Shuhada Cilm Wa Ghurba
ذكرى شهداء العلم والغربة
Genres
وليس يخفى فضل العلم في إحياء الأمم وجعلها موضعا للاحترام والتبجيل، وقد وجهت الحرب الحديثة نظر المصريين إلى تلك المخترعات العلمية المدهشة والأساليب الفنية العجيبة التي أظهرها الغربيون، ومنها تلك الطائرات التي كانت تحلق في الأجواء وتروع الطير في السماء، والغائصات التي كانت تسبح في جوف الماء فتفر منها الأسماك، والمفرقعات التي كانت تخر منها الجبال، والمدافع الضخمة والدبابات التي كانت تأتي على الحصون، والتلغراف والتليفون اللاسلكي الذي أدهش العالم بنقله الأصوات، والكهرباء التي تضيء بمجرد إدارة زرها، وحاكي الصدى، والسيارات، وغير ذلك من مدهشات القرن العشرين. وقد عرف المصريون بذلك فضل العلم فالتمسوا حياتهم من طريقه، ووجهوا بأبنائهم لموارده الصافية. فهم إن طلبوه اليوم فإنما يطلبون ما كان ميزة لأجدادهم من قبل، وكل من سار على الدرب وصل. (1) الهجرة في سبيل العلم
قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «اطلبوا العلم ولو بالصين»، وقد حث بذلك على الجهاد والهجرة في سبيل العلم، ولم يكن في ذلك الوقت أبعد من الصين على طالبها، فكانت غاية مرحلة أهل الدنيا، وذلك لجلال العلم وتفرده بخلق حياة الأمم ورفع قيود الجهالة عنها.
وقد كانت المرأة المصرية فيما مضى من أيامنا الأخيرة جاهلة لا تعرف للعلم قيمة ولا معنى، فكانت تضن بفلذة كبدها على أن يحمل مشقة الهجرة في سبيل العلم ليعود إليها حيا بعد موته، وعالما بعد جهله، ونبيها بعد خموله، وقد كان يسرها أن يلبث بجانبها عالة على أهله وأمته من أن يرتحل عنها ليعود إليها عالما كبيرا. وكانت المرأة لها العذر في ذلك، لأن الظلام الذي كان مخيما على عقلها كان يحجب عنها نور الحياة، ولا تستطيع أن تصدر حكما على شيء لم تره بعينها. ومن نشأ في الظلام ألفه وأصبح لا يفرق بينه وبين النور، وحسبك بالخفاش مثلا.
أما اليوم فقد تنبهت المرأة وعرفت قيمة العلم، وملأ قلبها حب الوطن بفضل هذه النهضة الحديثة، فأصبحت تشارك الرجل في رأيه وجهاده وأمانيه القومية، وتبحث بنفسها وراء الطريقة التي توصلها إلى توجيه ولدها إلى الغرب ليتعلم ويعود فيكون رجلا نافعا لبلاده وأمته. وأصبحت ترى أكثر المصريات يعلمن أولادهن في المنازل، ويرضعنهم ثدي العلم والمعرفة، وينبهن قلوبهم الصغيرة، ويفتحن آذانهم لمعانيه الجميلة، ويوجهن بنفوسهم للهجرة في سبيله، ولذلك أخذت الأمة تصعد سلم الرقي ببركة تعليم المرأة، وبفضل معرفة الأمة قيمة العلم وأثره الجليل في حياة الشعوب ومنعتها.
والآن أصبح الرجل والمرأة سواء في سبيل تعليم الأبناء وتثقيف عقولهم، ليكونوا أساسا لتشييد مستقبل بلادهم وثمرة لذيذة تجنيها مصر من غرس يدها المباركة. وما دامت المرأة تعمل من ناحيتها والرجل يعمل من ناحيته، فلا تعجب إذا رأيت البلد تزدهر بشبابها والحياة تنمو بأرجائها، فإن البلاد جسم والشباب روحه، والعلم غذاء تلك الروح. (2) الجهاد العلمي
من دلائل نهضتنا الحديثة المباركة شغف الشبان بطلب العلم واهتمامهم بأمر مستقبلهم. والأمة التي تقدر شبيبتها العلم قدره وتجاهد في سبيله إنما هي أمة تشيد مستقبلها على أساس لا ينهار بناؤه.
ولقد أخذ الشباب المصري يهاجر من وطنه في الأيام الأخيرة مجاهدا في سبيل العلم، مستسهلا المصاعب، هازئا بالمتاعب، منبثا في أنحاء العالم، ضاربا بكل سهم في كل علم وفن وصناعة، مبرهنا على أهلية الأمة للحياة الحرة وعلى حبها للتقدم. وفي كل عاصمة من عواصم أوروبا وأمريكا وفي كل بلدة اشتهرت بشيء من العلم أو الصناعة أو الفنون تجد شابا مصريا مشمرا عن ساعد الجد منكبا على الدرس والتنقيب والبحث منصرفا بكليته للتحصيل، حتى تكاد تخاله جنديا في ميدان القتال ولا سلاح في يده غير القلم، ولا ذخيرة غير المداد والرغبة، ولا عدو غير الجهالة، ولا غاية غير العلم، والعلم باب لكل غاية شريفة، وعدة للحصول على كل أمل مفقود، والأمم التي لا تعرف قيمة العلم لا تعرف قيمة الحياة. ونصيحتي الخالصة لأمتي المحبوبة، أمة الأمس المجيد واليوم السعيد والغد المنشود، أن تجعل كل وجهتها في سبيل العلم وأن تجعل للصنائع المفقودة والفنون العالية نصيبا من جهادها العلمي، حتى تستكمل عدة نهوضها من كل ناحية فلا يشوبها نقص ولا يعتورها ضعف، وأن تجعل للآداب العالية والأخلاق الراقية نصيبا من العناية وحسن الالتفات، وأن يضاعف المجاهدون في سبيل العلم من شبابنا الحي الحريص على وقته جهودهم حتى لا تفوتهم ثانية من وقتهم الذهبي. وأما من لها واستكان إلى حظ نفسه فالأمة براء منه وحسبه الله في وقته الذي يضيع وزمنه الذي ينفق وعمره الذي يذهب سدى، ولله در أمية ابن الوردي حيث يقول:
حبك الأوطان عجز ظاهر
فاغترب تلق عن الأهل بدل
Unknown page