Shuhada Cilm Wa Ghurba
ذكرى شهداء العلم والغربة
Genres
بين تلك الآمال الواسعة وأحلام الشباب الجميلة حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد وقفت حركة القاطرة عند الساعة السابعة وهي تصعد مرتفعا من الجبل لتجتاز معبرا، ثم ارتجت رجة عنيفة انقبضت لها النفوس، ووقفت القلوب في الحناجر، وما هي إلا دقيقة حتى كان القضاء قد نفذ الإرادة الأزلية، ووقعت الفاجعة الأليمة، فسقطت الأمتعة التي كانت مكدسة فوق أرفف المركبة على رءوس الطلبة وأكتافهم وهشمت عظامهم ورضت أجسامهم الغضة وأذهلتهم حتى عن أنفسهم، وانطبقت جدران المركبة وخر سقفها، فأخذوا يستنجدون وما من منجد. وما كان آلم للنفوس من أب صحب ابنه في تلك الرحلة وقد حال القضاء بينهما، ولكن الأب استطاع وهو يجود بنفسه الأخير أن يخاطب ولده «عبد الحميد العبد» مشجعا ببضع كليمات شدت عزمه وفتحت له منفذا إلى الحياة، وقد ذهب «إبراهيم العبد» إلى رحمة ربه موقنا بسلامة ولده. وأخذ الطلبة يتبادلون كلمات التشجيع وأغمى على البعض وفاضت أرواح البعض، وكانت ساعة أشد هولا من سائر الساعات.
عند ذلك أقبل الناس فأخذوا يزيلون بقايا المركبة، ويخرجون الجثث التي كانت من ساعة مملوءة بالأمل والحياة، وهي بين ميت لا رجاء فيه وجريح يرجى شفاؤه، ومن سلم أكثر ممن أصيبت فيه مصر، وكان عدد المستشهدين اثني عشر طالبا، عوض الله مصر فيهم خيرا!
وقد كتب «عبد الحميد العبد »، أحد الذين قدرت لهم النجاة، يصف أسباب الفاجعة فقال: «كان قطارنا خارجا من نفق صعدا، يجتاز جسرا (كوبريا) على (نهر فيلا)، ولا بد له بعد اجتيازه من الدخول في نفق آخر، والمسافة تبعد نحو كيلو مترين من محطة (مونتبا)، فلم يكد القطار يعبر الجسر حتى صدم مركبتي بضاعة محملتين خشبا وكانتا قد انحدرتا من محطة (مونتبا) وخرجتا من النفق بقوة الانحدار. ولا تزال مسألة انحدارهما من المحطة سرا مجهولا، ويظنون أن لصوصا كانوا يحاولون سرقة ما فيهما من الخشب، والله أعلم. ولو حصل التصادم على الكوبري قبل أن تعبر القاطرة لما قوي على احتمال الصدمة، وكان انقلب وتدهور إلى أسفل الوادي، وارتفاع هذا الكوبري خمسون مترا. ومن غريب الصدف أن المركبتين السابقتين لمركبتنا لم تصابا بضرر يذكر، وأن المسافرين الذين كانوا فيهما نجوا من الموت، ومع أن مركبتنا جاءت بعدهما فقد كان نصيبها أن تتداعى جدرانها وينحط ما فيها على المسافرين، فيقضي على نصفهم تقريبا.»
هذا هو ملخص الفاجعة. ولا شك في أن مصاب مصر في هؤلاء الشهداء كان نكبة عظيمة، لأن الجهاد في سبيل العلم أفضل وأشرف من الجهاد في سبيل الحرب، ولأن الذي يجاهد في مقاومة عدو داخلي أعظم ممن يجاهد في مقاومة عدو خارجي، والجهل أشد فتكا بنفوس الأمم من كل عدو خارجي، ولا يمكن دفع العدو الخارجي إلا بمجاهدة العدو الداخلي أولا. ولذلك ما كادت تحمل الأسلاك البرقية خبر الفاجعة حتى عم الحزن وشاع الأسى، وانقلبت مسرة النفوس آلاما موجعة، وأخذ الناس يعزون بعضهم البعض، ولبس الشباب شارات الحداد. وسنأتي على وصف ما قامت به الأمة الإيطالية المجيدة من العطف والمواساة التي تذكرها لها مصر أبد الدهر. (5) مناجاة الشهداء
للأمم الناهضة كما للأفراد مفاجآت من الألم تتخلل لذة الأمل، تنزلها بها الأيام لتختبر صدق عزيمة أبنائها وتقف على مبلغ إرادتهم، وما في طوقهم من الشجاعة الأدبية والقوة النفسية، ومقدار جلدهم على الصبر في مكافحة الحوادث الطارئة، وفي تلك التجربة يكون برهان الأمة على مكانتها من العلم والرقي وموضعها من الحياة والأخلاق.
وتنزل النكبة بالأمة فتهز أعصابها هزا عنيفا، تكاد تنفطر له المرائر جزعا، وتنشق له الأكباد هلعا، وتطير منه النفوس حسرة، وتمزق القلوب لوعة. ولكن الأمة الحية الناهضة الصادقة في جهادها لن يكون هذا مظهرها مهما اشتد الأمر، وإلا لكانت مثلا يضرب للضعف والوهن، وإنما تلقى المصائب بصبر وأناة يهونانها، وتعمل جهدها لتتخذ من النازلة قوة، ومن الفاجعة حياة، وتستمد منها ما يعينها على المضي في سبيلها بشجاعة وثبات بين إعجاب الأمم وإكبار الشعوب.
وقد قضت المشيئة الإلهية أن تصاب مصر في رهط من فلذات أكبادها وجماعة من طلاب الحياة لها، تستقبلهم وهي تحمل شارات الحداد، وقد ملأ الأسى نواحيها، وارتدى شبابها السواد، وانطلق الحزن الصامت فما وجد بسمة في ثغر إلا وأطفأ نورها، خشوعا لجلال الفاجعة وألمها، وهيبة للإرادة الإلهية التي قدرت لمصر أن تصاب، وأشفقت بها فألهمتها من الرزانة ما يكفل لها الصبر الجميل.
أي أبناءنا الشهداء
لقد رفعتم مكانتنا أحياء وأمواتا، وجعلتم الأمم تبادلنا عاطفة الإخاء، وأكسبتمونا مودتها.
إنكم ذهبتم تحملون باقات الآمال الناضرة فأذبلها القدر في أيديكم.
Unknown page