Shuhada Cilm Wa Ghurba
ذكرى شهداء العلم والغربة
Genres
والآن، الوداع الوداع يا من ملكت الأفئدة، وقد سدت سويداء الضمائر، الوداع أيها الشهم الصادق والصديق الحميم، الوداع الوداع إلى أن نلتقي. (11) ترجمة المرحوم رزق يعقوب (11-1) مولده
ولد الشاب الذكي شهيد الهمة المرحوم رزق يعقوب بمدينة دمياط في شهر أغسطس سنة 1896 ميلادية من أبوين كريمين، وكان والده موظفا بها، وكان شديد العناية بتربية أولاده وتهذيبهم. وما كاد الفقيد يبلغ الخامسة من عمره حتى أدخله مدرسة الأقباط فتلقى بها مبادئ القراءة والكتابة، ثم نقل والده إلى بور سعيد وهناك ابتدأ دور دراسة الفقيد.
المرحوم رزق أفندي يعقوب من دمياط. (11-2) دراسته
دخل الفقيد مدرسة الأقباط ببور سعيد ومكث بها عامين، ثم عاد والده فنقل إلى دمياط، وراقه أن يلحق الفقيد بمدرستها الأميرية ثم مدرسة أسوان فمدرسة عابدين الأميرية بالقاهرة حيث نال منها الشهادة الابتدائية. ولم تمنعه كثرة التنقل من مدرسة لأخرى من النشاط والتقدم فكان أول فرقته طول مدة دراسته.
انتهت دراسته الابتدائية فأدخله والده مدرسة رأس التين الثانوية، لأن مدارس القاهرة كانت قد غصت بالطلاب، فجد واجتهد مثابرا على الدرس ليل نهار لا يعرف للعب طريقا، فأمضى الأربع سنوات بلا توان ولا تأخير حتى البكالوريا، ولكن المرض حال دون مرامه في السنة الأخيرة فعاقه عن الامتحان، فانتقل إلى المدرسة الخديوية وأمضى بها السنة الأخيرة وحاز منها شهادة البكالوريا في القسم العلمي عام 1917.
وبعد نجاحه وجه نظره لدراسة الطب إلا أن ترتيبه لم يساعده فالتحق بمدرسة الطب البيطري فأمضى بها السنة الأولى والثانية، وبعدها قامت نهضتنا الأخيرة فكان جنديا باسلا وفي مقدمة الصفوف، بل وطنيا غيورا دفعه حب بلاده لأن يضحي بعلومه مقدما الواجب المقدس على العلم، فجاهد جهاد الأبطال في ميادين القتال، قدم نفسه للخدمة فكان خير من اؤتمن عليها، ولم يفتر عن هذا الواجب دقيقة واحدة، وتحول كل همه أن يرى مصر نالت استقلالها.
ولما فتحت أبواب السفر إلى أوروبا طلب من والده السفر مع إخوانه، مقنعا إياه بالفائدة العظمى التي يجنيها ليجمع بين طب الحيوان والإنسان حاثا إخوانه على الاقتداء به، وصوب أمله إلى تلقن الطب البشري ليخدم بلاده خدمة حقيقية بل الإنسانية جمعاء. إلا أن القدر كان يجري وراءه ويخبئ له ما لم يكن في الحسبان، فلاقى منيته وهو على أبواب الجهاد فاستشهد بأودين وفاضت روحه الزكية إلى بارئ النسمات، وغمض الموت أجفانه وأسكت صوته وأوقف قلبه الخفاق إلى العلا والأمل الواسع والحياة المنشودة قبل أن يخطو فيها خطوات واسعة، وقضى كما تقضي الوردة داخل الكمام قبل أن ترى ضوء النهار وحرارة الشمس بل ذوى هلالا في أيامه الأولى.
كان - رحمه الله - طيب القلب، شابا مملوءا صحة ونشاطا، وغيورا، محبا لإخوانه، كريم الأخلاق، متفانيا في حب بلاده، عالي الشعور رقيق الإحساس يتألم لمصائب الغير. وكفى أن نذكر له تلك الحادثة التي رفعته في نظر إخوانه إلى السماك الأعلى، ففي يوم حضور قرياقص أفندي ميخائيل قبض على أخيه متري أفندي وشاب آخر في القاهرة يدعى أحمد أفندي صبري، فحكمت المحكمة العسكرية بحبسه شهرا أو بغرامة عشرة جنيهات، فأبت عليه نفسه أن يرى أخاه حرا طليقا وذاك سجينا متألما لخلو يده من المال، فقام بين إخوانه حاثا إياهم على التبرع وقد توج الاكتتاب بكل ما يملك ومر على دور الحكومة جامعا من أولي الإحسان ما تجود به أنفسهم، وفي أيام قلائل جمع المال اللازم وأخرج الشاب من السجن، وكان لم يكن له به أدنى معرفة سوى أنه وطني مثله.
فيحزننا أيها الصديق المحبوب والراحل الكريم أن نذكرك اليوم باكين متأسفين، وإننا بفقدك فقدنا قمرا كنا نود أن نستعين به على عبور هذه الأيام المظلمة ودرعا ندافع بها إذا حلت المصائب. وليكن في موتك أيها الصديق مثالا حيا على الجهاد والعمل وقوة العزيمة والدأب وراء إعلاء شأن هذه الأمة الأسيفة، التي كتب عليها سوء الطالع أن ترى في كل يوم من معاكسة الدهر حادثا جديدا.
فإذا حق لنا البكاء فإننا نبكي منك النجابة والفتوة، نبكي فيك ذلك الإقدام الذي صوبك نحو طلب العلم وبلوغ الكمال، ونندب فيك كد نفسك وطموحها إلى المجد الأدبي غير مبال بما قد يعرض لك، ونبكي فيك الأخلاق والشعور الحي والفضيلة وكرم الأخلاق.
Unknown page