال له: ألا تزال مقيما على هوى زوجة أفنيل؟ أجاب: نعم يا سيدي، فقد تعرضت لهذه الحادثة الغرامية ضاحكا ماجنا، أما الآن فلا أضن بحياتي في سبيلها.
قال: إذن سافر يا جاليو وامزج بين الهوى والسياسة كما تشاء ، وإنما كن حكيما.
فسافر جاليو في أواخر شهر يناير (كانون الثاني) بعد أن ودع أستاذه برنابا، فوصل إلى مدينة جوانفيل حيث يقيم آل جيز والكردينال. فدار في البلد دورة حتى اهتدى إلى منزل المحامي أفنيل. غير أن بيوت البلدة كلها كانت مقفلة، وعلى أبوابها الحراس كأن الحرب قائمة حولها. فأضاع جاليو أسبوعا كاملا من غير أن يلتقي بمرسلين، أو يتمكن من إرسال كتاب إليها، وكاد ييأس منها عندما علم أن الدوق عازم على الإياب إلى البلاط، فبعث تقريرا إلى أمير دي كوندة، ثم لبث محتجبا في المدينة يقول في نفسه: لا يطيب للعشاق شيء مثل السفر المفاجئ. ولاح له أن الدوق لا يصل إلى باريس إلا بعد أن يحدث حدثا في طريقه. إلا أنه لما رأى موكب الدوق أحس بكآبة عظيمة؛ لأنه رأى جيشا حقيقيا قد تألف واجتمع في ضواحي جوانفيل، وفيه جنود ألمانيون. فلما كان آخر شهر فبراير (شباط) تحرك ذلك الجيش. فغادر المحامي أفنيل البلد لاحقا بسيديه الكردينال والدوق، سائرا بجانب المركبة التي فيها زوجته وبعض النسوة، فلم يتمكن جاليو من إلقاء كلمة إليها. ووصل الدوق إلى مدينة فاسي في أول مارس (آذار)، فنزل فيها عند والدته العجوز الأميرة دي بوربون، وقال لها: ألا يزال أعداء ديننا كثيرين ها هنا؟ قالت: نعم وا أسفاه، وإني لفي يأس شديد من إصلاح هذه الحالة السيئة؛ لأنني أسمع ترنيمهم وصلواتهم كل يوم من قصري هذا، وسوف ترى بعد هنيهة أننا لا نستطيع الجلوس إلى مائدة العشاء. قال: سوف نكرههم على السكوت!
ولقد رافق جاليو موكب الدوق، ولم يتمكن في أثناء ذلك الوقوف من مراقبة مرسلين؛ لأنها دخلت قصر والدة الدوق. فتجول في المدينة، وكان عارفا أن أكثر سكانها من البروتستانتيين، وأخذ يفكر في تقرير يكتبه إلى أمير كوندة عما رأى وسمع، وفيما هو كذلك أبصر جمهورا غفيرا ذاهبا لسماع الوعظ، وكان البروتستانتيون يجتمعون في مكدس من مكادس القمح، ويسمعون الوعظ هناك؛ إذ لم تكن لهم معابد يعظون فيها. فقال جاليو في نفسه : لا شك أنهم يمتدحون أمير كوندة، وهذا أمر يعزيني شيئا عن لقاء مرسلين.
وبدأ البروتستانتيون وكان عددهم ينيف على ألف ومائتي رجل في الترنم بأناشيدهم، وإذا بباب المكدس يقرع، وقائل يقول: افتحوا فإننا نروم سماع الوعظ.
ففتح الباب من كانوا على مقربة منه. ثم تقهقروا مذعورين إذ رأوا جماعات من الأشراف لم يشكوا في أنهم من حاشية الدوق دي جيز. فقال البروتستانتيون لهم: ما حاجتكم؟ قالوا: لا حاجة لنا إلا سماع الوعظ كما أنبأناكم.
وحاول بعضهم الدخول ومزاحمة الحضور، فأدرك البروتستانتيون أن أولئك الأشراف إنما جاءوا ليهزءوا بهم، فأطبقوا الباب وصاح أحدهم متألما يقول: ويل لكم فقد سحقتم قدمي، وكان المتكلم ملازما من ضباط الدوق دي جيز، وقد حشر مصراع الباب قدمه، ففتحه البروتستانتيون مرة ثانية؛ ليتمكن من تخليص قدمه، فبادرهم الكاثوليكيون بالسباب والشتم.
وإذ ذاك وصل ضابط من ضباط الدوق يقول: حسبكم يا قوم! إن الدوق يطلب منكم أن تسكتوا؛ لأن أناشيدكم تمنعه من تناول عشائه، فأجلوا صلاتكم إلى وقت آخر إن شئتم!
فهاجت هذه الكلمات حنق البروتستانتيين، وصاحوا قائلين: ألا لعنة الله على الدوق وأسرته إنهم لملحدون!
وقلق جاليو وأحس بأنه ارتكب خطأ في دخوله بين القوم، فتزمل (تلفف) بردائه، وأخذ يتخطى الرقاب إلى ناحية الباب وهو يقول في نفسه: سوف أعلن للقوم أنني كاثوليكي المذهب فأتمكن من الانصراف، وويل لمن يمنعني من المرور!
ومد يده إلى قبضة سيفه وقد وصل إلى الباب، فما لبث أن رأى رجلا طويل القامة قد وقف أمامه، فتفرس في وجهه، فعرف أنه الدوق دي جيز جاء بنفسه، وقبل أن يحتجب عنه جاليو كان الدوق قد رآه فصاح: هذا وصيف أمير كوندة إذن هي ثورة مدبرة!
على أنه لم يصدر أمرا، وفي أثناء وقوفه أصابه حجر من داخل المكدس في خده فجرح جرحا خفيفا، فسال دمه غزيرا، فقال: هذا لا يطاق. ألا هجوما على أولئك الملحدين، اقتلوهم يا أصدقائي، ولا ترحموهم!
وكان البروتستانتيون وقتئذ دون سلاح، ولا يكادون يقدرون على جمع الحجارة للدفاع عن أنفسهم، وتواثب رجال الدوق إلى المكدس فقتلوا كل من عجز عن الفرار، وسكر جاليو برائحة البارود ومنظر السيوف، ومع أنه لم يكن بروتستانتيا، لكنه كان عدو الدوق دي جيز؛ لأنه وصيف أمير كوندة، وكان الدوق يتقدم ليلحق به وهو في مقدمة بعض الرجال، وقال له: أظننا قابضين عليك في هذه المرة، فلا تنجو منا.
فأجابه: مهلا يا مولاي.
وجعل يتقهقر باحثا عن منفذ، وهم أحد الجنود بأن يطعنه بحربة فاجتنب جاليو الطعنة، وضرب الجندي بخنجره فطرحه صريعا، وفرق الزحام بين جاليو والدوق، فانتهز تلك الفرصة، واختطف غدارتين من أحد الجنود.
وكان البروتستانتيون قد اهتدوا إلى عدة منافذ فنجا بعضهم من باب كبير، وصعد آخرون في سلم كان في داخل المكدس إلى السقف. ففكر جاليو في الفرار من أحد هذين المنفذين، إلا أن الزحام كان شديدا جدا، فخاف أن يلحق به الدوق ويقبض عليه فيأسره أو يقتله، وهو لا يستطيع مقاتلة عشرين أو ثلاثين من المهاجمين المدججين بالسلاح، وكان منهم عشرة رجال هاجمون عليه. فمشى وظهره إلى الجدار، وهو يسأل الله مخرجا من ذلك الضنك، وإذا بباب وراءه كان مغلقا ففتحه وخرج منه بأسرع من لحظة. فهدر الدوق وزمجر. أما جاليو فنظر إلى الموضع الذي وصل إليه، فعلم أنه موضع ضيق عند أسفل سلم، فأغلق الباب وصعد في درج السلم، فوصل إلى مكدس صغير كان مشيدا فوق المكدس الكبير، وله نافذة ضيقة، فقال في نفسه: أهرب من هذه النافذة إذا ترك لي الدوق الوقت الكافي.
وكانت رائحة التبن والهشيم الجاف ملء المكان، فألقى جاليو نظرة إلى ما حوله، فأبصر زكائب الهشيم مجموعة في زاوية، وسمع وقع خطى على السلم، فلم ير بدا من العمل، فانحنى على السلم، وأطلق رصاصة من إحدى غدارتيه.
فقال قائل: سلم نفسك فإن رصاصتك لم تصب أحدا، وإنا لقابضون عليك لا محالة!
فضحك، وقال: مهلا يا مولاي!
وللحال خطر له خاطر عجيب، إذ دنا من إحدى الزكائب فأطلق عليها النار من الغدارة الثانية.
فصاح الدوق وهو على السلم: لقد أخطأ رصاصك المرمى مرة ثانية.
فقال جاليو: كلا يا مولاي، وسوف ترى بعينك.
واشتعل يبيس النبات والهشيم، وكان جاليو يطرح النار على سائر الزكائب، ولما اقتربت الخطى رمى بإحدى الزكائب المشتعلة إلى السلم، فتدحرج الصاعدون عليه، وقال الدوق: قاتل الله اللعين، أتراه ينجو دائما؟
ولم يكن من سبيل إلى الوصول إلى جاليو؛ لأن الزكائب اشتعلت وانتشر الدخان حتى امتلأ به السلم. فتسلق جاليو إلى السطح وشاهد من هناك ما جرى. فأبصر رجال الدوق يطاردون البروتستانتيين وهم يفرون منهم في كل مكان، وقد تبعثرت جثثهم الدامية على الكلأ الأخضر، وطلع السيدات والأشراف الذين كانوا يتعشون في قصر الأميرة دي بوربون والدوق دي جيز إلى الشرفات، فكانوا يشاهدون تلك المجزرة، ويرشدون الجنود إلى مكامن البروتستانتيين ليفتكوا بهم!
وكان السطح الذي صعد إليه جاليو في ناحية أخرى فتدلى منه إلى بستان خال، في طرفه غيضة، فاجتازها حتى وصل إلى فناء متسع. فارتفعت إذ ذاك صيحات مفزعة فوقه، فرفع رأسه وأدرك أنه رمى نفسه في فم الأسد؛ لأن ذلك الفناء كان فناء قصر والدة الدوق دي جيز. فدمدم وشتم، وصاح الرجال من شرفاتهم ينادون الجند ويرشدونهم إليه ويقولون: تعالوا إلى هنا، يوجد هنا واحد من البروتستانتيين!
وكان هناك سلم يفضي منه إلى الشرفة التي صدرت منها الصرخات، وصعد جاليو في السلم غير متردد فوصل إلى الشرفة، وهناك سمع قائلا يقول: إنه على السلم، فأطلقوا النار عليه!
فتسلق الجنود السلم لاحقين بجاليو، ولما وصل إلى الشرفة أحس باضطراب شديد؛ لأنه رأى جماعات من الأشراف والسيدات والقسيسين هناك، وقد هاجهم التعصب وأسكرهم منظر الدم، ووقع بصره على امرأة بينهم كانت مطرقة والدمع يترقرق في عينيها، ولم يدر في خلد أحد أن الرجل الذي يدلون الجند عليه ليقتلوه قد صار بينهم؛ لأنهم لم يروه حينما دخل الشرفة، فقد كانوا كلهم مطلين على الفناء. فمشى إلى المرأة الباكية وناداها، مرسلين! قالت: أسأل الله أن يقدر لك النجاة مما أنت فيه.
فانثنى الحضور، وكان المحامي أفنيل في جملتهم وهو الذي فضح جاليو؛ لأنه رآه نازلا عن السطح إلى الفناء، فأرشد إليه الجنود الكاثوليكيين. فنظر إليه جاليو في بدء الأمر نظرة صعقته وسمرته في موقفه، إلا أنه تماسك لساعته، وقد شعر بمساعدة حملة البنادق فشتم جاليو، ثم اجتذب مرسلين بعنف، إلا أن هذه تراجعت مرتاعة، فلطمها زوجها وهو يحتدم غيظا منها. وانتصرت السيدات إذ ذاك لمرسلين، فشهر جاليو سيفه وتقدم إلى المحامي، وقال له: لماذا أهنت هذه السيدة؟
فقال له: ويك! كيف تتجرأ على هذا السؤال يا ابن اللئام؟ هل ظننت أنني نسيت ليلة فونتنبلو؟ أيها الجنود أطلقوا النار على هذا الخائن الذي اجترأ على زوجتي!
فصرخت مرسلين: بل أنا أهواه يا ناس، وأتمنى أن أموت معه، بل أنا أحمر خجلا من أن أكون زوجة نذل جبان مثل هذا الوحش، ويل لك! أما كان الأجدر بك أن تبارز الرجل بدلا من أن تأمر الجند باغتياله مع أنه كاثوليكي وأنت بروتستانتي.
واعتراها ارتجاف وارتعاش فأغمي عليها، فتقهقر أفنيل ممتقع اللون مذعورا، وإذا بأحد الجنود قد دنا من جاليو، فقال له: أكاثوليكي أنت أم بروتستانتي؟
فأجابه: لست أدري يا أخي. غير أن معي أربع غدارات محشوة، فلكل منكم أنتم الأربعة واحدة منها، وفضلا عنها فهذا سيفي وذاك خنجري، فأنا الأقوى. دعوني أمر وإلا فويل لك ولرفاقك!
ولعل الجنود رأوا في كلامه نصحا صادقا فابتعدوا عنه، والتفت إلى المحامي وقال: أنت جبان، وكان يحق لي قتلك، ولكنك لا تقوى على حمل سلاح، ولست أريد اغتيالك. فأنا ذاهب، وويل لمن يتجرأ على اللحاق بي.
ثم حمل مرسلين على ساعديه وسار بها قبل أن يتمكن المحامي وأصدقاؤه من إمساكه، فقد تولاهم الدهش والحيرة، وارتدوا عنه لعلمهم أنه كاثوليكي.
الفصل السابع والعشرون
الدوق دي جيز والملكة كاترين
ولما علم الدوق دي جيز بما فعل جاليو قال: وا أسفاه، ليت لي مثل هذا الشهم البطل. وسافر في ذلك المساء بعينه إلى باريس بعد أن أمر بالتحري عن أسباب المذبحة، واستدعى إليه حاكم المدينة ، فقال له: لماذا تأذن بمثل هذه الاجتماعات؟
فأجابه: أليس ذلك مطابقا لما جاء في الأمر الجديد؟
قال: عن أي أمر تتكلم؟
أجاب: أتكلم عن البراءة الصادرة في شهر يناير (كانون الثاني) بشأن إطلاق الحرية لمباشرة البروتستانت شئون دينهم، والإذن لهم بالاجتماعات في المدن غير المقفلة، وفاسي مدينة غير مقفلة.
فأجابه: إن أمر يناير لا يدوم، وقد آن وقت إيابنا إلى باريس للدفاع عن ديانتنا المقدسة. وبعد أيام وصل الدوق إلى نانتيل فوقف فيها ليعلن لجيشه وقت السفر، وانتشر الخبر في باريس وضواحيها عن قرب وصول الدوق دي جيز إليها، وبلغ أمير كوندة قبل سواه؛ لأن جاليو أنبأه به. فكتب إلى كاترين يسألها إصدار أوامرها بذلك الشأن، وإرسال الجنود. إلا أن الملكة الوالدة كانت عزلى، بل آثرت الالتجاء إلى المكر والخديعة، فبعثت برسالة إلى الدوق دي جيز تظهر له فيها الحب، وتبثه الشوق، وتقول له إنها تود أن تراه لتشاوره في شئون البلاد، وتختم رسالتها بقولها:
لا تدخل باريس، فإن لك فيها أعداء كثيرين، بل أقدم إلي، واجلس في موضعك في مجلس الملك، وهيهات أن تجد أقرب إليك مودة من هذه الكاتبة إليك.
كاترين
تلقى الدوق هذه الرسالة وهو في نانتيل، فصاح: واها لك يا ابنة عمي الحسناء، فقد طردتني عندما حبست نفسك أقوى مني، أما الآن، وقد أرهبك جيشي، فإنك ترومين التفريق بيني وبينه! كلا، ذلك لا يكون، وإنما أدخل باريس حينما أشاء، وسوف تعلمين أي استقبال يكون لي فيها.
ولم يجب الملكة على تلك الرسالة. فارتاعت ورأت نفسها في معزل، فأمرت ترولوس بالتأهب للرحيل في يوم 25 مارس (آذار) (ارتحلت عن سن جرمين حيثما كانت يومئذ، واتجهت إلى مونصوانبري) وقد أحست بالخذلان؛ لأن جيوش كوندة لم تكن متأهبة، وقد تركها الأميرال عقيب ما بدا له من وقاحة ملك النافار، فكادت تجن يأسا، فأشارت على أمين الأختام بالذهاب إلى باريس، فقال لها: أزالت حظوتي عندك يا سيدتي؟
فأجابته: كلا، ولكن زالت السلطة من يدي، وكان موكبها محزنا ليس فيه إلا قليل من حملة البنادق وقليل من الأشراف للدفاع عنها، وكان أولادها يبكون، فتركت موكبها يسير من غير أن تتكلم، وفيما هي خارجة من سن دنيس أشرف ترولوس على مركبة الملكة، وقال لها: أرى جيشا مقبلا من طريق آخر لا يقف.
قالت: أيوجد من يتجرأ على الوقوف في طريقي؟ ومن يكون؟! ألا جرد سيفك أيها القائد وأهجم على هؤلاء الوقحاء. وكان ترولوس ينتظر هذا الأمر لتألمه من تصاغر الملكة، فشهر سيفه وتقدم إلى الجيش وهو يصيح، قفوا أيها السادة، فهذا الذي ترونه أمامكم موكب الملك!
فأجابه قائل: لقد كنت أعرف ذلك.
قال: تعرف ذلك وتتقدم؟!
وتوقف ترولوس مبهوتا؛ لأنه عرف أن المتكلم هو مونمورانسي، لكنه لم يتمالك أن قال: أنت يا سيدي أول قائد في فرنسا، ومن العجب أنك تأبى التسليم على الملك، وتأبى إلا أن تعترض طريقه.
قال: ابتعد يا هذا، وإلا أمرت رجالي بإطلاق النار عليك.
فأجابه: أطلق النار علي إن شئت، ولكنني لا أدعك تهين الملك والملكة الوالدة. هذا وموكب الملكة الوالدة يقترب. فضعضعها الغيظ، وأذهلها الدهش؛ لأن مونمورانسي رآها، ولكنه تظاهر بأنه لم يرها، وجمع ترولوس جنوده حوله، وكاد ينشب القتال لولا أن الملكة أمرت حاشيتها بالاقتراب بها إلى المسيو مونمورانسي، فلم يرفع لها قبعته، ولم يترجل عن جواده، بل قال لها: ماذا ترومين أيتها السيدة؟
فصاح ترولوس: يا لك من شقي! إلا أن الملكة تلافت ما يحتمل وقوعه من قتال بين رجالها وجيش كثيف لا قدرة لهم عليه، ورأت من واجباتها إنقاذ حياة ورثة عرش فرنسا، فالتفتت إلى ترولوس، وقالت له: دع سيفك في غمده يا كونت، وما دام المسيو دي مونمورانسي يأبى التسليم علينا فنحن لا ننساه.
فقال لها هذا بلهجة جافية: تعذرينني أيتها السيدة؛ لأنني مستعجل جدا، ولا يسعني إلا المبادرة لألقى المسيو دي جيز في نانتيل.
قالت: إذن أنت ذاهب إلى نانتيل؟
أجاب: نعم، فإنني أروم مقابلة الدوق قبل دخولنا البلاط لتدبير ما لا بد منه.
فأدركت كاترين المراد من ذلك التدبير، فأمرت رجالها بمواصلة السير، ولم تحفل برجال مونمورانسي. فاختلط الموكبان، ولولا كاترين لساءت المغبة، وكان ترولوس محتدما هائجا؛ لأنه اضطر إلى إبقاء سيفه في غمده في فرصة من أحسن الفرص لتجريد ذلك السيف، ولما أطل على مركبة كاترين رآها تبكي وتمزق منديلها بأسنانها، فقال ترولوس: لماذا لم تدعيني أقتل هذا الخائن الذي اجترأ عليك بالإهانة؟
قالت: صبرا يا ترولوس، فلو تركتك تفعل لقتلوك وأسروني، وانتشلوا مني الوصاية التي حرصت عليها برغمهم جميعا. آه، ويل للأشقياء، فلسوف أعاقبهم، فصبرا!
وبكت مدة السفر، وكانت تسأل نفسها عما إذا كان قول القائل «أقسم لتملك» كافيا لبسط سلطتها وتملكها. فلما وصلت إلى مونصوابري دعت إليها ترولوس، وقالت له: أنا هنا في أمن ودعة، إلا أنني بعيدة جدا عن باريس، وبعد أيام أذهب إلى فونتنبلو. فانطلق أنت إلى باريس، واجتمع بأمير كوندة، وقل له إنني لا جنود لدي، ولا حاشية للدفاع، فليجمع حزبه وأعوانه، وليقدم سريعا. سر يا حبيبي ترولوس، ولا تعد إلا ومعك جيش عرمرم.
فسافر ترولوس إلى باريس، وفي اليوم التالي لقي الأمير في قصره، وكان الجميع في قلق وانزعاج. فقال له الأمير: هل أتيت لتسعفني بسيفك؟
فأجابه: وا أسفاه يا مولاي! أنت تدري أن سيفي للملكة، ولكن إذا كان هناك خطر يحيق بك فإني.
فسبقه الأمير إلى الكلام قائلا: إني أجهل ما يكون، ولكن لا بد من وقوع حوادث هائلة. فأين الملكة؟
أجاب: في مونصوانبري، ولا تلبث حتى تأتي إلى فونتنبلو، وهناك تنتظرك أنت ورجالك.
فقال الأمير: لو أن سيفي يكفي للدفاع عن كاترين دي مدسيس لقدمته لها راضيا مسرورا، ولكن ماذا يفعل سيفي في لقاء جيش الدوق دي جيز؟
قال ترولوس: ليس للملكة الآن من يدافع عنها!
أجاب الأمير: إني مثلها يا ترولوس، أجمع جنودي، ولكنني لا أدري متى أجمعهم وأقاوم بهم أعداء الملك.
قال ترولوس: لقد أمرتني الملكة يا سيدي ألا أفارقك، وأن أرجع بك إليها إلى فونتنبلو من غير إمهال.
فأطرق الأمير هنيهة، ثم رفع رأسه، وقال: إني عازم على الدفاع عن الملكة، وذلك من واجباتي. ثم خفض صوته، وقال: بل من مصلحتي.
قال ترولوس: إن الملكة لا ترجو المساعدة من أحد سواك. - ولكنني لا أستطيع الارتحال عن باريس من غير سبب معقول، بينما الدوق ينوي القدوم إليها. - هل يتجرأ الدوق على ذلك؟
أجاب الأمير: إن ولاية الملك قد انتزعت من يد الملكة يا ترولوس، وصارت إلى يد حزب الدوق دي جيز، وسوف ترى دخوله غدا إلى باريس، فلست أريد أن يقال إني فررت منه. والآن قل لي هل تكذب في سبيل هناء الملكة؟
قال: بل أقدم على كل شيء في ذلك السبيل.
قال: إن أخي الكردينال حاكم باريس، وهو رجل جبان ينقاد إلى آل جيز انقياد خائف، فاذهب والقه، وقل له إن الملكة أرسلتك إليه ليأمرني ويأمر الدوق دي جيز من قبلها بالرجوع سريعا إلى البلاط، وسوف يرفض الدوق. أما أنا فأطيع، وفي ذلك مصلحتنا.
قال ترولوس: ألا يمكن الفوز بجيش من الأشراف؟
قال: أصغ إلي يا ترولوس. فهل تحسب أمير كوندة جبانا؟
أجاب: معاذ الله يا سيدي.
قال: ثق أن أعداء الدوق دي جيز سيلجئون إلى الفرار غدا من باريس لئلا تضرب أعناقهم. فاذهب واقض مهمتك عند أخي وارجع فاقض ليلتك في قصري.
فقصد ترولوس الكردينال دي بوربون - شقيق أمير كوندة - ولاحظ وهو سائر أن الطرق مزينة بالحبال الزينية، وأن الباريسيين فرحون بقدوم الدوق، لا يكتمون فرحهم، وسمع كثيرين في الطريق يبشرون نفوسهم بقرب وصوله.
ومما تنبه إليه أيضا أن الكنائس كانت مفتوحة، وكانت قد فاتت مواعيد الصلاة، وأن المارة يدخلونها كأنهم في يوم عيد.
فقضى مهمته عند الكردينال دي بوربون، ولم يخامر هذا أدنى انذهال من مثل هذا الأمر، لكنه قال لترولوس: لئن تيسر إنفاذ هذا الأمر على أمير كوندة فلا يسهل إنفاذه على الدوق دي جيز. ثم قال: على أنني سأنجز ما يتعلق بي، وأقسم لك على ذلك، ومر ترولوس بفندق «نيكول بوصه» فلقي صاحب الفندق، وقد أعد زينة بديعة، فقال له: ما هذا يا نيكول؟ فتذكر نيكول أن ترولوس بروتستانتي، وأنه عدو للدوق دي جيز كسائر أبناء مذهبه، فأجابه: ما هذا إلا للاحتفال بأحد الشعانين، وهو عيد يقع بعد غد.
قال: لم أكن أحسبك متمسكا بالدين الكاثوليكي إلى هذا الحد، وابتعد وهو يفكر، فدخل قصر كوندة فنام بعد أرق، واستيقظ عند الصباح على هتاف المتحمسين، فبادر إلى لقاء الأمير، وقال: ما هذا الهتاف يا مولاي؟ لقد كان الأجدر أن يوجه إلى ملك فرنسا دون سواه.
قال الأمير: إن الدوق دي جيز اليوم أسمى من ملك فرنسا منزلة، وأرفع شأنا. فتجول في المدينة تتحقق ذلك وتنبئ به الملكة الوالدة، أما أنا فإني ألبث ها هنا لأتلقى الأمر من أخي الكردينال قبل سفري. فنزل ترولوس إلى الشارع واتجه إلى ناحية باب سن أنطوان، وقبيل وصوله سمع وراءه نيكول يقول له: إلى أين؟ فأجابه: إلى باب سن أنطوان.
قال: ولكن الدوق آت من باب سن دنيس.
أجاب: ذلك مستحيل. قال: ألم يكن يأتي الملك من ذلك الباب عندما يروم أن يحتفل بقدومه؟ وأنت تعلم يا سيدي أن دخول الدوق العاصمة لا يشبه دخول الملك منذ ثمانية عشر شهرا.
فقال ترولوس في نفسه: صدق الرجل، فقد كدت أشهر سيفي يومئذ؛ لأنني سمعت الإهانات توجه إلى الملكة!
وكان الناس قد تقلدوا السلاح على ملابس العيد التي لبسوها، وأخذوا يبدون مظاهرات حربية تبسم لها ترولوس، ودقت الأجراس لإعلان الابتهاج والسرور، وضربت الموسيقى، وازدانت الأبواب والنوافذ بالأغصان الخضراء، ورفعت أعلام عليها هذه الكلمات «حيا الله فرنسوا دوق دي جيز، حامي حمى الديانة الكاثوليكية»! فأحس ترولوس رسول الملكة بالعبرات تسري على خديه حنقا، وزاد غيظه عندما وصل إلى باب سن دنيس؛ لأنه رأى هناك جمهورا غفيرا ينتظر قدوم الرجل الذي دعاه منقذا لدينه، فقال ترولوس في نفسه: ما ضر الدوق لو تأخر يوما واحدا وجاء في يوم «عيد الشعانين» (أو أحد السعف الذي يسبق عيد القيامة بأسبوع واحد)، إذن لكان يدخل المدينة دخول المسيح أورشليم. وإذا بالصياح قد علا حتى طبق الفضاء، وسمع وقع حوافر الخيل من بعيد مبشرا بوصول الدوق دي جيز إلى باريس، مدينته المحبوبة، فعظم الهتاف وقتئذ، وكان القوم يصيحون، ليحي سيافة الدوق دي جيز! أو ليحي حملة بنادق الدوق دي جيز، أو لتحي بطانة الدوق دي جيز! صياحا يصم الآذان، وهتف بعضهم يقولون: ليحي القضاة العدول الذين قضوا على البروتستانت في فاسي!
ثم ظهر الدوق دي جيز راكبا جوادا أبيض، سرجه من جوخ مذهب، وعليه دراعة من حرير أبيض محجبة بوشي الذهب، وهو يفوق بطول قامته من حوله من الفرسان. فتوافد حكام المدينة للسلام عليه، وقدموا له مفاتيح البلد، وقام رئيس التجار خطيبا، فقال في خطبته: إن أهل المدينة انتظروا مسيحهم حتى أتى، وهذا المسيح هو الدوق دي جيز. فأجاب الدوق بكلمات قليلة كان لها صدى في العاصمة، قال: لقد أردنا أيها السادة مفارقة البلاط كي لا يتسلط علينا أعداء مذهبنا القويم، إلا أن جرأة هؤلاء الأعداء تجاوزت الحدود حتى عز على كل كاثوليكي حر أن يعيش محترما ما دام ذلك الأمر الملعون المشهور بأمر يناير (كانون الثاني) نافذا، وإنما عدنا إلى باريس للدفاع عن إلاهنا (ما أضعف هذا الإله إذا كان في حاجة لمثل هذا الدفاع)، وفي اعتقادنا أنه لا يوجد في المملكة كلها مدينة أوثق إيمانا من مدينتنا باريس العامرة!
واستمر الموكب سائرا على مهل، مضطرا أحيانا كثيرة إلى الوقوف ليدع للناس فرصة؛ ليقتربوا من الدوق، ويتبركوا بلمس ثيابه، وهكذا وصل فرنسوا دي جيز إلى قصره، وكان الكردينال دي بوربون شقيق أمير كوندة ينتظره فيه فأدى البلاغ، وطلب إلى الدوق أن يقابل الملكة في فونتنبلو حيثما تنتظره مع أمير كوندة الذي عزم على السفر إليها. فأجابه الدوق بلطف، قال: إنني أرغب في الذهاب إلى هناك، على أن الشعب لما علم بما طلبته الملكة وبأن الدوق ينوي الذهب دون جيشه إلى البلاط، ثار ثورة حقيقية، وجاءه رسول من الشعب يقول له بالنيابة عن الباريسيين: لسنا ندعك تذهب أيها المولى؛ لأنك إنما أتيت إلى باريس للدفاع عنا. فليفارق أمير كوندة باريس مصحوبا برجاله البروتستانتيين قبلما يطردهم الشعب نفسه. أما أنت فلا ترحل عن باريس من غير أن ترى ملك النافار وتتفق معه على الدفاع عن ديننا.
فانثنى الدوق إلى الكردينال، وقال له: أرأيت الآن يا ابن العم كيف أنني عاجز عن الانقياد إلى الملكة والعمل بأوامرها؟
فقطب الكردينال وجهه، ومضى ليلقى أخاه أمير كوندة، وكان هذا ينتظره وقد تأهب للسفر، فقال الأمير: أما أنا فإنني مطيع للملكة، ولقي ترولوس الأمير فقال له: أترى الآن أننا قادرون على المقاومة في باريس والهجوم على الدوق؟ فأجابه: كلا أيها الأمير، ولكني أرى المبادرة إلى مساعدة الملكة، وعسى أن نصل إليها قبل فوات الوقت.
فلم يجب أمير كوندة، بل خرج من باريس ليلا ومعه بعض الأشراف. فلما رأى ترولوس ذلك البعض وهو مؤلف من بروتستانتيين قد شيبتهم الحروب وشبان ممتلئين حماسة، قال: ليتك تأتي إلى فونتنبلو فنكون عصبة كبيرة نمنع الملكة، وما أعداؤها إلا أعداؤك. فتردد الأمير هنيهة، ثم قال: كلا يا كونت، فإني لا أجيء إلى كاترين إلا ومعي جيش، ولست أدري متى أستطيع اللحاق بدي شاتيلون، فلنذهب أولا إلى «مو» ولعلنا نجد فيها عددا كبيرا من أصدقائنا فنمضي بهم إلى مساعدة الملكة. فهل تذهب معنا؟
أجاب: لا أفارقك يا مولاي إلا إذا أعطيتني بعض فرق من حملة البنادق لأدافع بهم عن الملكة.
قال: تعال وعسى أن أتمكن غدا من إجابة طلبك. واستمر الأمير ورجاله سائرين في طريق «مو» وترولوس في طليعتهم يقول: ألا يفوت الوقت غدا؟
الفصل الثامن والعشرون
أحد الشعانين
وازدادت حركة الباريسيين في اليوم التالي؛ لأنهم علموا بوصول ملك النافار واجتماعه بالدوق اجتماعا كان الغرض منه الدفاع عن المذهب الكاثوليكي، ولم يكتف ملك النافار بذلك، بل جاء بدليل آخر على صدق إيمانه، فحضر الصلاة في كنيسة نوتردام على مرأى من الجميع، وهتف له الجمهور كما هتفوا للدوق ولمونمورانسي هتافا متواصلا، ودعوهم: «نصراء الدين، وأصدقاء الملك الحقيقيين.»
وفيما كانت باريس مسترسلة في هذه الاحتفالات كانت كاترين دي مدسيس منفردة في حجرتها ، تبكي بالقرب من نافذتها، وعيناها محملقتان إلى طريق العاصمة، مصغية إلى وقع الحوافر، تسأل نفسها عما عسى أن يكون كل قادم، وتقول: أكوندة أم جيز؟ وكانت خائفة من آل جيز؛ لأنهم أسرة منها كثيرون من رجال الدولة، وفيها القواد البواسل وذوو المطامع والآمال البعيدة، ولذلك كانت تنتظر قدوم أمير كوندة بذاهب الصبر؛ لأن ذلك الأمير كان شجاعا كريما محبوبا من البروتستانتيين حبا يفوق الوصف، وهو ذو مطامع ككل آل جيز، لكنه شديد الوفاء والولاء للبيت المالك، ولا يكيد لأسرة فالوي. وفيما هي ممتعضة حزينة النفس سمعت وقع حوافر خيل عديدة، فأخذت تلثم ولدها شارل التاسع، وتقول: أسأل الله أن يكون القادم أمير كوندة. تالله لأشيدن معبدا للعذراء يكون أجمل المعابد! ودنا الصوت، فأطبقت عينيها وهي تقول: من لي بك يا ترولوس؟
وما كادت تنتهي من هذه الكلمات حتى دخل الحاجب يقول: بالباب ملك النافار، والمسيو دي مونمورانسي، والدوق دي جيز. ففتحت عينيها فأبصرت الثلاثة قد صاروا أمامها، وسمعت ضجة الجند الذين جاءوا معهم، وكان هؤلاء الثلاثة قد دخلوا فجأة كأنهم ينوون إهانة والدة الملك، إلا أنهم وقفوا متهيبين خاشعين؛ لأنهم رأوا أنفسهم تجاه امرأة حسناء ضعيفة، وخجل دي مونمورانسي كما خجل الكردينال دي بوربون لتهجمهم على والدة وأولادها، فكان سكوت طويل المدة، ثم قالت كاترين: ماذا تريدون؟
فأجابها الدوق بخشونة: إننا أتينا أيتها السيدة طالبين إليك الإياب معنا إلى باريس. فارتعدت كاترين؛ لأن دخولها مدينة كاثوليكية مما يشق عليها بعدما قضت عاما كاملا وهي تدافع عن البروتستانتيين جهرا، وهي التي بذلت مجهودها لإنقاذ أمير كوندة من حكم الإعدام، والباريسيون كانوا قد تهددوه بالقتل إذا لم يرتحل عن مدينتهم، وكاترين لم تكن تحفل بالمذاهب الدينية، وإنما تحب السلطة حبا كالجنون. ومعنى إيابها إلى باريس استسلامها إلى أعدائها، وأولهم ملك النافار، وكانت قد هزأت به، ثم مونمورانسي وكانت قد ناقشته الحساب عن شئون منصبه، ففرنسوا دي جيز، وكانت قد طردته من البلاط قبلا. فنظرت بكبر إلى الرجال الثلاثة، وأجابتهم قائلة: لا أدخل باريس أبدا!
فاضطربوا من هذا الجواب؛ لأنهم كانوا يتوقعون منها مراوغة ومماطلة لا عزيمة ثابتة، فقال لها الدوق: إذن أين يكون مقرك أيتها السيدة، ولا حاشية لك، ولا جيش، ولا حراس؟
فأجابته: سأذهب إلى حيث أجد أصدقاء مخلصين للملك.
قال: لعلك ترومين أن تجدي أمير كوندة؟
قالت: لا ينبغي أن أخبرك بشيء من ذلك، ولكن، يا للعجب منكم، أهكذا تدخلون على مليككم؟ انظر يا ولدي شارل إلى هؤلاء الرجال الثلاثة المدججين بالسلاح، فقد تجرءوا على مخاطبة والدتك وقبعاتهم على رءوسهم، وقد أتوا إلى هنا مستصحبين جيشا حقيقيا، متهددين، متوعدين، آمرين ناهين، ولعلك تحسبهم غرباء أو أعداء، كلا! فأحدهم اسمه أنطوان دي بوربون وهو عمك، والآخر اسمه دي مونمورانسي وهو قائد جيوش المملكة الفرنساوية، أعني الرجل الذي يجب عليه أن يكون أشد الناس إخلاصا لك؛ لأنه أقسم بشرفه على ذلك، وأما هذا الآخر فهو فرنسوا دي جيز خادم أبيك، وهو الذي استخلص مدينة كاليه من أيدي الإنكليز، ومدينة ثيونفيل من أيدي الإسبانيين، فتذكر يا شارل أن هذا الرجل جاء إلى هنا وأهانك؛ لأن الرجلين الآخرين لا يحسبان شيئا مذكورا بالقياس إليه، بل هما كألعوبة بين يديه. ألا فاذكر ما أقوله لك يا شارل، إن هذا الرجل ألد عدو لك ولأسرتك! والآن أيها السادة اذهبوا من هنا وولدي هذا قوي الذاكرة فلن ينسى أحدا منكم!
فلم يدر مونمورانسي وأنطوان دي بوربون بماذا يجاوبان، غير أن الدوق دي جيز كان أقساهم قلبا وأربطهم جأشا، ففكر في وسيلة يتخذها لإقناع الملكة، وجعلت كاترين تنظر من النافذة إلى البرية راجية مساعدة من كوندة وهي تغمغم، وتقول: ترولوس، ترولوس، لماذا لا تجيء؟!
ولم يكن حول القصر إلا جيش الدوق دي جيز مستعدا للحرب والنضال، وإذا بها قد أحست بأنهم ينتزعون يد ولدها شارل من يدها، فصرخت صرخة عالية، وانثنت فأبصرته يمتنع عن الدوق دي جيز، وقد أبعده عنها، فنهضت.
فقال الدوق: سواء لبثت في مكانك أو أتيت معنا فإنا لا نتخلى عن الملك، ولا بد لنا منه . قالت: أتتجرأ!
قال: لست بالسيدة الآمرة إلا إذا شئت المسير معنا، أو الاعتزال في أحد القصور، ولا بد لنا من أخذ الملك وإخوته. فامتقع لونها كمدا، وهمت بشتمهم إلا أنها رأت السكوت، وقد شعرت بالغلبة، وكان ابنها يبكي فاسترسلت أيضا في البكاء. فجعل الرجال الثلاثة ينظرون إليها صامتين إلى أن قال لها الدوق: كيف ترين؟
فأجابته برقة: إني متأهبة للذهاب معكم. فأمر الدوق بالرحيل، وللحال سار القوم عائدين إلى باريس ومعهم الملكة الوالدة والملك أسيرين، وكانا يبكيان. فقال الدوق دي جيز: إن المصلحة العامة تظل مصلحة عامة سواء أدركت بالرفق أو بالعنف.
ووصلوا عند المساء إلى ملون، فباتت الملكة وابنها في قصر هناك، لم يسكنه منذ أكثر من مائة عام إلا السجناء.
إلا أن ترولوس، بالرغم عن مراقبة الحراس وطوافهم حول موضع الملكة، تمكن من الوصول إليها عند منتصف الليل. فضرب باب مخدعها فنهضت وفتحته، فلما رأى آثار الدموع على وجهها لم يتمالك أن زفر زفرة كادت تخنقه، وقال: يا لله من هذه الحال التي صرت إليها يا سيدتي!
قالت: ماذا جرى لكوندة؟
أجاب: وا أسفاه إن الفرسان البروتستانتيين بدءوا يتوافدون إلى «مو» وبعد يومين يمشي الأمير في طليعتهم، ويحضر للدفاع عنك، وقد رأيت من جاليو همة كبيرة.
قالت: وا حسرتاه لقد ضاعت سلطتي بتأخير يومين!
قال: لا شيء يعزيني عما حل بك يا سيدتي، أما الآن فلا أريد مفارقتك؛ لأني أخشى أن يحاول هؤلاء الأنذال إهانتك!
قالت: كلا يا ترولوس، فلا بد من ذهابك! فعد إلى الأمير، وقل له إنني سجينة مع الملك، وقل له أن يبذل جهده لإنقاذي، ثم تسعى لملاقاتي في الموضع الذي أساق إليه، ولقد خانني الكل، وإني محتاجة إليك، فاذهب أيها الحبيب!
فأجابها: إني طوع أمرك أيتها الملكة! وبعد هنيهة سار في طريق «مو» آملا أن يلحق بأمير كوندة، وكان الأمير قد ترك ذلك الموضع ليقترب إلى أورليان، ويشرع في الاتفاق على العمل مع الأميرال دي كوليني، وهناك علم أن الكاثوليك قبضوا على الملكة والملك . فكان ذلك فاتحة حرب، ولم يبق بد من الدفاع. فوثب ترولوس إلى طريق أورليان، وكانت يومئذ المدينة الثانية في المملكة، فوصل إليها يوم استولى عليها دنديلو، نجل الأميرال، ولقد استولى عليها من غير أن يسفك قطرة دم؛ إذ أقنع الأورليانيين بأنه إنما لجأ إلى أورليان ليخدم الملك فيها، وبعد أيام أقبل أمير كوندة على المدينة فحاصرها، وأعلن بعدما تلقى رسالة ترولوس أنه لا يجرد السلاح إلا لمصلحة البلاد وإنقاذ الملكة الوالدة والملك. وفي يوم 11 أبريل (نيسان) اجتمع أهل أورليان واعترفوا بأمير كوندة زعيما لهم؛ لأن أكثر سكان المدينة كانوا على مذهب البروتستانتيين. فوقعوا على عقد تعهدوا فيه بالانقياد إلى أمير كوندة لإنقاذ الملكة الوالدة وابنها الملك، وإعادة الطمأنينة إلى المملكة تحت حكم الملكة الوالدة، وكان جاليو في جملة الموقعين على ذلك العقد، شافعا توقيعه بأنه يظل كاثوليكي المذهب؛ لأنه لا يريد أن يرتد عن مذهب والديه، ولكنه يقاتل دفاعا عن الأمير، والملك، والوطن، وعن الضعيف، ولقد رأى نفسه في أشد حاجة إلى سيد عظيم يقيه شر المحامي أفنيل بعد حادثة فاسي؛ لأن جاليو أبقى مرسلين عنده مخبوءة في أورليان، وكان ينفق عندها وقته عندما يخلو من خدمة الأمير.
فلما كان يوم 11 أبريل أقر مجلس باريس الأمر المشهور «بأمر يناير (كانون الثاني)» وهو الذي يخول البروتستانتيين حرية العبادة والقيام بشئونها. ثم إن الدوق دي جيز أكره الملكة على أن تسعى لإخضاع أمير كوندة، فانضمت إلى الكاثوليكيين؛ لأنهم صاروا الحزب الأقوى، دون أن تقطع مفاوضتها مع زعماء البروتستانتيين، ولقد كتبت رسائل عديدة، جمعها الكونت هكتور دي لافريير في كتاب عنوانه: «مراسلات كاترين دي مدسيس» وكلها مرسلة إلى زعماء البروتستانتيين.
ولم تعلن الحرب بين الطائفتين، إلا أن المشاجرات كانت متوالية، وفي ذات يوم خرج مونمورانسي من باريس بجيوشه وتبعه جمهور من الناس فقصد موضعين لاجتماعات البروتستانت؛ أحدهما: خارج باب سن جاك، والآخر: في موضع يقال له بانبكور؛ فأضرم النار فيهما، وأهلك كل المجتمعين للعبادة هناك من غير دعوى ولا مرافعة، ثم عاد إلى المدينة بين هتاف المتعصبين وصياح المتحمسين كأنه قادم من نصر مبين. وكذلك وقعت مذبحة كبيرة في «سانس» سقط فيها من البروتستانت قتلى لم يحصر عددهم، واستمرت المذبحة (أو بالأحرى المجزرة الوحشية) أسبوعا كاملا.
وبعد أيام قلائل كان شارل التاسع يتنزه قرب قصر اللوفر عند ضفاف السين مع والدته وآل جيز، فأبصروا جثة طافية على الماء، وكان وجه الجثة متجها إلى شارل التاسع، فقال مرتعدا: ما هذا؟
فأجابه ترولوس، وكان مع الملكة: هذه جثة رجل مقتول في «سانس» ينظر إليك أيها الملك ويسألك عدلا.
فنظر الكردينال دي لورين شقيق الدوق دي جيز إلى ترولوس نظرة غضب، أما الدوق فقال: إن هي إلا جثة بهيم نجس.
1
ولكم من جثة كتلك الجثة الطاهرة كانت طافية على المياه أو مطروحة في الطرق والسهول!
الفصل التاسع والعشرون
الاستيلاء على روان
لم يكن الذل الذي أصاب الملكة الوالدة إلا وقتيا، فإنها بعد بضعة أسابيع استعادت شيئا من السلطة، وأخذت تفاوض سرا وجهرا معلنة أنها كاثوليكية المذهب، إلا أنها متجنبة معاداة زعماء البروتستانت، ومؤكدة لأمير دي كوندة ولاءها، وكانت تزعم أنها بهذه السياسة توفق بين جميع أبناء المذاهب، والحقيقة أن الشقاق كان يشتد بين أبناء الوطن الواحد، بتحريض رؤساء الدين الكاثوليكي، حتى طلب كوندة وكوليني مساعدة الألمانيين، واستنجد البروتستانت في نورمانديا بالإنكليز على أن يسلموهم مدينة الهافر.
أما الدوق دي جيز وملك النافار فإنهما طردا من «مدينة بورج» البروتستانتي مونغوميري، فلجأ إلى روان فحاصراها بجيش كبير، وافتتحا قلعة فيها فاستبشرا بالنجح والفوز، إلا أن مونغوميري أعد في البلدة كل خطة للدفاع، فحصن سائر مواقعها، ولكن حدثت حادثة غير منتظرة ساعدت الدوق دي جيز على فتح تلك المدينة بالسيف.
وكان بين الأعداء الذين يرصدون حركات الدوق وسكناته، بلترو دي ميرة، ومادلين بنت «يعقوب لوم» الكتبي.
فإن هذين المنحوسين ما برحا يتبعانه والحنق يوليهما هياجا شديدا، ولا سيما مادلين، فقد كانت تتلظى من ظمئها إلى الانتقام، ولقد خطر مرارا لبلترو أن يطارحها الحب، فقالت له بصوت خشن: لا غرض لي الآن من دنياي إلا الانتقام العادل.
فجعل بلترو يده على غدارته، وقال: إنني أبذل حياتي في سبيل قتل فرنسوا دي جيز.
إلا أن الدوق كان يحدق به جماعة من الأشراف الذين لا يدعون بلترو وأمثاله يصلون إليه، فلم يخطر له إلا أن يرقب الفرص، ويداهم الدوق مداهمة. فلما تمشى جيش الدوق إلى روان جاء ومادلين يستعلمان، وكان يقول لمادلين: إن الدوق يخاطر بنفسه كثيرا، وقد رأيته يتقدم إلى أسوار المدينة، ويمكن تسديد المرمى إليه من وراء السور، فإن لم نتمكن من قتله على هذه الطريقة راقبناه حتى يستولي على المدينة، وذلك أمر لا تطول مدته، ولا بد أن يترك الحذر وقت الظفر. ألا ويل لك يا فرنسوا دي جيز، إني سأبقى ألصق لك من ظلك إلى أن أراك ممددا عند قدمي مخضبا بدمك، ولئن قتلوني بعد ذلك فما أبالي؛ لأنني أكون قد انتقمت لنفسي، ولأبي مادلين، وأنفذت إرادة الله، وأنجزت وعدي للارنودي. ثم خفض صوته، وقال: وأكون قاتل الرجل الذي اختطف مني حبيبتي.
وفي ذات صباح كان بلترو ومادلين يرصدان الدوق قرب الأسوار، ويشهدان مصارع الرجال، فشهدا حركة وسمعا قول قائل يقول: لقد جرح جرحا بالغا. فقال آخر: من الجريح؟ قال: هو ملك النافار!
وانتشر الخبر في المدينة المحصورة، فأقبل جمهور نحو الأسوار، وحمل الجنود الكاثوليكيون «أنطوان دي بوربون» على محفة معدة للجرحى، وبادر الدوق دي جيز ليساعد الرجال على نقل الجريح، فأبصره البروتستانتيون من أعلى الأسوار، وللحال انهال عليه رصاصهم.
فقالت مادلين لبلترو: ما بالك لا تطلق أنت النار عليه؟
أجاب: لا فائدة من ذلك، فإنه بعيد عن مرمى رصاصنا.
وكان فرنسوا دي جيز قد ابتعد فالتفت ونظر إلى ناحية الأسوار، فحانت منه التفاتة جعلته يرتعد؛ لأنه أبصر وجه مادلين وقد زادها لبس السواد حسنا. فأوصل ملك النافار إلى خيمته، ثم عقد مجلسا وأقر وجوب الاستيلاء على البلد بالهجوم المباشر دون اكتفاء بالحصار.
فقالت الملكة الوالدة: مهلا يا مسيو دي جيز، فإن الاستيلاء على المدينة بالهجوم عليها قد يكون السبب في تسليمها إلى الجند يحرقونها، ويذبحون سكانها.
فأجابها: ثقي أيتها السيدة أنه لا جندي من جنودي يحرق ويسلب، وإني أقسم لك على ذلك.
وأخذ يبسط الكلام في أفضلية رأيه، إلا أنه قبل إصدار الأوامر بالهجوم دعا إليه خادمه روسو، وهو الرجل الذي كان رسوله في كل مراسلة غرامية، وقد كافأه بأن قلده زمام الحكومة في مدينة «بايو» فقال له: ألم تطلب إلي بالأمس أن أسمح لك بزيادة الضرائب في مدينة بايو؟
فأجابه: لست أنتظر غير صدور أمرك الكريم لأعود إلى حكومتي! - لقد قيل لي إنك تذبح البروتستانتيين ذبحا كثيرا. - ذلك خير من تركهم ينغمسون في عبادتهم الخاطئة (؟).
فضحك الدوق وقال: إني أخولك الزيادة التي تطلبها، ولكن بشرط واحد. - تكلم يا مولاي. - ألم تر أحدا على الأسوار في هذا المساء؟ - نعم رأيت مادلين لوم! - إنا هاجمون غدا على مدينة روان، وليس من العدل أن يتمتع الجنود بمن يشتهون ويحرم قائدهم الأكبر. - فهمت يا مولاي.
قال الدوق: وهل أعتمد عليك؟
أجاب: يعلم مولاي أنني لا أضن بحياتي في خدمته. وفي اليوم التالي، بعد هجوم هائل، استولى الكاثوليكيون على مدينة «روان» ولم يبق لها قلعة أو وسيلة للدفاع إلا حصونها المتداعية، فتخطاها المهاجمون بعد أن أتموا تهديمها، ويومئذ حدثت المذابح التي تقشعر منها الأبدان، وسفكت الدماء حتى سالت في كل مكان؛ لأن البروتستانتيين كانوا قد عقدوا النية على الدفاع في داخل المدينة، وعلى ألا يدعوا للمهاجمين زقاقا أو شارعا أو بيتا إلا بعد أن ينازعوهم عليه كل المنازعة، ويقاتلوهم كل المقاتلة. فكانت النوافذ مملوءة بفوهات البنادق تطلق نيرانها على الجند، والسطوح عبارة عن مناجم حجارة يرشقون بها المهاجمين، وكانوا يسمعون في بعض الأحيان دويا هائلا يدل على أن بعض البروتستانتيين قد نسفوا بيتا ليدفنوا تحت أنقاضه المهاجمين من الكاثوليكيين، وانقضت ثلاثة أيام في قتل ونهب. أما مونغوميري فقد لجأ إلى الفرار على قارب، وكانت الملكة تبكي غيظا وقهرا وحزنا على مدينة غنية كانت من أكبر المدن التجارية، وقد أصبحت خرابا . فبادرت إلى الدوق دي جيز، وقالت له: أين اليمين التي حلفتها؟ فأجابها: لست أذكر يمينا أيتها السيدة، وهل تظنين أنه يمكن ضبط جيش منتصر؟ إن هؤلاء الجنود الذين تلومينهم؛ لأنهم يسلبون وينهبون معذورون؛ لأنهم لم يتناولوا مرتباتهم منذ استيلائهم على مدينة بورج!
فأدركت كاترين أن كل وسيلة صالحة لا تجدي، فانطلقت وزارت ملك النافار، وقد أراد دخول المدينة محمولا على محفته، ولكنه مات وهو ينظر إلى الآنسة «دي رويا» وهي فتاة كان يهواها هوى شديدا.
وفي ذلك المساء طاف الدوق دي جيز في المدينة التي استولى عليها، ولم ير خادمه، فقلق خوفا أن تكون مادلين قد فرت منه، ورأى رجاله يسلبون ويفتكون ويغتصبون، وقد أسكرهم النصر فكانوا يتغنون بأنشودة مؤداها: «إن دماء البروتستانت وأعراضهم حلال للكاثوليك»، وألفاهم يحتفلون في كل مكان بذلك الظفر، إلا هو فإنه لم يحتفل، إلى أن صادف خادمه، فقال له: ماذا فعلت منذ ثلاثة أيام؟ قال: إني كنت أبحث عن مادلين. قال: ألم تجدها؟ أجاب: بلى، ولكنها كانت تهرب مني على الدوام.
قال: هل رأيتها وحدها؟ أجاب: لا، ولكن معها رجل كأنه يتبعك، ولا يترك مكانك إلا عند خروجك، ثم لا يمر إلا في الشوارع التي تمر بها.
قال: ولماذا لم تقبض عليهما؟ أجاب: أظن أن ليس الغرض قتلهما، فلو كان ذلك غرضنا لقتلناهما من عهد بعيد، ولكنك تروم القبض على الفتاة حية لا ميتة؛ ولذلك لم أتجرأ على إطلاق الرصاص على الرجل الذي معها خوفا من أن أصيبها هي.
قال الدوق وهو منزعج: تقول إنها تتبعني، فهل هي تعرف من أنا؟ سوف أتحقق الأمر.
قال: لنختبئ يا مولاي، فإنهما مقبلان.
أجاب: لا فإنني سألقاهما!
وكان بلترو ومادلين منزويين في شارع ضيق، وهما تائقان إلى الانتقام، وقد هاجهما منظر الدماء المهراقة منذ ثلاثة أيام، واتفق مرة أن الدوق كان على مرمى رصاصة منهما، فهم بلترو بقتله، لكنه أحس بارتجاف يده فخاف أن يخطئ المرمى؛ لشدة ارتجاف يديه بسبب احتدام نار بغضائه. أما في ذلك المساء فقد تماسك وتجلد وظن أن انتقامه قريب؛ لأنه لم ير مع الدوق إلا رجلا واحدا. أما الدوق فتقدم إليهما وسيفه مجرد في يده، شأن من تعود ملاقاة الأهوال والأخطار. فسدد إليه بلترو بندقيته عازما على أن يطلقها عندما يصير الدوق قريبا، وفيما هو يهم بذلك سمع صرخة وراءه، فانثنى مرتاعا ورأى مادلين يحملها الرجال، فحول الطلق إلى أولئك الرجال فقتل واحدا منهم، واختفى الباقون في زقاق مظلم ومعهم مادلين محمولة على الأيدي، فبادر إليهم، إلا أن الدوق أدركه وضربه بسيفه ضربة صرعته فارتمى على الأرض.
وبعد هنيهة كانت مادلين سجينة في بيت خال والدوق أمامها. فقال لها: أبلغ منك الجفاء هذا الحد فلم يعد الوصول إليك ممكنا إلا بعد إطلاق النار واستخدام الجنود، ولولا أن الدوق دي جيز استولى على روان لما استطعت أن أراك.
وهو قد حاول مخادعتها بزعمه أنه من ضباط الدوق دي جيز. ولم يتعشق قط امرأة تعشقه لمادلين على كثرة مفاخرته باتخاذه عشيقات في كل مدينة فرنساوية، وقد أنسته الدسائس والحروب أن والد تلك المنحوسة مات مقتولا بأمره، وكأنما نسيت مادلين ذلك أيضا؛ لأنها أصغت إلى الدوق كل الإصغاء، وكان يطارحها عبارات الهوى والوجد، وطفق يذكر لها علاقته السابقة، وكيف كان يزورها صاعدا إلى شرفة منزلها في ساحة أورليان، ومضى في كلامه إلى أن مر سكير يغني بصوت عال، فنبهها ذلك إلى ما هي فيه، فدفعت الدوق وأبعدته عنها وهددته بخنجر، فقال لها: ويك هل جننت؟
فأجابته: كلا ما جننت يا دوق، ولكنني تذكرت تلك الأقسام والقبلات الكاذبة، وكل ما فعله الضابط فرنسوا، ثم تذكرت مصرع أبي! فاصفر وجه الدوق، فقالت أيضا: ألا تدري «يا دوق فرنسوا» أن قد كان لي والد، وكان من أهل الفضل والصلاح، وأنني كنت أحبه؟
قال: لماذا تدعينني «الدوق»؟ إن أنا إلا ضابط شريف.
قالت: تبا لك من كاذب مخادع، أما تفتأ تخدعني؟ إن جلادك يا دوق قد فتك بأبي ظلما، ثم دخلت أورليان في اليوم التالي، ورجالك يحدقون بك، وكنت تجتاز الساحة التي مات فيها والدي ظلما، فلم ترفع رأسك لتراني، إلا أنني رأيتك وقتئذ، وعلمت أن الضابط فرنسوا الذي هويته ما كان إلا الدوق دي جيز، قاتل أبي، فأقسمت في ذلك اليوم على الانتقام منك. فعيناي اليوم لا تذرفان دمعا، ولكنك ترى أثر الدمع على وجنتي، وما عشت حتى الساعة إلا لأنتقم منك. إذن فأنت هالك! وقد ابتعد عنك رجالك فلا يوجد ها هنا أحد سوانا، وإني قاتلتك بعدما نزعت سيفك، وجعلته بعيدا عنك، فاركع يا دوق، واسأل الله لذنوبك غفرانا!
وفيما كانت مادلين تتكلم كان بصرها يطفح بغضا، والجفاء ظاهر في صوتها، فلما فرغت من كلامها همت بالهجوم على الدوق، إلا أنها أصيبت وقتئذ برعشة عصبية فاضطرب بصرها، ونظرت إلى فرنسوا نظرة تائهة، وأفلت خنجرها من يدها. أما الدوق فلم يشعر بأقل خوف؛ لأن خادمه بقي في ذلك البيت، وكانت أمامه مائدة عليها الصحون والشموع فلو هاجمته مادلين لاستطاع دفاعا عن نفسه. إلا أنه استشعر أسفا حقيقيا، ورأى نفسه صغيرا أمام تلك الفتاة، ولكن ذلك لم يدم إلا وقتا قصيرا فرشق مادلين بنظرة شرسة روعتها وقهقرتها، ثم سقطت على الأرض مغمى عليها، فحملها فرنسوا ووضعها على كرسي، ونادى خادمه وصب على صدغيها ماء باردا، ثم قال للخادم: لقد تركت لك هذه المرأة التعسة، فمتى أفاقت أعطها هذا الكيس وأطلق سراحها. وانطلق سريعا وهو يقول: ما عادت تطيب لي عشرة هذه الحسناء!
أما خادم الدوق، وكان يدعى جويليو، فإنه تأمل مادلين وأعجبه حسنها، ثم تأمل كيس النقود، وآثر أن يجعله في جيبه بدلا من أن يضعه في جيب مادلين، وهكذا فعل. ثم حمل مادلين على كتفه، وخرج من البيت، فلقي بعض جنوده، فقالوا له: إلى أين نمضي؟ فأجابهم: إنا مرتحلون عن روان، وإذ ذاك عاود بلترو رشده، لكنه لبث وقتا طويلا غير قادر على النهوض، ونادى مادلين غير ذاكر لأول وهلة ما جرى. ثم صاح: آه، ويل لك يا فرنسوا دي جيز، فقد كان في وسعك قتلي إلا أنك لم تفعل ، إذن فقد كتب لك الهلاك على يدي أنا!
الفصل الثلاثون
إخلاص ترولوس
لما بلغ أمير كوندة والأميرال خبر استيلاء ملك النافار والدوق دي جيز على مدينة روان حسبا أن مدة نهب هذه المدينة تدوم أياما، وهو حساب لا خطأ فيه، فعزما على انتهاز تلك الفرصة ومحاولة الاستيلاء على باريس، وقد أنجدهما أنديلو بسبعة آلاف جندي من ألمانيا. إلا أن جيش الملك تلقى الخبر فعاد إلى باريس، أما كاترين فانتقلت إلى فنسان مع الحاشية، وبقي دي جيز على زعامة جيش الملك مع مونمورانسي. فلما رأى زعماء جيش البروتستانت أن الدوق تقدمهم، وعلموا أن المخاطرة ربما تسوق إلى ملاشاة مذهبهم، حاولوا القتال متقهقرين حتى يصلوا إلى نورماندي. فلما وصل أمير كوندة إلى قرية يقال لها «أرموي» لحق به الدوق دي جيز، وأظهر أنه عازم على مقاتلته.
ومع ذلك فقد كان الارتباك سائدا بين جيز ومونمورانسي وسن أندري؛ لأنهم عز عليهم أن يهاجموا أميرا من بيت الملك، وكان زعماء الجيشين من بيت الملك، وكلا الزعيمين عم لشارل التاسع ملك فرنسا، ولو لم يمت ملك النافار لكان الارتباك أشد؛ لأن ملك النافار وأمير كوندة أخوان، وكل منهما يقود جيشا عدوا للآخر.
فلم يجد الدوق دي جيز ومونمورانسي وسن أندري بدا من إرسال رسول إلى الملكة الوالدة، اسمه ميشال دي كاستيلان، يطلبون منها أن تصدر أمرا مطلقا صريحا يقره مجلس الملك، ويكون مؤداه مباشرة القتال.
وكانت كاترين منذ وصلت إلى فنسان قلقة الخاطر، وقد عظم مجد الدوق دي جيز لاستيلائه على مدينة روان، فلو فاز فوزا جديدا لأصبح سيد فرنسا ومالكها، وهو منذ ذلك الحين قد أعاد أخاه الكردينال إلى مكانه في المحكمة المخصوصة، ورأت كاترين - وهي مرتعبة - إياب هذا الرجل، وأشفقت أن يفوقها دهاء وقوة، فلم يسترح فؤادها، ولا ارتاحت إلى شيء سوى حبها لترولوس، وقد استسلمت إليه شأن امرأة يئست من كل حب جديد. أما ترولوس فنسي الدنيا وما فيها بهوى كاترين، وكان يحبها حبا صادقا طالما تمنت مثله في شبابها، وهو حب مجرد عن الأغراض؛ لأن ترولوس لم يكن يحفل بلقب أو ثروة أو مجد، وكان يقول لها: لا مطمع لي في غير ما أنا فيه، ولا أشتهي إلا أن أبقى قائد حراسك؛ أي أن أعيش بقربك، وأموت لأجلك عند الحاجة.
ولقد أرسلته كاترين مرتين إلى أمير كوندة في طلب بعض الإيضاحات، فتعرض له رجال راموا قتله ونجا منهم. فكتم ذلك عن كاترين، وكان يجهل أن الكردينال أدرك وجود علاقات سرية بين كاترين وكوندة، ورام الحصول على برهان يؤكد وجود تلك العلاقات الخفية، فأرسل إليه مرارا من يفتك به، ويأخذ منه ما عسى أن يوجد معه من الرسائل، وكان يكفي أمير كوندة أن يحصل على إنذار يسير من كاترين؛ ليحبط مساعي الدوق دي جيز، وذلك ما أراد الكردينال منع وقوعه بأية وسيلة.
ووصل ميشال دي كاستيلان رسول الدوق إلى كاترين فسلمها رسائل زعماء الجيش الكاثوليكيين طالبا صدور أمرها بمباشرة القتال. ولم يكن من عادات كاترين أن تصدر أمرا جليا، أو تكتب رسالة واضحة المعنى خالية من كل إبهام وتورية. فبدأت تقول: إنه من العار أن ينشب قتال بين فرنسا وبين أبناء أمة واحدة، وإن مثل القائد مونمورانسي والدوق دي جيز والماريشال سن أندرة في غنى عن رأي امرأة لم تجربها حوادث الزمان، ورأي صبي قاصر، وإنها تأسف كثيرا؛ لأنها ترى شئون المملكة قد صارت إلى ذلك الحال.
وكان الرسول قد دخل حجرة الملك شارل التاسع مع كاترين، وكانت مربية الملك تلاطفه وتداعبه. فقالت لها الملكة: ما رأيك أيتها المربية - فهذا هو الزمن الذي تسأل فيه النساء، عن آرائهن - في مباشرة القتال؟
فقبلت المربية الملك، وقالت: إذا لم يقنع البروتستانت، ولم يذعنوا لإحكام العقل، فلا بأس من مقاتلتهم.
وتفاوضوا وقتا طويلا، وكان ميشال دي كاستيلان رسولا حاذقا فطنا، فاستخدم دهاءه في الحصول على أمر تكتبه الملكة لمباشرة القتال فلم يفلح. فاضطر إلى العودة ناقلا إلى الدوق دي جيز ومن معه كلمات كاترين، إذ قالت له: «قل لأبناء عمي آل جيز وآل مونمورانسي أنهم أسد رأيا، وأكثر خبرة مني!» فصاح الثلاثة: لعنة الله على الخائنة! فلا بد من مباشرة القتال على رغم أنفها!
وكان الكردينال شقيق الدوق دي جيز، يعرف كذب كاترين ودهاءها فلم يتعجب من أنها أبت إصدار أمر جلي صريح، ولم يشأ أن تلقى التبعة على عاتقه، فتجنب لقاء الملكة عندما كان الرسول ميشال دي كاستيلان عندها. إلا أنه عمد إلى مراقبتها حالما خرج ذلك الرسول من عندها، فأبصر ترولوس قد دخل مرارا، وأحس الكردينال بألا بد للملكة في ذلك اليوم من مفاوضة أمير كوندة، فعول على المكث في مخبئه حتى الغد مراقبا، وكان مخبؤه حجرة مطلة على رواق يفضي منه إلى مساكن الملكة، ومعلوم أن الموقف حرج، وأن أقل خيانة من كاترين تحبط آمال الكاثوليكيين أجمعين. فلما أظلم الليل أقبلت وصيفة ففتحت باب حجرة الملكة، ونظرت إلى الرواق، ثم انثنت تقول: لا يوجد أحد يا مولاتي. فقالت كاترين: اذهبي وقولي له أن يتأهب للسفر على جواده.
وسمع الكردينال وقع خطى الوصيفة، وهي ذاهبة إلى الطبقة الثانية من القصر، فقال في نفسه: هناك يقيم ترولوس، وقد أمرته كاترين بتحضير جواده للسفر. فعندها رسالة، ولست أغفل عنها في هذه المرة! وعندئذ مر ترولوس في الرواق قاصدا إلى حجرة كاترين، فلما خرج من عندها ترك الكردينال مخبأه، ورأى ترولوس ينزل إلى فناء القصر، ويركب جواده وينطلق. وقد تحققت كاترين أن جيش الملك عازم على القتال، فأرادت إنذار أمير كوندة فكتبت إليه تقول له:
اعلم يا ابن العم أن الدوق دي جيز يهاجمك غدا دون إمهال، والماريشال سن أندري في طليعة الجيش، فليكن إطلاق البنادق من هذه الناحية متواصلا شديدا. وسيكون معه سبع عشرة فرقة من المشاة، وأربع عشرة فرقة من الإسبانيين، وأربعة عشر مدفعا، والمسيو دي مونمورانسي يتولى القيادة بثماني عشرة فرقة من السويسريين وست فرق من مشاة الفرنساويين وثمانية مدافع، أما الدوق فلا يريد أن يقود إلا فرقته.
فقاتل بجرأة حتى نتمكن من عقد الصلح كما نحب.
كاترين
فسار ترولوس بهذه الرسالة في طريق وعرة، وثلج ديسمبر يكاد يسد الطرق، وكان الجو صافيا والقمر طالعا، وللأشجار على الطريق ظلال كثيفة، وجواد ترولوس ينهب الأرض، وفيما كان سائرا أطلقت عليه ثلاث طلقات نارية، فأدرك أن وراءه من يتبعه ليقبض على رسالته، ولم يصبه الرصاص، وإنما أصاب جواده فعطف عليه ولاطفه، وكأن البهيم أدرك الغرض من تلك الملاطفة فأن من شدة الألم، واحتدم ووثب وثبات متواليات، وسمع ترولوس وراءه وقع حوافر الخيل فعلم أن أخصامه عديدون، وقربت المسافة بينه وبين اللاحقين به، فتناول ترولوس رسالة الملكة، وجعلها في صدرته، وقال: إذا أدركوني ابتلعتها.
ومر به وقتئذ فارس متجه نحو المدينة، فتأمله فإذا هو جاليو، فقال له: بحقك أنقذني وأنقذ الملكة؟ - من أي خطر؟ - إليك هذه الرسالة فأوصلها إلى الأمير. - معي رسالة مثلها إلى الملكة من الأمير. - لا فائدة من رسالتك، بل خذ رسالتي هذه وعجل. - ألا تسير معي؟ - إن جوادي جريح، فانطلق. - اركب جوادي. - كلا، بل سافر أنت. إن الوقت ثمين جدا، وورائي فرسان يطاردونني. ألا تسمع وقع الحوافر؟ - بل خذ جوادي وأنا ألبث ها هنا.
قال ترولوس: أناشدك الصداقة وهوى مرسلين وإخلاصك للملكة يا جاليو أن تفعل ما أقوله لك. سافر، فالوقت لا يزال يتسع لرحيلك، وسلم هذه الرسالة إلى الأمير قبل طلوع النهار.
أجاب: إني أودعك، فبلغ تحياتي إلى من تحبها!
ورجع جاليو وهو مغموم، وكانت للطريق عطفة تتفرع في آخرها إلى طريقين: أحدهما يؤدي إلى النهر، والآخر يوصل إلى باريس. فتردد جاليو في اختيار الطريق الأقرب، وهي التي يجب أن يجتاز إليها النهر، إلا أنه فكر في أنه قد لا يجد قاربا، فقال في نفسه: أسير برا، وقد يطول الوقت، ولكنني أصل. واتجه إلى طريق باريس.
وأيقن ترولوس أنه لا ينجو من اللاحقين به، وأنهم ولا شك قد رأوه يكلم فارسا آخر، فلم ير بدا من منعهم عن اللحاق بجاليو. وأدركه خصومه فهجموا عليه بحنق فوثب عن جواده وشهر غدارتيه، وجعل سيفه بين أسنانه، وقال: ماذا تريدون؟ قالوا: سلم نفسك!
قال : هيهات !
فأحاطوا به، ونشب بينه وبينهم قتال هائل؛ لأنهم كانوا عشرين فارسا، إلا أنهم لم يتمكنوا من القبض عليه إلا بعد أن قتل ثمانية منهم، ولما دنا منه زعيمهم تفرس في وجهه فعرف أنه الكردينال، شقيق الدوق دي جيز. وقال في نفسه: ما أرى أن جاليو قد سبقهم السبق الكافي، واستعد للمخادعة فقال بعظمة: لماذا هجمتم علي؟
قال الكردينال: معك رسالة، فهاتها. - أي رسالة تعني؟ - هي التي تحملها إلى البروتستانتيين، وأنت بروتستانتي فيما أعلم. أجاب: ليس معي رسالة. قال: إذن تكون قد سلمتها إلى ذلك الفارس الذي التقيت به منذ هنيهة؟ أجاب: ربما.
فالتفت الكردينال إلى بعض رجاله، وقال: الحقوا بذلك الفارس. فابتعد الرجال إلا أن أحدهم رجع يقول: يوجد يا مولاي طريقان فأيهما نسلك؟
فقال الكردينال: في أي طريق سار صديقك؟
وكان ترولوس ينتظر هذا السؤال، فتظاهر بالحياء والسذاجة، وقال: أتطلق سراحي إذا أنبأتك؟
أجاب: إني أعدك بذلك.
قال: إنه سار في الطريق الأيسر بعدما ركب قاربا إلى الشاطئ الآخر.
فقال الكردينال: هيا فانزلوا في السين، أما إذا كنت كاذبا أيها الرجل فإنك هالك.
فقال ترولوس في نفسه: لا عجب إذا قتلني، ولكنني أكون قد أنقذت الملكة!
فوصل الرجال وضربوا باب كوخ نوتي هناك فانفتحت نافذة، وأشار رجل منها إلى بندقية معه، وقال: ماذا تريدون؟
قالوا: أعد لنا زورقا.
أجاب: لا زورق عندي في الليل، وإنما أعده في النهار فقط.
قالوا: ولكنك منذ هنيهة أنزلت في زورقك فارسا وفرسه.
أجاب: كلا لم أنزل أحدا.
فحملق الكردينال بصره إلى ترولوس، وقال له: تبا لك من خائن!
قال: بل أنت خائن.
قال: لقد تجرأت فكذبتني القول.
أجاب: ربما.
قال: لا شك أنه سلك الطريق الأيسر.
قال: إذن أكون واهما، وربما سلك الطريق الأيمن. على أنني أظن اللحاق به لا يفيدكم الآن فقد سبقكم سبقا كافيا.
تلفظ ترولوس بهذه الكلمات بلهجة المستهزئ. فهاج هائج الكردينال، وأمر رجاله بالإياب إلى القصر، وأن يساق الأسير إلى حجرة واطئة معدة لتعذيب المسجونين، وكان الجلاد فيلار حاضرا ، فقال له: خذ هذا الرجل وأوثقه وعذبه حتى يتكلم.
فألقوا ترولوس على لوح طويل، وأوثقت يداه ورجلاه إلى عجلات تدور على نفسها، ثم انتظر الجلادان الأمر، فطلب الكردينال كاتبا؛ لأنه أبى أن يشهد العقوبة وحده، فقيل له: إن الكاتب قد سافر إلى باريس، ولا يرجع إلا غدا.
قال: إنما أحتاج إلى موظف في المحاكم؛ ليكتب إقرار السجين. فهاتوا لي المحامي أفنيل.
وكان أفنيل يود ألا يشهد مثل هذه العقوبة، لكنه لم يكن قادرا على عصيان الكردينال، فنزل إلى الحجرة الواطئة، ولم يلاحظ امرأة كانت تتبعه سرا. فلما رأى السجين صرخ مدهوشا، فقال له الكردينال: ماذا دهاك؟ أجاب: لا شيء. قال: أتعرف هذا الرجل؟ أتعرف أسراره؟ فتردد أفنيل هنيهة، ثم قال: هل قضي عليه بأن يموت؟ أجاب الكردينال: بلا شك. قال: إذن أكاشفك بأمر يتعلق به، لكنني أخاف انتقامه. وخفض صوته، وقال: وأخاف انتقام الملكة.
قال: هات ما عندك يا أفنيل.
أجاب: لا أتكلم أمام هؤلاء الحضور.
واجتذبه ناحية، ثم قال: أتذكر يا مولاي ليلة مرت بنا في فونتنبلو؟
أجاب: أتعني الليلة التي دخل القصر فيها رجلان من إحدى النوافذ؟ - نعم يا مولاي، وقد عرفت الرجلين. - ولماذا لم تنبئني عنهما؟
أجاب: لخوفي من الملكة كاترين، فإنها كانت تنتظر الرجلين قرب النافذة، وهي التي أمرت بأن يلقى إليهما سلم الحبال.
قال الكردينال: لقد حزرت ذلك، وماذا جرى بعده؟
أجاب: إن الملكة أمرتني بتناسي ما رأيت.
قال: ومن الرجلان؟
أجاب: أحدهما سيموت بيدي عندما ألقاه.
وقال الكردينال: والآخر؟
أجاب: هو سجينك الليلة. فإن الملكة اقتادتهما في تلك الليلة معا إلى دهليز خفي، وتذكر أن المسيو دي مزغونة كان من حراس الملكة في اليوم التالي.
وكان الكردينال قد خامره ارتياب في كل ذلك، لكنه لم يجد أقل برهان عليه، فقال للمحامي: أصغ إلي إن كان يهمك الانتقام من الرجل الآخر، فنحن وأخي نساعدك، وأنا أعرف من تعني، فهو شجاع باسل، وأنت وحدك لا تقوى عليه، ولا يمكن أن تظفر به، ولكن إذا ساعدناك فإنما نفعل بشرط واحد. - ما هو؟ - إن الملكة ألد أعداء مذهبنا فلا بد لنا من إضعافها. فعليك أن تدون ما قلته لي. - إنك تعرضني لانتقام الملكة. - لا بد من ذلك، وهي لا تجسر على الانتقام منك ما دمت من أتباعنا وذوينا. - إني أعدك بما تروم. - والآن عليك أن تكتب إقرار هذا الخائن. ولما رجع الرجلان إلى الحجرة الواطئة كانت المرأة التي تبعت المحامي تزفر زفرات حرى وهي مختبئة في ساحة السلم، وقد سمعت المحادثة، وكانت هذه المرأة - وهي الملكة كاترين - تبكي غرامها الضائع، وحبيبها الوحيد، ومطامعها الذاهبة. ثم تجلدت تجلدا غريبا، ودخلت الحجرة وقصدت إلى الكردينال، فقالت له: ما معنى هذا؟
أجاب: معناه أيتها السيدة أن بيننا جاسوسا يحمل الرسائل إلى الأمير.
قالت: وممن تلك الرسائل؟
قال: لعلك أدرى بها منا؟
قالت: وأي برهان لديك على أن هذا الرجل جاسوس؟
أجاب: إن الشريف المخلص أيتها السيدة لا يفر، ولا يرتحل عن القصر ليلا قبيل معركة. فالمسيو دي مزغونة إذن خائن.
وقد بدأ الجلاد بتعذيب ترولوس، وكان ينظر إلى الملكة في أثناء ذلك التعذيب نظرة وكأنه يقول لها: «أنا هالك أيتها الملكة، ولا طاقة لك على إنقاذي من الردى، ولكن لا تخافي فقد بذلت نفسي فداءك» فتقدمت إليه كاترين، وقد خطر لها وجوب تنجيته، ولكنها لم تهتد إلى طريقة؛ لأن تصرفه لم يكن مما يعذر عليه. فقد ترك خدمة القصر ليلا دون أن يتلقى أمرا، ولم يكن في وسع كاترين أن تقول إنها هي التي أمرته بالذهاب لئلا تفضح نفسها. فلم يكن بد من تركه يموت، وهو الضابط الكريم الذي أحبته حبا كالجنون، وأصبحت عاجزة عن إنقاذه، وفيما هي تنظر إليه انفتحت شفتاه وهمس بهذه الكلمات، قال: إن الرسالة مع جاليو، ولم أقر بشيء، وأنا أهواك، فوداعا!
فدنا الكردينال، وقال: ماذا يقول الشقي؟
فأجابته: لست أدري.
ومضت رافعة الرأس كبرا، فلما خلت إلى نفسها في مخدعها ترامت على مقعد وبكت أحر بكاء، وهي تغمغم اسم ترولوس، وتقول: لقد كنت تهواني أيها الحبيب هوى ذهب بحياتك؛ لأني عجزت عن إنقاذك، ويلاه! لقد تسلط علي هذا الكردينال الذي يخيفني، وأصبح يعرف سري. يعرف أنني أنقذتك في فونتنبلو، وغدا يكتب أفنيل المحامي اللئيم قصته! فويل للشقي!
ونهضت لساعتها فاجتازت الرواق حتى وصلت إلى حجرة المحامي فدخلتها خفية، وأخرجت زجاجة صغيرة فسكبت منها سائلا أسود على الفراش، وصبت قطرات منه في قدح، وعلى المقاعد، ورجعت إلى غرفتها. فسمعت أنات الألم من الحجرة الواطئة، وكان الجلاد فيها يسحق عظام ترولوس المسكين. إلا أنه ظل صامتا لا يتكلم.
والكردينال يقول له: كانت معك رسالة، فيجيبه ربما. فيقول له: ماذا فعلت بها؟ فيجيبه ذلك لا يعنيك. فيقول: هل أعطيتها للفارس الذي التقى بك؟ فيجيبه: نعم، ولا. فيقول: من سلمك الرسالة؟ فيجيب: لم يسلمني إياها أحد. فيقول: إلى أين كنت ذاهبا؟ فيجيب: إلى حيث لا تدري، فدعني أموت، إني خائن كما تدعي والسلام، فيأمر الجلاد بتشديد عذابه. فلما فقد ترولوس رشده انثنى الكردينال إلى المحامي أفنيل، فقال له: اذهب واكتب القصة التي تعرفها، ووقع عليها باسمك وغدا أطلبها منك.
ثم قصد الكردينال حجرة الملكة فألفاها جاثية تصلي، فقال لها بحنق: أتصلين لأجل الخائن؟ فأجابته: إن المؤمن يصلي لأجل كل شيء.
وكفكفت كاترين عبراتها وعاودتها السكينة؛ لأن ترولوس قد مات، فلا ينبغي أن يدري أحد بما أصابها من ألم يمزق حشاشتها؛ خصوصا لأنها كانت ترتاع من الكردينال. إلا أن الكردينال كان شقيق الدوق دي جيز، وهو القائد الذي يمكن أن ينتصر غدا فيصبح صاحب الكلمة العليا والنفوذ الأسمى كما وقع له مرة، فرأت الأجدر بها ألا تبدي شيئا مما يخامر نفسها. فقال الكردينال: إن الرجل الذي كنت تظللينه بحمايتك كان خائنا، ولقي عذاب الخائنين، وقد أنبأت الناس بأنه إنما هلك بخيانته للملك وإخلاله بما يوجبه عليه منصبه. أما أنت فإني أنبئك بأنه لم يلق العذاب والردى إلا لأنه كان يهواك، وقد سلمته رسالة إلى أمير كوندة.
فأتت كاترين بحركة تدل على نفي وإنكار. فقال: لا تخادعيني أيتها السيدة، فلولا اطلاعي على الحقيقة لما تجرأت على مخاطبتك بهذا الكلام، والآن يجب عليك أن تنضمي إلى حزب الكاثوليكيين بإخلاص قلب ونزاهة فكر، وإلا أكرهتك على ما لا تحبين.
قالت: أإهانة يا كردينال؟
أجاب: يحق لي أن أتهمك وأنشر على رءوس الملأ تصرفك، وأعلن أنك اتخذت عشاقا.
فقالت بحدة: مهلا يا كردينال، واعلم أن والدة الملك لم يكن لها، ولا يكون لها إلا عاشق واحد.
قال: ما اسمه؟
أجابت: اسمه عرش فرنسا، فاخرج من هنا!
وكأنما سحر بعظمتها فخرج وقصد إلى حجرة المحامي أفنيل. •••
وانقضى نهار، وقد ساد على قصر فنسان سكوت وحزن شديد، وعلم الكل أن الجيشين يتقاتلان، ولكن لم يصل نبأ جديد إلى القصر. أما الكردينال فلم يكن قد رأى الملكة مرة ثانية فأخذ يتنزه في مسكنه رائحا جائيا، ناظرا إلى نافذته، مصغيا إلى كل صوت، وقد أعلن أنه يهب مائة دينار لأول ساع يبشره بهزيمة البروتستانتيين. وأما كاترين فإنها لم تفارق مصلاها وهي تضرع إلى الله أن يمكنها من آل جيز، ويسلطها عليهم حتى ترغم أنوفهم، واتجه فكرها كذلك إلى ذلك الحبيب الذي يعالج سكرة الموت في تلك الحجرة المظلمة، وهو لم يشته إلا شيئا واحدا قبيل انصرام أجله، هو رؤية الملكة. لكنه لم يجهل أن أعين الرقباء مبثوثة حولها، وأنها تشفق على عرضها أن يلم به كل طويل اللسان، وقدم بعض أشراف من باريس، وقالوا: إن الناس يجتمعون في الكنائس مبتهلين إلى الله، داعين للدوق دي جيز بالنصر.
وعند منتصف الليل قدم فارس، ووقف بأبواب القصر ونادى: إني جئت بالأنباء فافتحوا لي الباب، وكان ذلك الفارس جميل المنظر، على ثيابه آثار الدماء وغدارتاه مسودتان من البارود، وكل ظواهره تدل على أنه كان من أبطال المعركة. فتواثب الخدم في البلاط إليه، وهم يقولون: لمن النصر؟ أللبروتستانتيين أم للكاثوليكيين؟ فأجابهم: لقد انتصر الأمير!
وسمع الكردينال هذه الكلمات فوثب غضوبا، وإذ ذاك دخل الفارس على الملكة، وطفق يحدثها بتفاصيل المعركة ووصائفها يسمعن، وأنها كانت معركة هائلة فاز فيها الأمير فوزا مبينا فسحق جيش أعدائه، واستأسر مونمورانسي، وكان «سن أندرة» من قتلى المعركة.
ثم قال الرسول: إن رحى القتال لا تزال دائرة، إلا أن الأمير رغب إلي في نقل البشرى إليك، فأجبته إلى طلبه، وتخطيت صفوف الأعداء إليك.
فصاح الجميع: كيف تخطيت صفوف الأعداء؟ ومن هم الأعداء؟
قال: هم جنود الكاثوليك!
قالوا: أبروتستانتي أنت؟
أجاب: كلا، ولكنني من رجال الأمير، واسمي جاليو دي نرساك.
ولقد تمنى الكاثوليكيون أن يهجموا عليه، ويمزقوه إربا إربا، ولكنهم لم يروا من الحكمة الاعتداء على ظافر، فتركوه يتم كلامه، فقال: «لما رأى الأمير أنه الفائز في هذه الحرب، قال لي: تقدم ودس بحوافر فرسك جماجم القتلى، واذهب إلى فنسان فقل لابنة عمي الكريمة: إن الله وهب لي النصر لخير المملكة.»
فصاح الرجال: ويلاه كيف يكون مصيرنا؟
فأجابتهم الملكة بلطف قائلة: أي ضرر يصيبنا إذا سمعنا الوعظ بدلا من أن نسمع القداس، وأي بأس نخشاه إذا صلينا إلى الله بلغتنا المفهومة، بدلا من أن نصلي إليه باللغة اللاتينية القديمة المجهولة؟
فانصرف الرجال، واهتم بعضهم بالتأهب للسفر خيفة أن يفاجئهم الأمير. فبقي جاليو مع الملكة، ثم قال لها وهو يتردد: ماذا جرى لترولوس؟ قالت: وا أسفاه عليه!
وتبادرت الدموع على وجنتيها، فقال جاليو: هل مات؟
أجابت: بل يوشك أن يموت، إن لم يكن قد مات فعلا. فتعال معي.
وتناولت مصباحا وسبقت جاليو إلى الحجرة الواطئة التي كان فيها ترولوس يعالج سكرات الموت، فنظر إليهما نظرة مملوءة حبا وولاء، فقال جاليو: وا حسرتاه عليك أيها الصديق! وقالت كاترين: وا حسرتاه عليك أيها الحبيب!
وفيما كان نفس ترولوس يتردد في حلقه، صاح جاليو: أما من سبيل إلى الانتقام؟ قالت: إن القتلة أقوياء.
قال: لعلهم آل جيز.
أجابت: نعم.
قال: قاتلهم الله! •••
ولكن ما طلع النهار حتى أقبل فرسان كاثوليكيون على فنسان ينقلون إليها بشرى هزيمة البروتستانتيين. فقيل لهم: لقد جاء رسول قبلكم فأنبأنا بموت سن أندري وأسر مونمورانسي، ونقل إلينا خبر انهزامكم.
وكان كل ذلك صحيحا؛ لأن الأمير دي كوندة فاز في الأول ، ثم هجم الدوق دي جيز عليه بجيشه فتغير وجه المعركة، وتقهقر البروتستانتيون وفر الأميرال، ووقع أمير دي كوندة أسيرا، وقال الفرسان: إن الدوق أسره وأضجعه عنده في غرفته حتى يكون في مأمن من فراره. فعلا هتاف الهاتفين للدوق دي جيز.
فسار الكردينال إلى مخدع كاترين ليتلقى منها الأوامر، فلما وافاها بذلك النبأ بهتت، إلا أنها تماسكت، وقالت له: دع المصلين يصلون في كنيسة نوتردام، ويشكرون الله على النصر، ولسوف أشهد الصلاة.
وسافر البلاط إلى باريس مسترسلا في فرح عظيم، وقد تناسى القوم جاليو، وكان منصرفا إلى الاهتمام بدفن صديقه «ترولوس كونت دي مزغونة»، ولما وصل إلى المقبرة لقي حفار القبور يحفر قبرا لميت لم يسر في جنازته أحد، فقال له: من الذي تدفنه ها هنا؟ فأجابه: لست أدري.
فقال لحفار آخر: وأنت ألا تدري كذلك؟
أجاب: كلا، ولكنني أحسبه محاميا. فارتعد جاليو. فقال الرجل: ويقال إنه مات موتا فجائيا في الليلة البارحة.
قال: ألا تذكر اسمه؟
أجاب: كلا، ولكن اقرأ أنت اسمه على هذه الألواح، فإنني لا أحسن القراءة. فأقبل جاليو على ألواح النعش فقرأ ما صورته:
المحامي برنار أفنيل، محام لدى مجلس نواب باريس.
فقال جاليو: وهل عرف سبب وفاته؟ أجاب الحفار: إن الطبيب لم يتمكن من ذكر السبب، وإنما كانت الجثة سوداء، فرجع جاليو إلى القصر وهو يقول: وا رحمتاه لك يا ترولوس فقد قضيت فداء عن الملكة، وإنما أنت أيها المحامي المرذول فقد قضت عليك الملكة!
لقد برح الخفاء الآن، وما أحسب أستاذي برنابا إلا على صواب؛ لأن ظاهر هذه الدسائس سار، وخافيها محزن مظلم. وبكى بكاء شديدا.
الفصل الحادي والثلاثون
خادم الدوق أو حاكم بايو
كانت نتائج معركة «درو»
Dreux
مشئومة على كاترين، ولم ينتصر الدوق دي جيز فقط، بل غدا السيد الوحيد بلا منازع بعدما هلك سن أندري، ووقع مونمورانسي أسيرا عند البروتستانتيين، وبات الدوق دي جيز ملك فرنسا، فقصد إلى رامبوليه ليقص خبر المعركة على شارل التاسع، ولم تطل مدة إقامته فيها، بل أسرع عائدا إلى جيشه ليطارد الأميرال، رفيق أمير كوندة في تلك الحرب. أما مونمورانسي فقد ذهبوا به إلى أورليان وأسكنوه عند ابنة أخيه زوجة أمير كوندة، وأما أمير كوندة فقد حبس في قصر أوبزين.
أما الأميرال - وقد قلنا إنه فر من أمام الدوق دي جيز - فقد سار فاستولى على مواقع حربية في سنتونج وبيري. فطارده الدوق دي جيز، وعاد عنه بعدما فنيت بقية جيشه. ثم اتجه إلى نورماندي وكان الفائز فيها، واستولى على مدينة قايين التي دخلها جنوده من ثغرة صغيرة، وتوالت انتصاراته في نورماندي، فعزم على محاصرة سائر مدنها والتربص فيها إلى حلول فصل الربيع، وكان بين أحسن ضباط الأميرال، بلترو دي ميرا، عاشق مادلين. فقد اتخذ مهنة الجاسوسية، فكان يتجسس للجيش، وقد كان من أشجع الفرسان، وأثبتهم في مواقف النضال، ولطالما قال له الأميرال: أنت يا بلترو قليل الفطنة، كثير المخاطرة بنفسك، فكان يجيبه بقوله: سأموت قريبا، ولكن بغير مقاتلة العدو.
ويعلم القراء أن الدوق دي جيز صرع بلترو بتلك الضربة، وغادره في مدينة روان أقرب إلى الموت من الحياة. فآواه البروتستانتيون وشفي على مهل، ولم يبح لأحد باسم الرجل الذي ضربه، وإنما كان يديم التفكر في الانتقام من الدوق، وفي مادلين. ولم يدع موضعا في روان إلا دخله باحثا عنها دون أن يكتشف مقرها، وبعد طول الاستعلام قيل له: إن رجالا - وصفوهم له، فعلم أنهم يشبهون الرجال الذين أبصرهم يحملون مادلين على أيديهم - خرجوا صباح يوم من مدينة روان يحملون امرأة على جواد أحدهم.
وفي اليوم الذي تلا سقوط قايين أمر الأميرال بمداهمة مدينة بايو، فتقدم بلترو ليصحب بريكفيل، وهو القائد المأمور بالهجوم على المدينة. فقال له الأميرال: خذ بلترو، وكن واثقا به كل الوثوق، فقد رأينا من خدمته ما يقل بجنبه كل ثقة.
ولم يكن الضباط يحسبون بلترو نظيرا لهم؛ وذلك لأن الفرنساويين كانوا وما زالوا حتى اليوم ينفرون من الجواسيس، فرضي بريكفيل بصحبة بلترو على أن يسبقه إلى أسوار المدينة، ومدينة بايو المدينة الوحيدة التي لم يزرها بلترو.
فوصل إليها في اليوم التالي عند إقفال الأبواب، ودخلها متنكرا بثوب قروي، وللحال تبين له أن السكان في غم وقلق؛ لأنهم - ومعظمهم بروتستانتيون - قد ألجئوا إلى سماع القداس، واعتناق المذهب الكاثوليكي في الظاهر.
ونزل بلترو في فندق، فلما كان المساء تمدد على كرسيه، وأطبق عينيه كأنه نائم، فسمع رجالا في الفندق يتحدثون.
قالت زوجة صاحب الفندق خافضة صوتها: أظن الرجل الغريب نائما. فأجابها الحضور: نعم، إنه نائم، ولا مانع من الكلام، فما وراءك؟ أجابت: أنباء كثيرة.
وقال قائل: ما هي؟
قالت: لقد طفت المدينة سحابة نهاري، ولا حديث للناس في مجالسهم إلا عن الضربة الجديدة التي يروم الحاكم ضربنا بها غدا. فقال أحدهم: لعنة الله على الشقي!
قالت: ولكن كيف السبيل إلى معاندته ومناوأته وهو الخصم والحكم؟ ولقد حاول موظفو الحكومة الاعتراض، فأطلعهم على أمر موقع عليه من الدوق دي جيز!
قال: وما عسى أن يكون فحوى ذلك الأمر؟
أجابت: فحواه تخويل كل سلطة على مدينة «بايو» للإيطالي جويليو روسو حاكمها.
وسمع بلترو هذه الكلمات فخامرته الشكوك، فأنصت وقتا طويلا إلى ما يقولون، إلا أنه لم يجد علاقة بمادلين في كل ما سمع، وكان عملاء الفندق وصاحبه ينتقدون فظاظة حاكم المدينة، ويدعون عليه، ويذكرونه بكل سوء. فخطر لبلترو أن يستعلم منهم، فتثاءب وتمطى كمن يستيقظ من نوم عميق، وأخذ يلتفت إلى ما حوله، ثم قال: لقد خيل لي أنني سمعت اسم رجل إيطالي. فارتعد الحضور وخافوا أن يكون سامع كلامهم ذا صلة بالحاكم، وتفقد أحدهم خنجره، ثم قال: لعلك من أصدقاء الحاكم؟
فأجاب: يستحيل أن أكون من أصدقائه؛ لأنه كاثوليكي؛ ولأنني بروتستانتي. فتلقى القوم هذه الكلمات بالقبول. فقال بلترو أيضا: نعم أنا بروتستانتي، وأظنكم كنتم تقولون إن حاكم مدينتكم رجل إيطالي. قالوا: نعم، واسمه جويليو روسو.
قال: هل أرسله الدوق دي جيز؟
أجابوا: نعم، وكان خادمه ووسيطه السافل من قبل، وخدمه ثلاث سنين، فكافأه على خدماته السافلة بأن قلده منصب حاكم على مدينة بايو.
قال: هل كان يصحب الدوق دي جيز وقت الحرب؟
أجابوا: نعم أيها الصديق، ولكنه فارقه بعد حصار روان.
قال بلترو: وهل وصل إلى مدينة بايو منفردا؟
أجاب صاحب الفندق: كلا، وإنما كان يقود فتاة مسكينة لابسة ثيابا سوداء، والظاهر أن الحزن كان متمكنا منها.
فكاد يفتضح بلترو أمام القوم إلا أنه تجلد، وقد تحقق الآن أن مادلين كانت في مدينة بايو بين يدي ذلك الرجل الإيطالي فلا بد له من اختطافها منه، ولا سبيل إلى نيل الأرب إلا بالاستيلاء سريعا على المدينة. فلما رقد النازلون في الفندق، خرج منه واتجه إلى بيت الحاكم غير محاذر أن يصادفه العسس. فلما توسط المدينة لقي الاحتفالات فيها قائمة، وسمع القوم ينشدون أنشودة كاثوليكية ينذرون فيها البروتستانتيين بالويل والثبور.
فهاجه الغضب لسماعها؛ لأنه سمعها قبلا في مدينة روان. ففكر في الهجوم على البيت وقتل الحاكم، إلا أنه أشفق أن يقتل ويذهب دمه هدرا، ولا يبقى من ينتقم من الدوق دي جيز. فابتعد سائرا في الطرق والأسواق مختبئا بظلال البيوت حتى وصل إلى الأسوار، وإذا به قد أبصر رجلين من الحراس، وحسب بلترو أن جيش الأميرال لا بد أن يكون قد وصل إلى «بايو»، فلبث محتجبا في زاوية حتى مر حارس، وناداه الحارسان الآخران: من هذا؟ فأجاب بقوله: «خريستوس ومادلين» وهما كلمتان متفق على أن تكونا إشارة للمرور.
فقال أحد الحراس: سر! ولكن متى ترجع إلينا؟
أجاب: بعد ثلاث ساعات فقط.
قال الآخر: بئس الحال، فإن البرد شديد في هذه الليلة.
فمضى الحارس، وسمع بلترو هذه المحاورة فخرج من مخبئه، وتقدم إلى أحد الحراس، فقال له: من القادم؟ فأجابه بقوله: خريستوس ومادلين. فقال: سر بالسلامة.
فتقدم بلترو حتى دنا منه، ودفعه بشدة فانقلب في خندق السور. فبادر حارس آخر، وقد سمع صوت الوقعة، فقال: ما هذا؟ فأجابه: لست أدري أيها الصديق، فقد كان رفيقك هذا يترنح، ولعله سقط في الخندق. فبهت، لكنه ما لبث أن سأل بلترو قائلا: وما شأنك والوصول إلى السور؟ قال: أنا؟
أجاب: نعم أنت، فإن سكان بايو ينامون كلهم في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل.
أجاب: إني صديق للحاكم، ولست من سكان هذه المدينة.
قال: أتعرف كلمة المرور؟
أجاب: طبعا وهي خريستوس ومادلين.
فسكت الحارس، ثم إن بلترو قال له: ما رأيك إذا نزلنا إلى الخندق وأسعفنا المسكين؟ أجاب: إني أود ذلك. قال: كيف السبيل إليه؟
قال: اتبعني، فهناك في السور بعض حجارة تشبه السلم، ويمكن النزول عليها، وويل لنا إذا درى البروتستانتيون بها!
فنزل الرجلان إلى الخندق على الحجارة، ولقد صدق الجندي بقوله إنها تشبه السلم. فلما اقتربا إلى الموضع الذي وقع فيه الحارس الأول رفع بلترو يده فضرب الحارس الثاني فخر صريعا بجانب رفيقه. ثم سار إلى خارج المدينة.
وقد أصاب فيما خطر له؛ لأن البروتستانتيين وصلوا في تلك الليلة، واختبئوا منتظرين طلوع النهار حتى يوافيهم بلترو بالإيضاحات التي لا بد لهم منها لمفاجأة المدينة بالهجوم. فقال له بريكفيل قائد الحملة: ماذا جرى؟
فأجابه بلترو: هيا بنا فإنا قادرون على دخول المدينة في هذه الليلة، ولكنني قبل كل شيء أتمنى عليك حاجة. قال: ما هي؟
أجاب: هي أن تدعني أتولى قيادة الفرقة.
وتحرك البروتستانتيون، وكان بلترو في مقدمتهم. فما لبثوا حتى وصلوا إلى أسفل الأسوار، وأنزلهم بلترو إلى الخندق فأراهم الحارسين القتيلين، ثم قال: يمكننا الصعود من هنا، والحراس لا يأتون إلى هنا إلا بعد ساعة، وأمامنا سلم حقيقي من هذه الحجارة المهشمة. فتسلق الجنود واحدا بعد واحد، عاملين بإيضاحات بلترو، وكانوا يختبئون في الناحية الأخرى من السور، وهي الناحية التي يسهل عليهم النزول منها، وفرح قائد البروتستانتيين بهذا النجاح غير المأمول فكان يردد قوله: حقا إن بلترو هذا عجيب! فهو يدخل كل مكان، ويعرف كل شيء، ولقد صدق الأميرال.
وبعد هنيهة جاء مفتش الحراس فلم يجد هناك جنديا حارسا. فوقف وصاح من أنت؟ فأجابه بلترو: صديق! قال: ما هي كلمة المرور؟ فأجابه: خريستوس ومادلين.
فاطمأن قلبه شيئا، وتقدم إلى ناحية البروتستانتيين، وللحال أحدقوا به وقتلوه، إلا أنه تمكن من إطلاق غدارة فهب الحراس جميعا، وارتفعت الصيحات، وبدأت المعركة. •••
ودام القتال ثلاثة أيام، وقاتل الحاكم ببسالة عجيبة، وثار سكان المدينة عليه إلا أن جنوده كانوا يعلمون مقدار بغض السكان لهم، فكانوا يقاتلون قتال اليائسين، وأخذ السكان يطاردونهم، وهم يلجئون إلى البيوت. هذا وبلترو في الطليعة غير هياب يقول: لا أقف إلا أمام بيت الحاكم! فقال له أحد الضباط: هل من سبب يحملك على عداوته؟
أجاب: ربما، وبعد ثلاثة أيام انفتحت أمام جيش البروتستانت ساحة «بايو» وفيها اجتمع الجند الكاثوليكي للقتال الأخير.
فكان النضال مما لا يوصف بلسان، بل كان مذبحة أو عراك حيوانات ضارية، ولم يمض إلا وقت قصير حتى خلت الساحة من الكاثوليكيين، ولما رأى سكان المدينة أن البروتستانتيين قد انتصروا، أوصدوا أبواب بيوتهم في وجوه الكاثوليكيين، وكانوا يصرعونهم أفواجا حيث ساروا، وأدرك بلترو غايته، فوصل إلى بيت الحاكم ودخله وتبعه الجند يجتاز الغرف عنوة، وكأن البيت كان مهجورا، وكانت عبرات الحنق والكمد تسيل على وجنات بلترو؛ لأنه أشفق أن يكون جويليو قد لجأ إلى الفرار. فلما لم يجد بلترو أحدا في بيت الحاكم هم بالانصراف وهو متردد، فجاءه البروتستانتيون بخدم المنزل، وكانوا مختبئين في الطبقة السفلى من البيت، وهم يرتعدون جزعا ويسترحمون، فقال لهم بلترو: لكم الأمان جميعا إذا أخبرتموني بمقر مولاكم. فأجابه أحدهم: سمعا وطاعة، ولا أضن عليكم بالأنباء عن الحاكم؛ لأنه رجل لئيم لا يستحق الإخلاص. فقال بلترو: تكلم. قال: في جوار هذا البيت بيت لكاهن من أصدقاء الحاكم، لجأ إليه وفيه تجدونه. فقال بلترو: هل تقول حقا؟
أجاب: وأزيدك علما بأنك لا تجد الحاكم هناك وحده! فاكتفى بلترو بهذه الكلمات، وهجم على البيت المجاور فالتقى بالكاهن، فجثا أمامه وتوسل إليه أن يرحمه ولا يقتله، فقال له بلترو: بغيتنا الحاكم، فأين هو؟ أجاب القسيس: لا أدري.
قال: إنه عندك. أجاب: كلا، وإن شئت فابحث عنه، وكان بلترو مستعجلا، فصوب غدارته إلى رأس القسيس، وقال له: ارشدني إلى مخبأ صديقك، وإلا فأنت هالك!
فامتقع لون القسيس ومد يده إلى الجدار ، وقال بصوت منخفض: إنه هناك!
فتقدم بلترو إلى الجدار، وضربه بقبضة سيفه فسمع صرخة عالية وأنينا. فصاح برفاقه: علي بالفئوس والمعاول، واهدموا هذا الجدار. وبعد ساعة هدموا بعض الحجارة، فأبصروا وراء الجدار مشهدا هائلا. •••
ولقد حاول حاكم البلد حين رجوعه إلى بايو مصحوبا بمادلين أن يتخذها خليلة فلم يلق منها إلا الجفاء والسخط، وقد يئست من عودة بلترو، وظنته قد قتل في مدينة روان، غير أنها اعتصمت ببسالتها عندما اقترب إليها جويليو، فنشب بينها وبينه نضال عنيف، وكانت تصده وتهدده بقتل نفسها أمامه إذا استمر على ملاطفتها ومضايقتها. فلما تحقق هلاكه، وأن كل فرار مستحيل، غادر جنوده يدافعون عن نفوسهم، واتجه إلى منزل صديقه الكاهن، فأمر بأن تبنى له غرفة ضيقة وراء الجدار، ومدت أنابيب من رصاص لإدخال النور والهواء إليها، وحمل إليها خوانا وفراشا وكرسيين، وزادا يكفيه أسبوعين، وشرابا. ثم استحضر مادلين إلى تلك الغرفة فحملوها إليها، وهي أقرب إلى الموت منها إلى الحياة. ثم إن صديقه سد الجدار عليه وعلى مادلين،
1
وخيل لمادلين أنها في حلم هائل لا في يقظة، فكانت تحدق البصر في وجه جويليو الدميم القاسي، أما هو فكان مطمئن القلب فرحا بحيلته، مستيقنا أنه في ذلك الموضع آمن كل مخوفة وشر، فجعل يترنم بأنشودة الكاثوليكيين في ذلك العهد، ومعناها: «أن مال البروتستانتيين وأعراضهم حلال للمؤمنين الكاثوليكيين» ثم قال: مهلا أيتها الحسناء، فلا بد من أن تضحكي وتشربي معي، وقد صرت لي ملكا، ولا قدرة لك على مقاومتي.
قالت: أف لك من شقي، فإنك تخيفني بشراستك وهمجيتك.
وقد تمكنت في ساعة نضال وعراك من الحصول على خنجر كان معه، فقالت له: أقسم لك على أنني أقتل نفسي إذا اقتربت إلي. فاستضحك وعاد فجلس قرب الخوان وشرب الخمر، وهو يسمع دوي الرصاص. ثم علم أن رحى القتال دائرة في ساحة المدينة تحت البيت. فتولى مادلين القلق، وقالت: لعل المقاتلين من البروتستانت؟ وإذا بها تسمع صيحات متواليات، وحركة السلاح قرب الجدار، ثم الضربات تنهال على الجدار نفسه .
فنهض جويليو وقال: ما على المضطر من حرج، ولم يبق إلا أن تحكم القوة بيني وبينك أيتها الحسناء، وإذ ذاك سمع بلترو تلك الصرخة والأنة؛ لأن جويليو حاكم البلد كان قد شرب كأسا أخيرة من الخمر، وتقدم إلى مادلين متوعدا شاهرا سيفه بيده. فأصاب بنصل سيفه يدها القابضة على الخنجر، فأطبقت المسكينة عينيها، ورفعت الخنجر فطعنت به صدرها، وإذ ذاك وثب بلترو إلى الغرفة الضيقة فرأى جثة مادلين. فهدر وزمجر، ووثب على جويليو روسو فانتزع منه سيفه، وأخذ يطعنه بخنجره حتى كاد يمزق أشلاءه، ولما أراد بريكفيل قائد الحملة لقاء بلترو ليشكره ويهنئه بحذقه وبسالته لم يجد له أثرا.
الفصل الثاني والثلاثون
طلق ناري أخير
وبعد انقضاء أيام على هذه الحوادث، وبينما كان الأميرال كوليني يتمشى في فسطاطه وقف بلترو أمامه، وقال له: أبشرك أيها الأميرال بالاستيلاء على مدينة بايو. فأجابه: قد عرفت ذلك، وعرفت أيضا أنك كنت من أبطال الوغى، ولكن ماذا دهاك؟ فإن صوتك خشن، وكأنك محموم، فأجابه: ليس بي إلا عناء السير.
قال: إذن وجبت لك الراحة بعد العناء، وقد قضيت الواجب المفروض حق قضائه وأكثر. حرسك الله!
قال: شكرا لك يا سيدي الأميرال على هذه الكلمات الطيبة، ولكنني لست بحاجة إلى الراحة.
قال: أطلعني على ما تروم. فما حاجتك؟
أجاب: حاجتي حملة جديدة، وحاجتي روح رجل أختطفها.
قال: أما الحملة الجديدة فليس هذا وقتها؛ لأن نورماندي قد سلمت إلينا قيادها، وأنا أنتظر حلول فصل الربيع لمباشرة القتال.
فلبث بلترو هنيهة وهو صامت، ثم نظر إلى الأميرال نظرة مرعبة، وقال له: أين مقر الدوق دي جيز الآن؟
فأجابه: لماذا تروم معرفة مقره؟
قال: لأرقبه، أولست جاسوسا؟
فأطرق الأميرال قبل أن يتكلم، وأدرك أن بلترو يحاول أمرا يقدم عليه بجرأته العادية، فقال: إن الدوق يحاصر الآن مدينة أورليان.
قال: وهل تقوى تلك المدينة زمنا طويلا على احتمال الحصار؟
أجاب: كلا وا أسفاه، ويسوءني قرب سقوطها بين أيدي الكاثوليك. - ألست في حاجة إلى بعض إيضاحات عن الدوق؟ - كيف لا ؟ - لا جواد عندي لأسافر إلى أورليان، فهل لك في أن تهب لي جوادا؟
فحدق الأميرال في وجه بلترو، ومضى ففتح خزانة فأخرج منها بعض دنانير وأعطاه إياها، فقال: شكرا لك يا سيدي، والشيء بالشيء يذكر، فليس عندي غدارات أدفع بها عن نفسي؛ لأن غدارتي قد انفجرت عند الهجوم على بايو. فتناول الأميرال غدارته وسلمها إلى بلترو. فقال: أشكر لك هذه العطية أيضا يا مولاي، وسوف تتلقى أخبارا عن الدوق دي جيز بعد ثمانية أيام إذا بقيت حيا. تلفظ بهذه الجملة الأخيرة بلهجة جافية، فارتاع الأميرال، وأمسك يده وتفرس في وجهه، وقال: ما أراك ذاهبا إلى أورليان لمجرد التجسس والمراقبة؟
قال: لم هذا الكلام؟
قال: لأن ما حاجتك بغداراتي إذن؟ ولماذا تروم شراء جواد، إلا إذا كنت تبتغي قتل عدو؟
أجاب: ولكن ذلك لا يمنعني من التجسس.
قال: اعلم يا بلترو أنني لا أحب القتل والاغتيال، فأقسم لي على أنك لا تنوي بذهابك إلى أورليان قتل الدوق دي جيز. فمد بلترو يده، وقال: أقسم لك على أنني ذاهب إلى أورليان لمصلحة ديانتنا المقدسة وخيرها، ومضى، وقد غادر الأميرال كثير التفكير. •••
أجل، فقد كان الدوق دي جيز يحاصر مدينة أورليان، وقد استولى على سوق من أسواقها، ولبث فيه يهدد البروتستانتيين.
وأرسلت إليه الملكة الوالدة كتبا متوالية توسلت فيها إليه ألا يفتح المدينة بالهجوم. إلا أن الدوق كان يتوق إلى نهو أمر تلك المدينة التي كانت تعد عاصمة للبروتستانت، فأجاب الملكة بقوله: إن مجلس الملك، عندما نشبت معركة درو بيني وبين أمير كوندة، قد فوض إلى قواد الجيش العمل بما يرونه ملائما لمصلحة البلاد، فأنا أعمل بتفويض مجلس الملك.
وقصد الدوق دي جيز «بمجلس الملك» جواب الملكة يوم استشارها في مقاتلة أمير كوندة، كما يذكر القراء.
ولم تستطع مدينة أورليان ثباتا طويلا؛ لعدم وجود مهمات الدفاع الكافية. فأنبأ الدوق ضباطه بأنه سيهجم عليها يوم 8ا فبراير (شباط) ثم قال لهم: «إن الملكة الوالدة تروم منا اللحاق بالمسيو دي شاتيليون إلى نورماندي، ولسوف نذهب بعد أن نستولي على أورليان.»
وفيما كان الدوق يستعد للهجوم وافاه أحد رجاله بالسيد بلترو دي ميرة، وقال له: إنه عرفه في عهد هنري الثاني، وهو الآن يرجو أن يسمح له باعتناق المذهب الكاثوليكي.
فرضي الدوق دي جيز أن يجعل بلترو بين حراسه اعتمادا على توسط أحد رجاله وكثرة إطرائه إياه، وكان تغيير المذاهب في ذلك العهد أمرا مألوفا. فلزم بلترو الدوق، وكان يرقبه ويرصد حركاته وسكناته، فلم ينقض زمن قصير حتى عرف عاداته. ولقد أراد قتله قبل أن تسقط أورليان في أيدي الكاثوليك.
وكان كل شيء مهيئا للهجوم. ففي مساء يوم 17 فبراير (شباط) تفقد الدوق طلائعه، وأوصى ضباطه بالتأهب للغد.
فعزم بلترو على قتل الدوق في تلك الليلة. فمر إلى الناحية الأخرى من النهر حيثما كان يسكن الدوق وزوجته، وبينما كان يبحث عن مكان صالح للاختباء صادف شريفا من حاشية الدوق، هو المسيو دي سرني، وقد أتى ليخبر الدوقة أن زوجها لاحق بها، ولكنه يتأخر عن موعده المعتاد. فقال له بلترو: إلا ما أنبأتني يا سيدي عما إذا كان الدوق يمر الليلة بالنهر؟
فأجابه دي سرني بسذاجة قال: بعد ساعة أو ساعتين. فلما غاب دي سرني ساق بلترو جواده إلى صف من شجر الجوز كان يمر الدوق بها عندما يقصد مسكنه. أما جواد بلترو فقد اشتراه بالدنانير التي أعطاه أيها الأميرال. ثم إنه صبر مستظلا بالأشجار، قابضا على غدارتيه وهما اللتان أخذهما من الأميرال، حتى أمسى المساء، وامتد ستر الظلام، وساد السكون على البرية، وكان المحاصرون والمحصورون ساهرين لا يأتون بحركة لئلا تنم على مقاصدهم.
هذا وبلترو يضطرم لجاجة ويرصد أقل حركة، وإذا به يسمع وقع حوافر جواد، وأقبل الدوق منحنيا على رقبة جواده مفكرا في الخطة التي يتخذها غدا للهجوم على أعدائه.
وإذا بطلقتين قد دوى صداهما، وأصيب الدوق في كتفه فارتمى على ظهر جواده وهو يغمغم قائلا: كان ينبغي أن أتوقع ذلك من أعدائي، ولكنني ما ظننتهم يجسرون! وحاول تجريد سيفه إلا أنه فقد قواه، فسار به جواده حتى مسكنه، وفيه تلقته زوجته الدوقة باكية.
ولقد بذل الأطباء جهدهم فلم يجد الطب والدواء، فمات الدوق بعد ستة أيام مستغفرا من زوجته بعدما أقر لها بأنه لم يكن على الدوام زوجا صادقا. ثم قال: إنه لم يكن يتمنى إلا أن يعيش بسلام مع جميع أعدائه، ولم يباشر قتالا إلا لمجرد خدمة ربه. واحتفلوا بجنازته احتفالا يندر مثله، ولبست عليه باريس ثياب الحداد أياما عديدة.
أما بلترو فإنه ركب جواده بعد أن فعل فعلته فسار به يوما كاملا في السهول والجبال. ثم رقد حتى الصباح عند طاحون، فهجم عليه هناك بعض الجنود وأوثقوه دون أن يبدي أقل معارضة، وساقوه إلى باريس حيث صدر الحكم عليه بالإعدام.
أما الكاثوليك، فقالوا: إنه من خدم الشيطان، وأما البروتستانت فشهدوا بأنه من أولياء الله، وذكروه في صلواتهم.
على أنه أعدم في ساحة «جريف»، وجرته الخيل على مرأى جمهور غفير من سكان باريس، كانوا يصفقون بأكفهم مبتهجين بعذابه وهلاكه الوحشي، ورفع الحصار عن أورليان ثاني يوم وفاة الدوق دي جيز.
خلاصة
واستتب الأمر للملكة الوالدة، فاطلقت أمير كوندة من الأسر، واستفكت مونمورانسي من البروتستانتيين، ولم يكن ذلك بالأمر العسير بعد موت الدوق دي جيز.
ثم إن كاترين عقدت صلحا في «أمبواز» في اليوم التاسع عشر من شهر مارس (آذار) سنة 1563، وأهم شرط من شروط ذلك الاتفاق: أن للبروتستانت أن يقيموا شعائر دينهم ومذهبهم في كل مدينة، إلا باريس.
وفي أثناء التوقيع على عقد الصلح أقام جاليو لصديقه الوفي ترولوس قبرا، ثم عكف على هوى حبيبته مرسلين أرملة المحامي أفنيل.
أما أستاذه برنابا فقد كد ذهنه في تصنيف سفر عن خمور فرنسا، ولا سيما الصادرة من أقطارها الجنوبية.
واستراح أمير كوندة من عناء الحروب، واهتم الأميرال صديقه بأن يوقع الأمير دي كوندة وكاترين على عقد الصلح في القريب العاجل، وكان بعض أعيان الكاثوليك قد اتهمه بأنه أشار على بلترو بقتل الدوق، فاحتج علانية على تلك التهمة الباطلة. أما الكردينال دي لورين، شقيق الدوق دي جيز ، فتولى إدارة شئون أسرته القديرة الكبيرة.
ثم إن جاليو طلب إلى مرسلين الاقتران به فامتنعت بحجة أن والدته قد تأبى، غير أن جاليو أخبر والدته أن مرسلين أنقذته من الموت، فقبلت، وأقيمت لزواجهما حفلة جمعت الكاثوليك والبروتستانت، فلما سار جاليو بعروسه، قال لها: وا حسرتاه على صديقي ترولوس، فلو كان حاضرا لتم سروري. فقالت مرسلين: تناس أيها الحبيب تلك الأوقات، وعسى ألا يسفك الفرنساويون دماء الفرنساويين بعد اليوم، إن الملكة كاترين تحب السلام، ولا شك أن السلام سيدوم زمنا طويلا. فقال جاليو: عسى أن يقدر الله ذلك، ويدوم السلام.
كان ما ذكرناه في سنة 1563، ولكن بعد تسعة أعوام، وكان شارل التاسع قد جلس على عرش آبائه، وقعت «مذبحة سن برتلماوس» وقد أمر بها الملك بعدما حرضته عليها والدته كاترين دي مدسيس وآل جيز في ليلة 24 أغسطس (آب) سنة 1572.
وتعد تلك المذبحة أشد النوازل التي نزلت بفرنسا، وقد دامت أياما، ذبح فيها جمهور غفير من الرجال والنساء والأولاد والأطفال، حتى تضرجت كل فرنسا بالدماء. ولم يكن من سبب في سفكها إلا التعصب الديني الذميم دون سواه، وذبح في باريس زعماء البروتستانت، ولم ينج أمير كوندة من تلك المذبحة إلا بإنكار مذهبه، وقتل فيها كوليني وغيره من الزعماء المشهورين.
وقامت يومئذ مجزرة في قصر اللوفر منذ الساعة الخامسة صباحا والبروتستانتيون نيام. فوجئوا مفاجأة وهم في مخادعهم، بعد ليلة قضوها مع الملك يشاطرونه فيها مسرة اللهو واللعب. فانتزعت منهم أسلحتهم، وحزت أعناقهم حزا كأنهم أغنام، وقيل: إن شارل التاسع كان ينظر إلى تقتيلهم من نافذة القصر، ومما لا شك فيه أن أولئك المساكين الذين قتلوا بسبب التعصب الوحشي كانوا أشجع رجال فرنسا وأحذق قوادها وزهرتها، ونخبة المصلحين فيها! ومات شارل التاسع ملك فرنسا سنة 1574 وهو يعض أصابعه حسرة وتندما على ما حصل.
فقاتل الله التعصب، إنه كان، وما برح، آفة كل إصلاح، وعدو كل صلاح وفلاح.
Unknown page