مقدمة
رفاعة رافع الطهطاوي
عبد الله نديم
محمود سامي البارودي
إسماعيل صبري
أحمد شوقي شاعر الوطنية الأكبر
حافظ إبراهيم شاعر النيل
خليل مطران شاعر الحرية
أحمد محرم
أحمد نسيم
أحمد الكاشف
محمد عبد المطلب
أحمد زكي أبو شادي
عبد الحليم المصري
عزيز فهمي شاعر الحرية والشباب
علي الغاياتي
مقدمة
رفاعة رافع الطهطاوي
عبد الله نديم
محمود سامي البارودي
إسماعيل صبري
أحمد شوقي شاعر الوطنية الأكبر
حافظ إبراهيم شاعر النيل
خليل مطران شاعر الحرية
أحمد محرم
أحمد نسيم
أحمد الكاشف
محمد عبد المطلب
أحمد زكي أبو شادي
عبد الحليم المصري
عزيز فهمي شاعر الحرية والشباب
علي الغاياتي
شعراء الوطنية
شعراء الوطنية
تأليف
عبد الرحمن الرافعي
مقدمة
عندما أرخت الحركة الوطنية في أدوارها المتعاقبة، تبينت مبلغرفاعة رافع الطهطاوي ما للشعر الوطني من أثر عميق في التمهيد لها وبعثها، وإذكاء الروح الوطنية في نفوس المواطنين، وتسجيل الحوادث الهامة في تاريخ مصر القومي، ومن يومئذ وأنا تواق إلى أن أخصص لشعراء الوطنية سفرا منفردا، يجمع معظم ما جادت به قرائحهم من الشعر الوطني، مع التعريف بشخصياتهم، وذكر المناسبات التي أنشئوا فيها قصائدهم الوطنية.
ولقد كنت أرجو أن أضمن ما أخرجته من سلسلة تاريخ الحركة الوطنية قصائد أولئك الشعراء، وعنيت فعلا بأن أقتبس بعضها في شتى المناسبات، ولكنني وجدت أن هذا الاقتباس لا يكفي للتنويه بفضلهم، وإبراز مبلغ مساهمتهم في غرس الشعور الوطني في نفوس الأجيال المتعاقبة، فواعدت نفسي أن أتفرغ يوما لإخراج كتاب خاص بهم وبأشعارهم الوطنية، وها أنا ذا أوفي بوعدي.
وإني لأشعر أني بإخراج هذا الكتاب، أؤدي واجبا نحو أولئك الشعراء ونحو الحركة الوطنية ذاتها؛ فالشعراء الذين استلهموا وحي الوطنية في قصائدهم، واهتزت لها مشاعرهم، واستجابوا إلى نداء الوطن في عالم الشعر والفن والخيال، وتجاوبوا مع الحركة الوطنية، وكانوا مرآة صادقة لعصرهم، ومصدر إلهام وتوجيه لمواطنيهم، وترجمانا لهم في آمالهم وآلامهم، وأحاسيسهم وأهدافهم؛ هؤلاء خليقون جميعا بتقدير الوطن وثنائه، وإن من أبسط علامات التقدير لهم أن تجمع قصائدهم في سجل واحد.
على أني لا أقصد تقديرا لهم فحسب، بل أقصد إلى تغذية الروح الوطنية بمدد من شعرهم وإلهامهم، وإذا كان مما تعمد إليه الأمم أن تغذي نفوس أبنائها بالأناشيد الوطنية، فأجدر بنا أن نشيع الشعر الوطني ونجعله في متناول المواطنين جميعا، رجالا ونساء، شيبا وشبانا، فكلنا في حاجة إلى أن نستذكر تلك القصائد الغر التي تملأ النفوس وطنية وإيمانا، وتغرس فيها فضائل الصدق والإخلاص والشجاعة والتفاني في أداء الواجب الوطني، فلعلها تدفعنا إلى السير دائما إلى الأمام، غير متوانين ولا متنابذين، مستمسكين بالمثل العليا في حياتنا القومية.
إن حياة هؤلاء الشعراء وقصائدهم الوطنية - إلى جانب أنها عماد للأدب وتاريخه - هي قطعة من تاريخ الحركة الوطنية وعنصر من عناصر بعثها وتطورها، ولا غرو فالشعر فرع من دوحة الأدب، والأدب الوطني له الأثر الذي لا ينكر في تكوين المواطن الصالح، والشعر بما يطبع في نفس الشاعر من التحليق في سماء الخيال، والتطلع إلى المثل العليا، يمهد للنهضات الوطنية ويبعثها ويغذيها؛ إذ يهيب بالأمة أن تتمسك بالحرية والكرامة، ويستحثها على النفور من الذل، وإباء الضيم، ويحبب إليها الثورة على الاستعمار والاستبداد، وشعراء الوطنية في مصر لهم في هذه الناحية فضل عميم؛ فكم ناصروا الحركة الوطنية في مختلف عهودها، وغذوها بقصائدهم وروائع شعرهم، وسجلوا حوادثها الهامة، وأشادوا بمفاخر الشعب، وأهابوا به أن ينهض ويستعيد مجده القديم، وكم استصرخوا الإنسانية أن تهب لنصرته، وتنتصف له من المظالم التي حاقت به، وإن كثيرا من روائع الأدب التي جادت بها قرائح أولئك الشعراء كانت معالم للحركة الوطنية، وكان الشباب يحفظها عن ظهر قلب، فتذكي في نفوسه روح الوطنية والإخلاص والإقدام والتضحية.
وكم من قصيدة أو بيت من الشعر قد حركت المشاعر في نفوس المواطنين وستحركها على الدوام، مهما تقادمت عليها الأعوام. ألست ترى إلى نشيد المارسلييز؟ كيف أنه رغم تقادم العهد على وضعه لا يزال يلهب شعور الفرنسيين ويثير في نفوسهم روح الجهاد والفداء، ويقدرون له قدسيته الفنية والوطنية.
ولعل في جمع عيون الشعر الوطني في كتاب واحد ما يبرز لنا فضل أولئك الشعراء في إمدادهم الروح الوطنية بغذاء معنوي يتجدد على تعاقب العهود والعصور، ولعلنا بذلك نكون أكثر عرفانا لفضلهم، وتقديرا لذكرياتهم، وما أجمل وفاء الأمم للمجاهدين السابقين من بنيها، في مختلف الميادين، ولا غرو فالحركة الوطنية ليست وليدة الجيل الحاضر، ولا هي وقف عليه، بل هي ثمرة الجهود المتواصلة التي يتوارثها المواطنون جيلا بعد جيل، وما أضعف الروح الوطنية إذا حدد مولدها بجيل واحد؛ لأنها بذلك تكون رخوة البناء، مقفرة المعالم، أما الوطنية الوطيدة الأساس، العالية الذرى، فهي التي تجمع بين مجد الماضي، وجهاد الحاضر، وأمل المستقبل.
إن في قيثارة الشعر سلوى للقلب، وغذاء للروح، وإنها لتوحي إلى النفوس أسمى معاني الإنسانية، وما أجمل هذه القيثارة حينما تغرد للناس ألحان الوطنية!
هذه المعاني والخواطر هي التي ألهمتني إخراج هذا الكتاب، وكم يطيب لي أن أنشر فيه صفحات لشعراء تكاد أحداث الزمان تنسينا شعرهم، بل تنسينا أسماء بعضهم، في حين أن فضلهم لا يصح أن ينسى، وآثارهم في بعث الوطنية لا تمحى، والأدب في حاجة إلى استذكار أشعارهم؛ فإنها حقا عماد الأدب الرفيع وكيانه، وهذه الأشعار هي في ذاتها سبيل لنشر الثقافة الوطنية بين أفراد الشعب في مختلف طبقاته.
من أين نبدأ؟
لقد ساءلت نفسي قبل أن أرسم خطوط الكتاب: من أين نبدأ تاريخ الشعر الوطني؟ أنبدؤه من يوم أن قرأنا قصائد شوقي وحافظ وسمعناها ووعيناها وكان لها صداها في إحياء مشاعرنا الوطنية؟ إننا إذ نحدد هذه البداية نكون قد اجتزأنا تاريخ الشعر الوطني، وأغفلنا مرحلة سبقت شوقي وحافظ، وهذا ما لا يقره الحق والإنصاف، ولا يرضاه شوقي وحافظ، على علو كعبهما وبلوغهما الذروة بين شعراء الوطنية.
فلنبحث إذن عن بداية سابقة على شوقي وحافظ.
إنني عندما أرخت مصطفى كامل بحثت في بداية الحركة الوطنية الحديثة، وتساءلت: هل تبدأ هذه الحركة بظهور مصطفى كامل فيكون تأريخه تأريخا لها؟ أم أن لها بداية سبقت ظهوره؟ وعلى أنني تلميذ لمصطفى كامل وكان تتلمذي له هو من البواعث على إخراجي لتاريخه ، كما نوهت إلى ذلك في مقدمة كتابي عنه، فإني قد وجدت من الإنصاف أن أبحث عن الأدوار التي تقدمت عصر مصطفى كامل؛ لأقف عند حد يصح اعتباره مبدأ الحركة القومية الحديثة. وانتهى بي البحث إلى أن بدايتها - في تاريخ مصر الحديث - ترجع إلى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر، وأن أول دور من أدوارها هو عصر المقاومة الأهلية التي اعترضت الحملة الفرنسية في مصر؛ ومن ثم تطورت الفكرة عندي من تأريخ لمصطفى كامل إلى تأريخ للحركة القومية، وعلى هذا الأساس أخرجت سلسلة هذا التاريخ.
وأراني في تأريخ الشعر الوطني أميل إلى سلوك هذا المنهج، فرجعت في بدايته إلى الماضي، ووجدت أن روح الوطنية - بمعناها الحديث - قد بدأت تدخل الشعر المصري، وتبعث فيه من حياتها وبهائها، وتضفي عليه من جمالها وجلالها منذ أوائل القرن التاسع عشر، وأول رائد لهذه النهضة هو رفاعة رافع الطهطاوي، فإلى هذا العهد يجب أن نرجع ظهور الشعر الوطني في مصر، وهكذا يبدو التقارب بين ظهور الحركة الوطنية وظهور الشعر الوطني في تاريخنا الحديث.
فلنبدأ إذن برفاعة رافع الطهطاوي، ولندرس تطور الشعر الوطني من بعده إلى وقتنا الحاضر.
ويطيب لي في صدد التنويه بشعراء الوطنية، أن أعتذر عما فاتني من تأريخهم، وأعوزني الحديث عنهم؛ فإني أقصد من شاعر الوطنية من تغلب عليه النزعة الوطنية في شعره، فإذا كان قد فاتني أن أتحدث عن بعض الشعراء الممتازين، فالأمر لا يعدو أن يكون رأيا تقديريا، وأن يكون شعرهم الوطني قد بدا لي مغمورا في بحر شعرهم الفياض، وهذا لا يغض بداهة من منزلتهم في عالم الشعر والأدب، وحسبي عذرا لي أن رأيي التقديري في تخير شعراء الوطنية كان نتيجة دراسات مستفيضة، عكفت عليها سنين عديدة، ولم أقتصر على ما وعته ذاكرتي من الشعر الوطني في مختلف المناسبات، ولا على دواوين الشعراء، بل ذهبت أستقصي الشعر الوطني في مجاميع الصحف والمجلات، عاما بعد عام، قرابة نصف قرن من الزمان، بحيث اكتملت لدي مجموعة من أشعار الوطنية، بعضها لم ينشر من قبل في كتاب أو ديوان، ومع ذلك فإذا نبهني القارئ الكريم إلى شاعر فاتني الحديث عنه، ضمن شعراء الوطنية، فإني على أتم الاستعداد لتدارك هذا النقص في الطبعة التالية من الكتاب؛ لأني أود حقا أن أستكمل أي نقص بدا مني في هذه الناحية، وليس أحب إلى نفسي من أن أسجل في كتابي كل قصيدة بل كل بيت من الشعر الوطني.
والله أسأل أن يكون في هذه الدراسة ما يعين على نشر الأدب الوطني وإذاعته وتعميمه بين المواطنين، والحمد لله أولا وأخيرا.
عبد الرحمن الرافعي
يونيو سنة 1954
رفاعة رافع الطهطاوي
1801-1873
مصري صميم، من أقصى الصعيد، نشأ نشأة عادية، من أبوين فقيرين، قرأ القرآن، وتلقى العلوم الدينية كما يتلقاها عامة طلبة العلم في عصره، ودخل الأزهر كما دخله غيره، وصار من علمائه كما صار الكثيرون، ولكنه بذ الأقران، وتفرد بالسبق عليهم، وتسامت شخصيته إلى عليا المراتب؛ ذلك أنه كان يحمل بين جنبيه نفسا عالية، وروحا متوثبة، وعزيمة ماضية، وذكاء حادا، وشغفا بالعلم، وإخلاصا للوطن وبنيه، تهيأت له أسباب الجد والنبوغ، فاستوفى علوم الأزهر في ذلك العصر، ثم صحب البعثة العلمية الأولى من بعثات محمد علي، وارتحل إلى معاهد العلم في باريس، واستروح نسيم الثقافة الأوروبية، فزادت معارفه، واتسعت مداركه، ونفذت بصيرته، لكنه احتفظ بشخصيته، واستمسك بدينه وقوميته؛ فأخذ من المدنية الغربية أحسنها، ورجع إلى وطنه كامل الثقافة، مهذب الفؤاد، ماضي العزيمة، صحيح العقيدة، سليم الوجدان، عاد وقد اعتزم خدمة مصر من طريق العلم والتعليم؛ فبر بوعده، ووفى بعهده، واضطلع بالنهضة العلمية تأليفا وترجمة، وتعليما وتربية، فملأ البلاد بمؤلفاته ومعرباته، وتخرج على يديه جيل من خيرة علماء مصر، وحمل مصباح العلم والعرفان يضيء به أرجاء البلاد، وينير به البصائر والأذهان، وظل يحمله نيفا وأربعين سنة، وانتهت إليه الزعامة العلمية والأدبية في عصر محمد علي، وامتدت زعامته إلى عهد إسماعيل، ذلك هو رفاعة رافع الطهطاوي.
1
ولد في طهطا بمديرية جرجا سنة 1801م/1216ه، وبدت عليه مخايل الذكاء والنباهة منذ صباه، ودخل الأزهر سنة 1817، ولم يمض عليه به بضع سنوات حتى صار من طبقة العلماء، وتولى التدريس فيه سنتين، وصنف وألف ودرس وهو في الحادية والعشرين من سنه، ثم عين واعظا وإماما في أحد آلايات الجيش المصري، ولما جاء عهد البعثات العلمية كان من حسن التوفيق أن اختاره محمد علي ضمن أعضاء البعثة الأولى التي سافرت إلى فرنسا سنة 1826؛ فجمع إلى ثقافته الأزهرية ثقافة أوروبا وعلومها وآدابها، فاقتبس منها الشيء الكثير، وازدهرت روحه الأدبية على ضوء الحضارة الغربية. ولما عاد إلى مصر سنة 1831 تولى عدة مناصب في التعليم، وأنشأ مدرسة الألسن سنة 1836، وكانت أشبه ما تكون بكلية الآداب والحقوق في مصر، وكان رفاعة يتولى نظارتها ويلقي فيها دروسه على الطلبة؛ فكانت أكبر معهد لنشر الثقافة في مصر، وتنقل في المناصب العلمية، وكان لا يفتأ يؤلف ويخرج من حين لآخر مصنفاته ومعرباته في العلوم والآداب إلى أن أدركته الوفاة سنة 1873.
2
وهو أول رائد لنهضة العلم والأدب في النصف الأول من القرن التاسع عشر، كان شاعرا رقيقا بالقياس إلى عصره، أشربت نفسه الوطنية منذ نعومة أظفاره، تلقاها من إيمانه الصادق (وحب الوطن من الإيمان)، ومن فطرته السليمة، وخلوص نيته. وقد استثار رحيله عن مصر إلى فرنسا عاطفته الوطنية العميقة المتأصلة في نفسه الحساسة؛ فجادت قريحته وهو في باريس بقصيدة عبر فيها عن الحنين إلى الوطن وأهله، والإشادة بمفاخره، قال في مطلعها:
ناح الحمام على غصون البان
فأباح شيمة مغرم ولهان
وانتقل إلى التغني بمصر وذكر محاسنها وقال:
هذا لعمري إن فيها سادة
قد زينوا بالحسن والإحسان
يا أيها الخافي عليك فخارها
فإليك أن الشاهد الحسنان
ولئن حلفت بأن مصر لجنة
وقطوفها للفائزين دوان
والنيل كوثرها الشهي شرابه
لأبر كل البر في أيماني
وله قصائد ومنظومات وطنية قالها في مناسبات مختلفة.
فانظر إلى القصيدة الآتية تجدها تعبر عما يجيش في نفسه من أكرم العواطف وأنبلها، وقد قدمها هو بقوله: «وقلت أيضا وطنية.» فالروح الوطنية تتمشى حتى في تقديمه لقصائده، قال:
يا صاح حب الوطن
حلية كل فطن •••
محبة الأوطان
من شعب الإيمان
في أفخر الأديان
آية كل مؤمن •••
مساقط الرءوس
تلذ للنفوس
تذهب كل بوس
عنا وكل حزن •••
ومصر أبهى مولد
لنا وأزهى محتد
ومربع ومعهد
للروح أو للبدن •••
شدت بها العزائم
نيطت بها التمائم
لطبعنا تلائم
في السر أو في العلن •••
مصر لها أياد
عليا على البلاد
وفخرها ينادي
ما المجد إلا ديدني •••
الكون من مصر اقتبس
نورا وما عنه احتبس
فخر قديم يؤثر
عن سادة وينشر
زهور مجد تنثر
منها العقول تجتني •••
دار نعيم زاهيه
ومعدن الرفاهيه
آمرة وناهيه
قدما لكل المدن •••
قوة مصر القاهره
على سواها ظاهره
وبالعمار زاهره
خصت بذكر حسن •••
أبناؤها رجال
لم يثنهم محال
وجندهم صنديد
وقلبه حديد
وخصمه طريد
بل مدرج في كفن
وقال من قصيدة أخرى يدعو إلى افتداء الوطن بالنفس والمال:
وعزيز الموطن نخدمه
برضا في النفس نحكمه
مال المصري كذا دمه
مبذول في شرف الوطن
تفديه العين بناظرها
والنفس بخير ذخائرها
تهدى في نيل نظائرها
بشرا العليا أعلى ثمن
وقال يصف الجيش المصري ويشيد بمفاخره:
ننظم جندنا نظما
عجيبا يعجز الفهما
بأسد ترعب الخصما
فمن يقوى يناضلنا؟ •••
رجال ما لها عدد
كمال نظامها العدد
حلاها الدرع والزرد
سنان الرمح عاملنا •••
وهل لخيولنا شبه
كرائم ما بها شبه
إليها الكل منتبه
وهل تخفى أصائلنا؟ •••
لنا في الجيش فرسان
لهم عند اللقا شان
وفي الهيجاء عنوان
تهيم به صواهلنا •••
فها الميدان و«الشقرا»
سقت أذن العدى وقرا
كأنا نرسل الصقرا
فمن يبغي يراسلنا •••
مدافعنا القضا فيها
وحكم الحتف في فيها «وأهونها وجافيها
تجود به معاملنا» •••
لنا في المدن تحصين
وتنظيم وتحسين
وتأييد وتمكين
منيعات معاقلنا
وهذه الأبيات لمن خير ما قيل في وصف الجيش المصري، ولا شك أن رفاعة قد استلهم شعره من مفاخر الجيش في عهده؛ فهو يصور العصر الذي عاش فيه تصويرا صحيحا، لا مبالغة فيه ولا إغراق، وإن قصيدته لتشبه أن تكون لوحة فنية يخيل لمن ينظر إليها أنه يلمح فيها كتائب الجيش المصري تسير إلى ميادين الحرب ، تحف بها أعلام النصر والظفر، تخوض غمار القتال، بقلوب ملؤها الشجاعة والإقدام، وتجابه الأخطار قوية الإيمان، ثابتة الجنان، مجهزة بالسلاح والمدافع «تجود به معاملنا». ولو لم يشهد رفاعة مفاخر الجيش المصري في ذلك العصر، لما جادت قريحته بهذا الشعر، وهكذا يتأثر الشاعر والأديب بالعصر الذي يعيش فيه، والبيئة التي تحيط به، ويصور الحياة على عهده، فكأنما هو قطعة من عصره، أو مرآة تنطبع فيها مشاهد الحياة السياسية والاجتماعية، ومظاهر الحالة الفكرية والأخلاقية.
وإنك لتلمح أيضا عظمة الجيش المصري من قول رفاعة في قصيدة أخرى يخاطب فيها الجنود:
يا أيها الجنود
والقادة الأسود
إن أمكم حسود
يعود هامي المدمع
فكم لكم حروب
بنصركم تئوب
لم تثنكم خطوب
ولا اقتحام معمع •••
وكم شهدتم من وغى
وكم هزمتم من بغى
فمن تعدى وطغى
على حماكم يصرع
وتتجلى روحه الوطنية المتطلعة إلى الحرية في تعريبه نشيد الحرية (المارسلييز)؛ فإن النفس لا تميل إلا إلى ما هو محبب إليها، فهذا النشيد قد استثار ولا شك إعجاب رفاعة رافع، حتى مالت نفسه إلى تعريبه، وإظهار ما احتواه من العواطف الوطنية الفدائية في حلة عربية قشيبة.
وإذا تأملت في شعر رفاعة رافع الذي نقلنا طرفا منه وجدت فيه تقدما نسبيا إذا قارنته بأسلوب شعراء المدرسة القديمة التي سبقته، كالشبراوي والعطار والخشاب وغيرهم، ويعد شعره دور الانتقال إلى دولة الشعر الحديثة التي حمل لواءها البارودي، وإسماعيل صبري، وشوقي، وحافظ.
حقا إننا إذا وضعناه إلى جانب شعر شوقي مثلا، لجاء في المرتبة الثالثة، أو الرابعة، ولكن يجب ألا ننسى أن رفاعة رافع نشأ في عصر كانت اللغة العربية وآدابها في دور تأخرها واضمحلالها، فله على نهضة الشعر والأدب فضل لا ينكر.
عبد الله نديم
1845-1896
ظل الشعر في مصر بعد وفاة رفاعة رافع الطهطاوي خلوا من المعاني الوطنية، إلى أن تجددت في شعر عبد الله نديم.
هو خطيب الثورة العرابية، وهو أيضا شاعرها، انطبعت في خطبه وقصائده روح الوطنية المتدفقة، وروح الثورة.
ولد سنة 1845 بالإسكندرية، وبدت عليه منذ صباه مخايل الذكاء اللامع، وظهرت مواهبه في الترسل في الكتابة والشعر والزجل، والقدرة الخطابية، مع خفة في الروح، وميل إلى الفكاهة، وجرأة وإقدام، واستخفاف بأحداث الزمان.
ولما ظهرت الثورة العرابية أوائل 1881، انضم إليها بطبعه؛ إذ كانت نفسه تتأجج وطنية، وتتطلع إلى الحرية والمجد، وتجلت مواهبه الخطابية، فصار خطيب الثورة العرابية.
ومما يذكر عنه في صدد الحديث عن شعره الوطني أنه لما سافر الألاي السوداني الذي كان يقوده الأميرالاي عبد العال حلمي أحد زعماء الثورة من القاهرة إلى دمياط، في أوائل أكتوبر سنة 1881، كان سفره يوما مشهودا، فاحتشدت الجموع في محطة العاصمة لتحية الألاي حين سفره، وكان من بين المودعين عرابي والبارودي وعبد الله نديم، فوقف النديم وسط هذا الجمع الحاشد وألقى خطبة حماسية فياضة، بدأها بقوله مخاطبا رجال الجيش:
حماة البلاد وفرسانها!
من قرأ التواريخ وعلم ما توالى على مصر من الحوادث والنوازل عرف مقدار ما وصلتم إليه من الشرف وما كتب لكم في صفحات التاريخ من الحسنات.
إلى أن قال: وهذا وطنكم العزيز أصبح يناديكم ويناجيكم ويقول:
إليكم يرد الأمر وهو عظيم
فإني بكم طول الزمان رحيم
إذا لم تكونوا للخطوب وللردى
فمن أين يأتي للديار نعيم؟
وإن الفتى إن لم ينازل زمانه
تأخر عنه صاحب وحميم
فردوا عنان الخيل نحو مخيم
تقلبه بين البيوت نسيم
وشدوا له الأطراف من كل وجهة
فمشدود أطراف الجهات قويم
إذا لم تكن سيفا فكن أرض وطأة
فليس لمغلول اليدين حريم
وختم خطبته بقوله: وأحسن ما يؤرخ به اسم الجهادية عند النوازل أن يقال: «مات شهيد الأوطان!» فنادى الجميع: «رضينا بالموت في حفظ الأوطان!»
ولما شبت الحرب العرابية لازم النديم عرابي في كفر الدوار ثم في التل الكبير، وكانت مجلته «الطائف»، تصدر في معسكر الجيش المصري.
وبعد أن وقعت الهزيمة، ظل مخلصا للثورة في محنتها، فبرهن على وفاء نادر ووطنية أصيلة عميقة، وكان ممن أمرت الحكومة باعتقالهم، وعجزت عن التعرف إلى مقره والقبض عليه، وظل مختفيا عن عيونها وجواسيسها نحو تسعة أعوام، وأعيا الحكومة أمره ، وجعلت ألف جنيه لمن يرشد عنه، ولكنها لم تهتد إليه.
وقد وصف ما لقيه من الشدائد أثناء اختفائه في قصيدة تفيض وطنية وإيمانا وفخرا وشجاعة، وهي من غرر قصائده. قال:
أتحسبنا إذا قلنا بلينا
بلينا أو يروم القلب لينا
نعم للمجد نقتحم الدواهي
فيحسب خامل أنا دهينا
تناوشنا فتقهرنا خطوب
ترى ليث العرين لها قرينا
سواء حربها والسلم إنا
أناس قبل هدنتها هدينا
إلى أن قال:
إذا ما الدهر صافانا مرضنا
فإن عدنا إلى خطب شفينا
لنا جلد على جلد يقينا
فإن زاد البلا زدنا يقينا
ألفنا كل مكروه تفدى
له فرسانه بالراجلينا
فأعيا الخطب ما يلقاه منا
ولكنا صحاح ما عيينا •••
سلينا يا خطوب فقد عرفنا
بأنا الصلب صلنا أو صلينا
وقري فوق عاتقنا وقولي:
نزلت اليوم أعلى طور سينا
علينا للعلا دين وضعنا
عليه الروح لا الدنيا رهينا
فهل يمسي رهين في سرور
وهل تلقى بلا كدر مدينا؟
إذا ما المجد نادانا أجبنا
فيظهر حين ينظرنا حنينا
يغنينا فيلهينا التغني
عن الباكي وينسينا الحزينا
ولسنا الساخطين إذا رزئنا
نعم يلقى القضا قلبا رزينا
فإنا في عداد الناس قوم
بما يرضى الإله لنا رضينا
إذا طاش الزمان بنا حلمنا
ولكنا نهينا أن نهينا
إلى أن قال:
سلوا عنا «منابرنا» فإنا
تركنا في منصتها فطينا
لحكمتنا تقول إذا هذرتم
ألا هبي بصحنك فاصبحينا
سرى فينا من الآباء سر
يسوق البر نحو المعوزينا
فإن عشنا منحنا سائلينا
وإن متنا نفحنا الزائرينا
وقال يصف إحاطة الجند بالمنزل الذي كان فيه يريدون اعتقاله فنجاه الله من شرهم:
أأنسى يوم مصر والبلايا
تطاردني ولا ألقى معينا
فكنت
1
الغوث في يوم كريه
أخاف الشهم والحبر السمينا
مدحنا فيه في إشراق شمس
فلما جاء مغربه هجينا!
وهل أنسى هجوم الجند عمرا
بلا علم وقد كنا فجينا
أحاطوا بي وسدوا كل باب
وصرنا بين أيدي الباحثينا
وكان السطح مملوءا بجند
وخلف البيت كم وضعوا كمينا
فأدركت الوحيد وكان صيدا
قريبا من فخاخ الطالبينا
وأرشدت النديم إلى مكان
رآه بعد حيرته مكينا
وأعمى الله عنا كل عين
وكنا للعساكر ناظرينا
وصرنا فوق سطح فيه علو
يحطم هاويا منه متينا
فلم أرهب وثوبي من طمار
ولم أنظر شمالا أو يمينا
ويوم الغيظ كنت لنا مجيرا
بسطوته من البلوى حمينا
فقد كنا بلا ستر يرانا
أمام العين كل القاصدينا
وكم سرنا بلا خوف جهارا
ركبنا الخيل أو جئنا السفينا
وإني الآن في خطب عظيم
أرى في طيه داء دفينا
أتانا مخبر عن قوم سوء
أرادوا وصفنا للحاكمينا
وخاف الضر أحبابي جميعا
وقالوا بالوشاية قد رمينا
فعجل بالرحيل بلا توان
ولا تخبر صديقا أو خدينا
فأدرك يا أبي نجلا دهاه
من الأهوال ما يوهي البدينا
فما خفت المنون ولا الأعادي
نعم خفت انشراح الشامتينا •••
فسرت الليل يصحبني ثبات
لخل نحو منزله دعينا
ورافقني خليل كان قبلا
يوافي حين كنا ظاهرينا
وأدركنا القطار بغير خوف
وكنا بالثياب منكرينا
وألقى الله ستر الحفظ فضلا
فلم ترنا عيون المبلسينا
وكان الخل منتظرا قدومي
بخيل أوصلتنا سالمينا «ونجى الله بعد اليأس عبدا
يرى الرحمن خير المنقذينا»
وإنك لترى هذا الشعر أقوى في الروح والأسلوب من شعره إبان الثورة، وهكذا يبدو أن الهزيمة لم تنل منه، بل زادته قوة وحيوية، وصلابة وبلاغة، وأن الشدائد صقلت مواهبه كما تصقل المعادن وتجلى جواهرها في لهب النار، فاحتفظ النديم في سني المحنة بما حباه الله من إيمان صادق، وعزم ثابت، وصمود على الأيام، وكذلك الشدائد والمحن، يختلف أثرها في نفوس الناس؛ فبينما تبعث اليأس والجزع في النفوس الضعيفة، نراها على العكس تزيد النفوس الكبيرة ثباتا وصبرا، وشجاعة وإيمانا، ومن هنا جاء شعر النديم بعد هزيمة الثورة أقوى منه في أوج انتصارها.
وفي الحق أن النديم هو الزعيم الوحيد بين الزعماء العرابيين الذي استمر في جهاده ضد الإنجليز ونضاله عن مصر في عهد الاحتلال، وتلك لعمري ميزة كبرى جديرة بأن تحيط اسمه بهالة من المجد والخلود، وقد اهتدت الحكومة إلى مكانه سنة 1891 وقررت نفيه إلى خارج القطر، وفي أوائل عهد الخديو عباس الثاني عفا عنه ورخص له بالعودة إلى مصر، فعاد إليها، وأنشأ مجلة «الأستاذ» سنة 1892، فتجلت فيها روحه الوطنية التي لم تضعفها الهزيمة ولم تنل منها الشدائد؛ مما أحفظ عليه الإنجليز وصنائعهم، فتدخل اللورد كرومر، وأمر بإبعاده من مصر ثانية، فاضطر إلى تعطيل صحيفته سنة 1893، وودع قراءه وداعا مؤثرا في آخر عدد صدر منها (في 13 يونيو سنة 1893) قال:
ما خلقت الرجال إلا لمصابرة الأهوال ومصادمة النوائب، والعاقل يتلذذ بما يراه في فصول تاريخه من العظمة والجلال، وإن كان المبدأ صعوبة وكدرا في أعين الواقفين عند الظواهر؛ وعلى هذا فإني أودع إخواني قائلا:
أودعكم والله يعلم أنني
أحب لقاكم والخلود إليكم
وما عن قلى كان الرحيل وإنما
دواع تبدت فالسلام عليكم!
وانتهى به المطاف في منفاه إلى الآستانة حيث توفي سنة 1896، وشيعت جنازته في احتفال مهيب مشى فيه كثير من العلماء والكبراء، يتقدمهم السيد جمال الدين الأفغاني، ودفن هناك.
بالأمس كان غريبا في ديارهم
واليوم صار غريب اللحد والكفن!
محمود سامي البارودي
1840-1904
محمود سامي البارودي هو إمام الشعراء المحدثين قاطبة، وباكورة الأعلام في دولة الشعر الحديث، وأول من نهض به وجارى في نظمه فحول الشعراء المتقدمين، فبعث النهضة الشعرية من مرقدها بعد طول الخمود.
ولد سنة 1840، وهو ابن حسن بك حسني من ضباط المدفعية في الجيش المصري، وحفيد عبد الله الجركسي أحد الكشاف في عهد محمد علي، وسمي البارودي نسبة إلى إيتاي البارود التي كان أحد أجداده الأمير مراد البارودي ملتزما لها في عهد الالتزام.
وقد تلقى العلم أول ما تلقاه على أيدي أساتذة خصوصيين في سراي والده بغيط العدة (القريبة من باب الخلق) والمعروفة بسراي البارودي، ولما بلغ الثانية عشرة من عمره انتظم في المدرسة الحربية، وتخرج منها سنة 1855، والتحق بخدمة الجيش المصري، وأخذ يترقى حتى بلغ رتبة أميرالاي، وخاض غمار الحروب في ثورة كريد سنة 1866؛ إذ كان ضابطا في الجيش الذي أنفذته مصر لإخماد تلك الثورة وانتصر على الثوار في مواقع عدة.
ولما شبت الحرب بين تركيا والروسيا سنة 1877 أنفذت مصر جيشا لنجدة تركيا كان البارودي من ضباطه، وأبلى في الحرب بلاء حسنا، وصقلت المعارك مواهبه الشعرية، ولما عاد إلى مصر رقي إلى رتبة اللواء، وعين مديرا للشرقية، وكان محافظا للعاصمة حين ألف شريف باشا وزارته الثانية سنة 1879 في أوائل عهد الخديو توفيق، فاختاره فيها وزيرا للمعارف والأوقاف، واشترك في حوادث الثورة العرابية، وكان من زعمائها المشار إليهم بالبنان، وتولى رئاسة وزارة الثورة سنة 1882، ثم كانت الهزيمة، ونفي مع زملائه إلى جزيرة سيلان (سرنديب)، وظل في منفاه نيفا وسبعة عشر عاما، وأسبغ عليه النفي سمات التضحية والبطولة.
1
الحنين إلى الوطن
كانت حياة زعماء الثورة العرابية في منفاهم حياة ألم وحزن؛ إذ انقطعت صلتهم بالناس، وطال اغترابهم عن أرض الوطن، وبعدت الشقة بينهم وبين أهليهم ومواطنيهم، ولم يكترث لهم أحد، ولم يعطف عليهم أحد (والناس مع الغالب)، وجادت قريحة البارودي بشعر مؤثر في الحنين إلى الوطن، والحزن على فراقه، مما يعد آية في البلاغة، وبلغت سليقته الشعرية في منفاه ذروة العظمة والجلال.
قال يصف الرحيل عن أرض الوطن:
محا البين ما أبقت عيون المها مني
فشبت ولم أقض اللبانة من سني
عناء ويأس واشتياق وغربة
ألا شد ما ألقاه في الدهر من غبن
إلى أن قال:
ولما وقفنا للوداع وأسبلت
مدامعنا فوق الترائب كالمزن
أهبت بصبري أن يعود فبزني
وناديت حلمي أن يثوب فلم يغن
وما هي إلا خطوة ثم أقلعت
بنا عن خطوط الحي أجنحة السفن
فكم مهجة من زفرة الشوق في لظى
وكم مقلة من غزرة الدمع في دجن
وما كنت جربت النوى قبل هذه
فلما دهتني كدت أقضي من الحزن
ولكنني راجعت حلمي وردني
إلى الحزم رأي لا يحوم على أفن
ولولا بنيات وشيب عواطل
لما قرعت نفسي على فائت سني
الصبر على الشدائد
وتجلت في منفاه صفاته العالية من الشمم، وعلو النفس، واحتمل آلام النفي بشجاعة وإباء، وصبر وإيمان، وله في ذلك شعر يفيض بهذه المعاني السامية.
قال وهو في سرنديب (سيلان):
لم أقترف زلة تقضي علي بما
أصبحت فيه فماذا الويل والحرب؟
فهل دفاعي عن ديني وعن وطني
ذنب أدان به ظلما وأغترب؟
فلا يظن بي الحساد مندمة
فإنني صابر في الله محتسب
أثريت مجدا فلم أعبأ بما سلبت
أيدي الحوادث مني فهو مكتسب
لا يخفض البؤس نفسا وهي عالية
ولا يشيد بذكر الخامل النشب
2
وقال مشيرا إلى مصادرة أملاكه:
يا ناصر الحق على الباطل
خذ لي بحقي من يدي ماطلي
أخرجني عما حوته يدي
من كسبي الحر بلا ناطل
3
من غير ما ذنب سوى منطق
ذي رونق كالصارم القاطل
4 «فإن أكن جردت من ثروتي
ففضل ربي حلية العاطل»
وقال من قصيدة أخرى في مقاومة الظلم والصمود في المحن والخطوب:
إذا المرء لم يدفع يد الجور إن سطت
عليه فلا يأسف إذا ضاع مجده
ومن ذل خوف الموت كانت حياته
أضر عليه من حمام يؤده
وأقتل داء رؤية العين ظالما
يسيء ويتلى في المحافل حمده
علام يعيش المرء في الدهر خاملا
أيفرح في الدنيا بيوم يعده؟
عفاء على الدنيا إذا المرء لم يعش
بها بطلا يحمي الحقيقة شده
وقال في هذا المعنى:
أمطري لؤلؤا جبال «سرندي
ب» وفيضي آبار «تكرور» تبرا
أنا إن عشت لست أعدم قوتا
وإذا مت لست أعدم قبرا
همتي همة الملوك ونفسي
نفس حر ترى المذلة كفرا
ومن قوله في الحنين إلى الوطن والصبر على الشدائد:
فيا دموع القطر سيلي دما
ويا بنات الأيك نوحي معي
وأنت يا نسمة «وادي» الغضا
مري برياك على مربعي
وأنت يا عصفورة المنحنى
بالله غني طربا واسجعي
وأنت يا عين إذا لم تفي
بذمة الدمع فلا تهجعي
أبيت أرعى النجم في سدفة
ضل بها الصبح فلم يطلع •••
فهل إلى الأشواق من غاية
أم هل إلى الأوطان من مرجع؟
لا تأس يا قلب على ما مضى
لا بد للمحنة من مقطع
يتمنى أن يرى مصر
وقال في منفاه يتمنى أن يرى مصر:
يا حبذا جرعة من ماء محنية
وضجعة فوق برد الرمل بالقاع
5
ونسمة كشميم الخلد قد حملت
ريا الأزاهر من ميث وأجراع
6
يا هل أراني بذاك الحي مجتمعا
بأهل ودي من قومي وأشياعي؟
وقال في هذا المعنى:
أبيت حزينا في «سرنديب» ساهرا
طوال الليالي والخليون هجد
إذا خطرت من نحو «حلوان» نسمة
نزت بين قلبي شعلة تتوقد
شباب وإخوان رزئت ودادهم
وكل امرئ في الدهر يشقى ويسعد!
ومن قصيدة له في هذا المعنى قالها في منفاه يتشوق إلى الوطن:
هل من طبيب لداء الحب أو راقي
يشفي عليلا أخا حزن وإيراق
7
قد كان أبقى الهوى من مهجتي رمقا
حتى جرى البين فاستولى على الباقي
وفيها يقول:
يا روضة النيل لا مستك بائقة
ولا عدتك سماء ذات إغداق
8
ولا برحت من الأوراق في حلل
من سندس عبقري الوشي براق
يا حبذا نسم من جوها عبق
يسري على جدول بالماء دفاق
مرعى جيادي ومأوى جيرتي وحمى
قومي ومنبت آدابي وأعراقي
أصبو إليها على بعد ويعجبني
أني أعيش بها في ثوب إملاق
وكيف أنسى ديارا قد تركت بها
أهلا كراما لهم ودي وإشفاقي •••
فيا بريد الصبا
9
بلغ ذوي رحمي
أني مقيم على عهدي وميثاقي
وأنت يا طائرا يبكي على فنن
نفسي فداؤك من ساق على ساق
أذكرتني ما مضى والشمل مجتمع
بمصر والحرب لم تنهض على ساق
وقال أيضا في منفاه:
ردوا علي الصبا من عصري الخالي
وهل يعود سواد اللمة البالي؟
ماض من العيش ما لاحت مخايله
في صفحة الفكر إلا هاج بلبالي
أدهى المصائب غدر قبله ثقة
وأقبح الظلم صد بعد إقبال •••
لا عيب في سوى حرية ملكت
أعنتي عن قبول الذل بالمال
قلبي سليم ونفسي حرة ويدي
مأمونة ولساني غير ختال
بلوت دهري فما أحمدت سيرته
في سابق من لياليه ولا تالي
حلبت شطريه من يسر ومعسرة
وذقت طعميه من خصب وإمحال
لم يبق لي أرب في الدهر أطلبه
إلا صحابة حر صادق الخال
وأين أدرك ما أبغيه من وطر
والصدق في الدهر أعيا كل محتال؟ •••
لا في «سرنديب» لي إلف أجاذبه
فضل الحديث ولا خل فيرعى لي
أبيت منفردا في رأس شاهقة
مثل القطامي فوق المربأ العالي
إذا تلفت لم أبصر سوى صور
في الذهن يرسمها نقاش آمالي •••
علام أجزع والأيام تشهد لي
بصدق ما كان من وسمي وإغفالي
راجعت فهرس آثاري فما لمحت
بصيرتي فيه ما يزري بأعمالي
فكيف ينكر قومي فضل بادرتي
وقد سرت حكمي فيهم وأمثالي
أنا ابن قولي وحسبي في الفخار به
وإن غدوت كريم العم والخال
ولي من الشعر آيات مفصلة
تلوح في وجنة الأيام كالخال
ينسى لها الفاقد المحزون لوعته
ويهتدي بسناها كل قوال
فانظر لقولي تجد نفسي مصورة
في صفحتيه فقولي خط تمثالي
ولا تغرنك في الدنيا مشاكلة
بين الأنام فليس النبع كالصال
إن ابن آدم لولا عقله شبح
مركب من عظام ذات أوصال
ومن قصيدة له يتشوق إلى مصر:
خليلي هذا الشوق لا شك قاتلي
فميلا إلى «المقياس» إن خفتما فقدي
ففي ذلك «الوادي» الذي أنبت الهوى
شفائي من سقمي وبرئي من وجدي
وقال في هذا المعنى:
طال شوقي إلى الديار ولكن
أين من «مصر» من أقام «بكندى»
10
حبذا «النيل» حين يجري فيبدي
رونق السيف واهتزاز الفرند
تنثني الغصون في حافتيه
كالعذارى يسحبن وشي الفرند
قلدتها يد الغمام عقودا
هي أبهى من كل عقد وبند
كيف لا تهتف الحمام عليه
وهي تسقي به سلافة قند
كلما صورته نفسي لعيني
قدح الشوق في الفؤاد بزند
الحنين إلى الأهل والولد
وقال في منفاه وقد رأى في المنام ابنته الوسطى:
تأوب
11
طيف من «سميرة» زائر
وما الطيف إلا ما تريه الخواطر
طوى سدفة
12
الظلماء والليل ضارب
بأرواقه والنجم بالأفق حائر
فيا لك من طيف ألم ودونه
محيط من البحر الجنوبي زاخر
تخطى إلي الأرض وجدا وما له
سوى نزوات الشوق حاد وزاجر
ألم ولم يلبث وسار وليته
أقام ولو طالت علي الدياجر
تحمل أهوال الظلام مخاطرا
وعهدي بمن جادت به لا تخاطر «خماسية»
13
لم تدر ما الليل والسرى
ولم تنحسر عن صفحتيها الستائر
فيا بعد ما بيني وبين أحبتي
ويا قرب ما التفت عليه الضمائر!
ولولا أماني النفس وهي حياتها
لما طار لي فوق البسيطة طائر «فإن تكن الأيام فرقن بيننا
فكل امرئ يوما إلى الله صائر»
إلى أن قال:
فلا يشمت الأعداء بي فلربما
وصلت لما أرجوه مما أحاذر
فقد يستقيم الأمر بعد اعوجاجه
وتنهض بالمرء الجدود العواثر
ولي أمل في الله تحيا به المنى
ويشرق وجه الظن والخطب كاشر «إذا المرء لم يركن إلى الله في الذي
يحاذره من دهره فهو خاسر»
وإن هو لم يصبر على ما أصابه
فليس له في معرض الحق ناصر
ومن لم يذق حلو الزمان ومره
فما هو إلا طائش اللب نافر
علي طلاب العز من مستقره
ولا ذنب لي إن عارضتني المقادر
إلى أن قال:
فإن كنت قد أصبحت فل
14
رزية
تقاسمها في الأهل باد وحاضر
فكم بطل فل الزمان شباته
وكم سيد دارت عليه الدوائر
فسوف يبين الحق يوما لناظر
وتنزو
15
بعوراء الحقود السرائر «وما هي إلا غمرة ثم تنجلي
غيابتها والله من شاء ناصر»
فقد حاطني في ظلمة الحبس بعدما
ترامت بأفلاذ القلوب الحناجر •••
فهملا بني الدنيا علينا فإننا
إلى غاية تنفت فيها المرائر
تطول بها الأنفاس بهرا
16
وتلتوي
على فلكة الساقين فيها المآزر
هنالك يعلو الحق والحق واضح
ويسفل كعب الزور والزور عاثر
وعما قليل ينتهي الأمر كله
فما أول إلا ويتلوه آخر
يشيد بعظمة الأهرام
قال يصف «الأهرام» ويشيد بعظمتها:
سل «الجيزة» الفيحاء عن «هرمي» مصر
لعلك تدري غيب ما لم تكن تدري
بناءان ردا صولة الدهر عنهما
ومن عجب أن يغلبا صولة الدهر
أقاما على رغم الخطوب ليشهدا
لبانيهما بين البرية بالفخر
فكم أمم في الدهر بادت وأعصر
خلت وهما أعجوبة العين والفكر
تلوح لآثار العقول عليهما
أساطير لا تنفك تتلى إلى الحشر
رموز لو استطلعت مكنون سرها
لأبصرت مجموع الخلائق في سطر
فما من بناء كان أو هو كائن
يدانيهما عند التأمل والخبر
وختمها بقوله:
فيا نسمات الفجر أدي تحيتي
إلى ذلك البرج المطل على النهر
ويا لمعات البرق إن جزت بالحمى
فصوبي عليها بالنثار من القطر
عليها سلام من فؤاد متيم
بها لا بربات القلائد والشذر
17
ولا برحت في الدهر وهي خوالد
خلود الدراري والأوابد من شعري
شعر القتال
ومن قصيدة له في وصف إحدى المعارك التي خاضها، ويبدو منها مبلغ شجاعته وصبره على أهوال القتال:
ولما تداعى القوم واشتبك القنا
ودارت كما تهوى على قطبها الحرب
وزين للناس الفرار من الردى
وماجت صدور الخيل والتهب الضرب
ودارت بنا الأرض الفضاء كأننا
سقينا بكأس لا يفيق لها شرب
صبرت لها حتى تجلت سماؤها
وإني صبور إن ألم بي الخطب
الفساد في عهد إسماعيل
وقال من قصيدة يصف سوء الحكم وظلم الحكام في عهد إسماعيل، وينصح قومه بالمطالبة بحقوقهم والمبادرة بإصلاح شئونهم قبل أن تسوء العقبى، وهي من شعره السياسي الوطني الرائع:
قامت به من رجال السوء طائفة
أدهى على النفس من بؤس على ثكل
من كل وغد يكاد الدست يدفعه
بغضا ويلفظه الديوان من ملل
ذلت بهم مصر بعد العز واضطربت
قواعد الملك حتى ظل في خلل
إلى أن قال:
فبادروا الأمر قبل الغوث وانتزعوا
شكالة الريث فالدنيا مع العجل
وطالبوا بحقوق أصبحت غرضا
لكل منتزع سهما ومختتل
حتى تعود سماء الأمن ضاحية
ويرفل العدل في ضاف من الحلل
الجيش والدستور
وقال في أوائل عهد الخديو توفيق يدعو إلى الشورى وتقوية الجيش:
أمران ما اجتمعا لقائد أمة
إلا جنى بهما ثمار السؤدد «جمع» يكون الأمر فيما بينهم «شورى» وجند للعدو بمرصد
يندد بالدسائس
وقال من قصيدة يشكو فيها من الدسائس التي كانت تحاك حوله:
نقموا علي حميتي فتألبوا
حزبا علي وأجمعوا ما أجمعوا
وسعوا بفريتهم فلما صادفوا
سمعا يميل إلى الملام توسعوا
لا عيب في سوى حمية ماجد
والسيف يغلبه المضاء فيقطع
يحث على الاعتدال، ويستنكر الذل
قال في هذا المعنى:
إذا شئت أن تحيا سعيدا فلا تكن
لدودا ولا تدفع يد اللين بالقسر
ولا تحتقر ذا فاقة فلربما
لقيت به شهما يبر على المثري
فرب فقير يملأ القلب حكمة
ورب غني لا يريش ولا يبري
18
وكن وسطا لا مشرئبا إلى السها
ولا قانعا يبغي التزلف للصفر
19
فأحمد أخلاق الفتى ما تكافأت
بمنزلة بين التواضع والكبر
ولا تعترف بالذل في طلب الغنى
فإن الغنى في الذل شر من الفقر
العودة إلى الوطن
وقد عاد إلى الوطن سنة 1900 بعد أن فقد نور عينيه في منفاه، فاستقبل مصر بقصيدته التي مطلعها:
أبابل مرأى العين أم هذه مصر
فإني أرى فيها عيونا هي السحر؟
فإن يك موسى أبطل السحر مرة
فذلك عصر المعجزات وذا عصر
إلى أن قال:
وإني امرؤ تأبى لي الضيم صولة
مواقعها في كل معترك حمر
أبي على الحدثان لا يستفزني
عظيم ولا يأوي إلى ساحتي ذعر
عبرة الحوادث
ومن قصيدة له قالها بعد عودته من المنفى تفيض توجعا لحالة البلاد بعد أن جثم الاحتلال على صدرها، وقد تذكر عندما مر بقصر الجزيرة أيام إسماعيل حين كان في أوج سلطانه، وما انتهى إليه أمره من خلع وخسران، وتذكر أخطاءه التي كان لها أثرها في التمهيد للاحتلال، فلم يترحم على عهده، ونظم هذه القصيدة معتبرا ومذكرا، وهي من آيات الشعر في العظة والاعتبار، قال:
هل بالحمى عن سرير الملك من يزع؟
هيهات قد ذهب المتبوع والتبع!
هذي «الجزيرة» فانظر هل ترى أحدا
ينأى به الخوف أو يدنو به الطمع؟
أضحت خلاء وكانت قبل منزلة
للملك منها لوفد العز مرتبع
فلا مجيب يرد القول عن نبأ
ولا سميع إذا ناديت يستمع
كانت منازل أملاك إذا صدعوا
بالأمر كادت قلوب الناس تنصدع
عاثوا بها حقبة حتى إذا نهضت
طير الحوادث من أوكارها وقعوا
لو أنهم علموا مقدار ما فغرت
يد الحوادث ما شادوا ولا رفعوا
دارت عليهم رحا الأيام فانشعبوا
أيدي سبا وتخلت عنهم الشيع
كانت لهم عصب يستدفعون بها
كيد العدو فما ضروا ولا نفعوا •••
أين المعاقل بل أين الجحافل بل
أين المناصل والخطية الشرع؟
لا شيء يدفع كيد الدهر إن عصفت
أحداثه أو يقي من شر ما يقع «زالوا فما بكت الدنيا لفرقتهم
ولا تعطلت الأعياد والجمع»
والدهر كالبحر لا ينفك ذا كدر
وإنما صفوه بين الورى لمع
لو كان للمرء فكر في عواقبه
ما شاب أخلاقه حرص ولا طمع
وكيف يدرك ما في الغيب من حدث
من لم يزل بغرور العيش ينخدع
دهر يغر وآمال تسر وأع
مار تمر وأيام لها خدع
يسعى الفتى لأمور قد تضر به
وليس يعلم ما يأتي وما يدع •••
يا أيها السادر المزور من صلف
مهلا فإنك بالأيام منخدع
دع ما يريب وخذ فيما خلقت له
لعل قلبك بالإيمان ينتفع
إن الحياة لثوب سوف تخلعه
وكل ثوب إذا ما رث ينخلع
وظل البارودي بعد عودته من المنفى في عزلة عن الناس، لا يجتمع إلا بالصفوة المختارة من الأدباء والحافظين لعهده، إلى أن كانت وفاته سنة 1904، فخلف مجدا لا يبلى على الزمان.
إسماعيل صبري
1854-1923
شاعر بطبعه وسليقته، وطني بفطرته وحسن سريرته، أدرك عهد الاحتلال في إبان قوته وسطوته، فتحركت شاعريته، تجاهد الاستعمار، وتمجد معاني الوطنية، وتخلدها في قصائد غر تشبه أن تكون تغاريد من نبع القلب الصافي وفيض الإحساس المرهف والذوق الرفيع.
كان شاعرا رقيقا مجيدا، عميق الوجدان، مقلا في شعره، محتاطا في نشر ما تجود به قريحته، كان علما من أعلام الطبقة الأولى من شعراء العصر الحديث، وثانيهم بعد البارودي.
ولد سنة 1854 بمدينة القاهرة، والتحق بمدرسة المبتديان سنة 1866، ثم بمدرستي التجهيزية والإدارة (الحقوق)، وأتم دراسته بمصر سنة 1874، ثم ألحق بالبعثة المصرية إلى فرنسا، ونال شهادة الليسانس في الحقوق من كلية «إكس» سنة 1878، ولما عاد إلى مصر التحق بالمناصب القضائية حتى عين وكيلا لوزارة الحقانية (العدل) سنة 1899، واعتزل الخدمة في سنة 1907.
ظهرت مواهبه الشعرية منذ نعومة أظفاره، وظلت تنمو وتزدهر طول حياته، وكانت شاعريته ووطنيته عنوان مجده وموضع فخاره.
كان معاصروه يلقبونه «شيخ الشعراء»، واعترف له بذلك زملاؤه شوقي وحافظ ومطران وعبد المطلب ونسيم وغيرهم، وإنك لتلمح تقدير شوقي لزعامته من قوله في رثائه:
أيام أمرح في غبارك ناشئا
نهج المهار على غبار خصاف
1
أتعلم الغايات كيف ترام في
مضمار فضل أو مجال قواف
ومن قول حافظ في رثائه أيضا:
لقد كنت أغشاه في داره
وناديه فيها زها وازدهر
وأعرض شعري على مسمع
لطيف يحس نبو الوتر
تتجلى في شعره القومي روح الحب الخالص للوطن، والشجو الحزين على مآسيه، والاستمساك بالعزة والكرامة، والشمم والإباء، ولقد عبر بأرق القصائد عن شعور مواطنيه، وترجم عن آمالهم وآلامهم.
كانت وطنيته عميقة الجذور، عاش حياته لم يزر إنجليزيا قط، ولم يذهب يوما إلى الوكالة البريطانية، في حين أنها كانت مع الأسف مقصد الكبراء والعظماء في ذلك العهد، وطالما استماله اللورد كرومر إلى زيارته ليكسبه إلى صف المناصرين للاحتلال، فاستعصم وأبى، ولما قيل له لعلك لو فعلت كنت اليوم رئيسا للوزارة، قال: وماذا تفيدني رئاسة الوزارة غير إغضاب ضميري وإرضاء ذوي المطامع وأصدقاء الجاه؟
2
كان صديقا صدوقا للزعيم مصطفى كامل، أيده في جهاده منذ الساعة الأولى، ولم يكن يكتم مناصرته إياه في أي منصب تولاه.
كان محافظا للإسكندرية سنة 1896-1899، وأراد مصطفى كامل أن يلقي بها خطبة من خطبه الوطنية الكبرى، فأوعزت إليه الحكومة أن يمنع إقامة الاجتماع الذي أعد لإلقاء الخطبة، بحجة المحافظة على الأمن والنظام، فأبى صبري على الحكومة ما أرادت، ورخص بإقامة الاجتماع، وصارح الحكومة بأنه مسئول عن الأمن والنظام، وألقى مصطفى كامل خطبته.
ولما عين وكيلا لوزارة الحقانية (العدل) في نوفمبر سنة 1899 ظل على مودته لمصطفى، وكان في غالب الأيام يخرج من الوزارة ويعرج بدار اللواء المقابلة لها ليزور صاحب اللواء ويقضي معه الوقت الطويل، ولم يمنعه منصبه من المجاهرة بصداقته له ومناصرته إياه في الوقت الذي كان الكبراء من الموظفين وغيرهم يخشون عواقب الاتصال به، وإلى ذلك يشير شوقي في رثائه لإسماعيل صبري إذ يقول:
ويح الشباب وقد تخطر بينهم
هل متعوا بتمسح وطواف؟
لو عاش قدوتهم ورب «لوائهم»
نكس «اللواء» لثابت وقاف
فلكم سقاه الود حين وداده
جرب لأهل الحكم والأشراف
دعوته إلى الدستور
وإنك لتجد في شعر إسماعيل صبري انسجاما مع سياسة مصطفى كامل، وتمجيدا للوطنية، ومناصرة للأمة في جهادها للحرية والاستقلال.
قال في قصيدة وجهها إلى الخديو عباس حلمي الثاني يوم عيد جلوسه سنة 1908 يدعو إلى الدستور:
سدد سهام الرأي ب «الشورى» يحط
بك منه في ظلم الحوادث فيلق
واسبق به واضرب به وافتح به
ما شئت من باب أمامك يغلق
حادثة دنشواي
وقال فيها يصور حادثة دنشواي، ويصف فظائع الإنجليز فيها، والعفو الذي أصدره الخديو عن مسجونيها:
وأقلت عثرة قرية حكم الهوى
في أهلها وقضى قضاء أخرق
إن أن فيها بائس مما به
أو رن جاوبه هناك مطوق
3
وارحمتا لجناتهم ماذا جنوا؟
وقضاتهم
4
ما عاقهم أن يتقوا؟
ما زال يقذي كل عين ما رأوا
فيها ويؤذي كل سمع ما لقوا
حتى حكمت فجاء حكمك آية
للناس طي صحيفة تتألق
نزلت ترفرف حول كاتب نصها
زمرا ملائكة الرضا وتحلق
شكرتك مصر على سلامة بعضها
شكرا يغرب في الورى ويشرق
ذكرت لك الصفح الجميل ولم تزل
ترمي إلى أمر أجل وترمق
5
قانون «دنشاواي» ذاك صحيفة
تتلى فترتاع القلوب وتخفق
هل يرتجى صفو ويهدأ خاطر
والموت حول نصوصها يترقرق؟
ومضاجع القوم النيام أواهل
بمعذب يردى وآخر يرهق
لن تبلغ الجرحى شفاء كاملا
ما دام جارحها المهند يبرق
فاحكم بغير العنف واكسر سيفه
فالحلم أجمل والمكارم أليق
رثاؤه لمصطفى كامل
وقد جزع لوفاة مصطفى كامل جزعا شديدا، وشيع جثمانه إلى مرقده الأخير (يوم 11 فبراير سنة 1908)، ووقف على قبره يلقي قصيدته في وداعه، ولم يكد يلقي البيت الأول منها وهو:
أداعي الأسى في مصر ويحك داعيا
هددت القوى إذ قمت بالأمس ناعيا
حتى ظهر عليه التأثر الشديد والإعياء، ولم يستطع أن يتم القصيدة، وقد ألقاها في حفلة تأبينه، وتدل هذه القصيدة على مبلغ حبه له وإخلاصه لصداقته، وإعجابه به، وشدة حزنه عليه؛ فجاءت آية في بلاغة الرثاء، ورقة التعبير عن الحزن والألم، وكأن كل بيت فيها دمعة وفاء تذرفها عين الصديق على صديقه الحميم. قال:
أجل أنا من أرضاك خلا موافيا
ويرضيك في الباكين لو كنت واعيا
وقلبي ذاك المورد العذب لم يزل
كما ذقت منه الحب والود صافيا
سوى أنه يعتاده الحزن كلما
رآك عن الحوض المهدد نائيا
ويعثر في بعض الخطوب إذا مشى
إلى بعض ما يهوى فيرجع داميا
وإن رامه سرب المسرات لم يجد
محلا به من لاعج الهم خاليا
ألا عللاني بالتعازي وأقنعا
فؤادي أن يرضى بهن تعازيا
وإلا أعيناني على النوح والبكا
فشأنكما شأني وما بكما بيا
وما نافعي أن تبكيا غير أنني
أحب دموع البر والمرء وافيا •••
أيا «مصطفى» تالله نومك رابنا
أمثلك يرضى أن ينام اللياليا؟
تكلم فإن القوم حولك أطرقوا
وقل يا خطيب الحي رأيك عاليا
لقد أوشكت من طول صمت وهجرة
تخالك أعواد المنابر فانيا
وتبكيك لولا أن فيها بقية
تعللها من ذلك الصوت داويا
فهل ألفت ما بين جفنيك والكرى
محالفة أم قد أمنت الأعاديا؟ •••
فقدناك فقدان الكمي سلاحه
وساري الدياجي كوكب القطب هاديا
وبتنا وقد باتت رفاتك في الثرى
سقاها الحيا
6
نستبطئ الدمع هاميا
ولولا تراث من أمانيك عندنا
كريم بكينا إذ بكينا الأمانيا
طواك الردى طي الكتاب تضمنت
صحائفه من كل فخر معانيا
مضاء إذا البيض انتمت لأصولها
غضبنا إذا سماك قوم يمانيا
ورأي يجلي اليأس واليأس ضارب
على الأفق ليلا فاحم اللون داجيا
إذا ما تقاضينا ولم تك بيننا
ذكرناهما حتى نجيد التقاضيا
فليتك إذ أعييت كل مساجل
قنعت فلم تعي الطبيب المداويا
وليتك إذ ناضلت عن مصر لم تفض
مع الحبر قلبا يعلم الله غاليا •••
لقد ضاع إخلاص الطبيب وحذقه
سدى فبكى الفخر الذي كان راجيا
ولم تنتهز تلك العقاقير فرصة
ترى الناس فيها فضل «بقراط» باديا
نحييك سيفا بات في الترب مغمدا
تقلده فيما مضى الحق ماضيا
مواساته لجرحى الحرب
ولقد كان له شعر حماسي يملأ القلوب أملا وشجاعة.
قال من قصيدة له مخاطبا الأمير عمر طوسون يشكره على مواساته جرحى الحرب:
وكم تعهدت جرحى من أسود وغى
إن يكشر الدهر عن أحداثه كشروا
مستنجدا من بني مصر إلى شمم
إذا رأوا ثلمة في حوضهم جبروا
مستهيما هاميا و«النيل» في وجل
من أن تجود به أيمانكم حذر
الوحدة بين العنصرين
وقال داعيا إلى الوحدة الوطنية بين عنصري الأمة:
عيني فيك اليوم قبطية
تروي الأسى عن مسلم موجع
ويأخذ البر وآي الوفا
عن الكتاب الطيب المشرع
ومن قصيدة له حين اشتد الخلاف بين المسلمين والأقباط سنة 1911 يدعو إلى الوحدة الوطنية:
خففوا من صياحكم ليس في مص
ر لأبناء مصر من أعداء
دين عيسى فيكم ودين أخيه
أحمد يأمراننا بالإخاء
مصر أنتم ونحن إلا إذا قا
مت بتفريقنا دواعي الشقاء
مصر ملك لنا إذا ما تماسك
نا وإلا فمصر للغرباء!
تنديده بصنائع الاحتلال
وقال في نوفمبر سنة 1908 يندد بسياسة مصطفى فهمي حين سقطت وزارته وكان مواليا للاحتلال خاضعا له:
عجبت لهم قالوا سقطت ومن يكن
مكانك يأمن من سقوط ويسلم
فأنت امرؤ ألصقت نفسك بالثرى
وحرمت خوف الذل ما لم يحرم
فلو أسقطوا من حيث أنت زجاجة
على الصخر لم تصدع ولم تتحطم
7
في الإباء وعزة النفس
ومن قوله في الإباء وعزة النفس، والزراية بالمتكبرين:
أيها التائه
8
المدل علينا
ويك قل لي: من أنت؟ إني نسيت
لو فرشت الطريق درا لأخطو
فوقه نحو داركم ما رضيت
أنا أغنى من أن يقال فلان
وفلان تزاورا ما حييت!
وقال في الاستمساك بالكرامة:
لكسرة من رغيف خبز
تؤدم بالملح والكرامة
أشهى إلى الحر من طعام
يختم بالشهد والملامة
يستنكر تعدد الزوجات
وقال يذم تعدد الزوجات:
يا من تزوج باثنتين ألا اتئد
ألقيت نفسك ظالما في الهاويه
ما العدل بين الضرتين بممكن
لو كنت تعدل ما أخذت الثانيه!
التوحيد والحرية
وله في تمجيد التوحيد والحرية كلمات بليغة وإن لم تكن شعرا إلا أنها تشبهه في النغم والرنين وقوة الأثر، وهي من الشعر المنثور البليغ. قال:
أحب التوحيد في ثلاثة: الله، والمبدأ، والمرأة.
وأحب الحرية في ثلاثة:
حرية المرأة في ظل زوجها،
وحرية الرجل تحت راية الوطن،
وحرية الوطن في ظل الله .
تنديده بالظلم والاستعمار
قال في قصيدة له يخاطب «الدواة»:
وإذا الظلم والظلام استعانا
يوم نحس بأجهل الجاهلينا
واستمدا من الشرور مدادا
فاجعليه في قسمة الظالمينا
إلى أن قال:
وإذا كان فيك نقطة سوء
كونت من خيانة تكوينا «فاجعليها قسط الذين استباحوا
في السياسات حرمة الأضعفينا!»
تنديده بالمستعمرين
قال ينعى على إيطاليا عدوانها على طرابلس (ليبيا) سنة 1911 ويندد بما في فعلتها من الغدر ونقض العهود والمواثيق:
بعض هذا الجفاء والعدوان
راقبي الله أمة الطليان!
قد ملأت الفضاء غدرا وجهلا
وتسنمت غارب الطغيان
وبعثت السفين ترمي طرابل
س بحرب مشبوبة النيران
تخرق البحر والمواثيق والعه
د جهارا وذمة الجيران
سيرتها أضغان قوم لقوم
سلموا من دناءة الأضغان
9
من رآها تجري توهم أن ال
قوم هموا للثأر للأوطان
لا ورب الأسطول ما حمل الأس
طول جيشا إلى حمى الحبشان
10
إن قوم الطليان أحرص من أن
يفضحوا مرتين في ميدان
الامتيازات الأجنبية
وقال في هذه القصيدة يشير إلى الامتيازات الأجنبية التي منحتها الدول الشرقية للأوروبيين، فقابلوها بالغدر والعقوق، واتخذوها وسيلة للعدوان على هذه الدول:
ويحهم ما لصنعهم أبطر القو
م فعقوا ما كان من إحسان؟
ولماذا تمخض السلم عن حر
ب لظاها يشوي الوجوه عوان؟
منح قد بذرن في شر أيد
كن مذ كن من منبت الكفران
هكذا فلتك المروءات في عص
ر البهاليل من بني الرومان!
القوة سياج الاستقلال
وقال فيها يدعو إلى التسلح بالقوة للدفاع عن الذمار وصد مطامع الاستعمار، ويحذر أمم الشرق من غدر الدول الاستعمارية وعدوانها وتبييتها الشر تحت ستار الود والصداقة:
لا يثق بعضنا ببعض وهذا
ما أعد الإنسان للإنسان
إن تسلم على الغريب فسلم
في ظلال السيوف والمران
11
ربما أصبح العناق صراعا
في زمان الآداب والعرفان
12
التغني بعظمة مصر
وله قصيدة خالدة يتغنى فيها بعظمة مصر ومفاخرها، ويستحث مصر الحديثة على إحياء مجدها، قالها سنة 1909 على لسان فرعون مصر يخاطب قومه ويبعث فيهم روح العمل لبناء مجد الدولة. قال:
لا القوم قومي ولا الأعوان أعواني
إذا ونى يوم تحصيل العلا واني
إلى أن قال: «لا تقربوا «النيل» إن لم تعملوا عملا
فماؤه العذب لم يخلق لكسلان»
ردوا المجرة كدا دون مورده
أو فاطلبوا غيره ريا لظمآن
وابنوا كما بنت الأجيال قبلكم
لا تتركوا بعدكم فخرا لإنسان
لا تتركوا مستحيلا في استحالته
حتى يميط لكم عن وجه إمكان
مقالة هبطت من عرش قائلها
على مناكب أبطال وشجعان
مادت لها الأرض من ذعر ودان لها
ما في المقطم من صخر وصوان
يبنون ما تقف الأجيال حائرة
أمامه بين إعجاب وإذعان
من كل ما لم يلد فكر ولا فتحت
على نظائره في الكون عينان
ويشبهون إذا طاروا إلى عمل
جنا تطير بأمر من «سليمان» ••• «أهرامهم» تلك، حي الفن متخذا
من الصخور بروجا فوق كيوان
قد مر دهر عليها وهي ساخرة
بما يضعضع من صرح وإيوان
لم يأخذ الليل منها والنهار سوى
ما يأخذ النمل من أركان نهلان
جاءت إليها وفود الأرض قاطبة
تسعى اشتياقا إلى ما خلد الفاني
فصغرت كل موجود ضخامتها
وغض بنيانها من كل بنيان
وعاد منكر فضل القوم معترفا
يثني على القوم في سر وإعلان
تلك الهياكل في الأمصار شاهدة
بأنهم أهل سبق، أهل إمعان
إذا أقام عليهم شاهدا حجر
في هيكل قامت الأخرى ببرهان
كأنما هي والأقوام خاشعة
أمامها صحف من عالم ثاني
تستقبل العين في أثنائها صور
نصيحة الرمز دارت حول جدران
لو أنها أعطيت صوتا لكان له
صدى يروع صم الإنس والجان
وختمها بقوله:
أين الألى سجلوا في الصخر سيرتهم
وصغروا كل ذي ملك وسلطان
بادوا وبادت على آثارهم دول
وأدرجوا طي أخبار وأكفان
وخلفوا بعدهم حربا مخلدة
في الكون ما بين أحجار وأزمان
وزحزحوا عن بقايا مجدهم وسطا
عليهم العلم ذاك الجاهل الجاني
ويل له هتك الأستار مقتحما
جلال أكرم آثار وأعيان
للجهل أرجح منه في جهالته
إذا هما وزنا يوما بميزان
إلى شوقي في منفاه
وكان على ود صميم مع شوقي، وحينما نفي شوقي من مصر خلال الحرب العالمية الأولى ظل على صلته به، وكان شوقي قد أرسل إليه من منفاه بالأندلس سنة 1917 بيتين من قصيدة له مشهورة،
13
قال فيهما:
يا ساري البرق يرمي عن جوانحنا
بعد الهدوء ويهمي من مآقينا
14
لما ترقرق في دمع السماء دما
هاج البكا فخضبنا الأرض باكينا!
فأجابه صبري بهذه الأبيات:
يا وامض البرق كم نبهت من شجن
في أضلع ذهلت عن دائها حينا
فالماء في مقل، والنار في مهج
قد حار بينهما أمر المحبينا
لولا تذكر أيام لنا سلفت
ما بات يبكي دما في الحي باكينا
يا آل ودي عودوا لا عدمتكم
وشاهدوا ويحكم فعل النوى فينا
يا نسمة ضمخت أذيالها سحرا
أزهار أندلس هبي بوادينا
15
وقد عاش إسماعيل صبري كريم الخلق، صادقا عيوفا، أبيا وفيا لوطنه وأصدقائه، معتزا بكرامته، صريحا محبا للحق، بعيدا عن الزهو والخيلاء، وظل على هذه الأخلاق الفاضلة إلى أن توفي في 21 مارس سنة 1923 بعد مرض طويل، وخلف كنوزا من الشعر والوطنية، والفضائل النفسية، أضفت على اسمه هالة من المجد والخلود.
أحمد شوقي شاعر الوطنية الأكبر
1870-1932
بلغ الشعر الوطني ذروته على لسان شوقي وحافظ؛ فلقد حملا لواء النهضة الشعرية في العصر الحديث، وتغنيا بالوطنية، وكان للحوادث الكبرى التي وقعت في مصر والشرق صداها في شعرهما، وكلاهما كان له أثره وفضله في تغذية الحركة الوطنية بعيون الشعر الوطني، سطع نجمهما في عصر واحد، وغردا في جيل واحد، وانتقلا إلى جوار ربهما في عام واحد (1932)، ولم تمض على وفاة حافظ ثلاثة أشهر حتى لحق به شوقي في الرفيق الأعلى.
سمي شوقي أمير الشعراء، ولقب الأمير لم يعد يتفق والروح الديمقراطية، ولم تعد الإمارة تضفي على صاحبها منزلة محترمة، هذا إلى أن شوقي أكبر من أن يمجد بهذا اللقب، فهل نسميه «سيد الشعراء»؟ إن كلمة السيادة لغير الأمة لم تعد أيضا تتفق والأوضاع الديمقراطية، فهل نسميه «زعيم الشعراء»؟ إنه ولا ريب أقدر شعراء عصره، ولم يكن ينازعه في زعامة الشعر أحد من أنداده ومعاصريه؛ فلقد عقدوا له لواء الزعامة وبايعوه عليها في المهرجان الذي أقيم له بمصر سنة 1927 وجمع أقطاب الشعراء من العالم العربي وخاطبه فيه صنوه حافظ بقوله:
أمير القوافي قد أتيت مبايعا
وهذي وفود الشعر قد بايعت معي
على أن لقب «زعيم الشعراء» لا يكفي للتعريف به والتنويه بمكانته، وخير لقب له أن يسمى «شاعر العربية الأكبر» وأن نسميه في هذا الكتاب «شاعر الوطنية الأكبر».
ولد أحمد شوقي في 16 أكتوبر سنة 1870
1
وتعلم في المدارس النظامية، ودخل مدرسة الإدارة (الحقوق)، في أوائل عهد الاحتلال، وفي سنة 1877 سافر إلى فرنسا لدارسة الحقوق والأدب، وأتم دراسته سنة 1893.
أدرك شوقي الاحتلال الإنجليزي وهو شاب مهذب مثقف، وعرف كيف عصف الاحتلال باستقلال البلاد، وإذ كانت عبقريته الشعرية قد خلقت وولدت معه ولازمته منذ صباه، فقد اقترنت بشعوره الوطني الذي تولد في نفسه بالفطرة، وزاده توهجا ورسوخا رؤيته الاحتلال الأجنبي يجثم على صدر البلاد، فامتزجت شاعريته بوطنيته، وكان لمصر وآلامها صدى بعيد وأثر عميق في شعره، وظل حبه للوطن يوجهه في قصائده ويلهمه التغريد له والحنو عليه.
التحق منذ عودته إلى مصر بديوان المعية الخديوية، وعلت مكانته لدى الخديو عباس الثاني حتى سمي «شاعر الأمير»، لكن روحه الوطنية لم تتأثر كثيرا من صلته بالقصر، هذا إلى أن الخديو عباس كان في أول عهده بالعرش يناوئ الاحتلال، والاحتلال يناوئه، حتى إذا جنح لمهادنة الاستعمار، لم يكن لهذا التحول أثر كبير في شعر شوقي، اللهم إلا هدأة وقتية في الحرب المشبوبة بين الأمة والاحتلال، على أن تأصل روح الوطنية في نفسه جعله لا يجاري الخديو عباس في انصرافه عن الحركة الوطنية، ثم في تنكره لها؛ فبقي شعره ينهل من منبع الوطنية الصافي.
وانفصل عن منصبه في القصر بعد خلع الخديو عباس عن العرش في ديسمبر سنة 1914 وتحرر من المنصب الحكومي؛ فزادته الحرية قوة وإنتاجا، وتحليقا في سماء الشعر والفن والخيال، واستهدف لاضطهاد السلطة العسكرية البريطانية؛ إذ قررت نفيه وتركت له اختيار البلد الذي ينفى إليه، فاختار إسبانيا «الأندلس»، وبقي على عهده للوطن، ثم عاد من منفاه في فبراير سنة 1920، والبلاد في غليان الثورة، فاستقبلت مصر شاعرها الملهم استقبالا حافلا رائعا.
ويمتاز شعر شوقي بقوة البيان، وروعة الموسيقى الشعرية، وسعة الأفق، والتعمق في استيعاب الحوادث التاريخية، قديمها وحديثها، ولقد جارى فحول الشعراء المتقدمين، وبزهم في كثير من قصائده، وجدد بعض التجديد في الشعر العربي بما اقتبسه عن شعراء الغرب، وعن الثقافة الأوروبية، وسار في التجديد شوطا بعيدا وخاصة بعد عودته من المنفى؛ إذ وضع عدة مسرحيات شعرية بلغت مبلغا عظيما من الفن والموسيقى والجمال، كمصرع كليوباترا، ومجنون ليلى، وعنترة، وغيرهما، وظل ينتج ويشدو ويبدع، إلى أن توفي في 14 أكتوبر سنة 1932.
الوطنية في شعر شوقي
في قصائد شوقي يسطع نور الوطنية، ويتأجج لهيبها، وهو أغزر الشعراء مادة وأوسعهم إنتاجا من هذه الناحية، ولقد ظل يستلهم روح الوطنية طول حياته، شابا وكهلا وشيخا، بل إن شعره الوطني في شيخوخته كان أقوى منه في شبابه، وقد يكون مرجع ذلك إلى تجرده من الاتصال بالقصر بعد خلع الخديو عباس حلمي، كما أسلفنا، ثم إلى نفيه من مصر في أوائل الحرب العالمية الأولى، فأثار البعد عن الوطن شاعريته، وجاد بأبدع قصائده في الحنين إلى مصر وحبه لها والهيام بها إلى درجة التقديس، ومرجع ذلك أيضا إلى تأصل عبقرية الشعر في نفسه، فلم تضعفها السن، ولم ينل منها الزمن، وظلت قوية تتدفق حيوية ونشاطا.
والوطنية في شعر شوقي هي فيض الفطرة والإلهام، وليست من صنع الظروف أو التكلف؛ ولذلك جاءت قوية جارفة، عميقة رائعة.
فتأمل في أول قصيدة له في ديوانه وهي التي قالها في المؤتمر الشرقي الدولي المنعقد بمدينة جنيف عام 1894 ومطلعها:
همت الفلك واحتواها الماء
وحداها بمن تقل الرجاء
تجدها آية في شعر الملاحم أو الشعر التاريخي، وتحس وأنت تقرؤها أنها قبس من نور الوطنية؛ فهي سجل ناطق ل «كبار الحوادث في وادي النيل»، وقد بلغ عدد أبياتها ثلاثمائة بيت إلا قليلا (تسعين ومائتي بيت)، عرض فيها عرضا أخاذا بديعا تاريخ مصر من أقدم العصور إلى عام نظمها، أشاد بعظمتها ومجد مفاخرها، وحنا عليها في كبواتها، واستنزل السخط على كل من اعتدى عليها.
فانظر إلى قوله عن عظمة مصر:
قل لبان بنى فشاد فغالى
لم يجز مصر في الزمان بناء
ليس في الممكنات أن تنقل الأج
2
بال شما وأن تنال السماء
ولما انتهى في سرد الحوادث إلى الحملة الفرنسية سجل إخفاقها وارتدادها عن مصر، قال:
وأتى النسر
3
ينهب الأرض نهبا
حوله قومه النسور ظماء
يشتهي النيل أن يشيد عليه
دولة عرضها الثرى والسماء
حلمت رومة بها في الليالي
ورآها القياصر الأقوياء
فأتت مصر رسلهم تتوالى
وترامت سودانها العلماء
ولو استشهد الفرنسيس روما
لأتتهم من رومة الأنباء
علمت كل دولة قد تولت
أننا سمها وأنا الوباء
قاهر العصر والممالك نابل
يون ولت قواده الكبراء
جاء طيشا وراح طيشا ومن قب
ل أطاشت أناسها العلياء
وانظر كيف يصور في البيتين الآتيين سكوت الأهرام وهي تواجه نابليون بأنه سكوت السخرية والاستهزاء، وكأنها تتنبأ له بالهزيمة في ختام معاركه. قال:
سكتت عنه يوم عيرها الأه
رام لكن سكوتها استهزاء
فهي توحي إليه أن تلك «واتر
لو» فأين الجيوش أين اللواء؟
وتأمل كيف يعبر عن قناة السويس بأنها نكبة على مصر قال:
جمع
4
الزاخرين كرها فلا كا
نا ولا كان ذلك الإلتقاء
أحمر عند أبيض للبرايا
حصة القطر منهما سوداء
والقصيدة كلها على هذا الغرار في الإجادة والإبداع، ولقد نظمها وهو في الرابعة والعشرين، وكأنما رسم فيها منهجه في الشعر، فهو يقتبس من عبقريته الشعرية، ومن روحه الوطنية معا، وقد لازمه هذا الامتزاج في شتى قصائده.
شوقي ومصطفى كامل
سارت نهضة الشعر في مصر إلى جانب النهضة الوطنية التي هبت لمقاومة الاحتلال؛ ومن هنا جاءت صلة الزعيم مصطفى كامل بشعراء عصره، وكانت دعوته الوطنية تلقى صدى وتأييدا في قصائدهم الغر، بحيث يمكن القول بأن الشعر لم يتألق في سماء مجده مثلما تألق في عهد مصطفى كامل ومحمد فريد.
وقد ظهر التجاوب بين دعوة مصطفى كامل وشعر شوقي، وزاد في هذا التجاوب أن شوقي كان صديقا حميما لمصطفى، وكلاهما معجب بصاحبه أيما إعجاب ، ولا غرو فهما صنوان، وفرسا رهان؛ هذا في ميدان الوطنية والجهاد، وذلك في دولة الشعر والبيان، وكان شوقي يعتز بصداقته لمصطفى ومشاركته إياه في تعهده بالروح الوطنية وغرسها في نفوس الجيل، وإلى ذلك يشير في قصيدته عن ذكرى مصطفى سنة 1925 إذ يقول فيها مخاطبا الفقيد:
أتذكر قبل هذا الجيل جيلا
سهرنا عن معلمهم وناما؟
مهار الحق بغضنا إليهم
شكيم القيصرية واللجاما
5 «لواؤك» كان يسقيهم بجام
وكان الشعر بين يدي جاما
من الوطنية استبقوا رحيقا
فضضنا عن معتقها الختاما
وكان مصطفى يصف شوقي بأنه «الغدير الصافي في القاف الغاب، يسقي الأرض ولا يبصره الناظرون»، وكان يخصص لقصائده أسمى مكان في «اللواء»، وفي ذلك يقول شوقي في مرثاته الخالدة:
قد كنت تهتف في الورى بقصائدي
وتجل فوق النيرين مكاني
وزاره وهو على فراش مرضه الأخير، فطلب إليه مصطفى أن يرثيه إذ أحس دنو أجله؛ وفي ذلك يقول شوقي:
وجعلت تسألني الرثاء فهاكه
من أدمعي وسرائري وجناني
ويبدو الانسجام بين دعوة مصطفى كامل وشعر شوقي في كثير من قصائده.
قصيدة شوقي في وداع اللورد كرومر
فمن ذلك قصيدته المشهورة في وداع اللورد كرومر سنة 1907 حين اضطر إلى الاستقالة على أثر حادثة دنشواي؛ ففي أبياتها الروح الوطنية والنقمة على الاحتلال. قال:
أيامكم أم عهد إسماعيلا
أم أنت فرعون يسوس النيلا
أم حاكم في أرض مصر بأمره
لا سائلا أبدا ولا مسئولا؟
يا مالكا رق الرقاب ببأسه
هلا اتخذت إلى القلوب سبيلا؟
لما رحلت عن البلاد تشهدت
فكأنك الداء العياء رحيلا
أوسعتنا يوم الوداع إهانة
أدب لعمرك لا يصيب مثيلا
6
إلى أن قال:
أنذرتنا رقا يدوم وذلة
تبقى وحالا لا ترى تحويلا
أحسبت أن الله دونك قدرة
لا يملك التغيير والتبديلا؟
الله يحكم في الملوك ولم تكن
دول تنازعه القوى لتدولا
فرعون قبلك كان أعظم سطوة
وأعز بين العالمين قبيلا •••
اليوم أخلفت الوعود حكومة
كنا نظن عهودها الإنجيلا
دخلت على حكم الوداد وشرعه
مصرا فكانت كالسلال دخولا
هدمت معالمها وهدت ركنها
وأضاعت استقلالها المأمولا
وقال :
قد مد إسماعيل قبلك للورى
ظل الحضارة في البلاد ظليلا
إن قيس في جود وفي سرف إلى
ما تنفقون اليوم عد بخيلا
أو كان قد صرع «المفتش» مرة
فلكم صرعت بدنشواي قتيلا
لا تذكر الكرباج في أيامه
من بعد ما أنبت فيه ذيولا
قصيدته في ذكرى دنشواي
وقصيدته سنة 1907 أيضا عن «ذكرى دنشواي»، بعد مرور عام على حادثتها، في سبيل طلب العفو عن سجنائها، وفيها وصف مؤثر لهذه المأساة.
قال:
يا دنشواي على رباك سلام
ذهبت بأنس ربوعك الأيام
شهداء حكمك
7
في البلاد تفرقوا
هيهات للشمل الشتيت نظام
مرت عليهم في اللحود أهلة
ومضى عليهم في القيود العام
كيف الأرامل فيك بعد رجالها
وبأي حال أصبح الأيتام؟
عشرون بيتا أقفرت وانتابها
بعد البشاشة وحشة وظلام
يا ليت شعري في البروج حمائم
أم في البروج منية وحمام؟ «نيرون» لو أدركت عهد «كرومر»
لعرفت كيف تنفذ الأحكام! •••
نوحي حمائم دنشواي وروعي
شعبا بوادي النيل ليس ينام
إن نامت الأحياء حالت بينه
سحرا وبين فراشه الأحلام
متوجع يتمثل اليوم الذي
ضجت لشدة هوله الأقدام
السوط يعمل والمشانق أربع
متوحدات والجنود قيام
والمستشار
8
إلى الفظائع ناظر
تدمى جلود حوله وعظام
في كل ناحية وكل محلة
جزعا من الملأ الأسيف زحام
وعلى وجوه الثاكلين كآبة
وعلى وجوه الثاكلات رغام
رثاؤه لمصطفى كامل
ولما توفي مصطفى كامل سنة 1908 رثاه شوقي بقصيدته الخالدة التي تعد أكبر مرثاة في تاريخ الأدب العربي، ترجم فيها شعوره بالحزن والألم بآيات بينات تجلت فيها حكمة الشعر وقوة الوطنية وروعة البيان، وقد نشرت يوم 23 فبراير سنة 1908 عقب وفاة الزعيم بثلاثة عشر يوما، فأثرت في النفوس تأثيرا عميقا، وجددت أحزان الأمة، وحفظناها وحفظها الشباب وقتئذ عن ظهر قلب؛ لأنها عبرت عن شعورنا جميعا في الرزء الفادح، ننشرها كاملة لأنها قطعة من الشعر الوطني الخالد، قال في مطلعها:
المشرقان عليك ينتحبان
قاصيهما في مأتم والداني
يا خادم الإسلام أجر مجاهد
في الله من خلد ومن رضوان
لما نعيت إلى الحجاز مشى الأسى
في الزائرين وروع الحرمان
السكة الكبرى
9
حيال رباهما
منكوسة الأعلام والقضبان
لم تألها عند الشدائد خدمة
في الله والمختار والسلطان
يا ليت مكة والمدينة فازتا
في المحفلين بصوتك الرنان
ليرى الأواخر يوم ذاك ويسمعوا
ما غاب من قس ومن سحبان
10
جار التراب وأنت أكرم راحل
ماذا لقيت من الوجود الفاني؟
وقال عن مرضه الذي أودى بحياته:
أبكي صباك ولا أعاتب من جنى
هذا عليه كرامة للجاني
11
يتساءلون أبالسلال قضيت أم
بالقلب أم هل مت بالسرطان؟
الله يشهد أن موتك بالحجا
والجد والإقدام والعرفان
وقال يشيد بأخلاق الفقيد:
إن كان للأخلاق ركن قائم
في هذه الدنيا فأنت الباني
بالله فتش عن فؤادك في الثرى
هل فيه آمال وفيه أماني
وجدانك الحي المقيم على المدى
ولرب حي ميت الوجدان
وقال في فلسفة الحياة:
الناس جار في الحياة لغاية
ومضلل يجري لغير عنان
والخلد في الدنيا وليس بهين
عليا المراتب لم تتح لجبان
فلو ان رسل الله قد جبنوا لما
ماتوا على دين ولا إيمان «المجد والشرف الرفيع صحيفة
جعلت لها الأخلاق كالعنوان»
وأحب من طول الحياة بذلة
قصر يريك تقاصر الأقران «دقات قلب المرء قائلة له
إن الحياة دقائق وثواني» «فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها
فالذكر للإنسان عمر ثاني»
للمرء في الدنيا وجم شئونها
ما شاء من ربح ومن خسران
فهي القضاء لراغب متطلع
وهي المضيق لمؤثر السلوان •••
الناس غاد في الشقاوة رائح
يشقى له الرحماء وهو الهاني
ومنعم لم يلق إلا لذة
في طيها شجن من الأشجان
فاصبر على نعمى الحياة وبؤسها
نعمى الحياة وبؤسها سيان
وقال مخاطبا الزعيم:
يا طاهر الغدوات والروحات وال
خطرات والإسرار والإعلان
هل قام قبلك في المدائن فاتح
غاز بغير مهند وسنان؟
يدعو إلى العلم الشريف وعنده
أن العلوم دعائم العمران
وقال في وصف الجنازة:
لفوك في علم البلاد منكسا
جزع الهلال على فتى الفتيان
ما احمر من خجل ولا من ريبة
لكنما يبكي بدمع قاني
12
يزجون نعشك في السناء وفي السنا
فكأنما في نعشك القمران
وكأنه نعش «الحسين» ب «كربلا»
يختال بين بكى وبين حنان
في ذمة الله الكريم وبره
ما ضم من عرف ومن إحسان
ومشى جلال الموت وهو حقيقة
وجلالك المصدوق يلتقيان •••
شقت لمنظرك الجيوب عقائل
وبكتك بالدمع الهتون غواني
والخلق حولك خاشعون كعهدهم
إذ ينصتون لخطبة وبيان
يتساءلون بأي قلب ترتقى
بعد المنابر أم بأي لسان
فلو ان أوطانا تصور هيكلا
دفنوك بين جوانح الأوطان
أو كان يحمل في الجوارح ميت
حملوك في الأسماع والأجفان
أو صيغ من غر الفضائل والعلى
كفن لبست أحسن الأكفان
أو كان للذكر الحكيم بقية
لم تأت بعد رثيت في القرآن
وقال يصف الفقيد في مرضه الأخير:
ولقد نظرتك والردى بك محدق
والداء ملء معالم الجثمان
يبغي ويطغى والطبيب مضلل
قنط وساعات الرحيل دواني
ونواظر العواد عنك أمالها
دمع تعالج كتمه وتعاني
تملي وتكتب والمشاغل جمة
ويداك في القرطاس ترتجفان
فهششت لي حتى كأنك عائدي
وأنا الذي هد السقام كياني
ورأيت كيف تموت آساد الشرى
وعرفت كيف مصارع الشجعان
ووجدت في ذاك الخيال عزائما
ما للمنون بدكهن يدان ••• «وجعلت تسألني الرثاء فهاكه
من أدمعي وسرائري وجناني»
لولا مغالبة الشجون لخاطري
لنظمت فيك يتيمة الأزمان
وأنا الذي أرثي الشموس إذا هوت
فتعود سيرتها من الدوران •••
قد كنت تهتف في الورى بقصائدي
وتجل فوق النيرات مكاني
ماذا دهاني يوم بنت فعقني
فيك القريض وخانني إمكاني
هون عليك فلا شمات بميت
إن المنية غاية الإنسان
من للحسود بميتة بلغتها
عزت على كسرى أنوشروان
عوفيت من حرب الحياة وحربها
فهل استرحت أم استراح الشاني؟
وقال في ختام القصيدة يذكر فضل مصطفى على مصر:
يا صب مصر ويا شهيد غرامها
هذا ثرى مصر فنم بأمان
اخلع على مصر شبابك غاليا
والبس شباب الحور والولدان
فلعل مصرا من شبابك ترتدي
مجدا تتيه به على البلدان
فلو ان بالهرمين من عزماته
بعض المضاء تحرك الهرمان
علمت شبان المدائن والقرى
كيف الحياة تكون في الشبان
مصر الأسيفة ريفها وصعيدها
قبر أبر على عظامك حاني
أقسمت أنك في التراب طهارة
ملك يهاب سؤاله الملكان
شهيد الحق
وكان شوقي لا يفتأ يذكر مصطفى بعد وفاته.
فمن ذلك قصيدته التي نظمها سنة 1925 لمناسبة ذكراه بعنوان «شهيد الحق»، تناول فيها ما أصاب البلاد من انقسام وتشاحن وتناحر، ثم انتقل من ذلك إلى ذكرى مصطفى كامل، فوفاه حقه من التمجيد، قال في مطلعها:
إلام الخلف بينكمو إلاما؟
وهذي الضجة الكبرى علاما؟
وفيم يكيد بعضكم لبعض
وتبدون العداوة والخصاما؟
وأين الفوز؟ لا مصر استقرت
على حال ولا السودان داما
إلى أن قال: «ولينا الأمر حزبا بعد حزب
فلم نك مصلحين ولا كراما»
جعلنا الحكم تولية وعزلا
ولم نعد الجزاء والانتقاما
وسسنا الأمر حين خلا إلينا
بأهواء النفوس فما استقاما
وقال ذاكرا مناقب الفقيد:
شهيد الحق قم تره يتيما
بأرض ضيعت فيها اليتامى
أقام على الشفاه بها غريبا
ومر على القلوب فما أقاما
13
سقمت فلم تبت نفس بخير
كأن بمهجة الوطن السقاما
ولم أر مثل نعشك إذ تهادى
فغطى الأرض وانتظم الأناما
تحمل همة وأقل دينا
وضم مروءة وحوى زماما
وما أنساك في العشرين لما
طلعت حيالها قمرا تماما
يشار إليك في النادي وترمى
بعيني من أحب ومن تعامى
إذا جئت المنابر كنت «قسا»
إذا هو في عكاظ علا السناما
وأنت ألذ للحق اهتزازا
وألطف حين تنطقه ابتساما
وتحمل من أديم الحق وجها
صراحا ليس يتخذ اللثاما •••
أتذكر قبل هذا الجيل جيلا
سهرنا عن معلمهم وناما؟
مهار الحق بغضنا إليهم
شكيم القيصرية واللجاما
لواؤك كان يسقيهم بجام
وكان الشعر بين يدي جاما
من الوطنية استبقوا رحيقا
فضضنا عن معتقها الختاما
غرسنا كرمها فزكا أصولا
بكل قرارة وزكا مداما
جمعتهم على نبرات صوت
كنفخ الصور حركت الرجاما
14
لك الخطب التي غص الأعادي
بسورتها وساغت للندامى
15
فكانت في مرارتها زئيرا
وكانت في حلاوتها بغاما
16 ••• «بك الوطنية اعتدلك وكانت
حديثا من خرافة أو مناما» «بنيت قضية الأوطان منها
وصيرت «الجلاء» لها دعاما»
وله قصيدة في ذكراه سنة 1926 قال:
لم يمت من له أثر
وحياة من السير
أدعه غائبا وإن
بعدت غاية السفر
آيب الفضل كلما
آبت الشمس والقمر
17
رب نور متمم
قد أتانا من الحفر
إنما الميت من مشى
ميت الخبر والخبر
من إذا عاش لم يفد
وإذا مات لم يضر
ليس في الجاه والغنى
منه ظل ولا ثمر
قبح العز في القصو
ر إذا ذلت القصر •••
أعوز الحق ذائد
وإلى «مصطفى» افتقر
وتمنت حياضه
هبة الصارم الذكر
الذي ينفذ المدى
والذي يركب الخطر «أيها القوم عظموا
واضع الآس والحجر»
اذكروا الخطبة التي
هي من آية الكبر
لم ير الناس قبلها
منبرا تحت محتضر
لست أنسى لواءه
وهو يمشي إلى الظفر
حشر الناس تحته
زمرا إثرها زمر
وترى الحق حوله
لا ترى البيض والسمر
18
كلما راح أو غدا
نفخ الروح في الصور •••
يا أخا النفس في الصبا
لذة الروح في الصغر
وخليلا ذخرته
لم يقوم بمدخر
حال بيني وبينه
في فجاءاته القدر
كيف أجزي مودة
لم يشب صفوها كدر
غير دمع أقوله
قل في الشأن أو كثر
وفؤاد معلل
بالخيالات والذكر
لم ينم عنك ساعة
في الأحاديث والسمر
قم تر القوم كتلة
مثل ملمومة الصخر
جددوا ألفة الهوى
والإخاء الذي شطر
ليس للخلف بينهم
أو لأسبابه أثر
ألفتهم روائح
غاديات من الغير
وصحوا من منوم
وأفاقوا من الخدر
19
أقبلوا نحو حقهم
ما لهم غيره وطر
جعلوه خلية
شرعوا دونها الإبر
وتواصوا بخطة
وتداعوا لمؤتمر
وقصارى أولي النهى
يتلاقون في الفكر
آذنونا بموقف
من جلال ومن خطر
نسمع الليث عنده
دون آجامه زأر
قل لهم في نديهم
20
مصر بالباب تنتظر
شوقي وفريد
لم تكن صلة شوقي بفريد كصلته بمصطفى، وعندما تولى فريد زعامة الحركة الوطنية سنة 1908، بعد وفاة الزعيم الأول، كانت سياسة «الوفاق» بين الخديو عباس الثاني والمعتمد البريطاني قد ثبتت قواعدها، وتنكر عباس للحركة الوطنية، ومع صلة شوقي بالقصر واشتداد الجفاء بين الخديو وفريد، فإنه لم يتعرض له بسوء في أي قصيدة له، وكان هذا منه نعم الوفاء للوطنية.
وبدا حب شوقي للحزب الوطني وتأييده له من رثائه لعمر بك لطفي أحد أقطاب هذا الحزب ومؤسس التعاون في مصر، فقد نظم سنة 1911 في رثائه قصيدة بديعة قال في مطلعها:
قفوا بالقبور نسائل عمر
متى كانت الأرض مثوى القمر؟
وفيها يقول: «نقاباتك» الغر تبكي عليك
ويبكي عليك الندي الأغر
21
ويبكي التعاون من سنه
عشية ليس له من أثر
ويبكيك «حزب» تخيرته
شريف المرام شريف الوطر
ويبكي الألى أنت علمتهم
وأنت غرست فكانوا الثمر
رثاؤه لفريد
ولما توفي فريد سنة 1919 رثاه بقصيدة من عيون شعره، ظهر فيها تقديره للزعيم الشهيد. قال:
كل حي على المنية غادي
تتوالى الركاب والموت حادي
22
ذهب الأولون قرنا فقرنا
لم يدم حاضر ولم يبق بادي
23
هل ترى منهم وتسمع عنهم
غير باقي مآثر وأيادي؟ •••
كرة الأرض كم رمت صولجانا
وطوت من ملاعب وجياد
والغبار الذي على صفحتيها
دوران الرحا على الأجساد
كل قبر من جانب الفقر يبدو
علم الحق أو منار المعاد
وزمام الركاب من كل فج
ومحط الرحال من كل وادي
تطلع الشمس حيث تطلع نضجا
وتنحى كمنجل الحصاد
إلى أن قال:
أسألتم حقيبة الموت ماذا
تحتها من ذخيرة وعتاد؟ «إن في طيها إمام صفوف
وحواري نية واعتقاد»
لو تركتم لها الزمام لجاءت
وحدها بالشهيد دار الرشاد
انظروا هل ترون في الجمع «مصرا»
حاسرا قد تجللت بسواد
تاج أحرارها غلاما وكهلا
راعها أن تراه في الأصفاد
وسدوه التراب نضو سفار
في سبيل الحقوق نضو سهاد
واركزوه إلى القيامة رمحا
كان للحشد والندى والطراد
وأقروه في الصفائح عضبا
لم يدن بالقرار في الأغماد
وقال مشيرا إلى موته في منفاه:
نازح الدار أقصر اليوم بين
وانتهت محنة وكفت عوادي
وكفى الموت ما تخاف وترجو
وشفى من أصادق وأعادي
من دنا أو نأى فإن المنايا
غاية القرب أو قصارى البعاد
سر مع العمر حيث شئت تأوبا
وافقد العمر لا تؤب من رقاد
ذلك الحق لا الذي زعموه
في قديم من الحديث معاد
وجرى لفظه على ألسن النا
س ومعناه في صدور الصعاد
يتحلى به القوي ولكن
كتحلي القتال باسم الجهاد •••
هل ترى كالتراب أحسن عدلا
وقياما على حقوق العباد
نزل الأقوياء فيه على الضع
فى وحل الملوك بالزهاد
صفحات نقية كقلوب الر
سل مغسولة من الأحقاد •••
قم إن اسطعت من سريرك وانظر
سر ذاك اللواء في الأجناد
هل تراهم وأنت موف عليهم
غير بنيان ألفة واتحاد
أمة هيئت وقوم لخير الد
هر أو شره على استعداد
مصر تبكي عليك في كل خدر
وتصوغ الرثاء في كل ناد
لو تأملتها لراعك منها
غرة البر في سواد الحداد
منتهى ما به البلاد تعزى
رجل مات في سبيل البلاد
أمهات لا تحمل الثكل إلا
للنجيب الجريء في الأولاد «ك«فريد» وأين ثاني فريد
أي ثان لواحد الآحاد؟»
الرئيس الجواد فيما علمنا
وبلونا وابن الرئيس الجواد
أكلت ماله الحقوق وأبلى
جسمه عائد من الهم عادي
لك في ذلك الضنى رقة الرو
ح وخفق الفؤاد في العواد
علة لم تصل فراشك حتى
وطئت في القلوب والأكباد
صادفت قرحة يلائمها الص
بر وتأبى عليه غير الفساد
وعد الدهر أن يكون ضمادا
لك فيها فكان شر ضماد
وإذا الروح لم تنفس عن الجس
م «فبقراط»
24
نافح في رماد
قصيدته في ذكراه
وفي سنة 1924 نظم قصيدة في ذكراه الخامسة، وهي من أبلغ شعره وأروع ما قيل في تمجيد فريد ووطنيته وتضحياته. قال:
نجدد ذكرى عهدكم ونعيد
وندني خيال الأمس وهو بعيد
وللناس في الماضي بصائر يهتدي
عليهن غاو أو يسير رشيد
إذا الميت لم يكرم بأرض ثناؤه
تحير فيها الحي كيف يسود
ونحن قضاة الحق نرعى قديمه
وإن لم يفتنا في الحقوق جديد
ونعلم أنا في البناء دعائم
وأنتم أساس في البناء وطيد «فريد ضحايانا كثير وإنما
مجال الضحايا أنت فيه فريد» «فما خلف ما كابدت في الحق غاية
ولا فوق ما قاسيت فيه مزيد»
تغربت عشرا أنت فيهن بائس
وأنت بآفاق البلاد شريد
تجوع ببلدان وتعرى بغيرها
وترزح تحت الداء وهو عتيد «ألا في سبيل الله والحق طارف
من المال لم تبخل به وتليد» «وجودك بعد المال بالنفس صابرا
إذا جزع المحضور وهو يجود» •••
فلا زلت تمثالا من الحق خالصا
على سره نبني العلا ونشيد
يعلم نشء الحي كيف هوى الحمى
وكيف يحامي دونه ويذود
حبه وتقديسه للوطن
إن حب شوقي للوطن يتمشى في معظم قصائده، مما تراه في ديوانه، وقد اقتبسنا طرفا منها، وله فوق ذلك أبيات بلغ فيها حبه للوطن درجة التقديس والعبادة؛ مما يجعلها تسير مسرى الحكم والأمثال، على تعاقب السنين والأجيال، وتبعث في نفوس المواطنين روح الإخلاص العميق للوطن والفناء فيه.
كقوله سنة 1920 بعد عودته إلى مصر من منفاه:
ويا وطني لقيتك بعد يأس
كأني قد لقيت بك الشبابا
ولو أني دعيت
25
لكنت ديني
عليه أقابل الحتم المجابا
26
أدير إليك قبل البيت وجهي
إذا فهت الشهادة والمتابا
ففي هذه الأبيات يقدم شوقي الوطن على الدين ويدير وجهه إلى الوطن قبل الكعبة عندما يلقى ربه.
وقوله سنة 1924 مخاطبا الشباب:
وجه الكنانة ليس يغضب ربكم
أن تجعلوه كوجهه معبودا
ولوا إليه في الدروس وجوهكم
وإذا فرغتم فاعبدوه هجودا
إن الذي قسم البلاد حباكم
بلدا كأوطان النجوم مجيدا
قد كان - والدنيا لحود كلها -
للعبقرية والفنون مهودا
وقوله وهو في منفاه: «وطني لو شغلت بالخلد عنه
نازعتني إليه في الخلد نفسي»
أي أنه لو شغل عن الوطن بجنة الخلد وسكنها، لبقيت نفسه تهفو إلى الوطن وتنزع إليه. وقوله من قصيدته سنة 1926 في نكبة دمشق من الاستعمار الفرنسي:
وللأوطان في دم كل حر
يد سلفت ودين مستحق
وللحرية الحمراء باب
بكل يد مضرجة تدق
وقوله:
لا تلوماها أليست حرة
وهوى الأوطان للأحرار دين؟
وقال سنة 1904:
أحبك مصر من أعماق قلبي
وحبك في صميم القلب نامي
وبلغ حبه لمصر أن جعلها كعبة أشعاره قال:
وإني لغريد هذا البطاح
تغذى جناها وسلسالها
ترى مصر كعبة أشعاره
وكل معلقة قالها
ثورة سنة 1919
قال من قصيدة له بعنوان «الحرية الحمراء» يمجد ثورة 1919:
يوم البطولة لو شهدت نهاره
لنظمت للأجيال ما لم ينظم
غبنت حقيقته وفات جمالها
باع الخيال العبقري الملهم
لولا عوادي النفي أو عقبانه
والنفي حال من عذاب جهنم
لجمعت ألوان الحوادث صورة
27
مثلت فيها صورة المستسلم
وحكيت فيها النيل كاظم غيظه
وحكيته متغيظا لم يكظم
دعت البلاد إلى الغمار فغامرت
وطنية بمثقف ومعلم
ثارت على الحامي العتيد وأقسمت
بسواه جل جلاله لا تحتمي •••
يوم النضال كستك لون جمالها
حرية صبغت أديمك بالدم
تعلقه بالجلاء
ويبدو في شعره مبلغ تعلقه بالجلاء، وإيمانه به، وهذا ولا ريب من فيض الوطنية التي يستلهم منها شعره.
قال في سنة 1924 يخاطب الشباب الذين أفرج عنهم بعد الحكم عليهم في قضية المؤامرة الكبرى:
لما بنى الله القضية
28
منهم
قامت على الحق المبين عمودا
جادوا بأيام الشباب وأوشكوا
يتجاوزون إلى الحياة الجودا
طلبوا «الجلاء» على الجهاد مثوبة
لم يطلبوا أجر الجهاد زهيدا «والله ما دون الجلاء ويومه
يوم تسميه الكنانة عيدا»
وجد السجين يدا تحطم قيده
من ذا يحطم للبلاد قيودا؟
وحدة وادي النيل
وقال في يوليو سنة 1924 عن وحدة وادي النيل من قصيدة له في استنكار حادث الاعتداء على المرحوم سعد زغلول ونجاته من محاولة اغتياله:
ولن نرتضي أن تقد القناة
ويبتر من مصر سودانها
فمصر الرياض، وسودانها
عيون الرياض وخلجانها
وما هو مالا ولكنه
وريد الحياة وشريانها
تتمم مصر ينابيعه
كما تمم العين إنسانها
وأهلوه منذ جرى عذبه
عشيرة مصر وجيرانها
مشروع ملنر
هو مشروع المعاهدة الذي انتهت إليه مفاوضات سعد-ملنر سنة 1920 ويحمل في طياته عناصر الحماية، وكان ممن عارضوه المرحوم الدكتور عبد الحميد أبو هيف، فلما توفي سنة 1926 رثاه شوقي في قصيدة أشار فيها إلى هذه المعارضة وأيدها. قال:
بالأمس كانت لابن هيف غضبة
للحق نذكرها يدا بيضاء
مشت البلاد إلى رسالة «ملنر»
وتحفزت أرضا لها وسماء
فلمحت أعرج في زوايا الحق لم
أعلم عليه ذمة عرجاء
29
ارتدت العاهات عن أخلاقه
لسموهن وحلت الأعضاء
لما رأى «التقرير» ينفث سمه
سبق الحواة فأخرج الرقطاء
30
هتك الحماية والرجال وراءها
يتلمسون لها الستور رياء
تصريح 28 فبراير
وقال عن تصريح 28 فبراير سنة 1922:
31
ربحت من «التصريح» أن قيودها
قد صرن من ذهب وكن حديدا
أوما ترون على «المنابع»
32
عدة
لا تنجلي وعلى «الضفاف» عديدا
يا فتية النيل السعيد خذوا المدى
واستأنفوا نفس الجهاد مديدا
يدعو إلى التضحية ويهاجم الاستعمار
قال يدعو إلى الجلد والتضحية:
والمرء ليس بصادق في قوله
حتى يؤيد قوله بفعاله
والشعب إن رام الحياة كبيرة
خاض الغمار دما إلى آماله
ومن قصيدته سنة 1926 في نكبة دمشق من الاستعمار الفرنسي:
لحاها الله أنباء توالت
على سمع الولي بما يشق
33
يفصلها إلى الدنيا بريد
ويجملها إلى الآفاق برق
وللمستعمرين وإن ألانوا
قلوب كالحجارة لا ترق
رماك بطيشه ورمى فرنسا
أخو حرب به صلف وحمق
إذا ما جاءه طلاب حق
يقول عصابة خرجوا وشقوا
دم الثوار تعرفه فرنسا
وتعلم أنه نور وحق
إلى أن قال:
نصحت ونحن مختلفون دارا
ولكن كلنا في الهم شرق
ويجمعنا إذا اختلفت بلاد
بيان غير مختلف ونطق
وقفتم بين موت أو حياة
فإن رمتم نعيم الدهر فاشقوا «وللأوطان في دم كل حر
يد سلفت ودين مستحق»
ومن يسقي ويشرب بالمنايا
إذا الأحرار لم يسقوا ويسقوا؟
ولا يبني الممالك كالضحايا
ولا يدني الحقوق ولا يحق
ففي القتلى لأجيال حياة
وفي الأسرى فدى لهم وعتق
وللحرية الحمراء باب
بكل يد مضرجة يدق
يشفق على الوطن
من قصيدة له في استقبال عيد الفطر يشفق على مصر ويقول أن لا عيد حتى تتحقق أهدافها:
وطني أسفت عليك في عيد الملا
وبكيت من وجد ومن إشفاق
لا عيد لي حتى أراك بأمة
شماء راوية من الأخلاق
ذهب الكرام الجامعون لأمرهم
وبقيت في خلف بغير خلاق
34
أيظل بعضهم لبعض خاذلا
ويقال شعب في الحضارة راقي؟
وإذا أراد الله إشقاء القرى
جعل الهداة بها دعاة شقاق
يدعو إلى الأخلاق
إن بيته المشهور عن الأخلاق هو ديوان من الشعر تتجلى فيه الحكمة الأزلية في أن الأخلاق هي أساس حياة الأمم وسبيلها إلى العظمة والمجد:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وقد أكد هذا المعنى الرائع في غير موضع.
قال:
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم
فأقم عليهم مأتما وعويلا
وقال:
وما السلاح لقوم كل عدتهم
حتى يكونوا من الأخلاق في أهب
وقال أيضا:
على الأخلاق خطوا الملك وابنوا
فليس وراءها للعز ركن
وقوله:
المجد والشرف الرفيع صحيفة
جعلت لها الأخلاق كالعنوان
وقوله:
وإذا ما أصاب بنيان قوم
وهي خلق فإنه وهي أس
وقوله:
كذا الناس بالأخلاق يبقى صلاحهم
ويذهب عنهم أمرهم حين تذهب
وقوله:
ولقد يقام من السيوف وليس من
عثرات أخلاق الشعوب قيام
ومن قصيدته «نهج البردة»:
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه
فقوم النفس بالأخلاق تستقم
والنفس من خيرها في خير عافية
والنفس من شرها في مرتع وخم
وقوله:
وكان جنابهم فيها مهيبا
وللأخلاق أجدر أن تهابا
وقال في هذا المعنى من قصيدة له سنة 1920:
وليس بعامر بنيان قوم
إذا أخلاقهم كانت خرابا
وقوله:
ولا المصائب إذ يرمى الرجال بها
بقاتلات إذا الأخلاق لم تصب
يدعو إلى الوحدة الوطنية
من قصيدة له في رثاء بطرس غالي سنة 1910:
الحق أبلج كالصباح لناظر
لو أن قوما حكموا الأحلاما
أعهدتنا والقبط إلا أمة
للأرض واحدة تروم مراما
نعلي تعاليم المسيح لأجلهم
ويوقرون لأجلنا الإسلاما
الدين للديان جل جلاله
لو شاء ربك وحد الأقواما
يا قوم بان الرشد فاقضوا ما جرى
وخذوا الحقيقة وانبذوا الأوهاما
هذي ربوعكم وتلك ربوعنا
متقابلين نعالج الأياما
هذي قبوركم وتلك قبورنا
متجاورين جماجما وعظاما
فبحرمة الموتى وواجب حقهم
عيشوا كما يقضي الجوار كراما
وقال من قصيدة أخرى له في هذا المعنى سنة 1910:
تعالوا عسى نطوي الجفاء وعهده
وننبذ أسباب الشقاق نواحيا
ألم تك «مصر» مهدنا ثم لحدنا
وبينهما كانت لكل مغانيا
ألم تك من قبل «المسيح بن مريم»
و«موسى» و«طه» تعبد النيل جاريا
فهلا تساقينا على حبه الهوى
وهلا فديناه ضفافا وواديا
وما زال منكم أهل ود ورحمة
وفي المسلمين الخير ما زال باقيا
فلا يثنكم عن ذمة قتل «بطرس»
فقدما عرفنا القتل في الناس فاشيا
القوة في الاتحاد
صوت الشعوب من الزئير مجمعا
فإذا تفرق كان بعض نباح
يستحث الشباب على العلم والجهاد
قال مخاطبا الشباب في قصيدة نظمها سنة 1924:
يا شباب الغد وابناي الفدى
لكم أكرم وأعزز بالفداء
هل يمد الله لي العيش عسى
أن أراكم في الفريق السعداء
وأرى تاجكم فوق السها
وأرى عرشكم فوق ذكاء
من رآكم قال مصر استرجعت
عزها في عهد «خوفو» و«مناء»
أمة للخلد ما تبني إذا
ما بنى الناس جميعا للعفاء
إنما مصر إليكم وبكم
وحقوق البر أولى بالقضاء
عصركم حر ومستقبلكم
في يمين الله خير الأمناء
لا تقولو حطنا الدهر فما
هو إلا من خيال الشعراء
هل علمتم أمة في جهلها
ظهرت في المجد حسناء الرداء
باطن الأمة من ظاهرها
إنما السائل من لون الإناء
فخذوا العلم على أعلامه
واطلبوا الحكمة عند الحكماء «واقرءوا تاريخكم واحتفظوا
بفصيح جاءكم من فصحاء»
أنزل الله على ألسنهم
وحيه في أعصر الوحي الوضاء
واحكموا الدنيا بسلطان فما
خلقت نضرتها للضعفاء «واطلبوا المجد على الأرض فإن
هي ضاقت فاطلبوه في السماء!»
يدعو إلى إنكار الذات
وقال مخاطبا الشباب في قصيدة قالها سنة 1924:
قالوا أتنظم للشباب تحية
تبقى على جيد الزمان قصيدا
قلت الشباب أتم عقد مآثر
من أن أزيدهم الثناء عقودا
قبلت جهودهم البلاد وقبلت
تاجا على هاماتهم معقودا
خرجوا فما مدوا حناجرهم ولا
منوا على أوطانهم مجهودا «خفي الأساس عن العيون تواضعا
من بعد ما رفع البناء مشيدا»
حكمه وعظاته
تنساب في شعر شوقي الحكم والعظات يخاطب بها مواطنيه ويبصرهم بعبر التاريخ وعظات الحوادث، مما نذكر طرفا منه.
جلال الخالدين
قال عن جلال الملوك وأنه إلى زوال ولا يبقى إلا جلال الخلود:
جلال الملك أيام وتمضي
ولا يمضي جلال الخالدينا
الخلود للعمل الصالح
وقال سنة 1923 عن الخلود وأنه للعمل الصالح:
من سره ألا يموت فبالعلى
خلد الرجال وبالفعال النابه
ما مات من حاز الثرى آثاره
واستولت الدنيا على آدابه
قل للمدل بماله وبجاهه
وبما يحل الناس من أنسابه
هذا الأديم يصد عن حضاره
وينام ملء الجفن عن غيابه
إلا فتى يمشي عليه مجددا
ديباجتيه معمرا لخرابه
العدل أساس الملك
وقال في العدل:
والعدل في الدولات أس ثابت
يفني الزمان وينقذ الأجيالا
فلسفة الحياة
وقال من قصيدته في رثاء مصطفى كامل:
دقات قلب المرء قائلة له
إن الحياة دقائق وثواني
ومن قوله في ذكرى كارنارفون مكتشف كنوز توت عنخ آمون:
في الموت ما أعيا
35
وفي أسبابه
كل امرئ رهن بطي كتابه
إن نام عنك فكل طب نافع
أو لم ينم فالطب من أذنابه
إلى أن قال منوها بفضل كارنارفون في اكتشافاته الأثرية:
أفضى إلى ختم الزمان ففضه
وحبا إلى التاريخ في محرابه
وطوى القرون القهقرى حتى أتى
فرعون بين طعامه وشرابه
ومن قوله في العظة والاعتبار حين سقطت أدرنة، وكانت من أمهات المدن الإسلامية في مقدونية وغلبها البلغار سنة 1912:
يا أخت أندلس عليك سلام
هوت الخلافة عنك والإسلام
إلى أن قال يندد بسياسة الترك:
رفعوا على السيف البناء فلم يدم
ما للبناء على السيوف دوام
أبقى الممالك ما المعارف أسه
والعدل فيه حائط ودعام «إن الغرور إذا تملك أمة
كالزهر يخفي الموت وهو زؤام»
لا حق للضعيف
وقال سنة 1923 أثناء انعقاد مؤتمر لوزان مشيرا إلى صلف الإنجليز مع مصر لأنها لم يكن لها من القوة ما تسترد به حقها:
أتعلم أنهم صلفوا وتاهوا
وصدوا الباب عنا موصدينا؟
ولو كنا نجر هناك سيفا
وجدنا عندهم عطفا ولينا
سيقضي «كرزن» بالأمر عنا
وحاجات «الكنانة» ما قضينا
وقال في هذا المعنى:
يا طير والأمثال تض
رب للبيب الأمثل
دنياك من عاداتها
ألا تكون لأعزل
الحكم للشعوب، لا للمستبدين
قال سنة 1894 في أول قصيدة له في ديوانه ينبه الملوك إلى قوة الشعوب ويدعوهم إلى النزول على حكمها:
إن ملكت النفوس فابغ رضاها
فلها ثورة وفيها مضاء
يسكن الوحش للوثوب من الأس
ر فكيف الخلائق العقلاء؟
يحسب الظالمون أن سيسودو
ن وأن لن يؤيد الضعفاء
والليالي جوائر مثلما جا
روا وللدهر مثلهم أهواء
وقال سنة 1922 يبشر بحكم الشعوب وزوال حكم الفرد :
زمان الفرد يا فرعون ولى
ودالت دولة المتجبرينا
وأصبحت الرعاة بكل أرض
على حكم الرعية نازلينا
وقال سنة 1923 يندد بالمستبدين:
المستبد يطاق في ناووسه
لا تحت تاجيه وفوق وثابه
36
والفرد يؤمن شره في قبره
كالسيف نام الشر خلف قرابه
37
وقال في هذا المعنى يخاطب توت عنخ آمون سنة 1925:
قسما بمن يحيي العظا
م ولا أزيدك من يمين
لو كان من سفر إيا
بك أمس أو فتح مبين
لرأيت جيلا غير جي
لك بالجبابر لا يدين
ورأيت محكومين قد
نصبوا وردوا الحاكمين
38
روح الزمان ونظمه
وسبيله في الآخرين «إن الزمان وأهله
فرغا من الفرد اللعين»
فإذا رأيت مشايخا
أو فتية لك ساجدين
لاق الزمان تجدهم
عن ركبه متخلفين
هم في الأواخر مولدا
وعقولهم في الأولين
الشعب قد يخدع
قال في مسرحية «مصرع كليوباترة» على لسان «حابي» يخاطب «ديون»:
39
اسمع الشعب ديون
كيف يوحون إليه
ملأ الجو هتافا
بحياتي قاتليه
أثر البهتان فيه
وانطلى الزور عليه
يا له من ببغاء
عقله في أذنيه
الحياة الدستورية السليمة
قال عن الدستور:
شر الحكومة أن يساس بواحد
في الملك أقوام عداد رماله
وقال سنة 1924 من قصيدة له عن «الأزهر»:
وتفيئوا الدستور تحت ظلاله
كنفا أهش من الرياض وأنضرا «لا تجعلوه هوى وخلفا بينكم
ومجر دنيا للنفوس ومتجرا»
اليوم صرحت الأمور فأظهرت
ما كان من خدع السياسة مضمرا
قد كان وجه الرأي أن نبقى يدا
ونرى وراء جنودها إنجلترا
فإذا أتتنا بالصفوف كثيرة
جئنا بصف واحد لن يكسرا
وقال سنة 1926 من قصيدة له في عيد الجهاد:
وبالدستور وهو لنا حياة
نرى فيه السلامة والفلاحا
أخذناه على المهج الغوالي
ولم نأخذه نيلا مستماحا
بنينا فيه من دمع رواقا
ومن دم كل نابتة جناحا
وقال سنة 1927 عن الحياة الدستورية السليمة:
إذا سلم الدستور هان الذي مضى
وهان من الأحداث ما كان آتيا
ألا كل ذنب لليالي لأجله
سدلنا عليه صفحنا والتناسيا
وقال سنة 1926 حينما اجتمع المؤتمر الوطني يوم 19 فبراير من تلك السنة وائتلفت فيه الأحزاب، يحيي الدستور لمناسبة عودته بعد توحيد الصفوف:
صرح
40
على الوادي المبارك ضاحي
متظاهر الأعلام والأوضاح
ضافي الجلالة كالعتيق مفصل
ساحات فضل في رحاب سماح
وكأن رفرفه رواق من ضحى
وكأن حائطه عمود صباح
الحق خلف جناح استذرى
41
به
ومراشد السلطان خلف جناح
هو هيكل الحرية القاني، له
ما للهياكل من فدى وأضاح
يبنى كما تبنى الخنادق في الوغى
تحت النبال وصوبها السحاح
ينهار الاستبداد حول عراصه
مثل انهيار الشرك حول «صلاح»
42
ويكب طاغوت الأمور لوجهه
متحطم الأصنام والأشباح •••
هو ما بنى الأعزال بالراحات أو
هو ما بنى الشهداء بالأرواح
أخذته «مصر» بكل يوم قاتم
ورد الكواكب أحمر الإصباح
هبت سماحا بالحياة شبابها
والشيب بالأرماق غير شحاح
ومشت إلى الخيل الدوارع وانبرت
للظافر الشاكي بغير سلاح
وقفات حق لم تقفها أمة
إلا انثنت آمالها بنجاح
وإذا الشعوب بنوا حقيقة ملكهم
جعلوا المآتم حائط الأفراح
إلى أن قال في توحيد الصفوف:
بشرى إلى الوادي تهز نباته
هز الربيع مناكب الأدواح
تسري ملمحة الحجول على الربى
وتسيل غرتها بكل بطاح
التامت الأحزاب بعد تصدع
وتصافت الأقلام بعد تلاح
سحبت على الأحقاد أذيال الهوى
ومشى على الضغن الوداد الماحي
وجرت أحاديث العتاب كأنها
سمر على الأوتاد والأقداح
ترمي بطرفك في المجامع لا ترى
غير التعانق واشتباك الراح
إلى أن قال يصف تعطيل الدستور عام 1925:
احتل حصن الحق غير جنوده
وتكالبت أيد على المفتاح
ضجت على أبطالها ثكناته
واستوحشت لكماتها النزاح
هجرت أرائكه وعطل عوده
وخلا من الغادين والرواح
وعلاه نسج العنكبوت فزاده
كالغار من شرف وسمت صلاح
وقال ينصح الشباب:
قل للبنين مقال صدق واقتصد
ذرع الشباب يضيق بالنصاح
أنتم بنو اليوم العصيب نشأتم
في قصف أنواء وعصف رياح
ورأيتم الوطن المؤلف صخرة
في الحادثات وسيلها المجتاح
وشهدتم صدع الصفوف وما جنى
من أمر مفتات ونهي وقاح
صوت الشعوب من الزئير مجمعا
فإذا تفرق كان بعض نباح
أظمتكم الأيام ثم سقتكم
رنقا من الإحسان غير قراح
وإذا منحت الخير من متكلف
ظهرت عليه سجية المناح
تركتكم مثل المهيض جناحه
لا في الحبال ولا طريق سراح
من صير الأغلال زهر قلائد
وكسا القيود محاسن الأوضاح
إن التي تبغون دون منالها
طول اجتهاد واضطراد كفاح
سيروا إليها بالأناة طويلة
إن الأناة سبيل كل فلاح
وخذوا بناء الملك عن دستوركم
إن الشراع مثقف الملاح
ومن قصيدة له سنة 1926 حين اجتمع برلمان الائتلاف:
الحق أبلج والكنانة حرة
والعز للدستور والإكبار
الأمر شورى لا يعيث مسلط
فيه ولا يطغى به جبار
عهد من الشورى الظليلة نضرت
آصاله واخضلت الأسحار
تجني البلاد بها ثمار جهودها
ولكل جهد في الحياة ثمار
بنيان آباء مشوا بسلاحهم
وبنين لم يجدوا السلاح فثاروا
فيه من التل المدرج حائط
ومن المشانق والسجون جدار
أبت التقيد بالهوى وتقيدت
بالحق أو بالواجب الأحرار
في مجلس لا مال مصر غنيمة
فيه ولا سلطان مصر صغار
ما للرجال سوى المراشد منهج
فيه ولا غير الصلاح شعار
يتعاونون كأهل دار زلزلت
حتى تقر وتطمئن الدار
يجرون بالرفق الأمور وفلكها
والريح دون الفلك والإعصار
ومع المجدد بالأناة سلامة
ومع المجدد بالجماح عثار
يدعو إلى انتخاب الأكفاء الشرفاء
ومن قصيدة له سنة 1922 قال في مطلعها:
أعدت الراحة الكبرى لمن تعبا
وفاز بالحق من لم يأله طلبا
إلى أن قال مشيرا إلى الانتخابات البرلمانية:
دار النيابة قد صفت أرائكها
لا تجلسوا فوقها الأحجار والخشبا
اليوم يا قوم إذ تبنون مجلسكم
تبنون للعقب الأيام والحقبا
ومن قصيدته سنة 1924 عن «الأزهر»:
دار النيابة هيئت درجاتها
فليرق في الدرج الذوائب والذرى
الصارخون إذا أسيء إلى الحمى
والذائدون إذا أغير على الشرى
لا الجاهلون العاجزون ولا الألى
يمشون في ذهب القيود تبخترا
رواد الوطنية
قال سنة 1925 من قصيدة له في رثاء المرحوم عبد اللطيف الصوفاني:
ألست من فئة سهام
سنوا المحاماة والرماء
فتاهم بالشباب ضحى
ما أعظم الذبح والفداء
ومات أبطالهم جياعا
في غير أوطانهم ظماء
ولو أرادوا متاع دنيا
لأدركوا الحكم والثراء
قضية الحق منذ قامت
لم تأل أركانها بناء
تحذو على مصطفى وتبني
جيلا من الحق أقوياء
شرعتم للشباب دينا
كدينهم بينا سواء
لما أتيتم به جعلتم
رأس تعاليمه «الجلاء»
جمعتم مصر ثم سرتم
فكنتم الجمع واللواء
وما عرفتم لغير مصر
وغير أحبابها ولاء
لم تمسحوا للعميد رأسا
ولا نفضتم له حذاء
وقال من قصيدة يرثي فيها أمين الرافعي:
قيل غال في الرأي قلت هبوه
قد يكون الغلو رأيا أصيلا
وقديما بنى الغلو نفوسا
وقديما بنى الغلو عقولا
قد فقدنا به بقية رهط
أيقظوا النيل واديا ونزيلا
حركوه وكان بالأمس كالكه
ف حزونا وكالرقيم سهولا
يا أمين الحقوق أديت حتى
لم تخن مصر في الحقوق فتيلا
ولو اسطعت زدت مصر من الحق
على نيلها المبارك نيلا
لست أنساك قابعا بين درجي
ك مكبا عليهما مشغولا
قد تواريت في الخشوع فخالو
ك ضئيلا وما خلقت ضئيلا
سائل «الشعب» عنك و«العلم» الخف
اق أو سائل «اللواء» الظليلا
تنشد الناس في «القضية» لحنا
كالحواري رتل الإنجيلا
ماضيا في الجهاد لم تتأخر
تزن الصف أو تقيم الرعيلا
ما تبالي مضيت وحدك تحمي
حوذة الحق أم مضيت قبيلا
يدعو إلى النهضة الاقتصادية
قال سنة 1920 من قصيدة له في الاحتفال بإنشاء بنك مصر يدعو إلى الاكتتاب في رأس مال البنك، وينوه بفضل المال في نهضة الأمم:
قف بالممالك وانظر دولة المال
واذكر رجالا أدالوها بإجمال
إلى أن قال:
يا طالبا لمعالي الملك مجتهدا
خذها من العلم أو خذها من المال «بالعلم والمال يبني الناس ملكهم
لم يبن ملك على جهل وإقلال»
سراة مصر عهدناكم إذا بسطت
يد الدعاء سراعا غير بخال
تبين الصدق من بين الأمور لكم
فامضوا إلى الماء لا تلووا على الآل
لا يذهب الدهر بين الترهات بكم
وبين زهر من الأحلام قتال
هاتوا الرجال وهاتوا المال واحتشدوا
رأيا لرأي ومثقالا بمثقال
هذا هو الحجر الدري بينكم
فابنوا بناء قريش بيتها العالي
آمال مصر إليها طالما طمحت
هل تبخلون على مصر بآمال
فابنوا على بركات الله واغتنموا
ما هيأ الله من حظ وإقبال
وقال في قصيدة أخرى:
الملك بالمال والرجال
لم يبن ملك بغير مال
يحيي النهضة النسوية
كان مؤيدا ونصيرا لنهضة المرأة، ألقى هذه القصيدة سنة 1924 في جمع حافل من السيدات المصريات بمسرح حديقة الأزبكية، وجعل عنوانها في ديوانه «مصر تجدد مجدها بنسائها المتجددات». قال:
قم حي هذي النيرات
حي الحسان الخيرات
واخفض جبينك هيبة
للخرد المتخفرات
43
زين المقاصر والحجا
ل وزين محراب الصلاة
هذا مقام الأمها
ت فهل قدرت الأمهات؟
لا تلغ
44
فيه ولا تقل
غير الفواصل محكمات
وإذا خطبت فلا تكن
خطبا على مصر الفتاة
اذكر لها اليابان لا
أمم الهوى المتهتكات
ماذا لقيت من الحضا
رة يا أخي الترهات
لم تلق غير الرق من
عسر على الشرقي عات •••
خذ بالكتاب وبالحدي
ث وسيرة السلف الثقاة
وارجع إلى سنن الخلي
قة واتبع نظم الحياة «هذا رسول الله لم
ينقص حقوق المؤمنات»
العلم كان شريعة
لنسائه المتفقهات
رضن التجارة والسيا
سة والشئون الأخريات
ولقد علمت بناته
لجج العلوم الزاخرات
كانت سكينة
45
تملأ الد
نيا وتهزأ بالرواة
روت الحديث وفسرت
آي الكتاب البينات «وحضارة الإسلام تن
طق عن مكان المسلمات»
بغداد دار العالما
ت ومنزل المتأدبات
ودمشق تحت أمية
أم الجواري
46
النابغات
ورياض أندلس نمي
ن الهاتفات الشاعرات
ادع الرجال لينظروا
كيف اتحاد الغانيات
والنفع كيف أخذن في
أسبابه متعاونات
لما رأين ندى الرجا
ل تفاخرا أو حب ذات
ورأين عندهم الصنا
ئع والفنون مضيعات «والبر عند الأغنيا
ء من الشئون المهملات»
أقبلن يبنين المآ
ثر للنجاح موفقات
للصالحات عقائل ال
وادي هوى في الصالحات
الله أنبتهن في
طاعاته خير النبات
فأتين أطيب ما أتى
زهر المناقب والصفات
لم يكف أن أحسن حت
ى زدن حض المحسنات
يمشين في سوق الثوا
ب مساومات رابحات
يلبسن ذل السائلا
ت وما ذكرن البائسات
فوجوههن وماؤها
ستر على المتجملات «مصر تجدد مجدها
بنسائها المتجددات»
النافرات من الجمو
د كأنه شبح الممات
هل بينهن جوامدا
فرق وبين الموميات
لما حضن لنا القضي
ة كن خير الحاضنات
غذينها في مهدها
بلبابهن الطاهرات
وسبقن فيها المعلمي
ن إلى الكريهة معلمات
47
ينفثن في الفتيان من
روح الشجاعة والثبات
يهوين تقبيل المهن
د أو معانقة القناة
ويرين حتى في الكرى
قبل الرجال محرمات
يحيي الصحافة
قال سنة 1920 من قصيدة له في احتفال أقامته نقابة الصحفيين:
لكل زمان مضى آية
وآية هذا الزمان الصحف
لسان البلاد ونبض العباد
وكهف الحقوق وحرب الجنف
48
تسير مسير الضحى في البلاد
إذا العلم مزق فيها السدف
وتمشي تعلم في أمة
كثيرة من لا يخط الألف •••
فيا فتية الصحف صبرا إذا
نبا الرزق فيها بكم واختلف
فإن السعادة غير الظهور
وغير الثراء وغير الترف
ولكنها في نواحي الضمير
إذا هو باللؤم لم يكتنف
وروموا النبوغ فمن ناله
تلقى من الخط أسنى التحف •••
حمدنا بلاءكم في النضال
وأمس حمدنا بلاء السلف
ومن نسي الفضل للسابقين
فما عرف الفضل فيما عرف
أليس إليهم صلاح البناء
إذا ما الأساس سما بالغرف
يندد بمن يخذل الوطنية
في سنة 1904 خطب مصطفى رياض باشا في حفلة تأسيس مدرسة محمد علي الصناعية بالإسكندرية خطبة امتدح فيها اللورد كرومر كما امتدح الاحتلال البريطاني.
وقد أثارت هذه الخطبة سخط الرأي العام واستنكرها المواطنون، وكان شوقي صوت الشعر الناطق باستنكار الخطبة وصاحبها. قال:
كبير السابقين من الكرام
برغمي أن أنالك بالملام
مقامك فوق ما زعموا ولكن
رأيت الحق فوقك والمقام
إلى أن قال:
غمرت القوم
49
إطراء وحمدا
وهم غمروك بالنعم الجسام
رأوا بالأمس أنفك في الثريا
فكيف اليوم أصبح في الرغام «خطبت فكنت خطبا لا خطيبا
أضيف إلى مصائبنا العظام» «لهجت بالاحتلال وما أتاه
وجرحك منه لو أحسست دامي»
وهل تركت لك السبعون عقلا
لعرفان الحلال من الحرام؟
يندد بقاضي دنشواي
كان أحمد فتحي زغلول أحد قضاة محكمة دنشواي الذين أصدروا ذلك الحكم الجائر في تلك المأساة سنة 1906، وقد رقي بعد ذلك وكيلا لوزارة الحقانية (العدل)، وأقيمت له حفلة تكريم في فندق شبرد دعي إليها شوقي فرفض الدعوة، وأرسل في ظرف مغلق هذه الأبيات التي عبر فيها أبلغ تعبير عن تنديده بالمحتفل به وبالمحتفلين :
إذا ما جمعتم أمركم وهممتم
بتقديم شيء للوكيل ثمين
خذوا حبل مشنوق بغير جريرة
وسروال مجلود وقيد سجين
ولا تعرضوا شعري عليه فحسبه
من الشعر حكم خطه بيمين
ولا تقرءوه في «شبرد» بل اقرءوا
على ملأ في دنشواي حزين
الحنين إلى الوطن
زاد حب شوقي للوطن وتعلقه به في منفاه بالأندلس، وقد كان نفيه بأمر السلطة العسكرية البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى سنة 1915، وبقي في منفاه بعيدا عن الوطن نحو خمسة أعوام إلا قليلا، فازداد شعورا بلوعة الحزن على فراقه، واستثار النفي الوطنية الكامنة في نفسه، وأججت الغربة نارها، فانطلق يشدو بالحنين إلى الوطن.
حسبك منه سينيته الأندلسية، تلك القصيدة الخالدة الني نظمها سنة 1919 يعارض فيها سينية البحتري، قال في مطلعها:
اختلاف النهار والليل ينسي
اذكرا لي الصبا وأيام أنسي
وسلا «مصر» هل سلا القلب عنها
أو أسا جرحه الزمان المؤسي
كلما مرت الليالي عليه
رق والعهد في الليالي تقسي
إلى أن قال:
يا ابنة اليم
50
ما أبوك بخيل
ما له مولعا بمنع وحبس «أحرام على بلابله الدو
ح حلال للطير من كل جنس؟» «كل دار أحق بالأهل إلا
في خبيث من المذاهب رجس»
51
نفسي مرجل وقلبي شراع
بهما في الدموع سيري وأرسي
واجعلي وجهك «الفنار» ومجرا
ك يد «الثغر» بين «رمل» و«مكس» «وطني لو شغلت بالخلد عنه
نازعتني إليه في الخلد نفسي»
شهد الله لم يغب عن جفوني
شخصه ساعة ولم يخل حسي
والقصيدة من أروع ما نظم شوقي.
وله في هذا المعنى قصيدة أخرى رائعة نظمها في منفاه يعارض فيها نونية ابن زيدون. قال:
يا نائح «الطلح» أشباه عوادينا
نشجى لواديك أم نأسى لوادينا؟
52
ماذا تقص علينا غير أن يدا
قصت جناحك جالت في حواشينا!
رمى بنا البين
53
أيكا غير سامرنا
أخا الغريب؛ وظلا غير نادينا
ثم انتقل من خطاب الطائر الحزين إلى بكاء الأندلس، قال:
آها لنا! نازحي أيك بأندلس
وإن حللنا رفيفا من روابينا
54
رسم وقفنا على رسم الوفاء له
نجيش بالدمع والإجلال يثنينا
إلى أن قال في الحنين إلى مصر:
لكن «مصر» وإن أغضت على مقة
55
عين من الخلد بالكافور تسقينا
على جوانبها رفت تمائمنا
وحول حافاتها قامت رواقينا
56
ملاعب مرحت فيها مآربنا
وأربع أنست فيها أمانينا
ومطلع لسعود من أواخرنا
ومغرب لجدود من أوالينا
بنا
57
فلم نخل من روح يراوحنا
من بر مصر وريحان يغادينا
كأم موسى على اسم الله تكفلنا
وباسمه ذهبت في اليم تلقينا
58
ومصر كالكرم ذي الإحسان فاكهة
لحاضرين وأكواب لبادينا •••
يا ساري البرق يرمي عن جوانحنا
بعد الهدوء ويهمي عن مآقينا
لما ترقرق في دمع السماء دما
هاج البكا فخضبنا الأرض باكينا
إلى أن قال يخاطب مواطنيه:
إلى الذين وجدنا ود غيرهم
دنيا وودهم الصافي هو الدينا
يا من نغار عليهم من ضمائرنا
ومن مصون هواهم في تناجينا
ناب الحنين إليكم في خواطرنا
في النائبات فلم يأخذ بأيدينا
إلى أن قال يشيد في منفاه بعظمة مصر:
لم تنزل الشمس ميزانا ولا صعدت
في ملكها الضخم عرشا مثل وادينا
ألم تؤله على حافاته ورأت
عليه آباءها الغر الميامينا؟
وهذه الأرض من سهل ومن جبل
قبل «القياصر» دناها «فراعينا»
ولم يضع حجرا بان على حجر
في الأرض إلا على آثار بانينا
كأن «أهرام» مصر حائط نهضت
به يد الدهر لا بنيان فانينا
إلى أن قال في تحية مصر وتشوقه إليها من منفاه:
أرض الأبوة والميلاد طيبها
مر الصبا في ذيول من تصابينا
كانت محجلة فيها مواقفنا
غرا مسلسلة المجرى قوافينا
فآب من كرة الأيام لاعبنا
وثاب من سنة الأحلام لاهينا
ولم ندع لليالي صافيا فدعت
بأن نغص فقال الدهر آمينا
لو استطعنا لخضنا الجو صاعقة
والبر نار وغى والبحر غسلينا
59
سعيا إلى مصر نقضي حق ذاكرنا
فيها إذا نسي الوافي وباكينا
وقال يذكر والدته بحلوان وقد توفيت قبيل عودته:
كنز ب «حلوان» عند الله نطلبه
خير الودائع من خير المؤدينا
لو غاب كل عزيز عنه غيبتنا
لم يأته الشوق إلا من نواحينا
إذا حملنا لمصر أو له شجنا
لم ندر أي هوى الأمين شاجينا
وقال أيضا سنة 1917 في منفاه يهتف بمصر وساكنيها:
يا ساكني مصر إنا لا نزال على
عهد الوفاء وإن غبنا مقيمينا
هلا بعثتم لنا من ماء نيلكم
شيئا نبل به أحشاء صادينا
60 «كل المناهل بعد النيل آسنة
ما أبعد النيل إلا عن أمانينا»
وقد بعثت شوقي بهذه الأبيات إلى صديقه وصنوه حافظ إبراهيم فأجابه حافظ بالأبيات الآتية:
عجبت للنيل يدري أن بلبله
صاد ويسقي ربا مصر ويسقينا
تالله ما طاب للأصحاب مورده
ولا ارتضوا بعدكم من عيشهم لينا
لم تنأ عنه وإن فارقت شاطئه
وقد نأينا وإن كنا مقيمينا
يشيد بعظمة مصر
لقد ملك حب مصر مشاعره فكان يتغنى بعظمتها ويشيد بمفاخرها، وتفيض قصائده بهذا المعنى السامي.
قال في تحية مصر والنيل والهرم من قصيدة نظمها سنة 1914 يحيي بها الطائرين العثمانيين سالم وكمال حين قدومهما إلى مصر على متن طائرتهما عن طريق العريش وسيناء:
يا راكب الريح حي النيل والهرما
وعظم السفح من سيناء والحرما
وقف على أثر مر الزمان به
فكان أثبت من أطواده قمما
واخفض جناحك في الأرض التي حملت
موسى رضيعا وعيسى الطهر منفطما
وأخرجت حكمة الأجيال خالدة
وبينت للعباد السيف والقلما
هذا فضاء تلم الريح خاشعة
به ويمشي عليه الدهر محتشما
وقال من قصيدة له في أبي الهول:
أبا الهول طال عليك العصر
وبلغت في الأرض أقصى العمر
فيا لدة الدهر
61
لا الدهر شب
ولا أنت جاوزت حد الصغر
إلام ركوبك متن الرمال
لطي الأصيل وجوب السحر
تسافر منتقلا في القرون
فأيان تلقي غبار السفر؟
أبينك عهد وبين الجبال
تزولان في الموعد المنتظر؟
62 «أبا الهول أنت نديم الزمان
نجي الأوان سمير العصر» «ظليل الحضارة في الأولين
رفيع البناء جليل الأثر»
وختمها بقوله: «تحرك أبا الهول هذا الزمان
تحرك ما فيه حتى الحجر»
وقال عن الأهرام من قصيدة له سنة 1922:
قف ناج أهرام الجلال وناد
هل من بناتك مجلس أو ناد
نشكو ونفزع فيه بين عيونهم
إن الأبوة مفزع الأولاد
ونبثهم عبث الهوى بتراثهم
من كل ملق للهوى بقياد
ونبين كيف تفرق الأخوان في
وقت البلاء تفرق الأضداد
63
إن المغالط في الحقيقة نفسه
باغ على النفس الضعيفة عادي •••
قل للأعاجيب الثلاث
64
مقالة
من هاتف بمكانهن وشادي
لله أنت فما رأيت على الصفا
هذا الجلال ولا على الأوتاد
لك كالمعابد روعة قدسية
وعليك روحانية العباد
أسست من أحلامهم بقواعد
ورفعت من أخلاقهم بعماد
قم قبل الأحجار والأيدي التي
أخذت لها عهدا من الآباد
وخذ النبوغ من الكنانة إنها
مهد الشموس ومسقط الآراد
65
وقال يشيد بعظمة الأهرام من قصيدته «على قبر نابليون»:
قم إلى الأهرام واخشع واطرح
خيلة الصيد
66
وزهو الفاتحين
وتمهل إنما تمشي إلى
حرم الدهر ومحراب القرون
هو كالصخرة عند القبط أو
كالحطيم الطهر عند المسلمين
وتسنم منبرا من حجر
لم يكن قبلك حظ الخاطبين
وادع أجيالا تولت يسمعوا
لك وابعث في الأوالي حاشرين
وأعدها كلمات أربعا
67
قد أحاطت بالقرون الأربعين
قد عرضت الدهر والجيش معا
غاية قصر عنها الفاتحون
عظة قومي بها أولى وإن
بعد العهد فهل يعتبرون؟
قصر أنس الوجود
وقال سنة 1910 عن قصر «أنس الوجود» بأسوان وكيف يغمره النيل وقت الفيضان، من قصيدة يخاطب فيها الكولونل تيودور روزفلت رئيس الولايات المتحدة الأسبق، وكان قد ألقى خطبة ينتقص فيها من قدر المصريين فرد عليه شوقي بهذه القصيدة:
أيها المنتحي «بأسوان» دارا
كالثريا تريد أن تنقضا
اخلع النعل واخفض الطرف واخشع
لا تحاول من آية الدهر غضا
قف بتلك «القصور» في اليم غرقى
ممسكا بعضها من الذعر بعضا
كعذارى أخفين في الماء بضا
سابحات به وأبدين بضا
مشرفات على الزوال وكانت
مشرفات على الكواكب نهضا
شاب من حولها الزمان وشابت
وشباب الفنون ما زال غضا
صنعة تدهش العقول وفن
كان إتقانه على القوم فرضا
يا قصورا نظرتها وهي تقضي
68
فسكبت الدموع والحق يقضى «أنت سطر ومجد مصر كتاب
كيف سام البلى كتابك فضا» «وأنا المحتفي بتاريخ مصر
من يصن مجد قومه صان عرضا»
وقال في يناير سنة 1923 بعد اكتشاف كنوز توت عنخ آمون يذكر عظمة مصر الخالدة:
قفي يا أخت «يوشع»
69
خبرينا
أحاديث القرون الغابرينا
فمثلك من روى الأخبار طرا
ومن نسب القبائل أجمعينا
إلى أن قال يشيد بحضارة قدماء المصريين وكيف بلغوا الشأو العظيم من المجد:
مشت بمنارهم في الأرض «روما»
ومن أنوارهم قبست «أثينا»
ملوك الدهر بالوادي أقاموا
على «وادي الملوك» محجبينا
تعالى الله كان السحر فيهم
أليسوا للحجارة منطقينا؟
غدوا يبنون ما يبقى وراحوا
وراء الآبدات مخلدينا
إذا عمدوا لمأثرة أعدوا
لها الإتقان والخلق المتينا
وليس الخلد مرتبة تلقى
وتؤخذ من شفاه الجاهلينا
ولكن منتهى همم كبار
إذا ذهبت مصادرها بقينا «وسر العبقرية حين يسري
فينتظم الصنائع والفنونا» «وآثار الرجال إذا تناهت
إلى التاريخ خير الحاكمينا»
وأخذك من فم الدنيا ثناء
وتركك في مسامعها طنينا
وقال مخاطبا توت عنخ آمون:
سلام يوم وارتك المنايا
بواديها ويوم ظهرت فينا
خرجت من القبور خروج عيسى
عليك جلالة في العالمينا
ومن قصيدة أخرى له عن توت عنخ آمون وقد تخيله قد بعث بعد أربعين قرنا ورأى الاحتلال جاثما على صدر البلاد فحزن لما رآه وآثر العودة إلى قبره، والقصيدة من أروع ما جادت به قريحة شوقي في الإشادة بأمجاد مصر وفي المعاني الوطنية، قال في مطلعها مخاطبا توت عنخ آمون:
قم سابق «الساعة» واسبق وعدها
الأرض ضاقت عنك فاصدع غمدها
واملأ رماحا غورها ونجدها
وافتح أصول النيل واستردها
شلالها وعذبها وعدها
70
واصرف إلينا جزرها ومدها
إلى أن قال:
سافر أربعين قرنا عدها
حتى أتى الدار فألفى عندها
إنجلترا وجيشها ولوردها
مسلولة الهندي تحمي «هندها»
71
قامت على «السودان» تبني سدها
وركزت دون «القناة» بندها
72 •••
فقال والحسرة ما أشدها
ليت جدار القبر ما تدهدها
73
وليت عيني لم تفارق رقدها
قم نبني يا «بنتئور»
74
مادها •••
مصر الفتاة بلغت أشدها
وأثبت الدم الزكي رشدها
ولعبت على الحبال وحدها
وجربت إرخاءها وشدها •••
يا رب قو يدها وشدها
وافتح لها السبل ولا تسدها
وقس لكل خطوة ما بعدها
وعن صغيرات الأمور حدها
واصرف إلى جد الشئون جدها
ولا تضع على الضحايا جهدها
واكبح هوى الأنفس واكسر حقدها
واجمع على الأم الرءوم ولدها
وادي الملوك
وقال سنة 1925في هذا المعنى يذكر توت عنخ آمون وحضارة عصره بعد أن اكتشفت كنوزه في «وادي الملوك»:
درجت على «الكنز» القرون
وأتت على الدن
75
السنون
يا ابن الثواقب من «رع»
وابن الزواهر من «أمون»
76
نسب عريق في الضحى
بذ القبائل والبطون
أرأيت كيف يئوب من
غمر القضاء المغرقون
وتدول آثار القرو
ن على رحا الزمن الطحون
حب الخلود بنى لكم
خلقا به تتفردون
لم يأخذ المتقدمو
ن به ولا المتأخرون
حتى تسابقتم إلى ال
إحسان فيما تعملون
لم تتركوه في الجلي
ل ولا الحقير من الشئون
هذا القيام فقل لنا ال
يوم الأخير متى يكون؟
البعث غاية زائل
فان وأنتم خالدون
السبق من عاداتكم
أترى القيامة تسبقون؟
أنتم أساطين الحضا
رة والبناة المحسنون
المتقنون وإنما
يجزى الخلود المتقون
يتغنى بالنيل
نظم هذه القصيدة الرائعة يتغنى فيها بالنيل، فصور الحياة للوادي وأهله، وأبدع في وصف روعته وجماله وجلاله، ثم انتقل إلى قدماء المصريين ومفاخرهم، وهي القصيدة التي تغنيها أم كلثوم فتزيدها بهاء وجمالا:
من أي عهد في القرى تتدفق
وبأي كف في المدائن تغدق
ومن السماء نزلت أم فجرت من
عليا الجنان جداولا تترقرق
وبأي عين أم بأية مزنة
أم أي طوفان تفيض وتفهق
وبأي نول أنت ناسج بردة
للضفتين جديدها لا يخلق
تسود ديباجا إذا فارقتها
فإذا حضرت اخضوضر الإستبرق
77
أتت الدهور عليك مهدك مترع
وحياضك الشرق الشهية دفق
78
تسقي وتطعم لا إناؤك ضائق
بالواردين ولا خوانك ينفق
79
والماء تسكبه فيسبك عسجدا
والأرض تغرقها فيحيا المغرق
تعيي منابعك العقول ويستوي
متخبط في علمها ومحقق
إلى أن قال:
دين الأوائل فيك دين مروءة
لم لا يؤله من يقوت ويرزق
لو أن مخلوقا يؤله لم تكن
لسواك مرتبة الألوهة تخلق
جعلوا الهوى لك والوقار عبادة
إن العبادة خشية وتعلق
دانوا ببحر بالمكارم زاخر
عذب المشارع مده لا يلحق
متقيد بعهوده ووعوده
يجري على سنن الوفاء ويصدق
يتقبل الوادي الحياة كريمة
من راحتيك عميمة تتدفق
إلى أن قال يصف مهرجان وفاء النيل عند قدماء المصريين وكيف كانت «عروس النيل» تقدم قربانا له كل عام:
والمجد عند الغانيات رغيبة
يبغى كما يبغى الجمال ويعشق
إن زوجوك بهن فهي عقيدة
ومن العقائد ما يلب ويحمق
80
ما أجمل الإيمان لولا ضلة
في كل دين بالهداية تلصق
زفت إلى ملك الملوك يحثها
دين ويدفعها هوى وتشوق
ولربما حسدت عليك مكانها
ترب تمسح بالعروس وتحدق
81
مجلوة في الفلك يحدو فلكها
بالشاطئين مزغرد ومصفق
في مهرجان هزت الدنيا به
أعطافها واختال فيه المشرق
فرعون تحت لوائه وبناته
يجري بهن على السفين الزورق
حتى إذا بلغت مواكبها المدى
وجرى لغايته القضاء الأسبق
وكسا سماء المهرجان جلالة
سيف المنية وهو صلت يبرق
وتلفتت في اليم كل سفينة
وانثال بالوادي الجموع وحدقوا
ألقت إليك بنفسها ونفيسها
وأتتك شيقة حواها شيق
خلعت عليك حياءها وحياتها
أأعز من هذين شيء ينفق؟
وإذا تناهى الحب واتفق الفدى
فالروح في باب الضحية أليق
إلى أن قال يذكر النيل وأنه مصدر الحياة والحضارة لمصر والوادي:
أصل الحضارة في صعيدك ثابت
ونباتها حسن عليك مخلق
82
ولدت فكنت المهد ثم ترعرت
فأظلها منك الحفي المشفق
ملأت ديارك حكمة مأثورها
في الصخر والبردي الكريم منبق
83
وبنت بيوت العلم باذخة الذرى
يسعى لهن مغرب ومشرق
واستحدثت دينا فكان فضائلا
وبناء أخلاق يطول ويشهق
84
مهد السبيل لكل دين بعده
كالمسك رياه بأخرى تفتق
يدعو إلى بر ويرفع صالحا
ويعاف ما هو للمروءة مخلق
وقال في ختامها:
يا نيل أنت بطيب ما نعت «الهدى»
وبمدحة «التوراة» أحرى أخلق
وإليك يهدى الحمد خلق حازهم
كنف على مر الدهور مرهق
85
وعليك تجلى من مصونات النهى
خود عرائس خدرهن المهرق
86
الدر في لباتهن منظم
والطيب في حبراتهن مرقرق
لي فيك مدح ليس فيه تكلف
أملاه حب ليس فيه تملق
وفي الحق أنه لم يوصف النيل في عظمته وجلاله وماضيه وحاضره وخلوده بأبدع مما وصفه شوقي في هذه القصيدة.
نشيد النيل
ووضع نشيدا جميلا يتغنى به الشباب والمواطنون قال:
النيل العذب هو الكوثر
والجنة شاطئه الأخضر
ريان الصفحة والمنظر
ما أبهى الخلد وما أنضر •••
البحر الفياض القدس
الساقي الناس وما غرسوا
وهو المنوال لما لبسوا
والمنعم بالقطن الأنور •••
جعل الإحسان له شرعا
لم يخل الوادي من مرعى
فترى زرعا يتلو زرعا
وهنا يجنى وهنا يبذر •••
جار ويرى ليس بجاري
لأناة فيه ووقار
ينصب كتل منهار
ويضج فتحسبه يزأر •••
حبشي اللون كجيرته
من منبعه وبحيرته
صبغ الشطين بسمرته
لونا كالمسك وكالعنبر
النشيد الوطني
وفي سنة 1920 وضع نشيدا وطنيا أقرته اللجنة التي ألفت في هذا العام لترقية الأغاني الوطنية قال:
بني مصر مكانكمو تهيا
فهيا مهدوا للملك هيا
خذوا شمس النهار له حليا
ألم تك تاج أولكم مليا •••
على الأخلاق خطوا الملك وابنوا
فليس وراءها للعز ركن
أليس لكم بوادي النيل عدن
وكوثرها الذي يجري شهيا •••
لنا وطن بأنفسنا نقيه
وبالدنيا العريضة نفتديه
إذا ما سيلت الأرواح فيه
بذلناها كأن لم نعط شيا •••
لنا الهرم الذي صحب الزمانا
ومن حدثانه أخذ الأمانا
ونحن بنو السنا العالي نمانا
أوائل علموا الأمم الرقيا •••
تطاول عهدهم عزا وفخرا
فلما آل للتاريخ ذخرا
نشأنا نشأة في المجد أخرى
جعلنا الحق مظهرها العليا •••
جعلنا مصر ملة ذي الجلال
وألفنا الصليب مع الهلال
وأقبلنا كصف من عوالي
يشد السمهري السمهريا •••
نقوم على البناية محسنينا
ونعهد بالتمام إلى بنينا
نموت فداك مصر كما حيينا
ويبقى وجهك المفدي حيا
نشيد الكشافة
نحن الكشافة في الوادي
جبريل الروح لنا حادي
يا رب بعيسى والهادي
وبموسى خذ بيد الوطن •••
كشافة مصر وصبيتها
ومناة الدار ومنيتها
وجمال الأرض وحليتها
وطلائع أفراح المدن •••
نبتدر الخير ونستبق
ما يرضى الخالق والخلق
بالنفس وخالقها نثق
ونزيد وثوقا في المحن •••
في السهل نرف رياحينا
ونجوب الصخر شياطينا
نبني الأبدان وتبنينا
والهمة في الجسم المرن •••
ونخلي الخلق وما اعتقدوا
ولوجه الخالق نجتهد
نأسوا الجرحى أنى وجدوا
ونداوي من جرح الزمن •••
في الصدق نشأنا والكرم
والعفة عن مس الحرم
ورعاية طفل أو هرم
والذود عن الغيد الحصن •••
ونوافي الصارخ في اللجج
والنار الساطعة الوهج
لا نسأله ثمن المهج
وكفى بالواجب من ثمن •••
رب فكثرنا عددا
وابذل لأبوتنا المددا
هيئ لهم ولنا رشدا
يا رب وخذ بيد الوطن
نشيد الشباب
اليوم نسود بأيدينا
ونعيد محاسن ماضينا
ونشيد العز بأيدينا
وطن نفديه ويفدينا •••
وطن بالحق نؤيده
وبعين الله نشيده
ونحسنه ونزينه
بمآثرنا ومساعينا •••
سر التاريخ وعنصره
وسرير الدهر ومنبره
وجنان الخلد وكوثره
وكفى الآباء رياحينا •••
نتخذ الشمس له تاجا
وضحاها عرشا وهاجا
وسماء السؤدد أبراجا
وكذلك كان أوالينا •••
العصر يراكم والأمم
والكرنك يلحظ والهرم
أبني الأوطان ألا همم
كبناء الأول يبنينا •••
سعيا أبدا سعيا سعيا
لأثيل المجد وللعليا
ولنجعل مصر هي الدنيا
ولنجعل مصر هي الدنيا
وظل شوقي يتغنى بالوطنية ويغرد للمواطنين والناطقين بالضاد جميعا ألحان الحرية ويسمعهم أسمى معاني الإنسانية حتى أدركته الوفاة سنة 1932، وظل شعره بعد وفاته وسيظل على الدوام رمزا للحكمة والحرية والخلود.
حافظ إبراهيم شاعر النيل
1872-1932
هو صنو شوقي في إحياء دولة الشعر، ولئن تميز عنه شوقي بالزعامة كما أسلفنا في الحديث عن شوقي، فإن حافظا يمتاز عنه بأن نشأته وحياته كانت شعبية، في حين كانت نشأة شوقي وحياته أرستقراطية؛ فكان حافظ أقرب إلى روح الشعب ومشاعره، وأقدر على تصوير آلامه التي شاركه فيها، واكتوى بلهيبها، فكان لذلك أبلغ في التعبير عنها، وكانت عباراته أسهل وأقرب إلى إدراك معانيها من عبارات شوقي؛ لأنه كان يحس إحساسا قويا أنه يخاطب الشعب في مجموع مثقفيه وقارئيه.
ولد حافظ إبراهيم سنة 1872 من أب مصري وأم من أسرة تركية، كان أبوه إبراهيم أفندي فهمي مهندسا يشرف على قناطر ديروط حيث ولد حافظ، وتوفي وحافظ في الرابعة من عمره، فكفله خاله محمد أفندي نيازي، وعاش في كنفه عيشة الطبقات المتوسطة التي كانت أقرب إلى الضيق منها إلى اليسار، فأحس حافظ منذ صباه بما تعانيه الطبقات الشعبية من جهد ورقة حال، ولما ظهرت مواهبه الشعرية كان الترجمان الصادق الأمين لهذه الطبقات.
تلقى التعليم الابتدائي وجزءا من التعليم الثانوي، ولكنه لم يتمه، وانتقل مع خاله إلى طنطا، وكان مهندس تنظيم بها، وانقطع حافظ وقتا عن متابعة التعليم، واتجهت نفسه إلى الأدب والشعر.
واشتغل وقتا وجيزا بالمحاماة بطنطا، ولكنه لم يستمر فيها؛ إذ لم يجد من نفسه ميلا إليها لما كانت تقتضيه من دأب على العمل المتواصل وهو لم يكن يميل إلى التقيد بمثل هذا الدأب بل كان كالطير ينطلق مغردا بين مختلف الأشجار والأغصان.
ولقد فكر في أن يكون ضابطا بالجيش؛ إذ كانت الحياة العسكرية مما يستثير في نفسه روح الشعر والخيال، أو لعله أراد أن يقلد البارودي في نشأته العسكرية، فالتحق بالمدرسة الحربية بالقاهرة، وتخرج منها سنة 1891 ضابطا برتبة ملازم ثان، وكان إذ ذاك في سن العشرين تقريبا، وانتظم في حملة السودان بقيادة اللورد كتشنر سردار الجيش المصري وقتئذ، ولما انتهت الحملة بانفراد الإنجليز بحكم السودان عافت نفسه البقاء في ربوعه، فالتمس إحالته إلى المعاش، وأجيب طلبه وعاد إلى مصر، وغشي مجالس الشعراء والأدباء والعلماء، وأفاض فيها من شعره وأدبه، فتألقت شاعريته، وعرف له معاصروه فضله ومكانته في عالم الأدب والشعر، وإذ كان الشعر لا يدر عليه ما يحفظ مكانته من الوجهة المادية فقد عينه أحمد حشمت وزير المعارف في سنة 1911 رئيسا للقسم الأدبي في دار الكتب المصرية، وظل بها إلى فبراير سنة 1932 إذ أحيل إلى المعاش لبلوغه السن القانونية، وتوفي يوم 21 يوليو سنة 1932.
كان حافظ شاعرا بطبعه، ظهرت مواهبه الشعرية وهو في السادسة عشرة من عمره، لم يتلقها عن معلم أو أديب، ولا تعلمها في المدارس التي انتظم بها، بل كانت وحي الإلهام والسليقة، فكان يقول الشعر وهو في هذه السن المبكرة، ويأخذ نفسه بالمطالعات الشعرية ويحفظ قصائد فحول الشعراء المتقدمين، واشتدت به الرغبة إلى محاكاتهم في جيد الشعر، فواتته سليقته الشعرية وساعدته على تحقيق رغبته، وبذ مع الزمن أولئك الشعراء، وبلغ الذروة في عالم الشعر والأدب.
وحافظ يمتاز في شعره بقوة البلاغة، وإشراق الديباجة، وطلاوة الأسلوب، والروح الخطابية، ولقد أنصفه شوقي إذ قال في رثائه:
يا حافظ الفصحى وحارس مجدها
وإمام من نجلت من البلغاء
1
ما زلت تهتف بالقديم وفضله
حتى حميت أمانة القدماء
خلفت في الدنيا بيانا خالدا
وتركت أجيالا من الأبناء
وغدا سيذكرك الزمان ولم يزل
للدهر إنصاف وحسن جزاء
أضفت الوطنية على شعر حافظ هالة من العظمة والمجد؛ فقد كان بلا مراء خير ترجمان للشعب في أحاسيسه وآماله، وخير مواس له في مآسيه وآلامه، وتغنى بمصر والنيل في قصائده الغر، ولعل بقاءه في السودان عدة سنين، ومشاهدته غدر الإنجليز هناك، وتدابيرهم في تحقيق أغراضهم الاستعمارية، قد زاده سخطا على الاستعمار واستمساكا بوحدة وادي النيل، وتجلت هذه المواهب في شعره في شتى المناسبات حتى سمي بحق «شاعر النيل»، وهو إلى جانب ذلك شاعر الوطنية والاجتماع والأخلاق، كان لا يفتأ يدعو قومه إلى التمسك بالأخلاق في جهادهم للحرية؛ إذ يرى الأخلاق قوام الجهاد الصحيح، وبلغت دعوته إلى الأخلاق حد التقريع في مخاطبته لبني وطنه ومجابهتهم بالحق الصريح.
وحافظ وإن كانت ثقافته شرقية إلا أنه قد تعلم الفرنسية على كبر، واقتبس من الآداب الفرنسية ما استطاع أن يقتبسه، وساعده ذكاؤه وألمعيته على محاكاة الشعر الغربي أحيانا، وكان يميل إلى التجديد في شعره، وفي ذلك يقول:
آن يا شعر أن تفك قيودا
قيدتنا بها دعاة المحال
فارفعوا هذه الكمائم عنا
ودعونا نشم ريح الشمال
ولقد نجح حافظ في أن يرتفع بشعره في كثير من المواطن إلى التجديد واقتباس المعاني والأفكار والأساليب الحديثة، فزاد شعره طلاوة ورنينا موسيقيا حبباه إلى النفوس وجعلا بعض قصائده أشبه بالأغاني والتغاريد.
الوطنية في شعر حافظ
تتجلى الروح الوطنية ويتألق نورها في شعر حافظ، ولقد وجدت الحركة الوطنية في قصائده البديعة قوة تستمد منها الحماسة والصمود في الجهاد، والثورة على الاحتلال.
كان شعره معينا لا ينضب من الكفاح الوطني، وكان حبه للوطن يملك عليه شغاف قلبه، ويلهمه الذود عن حريته واستقلاله، ولقد عبر عن هذه العاطفة الملتهبة بقوله من قصيدة له سنة 1900:
متى أرى النيل لا تحلو موارده
لغير مرتهب لله مرتقب
فقد غدت مصر في حال إذا ذكرت
جادت جفوني لها باللؤلؤ الرطب
كأنني عند ذكرى ما ألم بها
قرم تردد بين الموت والهرب
2
إذا نطقت فقاع السجن متكأ
وإن سكت فإن النفس لم تطب
أيشتكي الفقر غادينا ورائحنا
ونحن نمشي على أرض من الذهب؟!
وقوله في قصيدة له سنة 1909:
لعمرك ما أرقت لغير مصر
وما لي دونها أمل يرام
ذكرت جلالها أيام كانت
تصول بها الفراعنة العظام
وأيام الرجال بها رجال
وأيام الزمان لها غلام
وقوله من قصيدة له سنة 1910:
كم ذا يكابد عاشق ويلاقي
في حب مصر كثيرة العشاق
إني لأحمل في هواك صبابة
يا مصر قد خرجت عن الأطواق
3
لهفي عليك متى أراك طليقة
يحمي كريم حماك شعب راقي
كلف بمحمود الخلال متيم
بالبذل بين يديك والإنفاق
وقوله من قصيدة له سنة 1919 نظمها في «ملجأ الحرية»:
فتعاهدنا على دفع الأذى
بركوب الحزم حتى نظفرا
وتواصينا بصبر بيننا
فغدونا قوة لا تزدرى
أنشرت في مصر شعبا صالحا
كان قبل اليوم منفك العرا
4
كم محب هائم في حبها
ذاد عن أجفانه سرح الكرى
5
وشباب وكهول أقسموا
أن يشيدوا مجدها فوق الذرى
6
حافظ ومصطفى كامل
عاصر حافظ مصطفى كامل، وكان صديقا له معجبا بجهاده، رغم صداقته وصلته بخصومه السياسيين، وكان مصطفى شديد الإعجاب بشعره وأدبه، وعندما ظهر الجزء الأول من ديوانه سنة 1901 قرظه في «اللواء»
7
تقريظا يدل على عظم تقديره لشاعر النيل، وأسهب في الثناء عليه سنة 1903 حين عرب كتاب «البؤساء» لفيكتور هيجو.
قصيدة حافظ في حفلة مدرسة مصطفى كامل
ويبدو إعجاب حافظ بمصطفى وجهاده في قصيدته التي ألقاها يوم 29 نوفمبر سنة 1906 في احتفال مدرسة مصطفى كامل تعليقا على خطبة مصطفى، قال في مطلعها:
سمعنا حديثا
8
كقطر الندى
فجدد في النفس ما جددا
وأضحى لآمالنا منعشا
وأمسى لآلامنا مرقدا
وقال يستثير في النفوس روح الأمل والحياة وهي الدعوة المحببة إلى الفقيد:
فديناك يا شرق لا تجزعن
إذا اليوم ولى فراقب غدا
فكم محنة أعقبت محنة
وولت سراعا كرجع الصدى
فلا يبئسنك قيل العداة
وإن كان قيلا كحز المدى
9
أتودع فيك كنوز العلوم
ويمشي لك الغرب مسترفدا
10
وتبعث في أرضك الأنبياء
ويأتي لك الغرب مسترشدا
وتقضي عليك قضاة الضلال
طوال الليالي بأن ترقدا؟
أتشقى بعهد سما بالعلوم
فأضحى الضعيف بها أيدا
11
إذا شاء بز السها سره
وأدرك من جريه المقصدا
12
وإن شاء أدنى إليه النجوم
فناجى المجرة والفرقدا
13
وإن شاء زعزع شم الجبال
فخرت لأقدامه سجدا
وإن شاء شاهد في ذرة
عوالم لم تحي فيها سدى
زمان تسخر فيه الرياح
ويغدو الجماد به منشدا
14
وتعنو الطبيعة للعارفين
بمعنى الوجود وسر الهدى
إذا ما أهابوا أجاب الحديد
وقام البخار له مسعدا
15
وطارت إليهم من الكهرباء
بروق على السلك تطوي المدى •••
أيجمل من بعد هذا وذاك
بأن نستكين وأن نجمدا؟
وها أمة «الصفر» قد مهدت
لنا النهج فاستبقوا الموردا
16
وقال فيها مخاطبا الشباب:
فيا أيها الناشئون اعملوا
على خير مصر وكونوا يدا
ستظهر فيكم ذوات الغيوب
17
رجالا تكون لمصر الفدا «فيا ليت شعري من منكم
إذا هي نادت يلبي الندا؟»
وقال في ختامها مخاطبا مصطفى كامل:
لك الله يا «مصطفى» من فتى
كثير الأيادي كثير العدى
إذا ما حمدتك بين الرجال
فأنت الخليق بأن تحمدا
سيحصي عليك سجل الزمان
ثناء يخلد ما خلدا «ويهتف باسمك أبناؤنا
إذا آن للزرع أن يحصدا»
والقصيدة من أبلغ شعر حافظ، وتأمل في البيت الأخير منها تجد حافظا يقر لمصطفى بأنه الموجد للحركة الوطنية، وأنه الجدير بأن تعرف الأمة له هذا الفضل عندما تجني ثمار هذه الحركة، وقد ظل على هذا الرأي بعد وفاة الفقيد وبعد ظهور زعامة سعد زغلول للحركة الوطنية سنة 1919، وجهر به في رثائه للمرحوم محمد فريد في ديسمبر سنة 1919، إذ قال مناجيا روح فريد:
قل ل «صب النيل»
18
إن لاقيته
في جوار الدائم الفرد الصمد
إن مصرا لا تني عن قصدها
رغم ما تلقى وإن طال الأمد
جئت عنها أحمل البشرى إلى «أول البانين» في هذا البلد
فاسترح واهنأ ونم في غبطة
قد بذرت الحب والشعب حصد
فحافظ يعترف هنا أيضا لمصطفى بأنه أول البانين في صرح الحركة الوطنية، وبأنه بذر الحب وأن الشعب حصد وجنى ثمار ما بذر، ورأي حافظ سنة 1919 هو تأييد وتوكيد لرأيه سنة 1906.
قصيدة حافظ في حادثة دنشواي
لقيت حادثة دنشواي
19
صداها في شعر حافظ، فنشر في 2 يوليو سنة 1906 - أي بعد صدور الحكم فيها بخمسة أيام - قصيدته المشهورة عن الحادثة؛ ندد فيها بسياسة الاحتلال، وسبق بها شوقي بعام؛ إذ إن شوقي لم يقل قصيدته عن الحادثة إلا بعد عام من وقوعها.
قال حافظ في مطلع قصيدته مخاطبا المحتلين:
أيها القائمون بالأمر فينا!
هل نسيتم ولاءنا والودادا؟!
خفضوا جيشكم وناموا هنيئا
وابتغوا صيدكم وجوبوا البلادا
وإذا أعوزتكم ذات طوق
20
بين تلك الربا فصيدوا العبادا
إنما نحن والحمام سواء
لم تغادر أطواقنا الأجيادا
21
لا تظنوا بنا العقوق ولكن
أرشدونا إذا ضللنا الرشادا
لا تقيدوا من أمة بقتيل
صادت الشمس نفسه حين صادا
22
وقال يصف الحادثة وفظائع المحاكمة والتنفيذ:
جاء جهالنا بأمر وجئتم
ضعف ضعفيه قسوة واشتدادا
أحسنوا القتل إن ضننتم بعفو
أقصاصا أردتم أم كيادا؟
أحسنوا القتل إن ضننتم بعفو
أنفوسا أصبتم أم جمادا؟ •••
ليت شعري أتلك «محكمة التف
تيش» عادت أم عهد «نيرون» عادا؟
كيف يحلو من القوي التشفي
من ضعيف ألقى إليه القيادا؟
إنها مثلة تشف عن الغي
ظ ولسنا لغيظكم أندادا
أكرمونا بأرضنا حيث كنتم
إنما يكرم الجواد الجوادا
إن عشرين حجة بعد خمس
علمتنا السكون مهما تمادى
أمة النيل أكبرت أن تعادي
من رماها وأشفقت أن تعادى
ليس فيها إلا كلام وإلا
حسرة بعد حسرة تتهادى
وقال مخاطبا المدعي العمومي في القضية:
أيها المدعي العمومي
23
مهلا
بعض هذا فقد بلغت المرادا
قد ضمنا لك القضاء بمصر
وضمنا لنجلك الإسعادا
فإذا ما جلست للحكم فاذكر
عهد «مصر» فقد شفيت الفؤادا
لا جرى النيل في نواحيك يا «مص
ر» ولا جادك الحيا حيث جادا
24
أنت أنبت ذلك النبت يا «مص
ر» فأضحى عليك شوكا قتادا
أنت أنبت ناعقا قام بالأم
س فأدمى القلوب والأكبادا •••
إيه يا مدرة القضاء ويا من
ساد في غفلة الزمان وشادا
أنت جلادنا فلا تنس أنا
قد لبسنا على يديك الحدادا
والقصيدة كما ترى من أروع ما قال حافظ، وفيها تصوير لتلك الحادثة الفظيعة التي أظهرت مبلغ الظلم البريطاني ومبلغ هوان المصري في نظر الاحتلال، وقد حمل حافظ بأسلوبه اللاذع القوي على هذا الظلم حملات اهتزت لها أركانه، كما حمل على الضعف الذي كان من أسباب استفحال هذا الظلم؛ فكانت هذه الحملة دعوة صادقة إلى اطراح الضعف والأخذ بأسباب النهوض والقوة في محاربة الاحتلال.
قصيدته في استقبال اللورد كرومر بعد حادثة دنشواي
وعاد يصف فظائع الاحتلال في حادثة دنشواي في قصيدة له قالها في أكتوبر سنة 1906 لمناسبة عودة اللورد كرومر المعتمد البريطاني من إجازته، وكان صاحب الحول والطول وقتئذ في البلاد. «قصر الدبارة»
25
هل أتاك حديثنا
فالشرق ريع له وضج المغرب
أهلا بساكنك الكريم ومرحبا
بعد التحية إنني أتعتب
نقلت لنا الأسلاك عنك رسالة
باتت لها أحشاؤنا تتلهب
إلى أن قال:
إن ضاق صدر النيل عما هاله
يوم الحمام فإن صدرك أرحب
26
أوكلما باح الحزين بأنة
أمست إلى معنى التعصب تنسب
27
رفقا عميد الدولتين بأمة
ضاق الرجاء بها وضاق المذهب
رفقا عميد الدولتين بأمة
ليست بغير ولائها تتعذب
إن أرهقوا صيادكم فلعلهم
للقوت لا للمسلمين تعصبوا
ولربما ضن الفقير بقوته
وسخا بمهجته على من يغصب
في «دنشواي» وأنت عنا غائب
لعب القضاء بنا وعز المهرب
حسبوا النفوس من الحمام بديلة
فتسابقوا في صيدهن وصوبوا
نكبوا وأقفرت المنازل بعدهم
لو كنت حاضر أمرهم لم ينكبوا!
خليتهم والقاسطون
28
بمرصد
وسياطهم وحبالهم تتأهب
جلدوا ولو منيتهم لتعلقوا
بحبال من شنقوا ولم يتهيبوا
شنقوا ولو منحوا الخيار لأهلوا
بلظى سياط الجالدين ورحبوا
29
يتحاسدون على الممات وكأسه
بين الشفاه وطعمه لا يعذب
موتان؛ هذا عاجل متنمر
يرنو وهذا آجل يترقب
والمستشار
30
مكاثر برجاله
ومعاجز ومناجز ومحزب
يختال في أنحائها متبسما
والدمع حول ركابه يتصبب
طاحوا بأربعة فأردوا خامسا
هو خير ما يرجو العميد ويطلب
حب يحاول غرسه في أنفس
يجنى بمغرسها الثناء الطيب
كن كيف شئت ولا تكل أرواحنا
للمستشار فإن عدلك أخصب
وأفض على «بند»
31
إذا ولي القضا
رفقا يهش له القضاء ويطرب
قصيدته في شكوى مصر من الاحتلال
قالها في يناير سنة 1907:
لقد كان فينا الظلم فوضى فهذبت
حواشيه حتى بات ظلما منظما
تمن
32
علينا اليوم أن أخصب الثرى
وأن أصبح المصري حرا منعما
أعد عهد «إسماعيل» جلدا وسخرة
فإني رأيت المن أنكى وآلما
عملتم على عز الجماد وذلنا
فأغليتم طينا وأرخصتم دما
إذا أخصبت أرض وأجدب أهلها
فلا أطلعت نبتا ولا جادها السما
نهش إلى الدنيار حتى إذا مشى
به ربه للسوق ألفاه درهما
فلا تحسبوا في وفرة المال - لم تفد
متاعا ولم تعصم من الفقر - مغنما
فإن كثير المال - والخفض وارف -
قليل إذا حل الغلاء وخيما
33
قصيدته في استقالة اللورد كرومر
فتى الشعر هذا موطن الصدق والهدى
فلا تكذب التاريخ إن كنت منشدا
لقد حان توديع العميد وإنه
حقيق بتشييع المحبين والعدى
فودع لنا الطود الذي كان شامخا
وشيع لنا البحر الذي كان مزبدا
إلى أن قال:
يناديك قد أزريت بالعلم والحجا
ولم تبق للتعليم يا «لورد» معهدا
وأنك أخصبت البلاد تعمدا
وأجدبت في مصر العقول تعمدا
قضيت على أم اللغات وإنه
قضاء علينا أو سبيل إلى الردى
34
ووافيت والقطران في ظل راية
فما زلت ب «السودان» حتى تمردا
فطاح كما طاحت «مصوع» بعده
وضاعت مساعينا بأطماعكم سدى
حجبت ضياء الصحف عن ظلماته
ولم تستقل حتى حجبت «المؤيدا»
35
وأودعت تقرير الوداع مغامزا
رأينا جفاء الطبع فيها مجسدا
غمزت بها دين النبي وإننا
لنغضب إن أغضبت في القبر «أحمدا» •••
يناديك أين النابغون بعهدكم
وأي بناء شامخ قد تجددا؟
فما عهد «إسماعيل» والعيش ضيق
بأجدب من عهد لكم سال عسجدا
يناديك وليت الوزارة هيئة
من الصم لم تسمع لأصواتنا صدى
فليس بها عند التشاور من فتى
أبي إذا ما أصدر الأمر أوردا
بربك ماذا صدنا ولوى بنا
عن القصد إن كان السبيل ممهدا؟
أشرت برأي في كتابك لم يكن
سديدا ولكن كان سهما مسددا
وحاولت إعطاء الغريب مكانة
تجر علينا الويل والذل سرمدا
فيا ويل مصر يوم تشقى بندوة
يبيت بها ذاك الغريب مسودا
36 •••
ألم يكفنا أنا سلبنا ضياعنا
على حين لم نبلغ من الفطنة المدى
وزاحمنا في العيش كل ممارس
خبير وكنا جاهلين ورقدا
وما الشركات السود في كل بلدة
سوى شرك يلقي به من تصيدا
قصيدته في استقبال السير جورست
استقال اللورد كرومر أو أقيل من منصبه في أبريل سنة 1907 على أثر حادثة دنشواي، وخلفه في منصبه السير إلدون جورست، فاستقبله حافظ بقصيدة عبر فيها عن شكوى مصر من الاحتلال وآثامه، قال فيها في أسلوب التهكم والسخرية:
أذيقونا الرجاء فقد ظمئنا - بعهد المصلحين - إلى الورود
ومنوا بالوجود فقد جهلنا - بفضل وجودكم - معنى الوجود
إذا اعلولى الصياح فلا تلمنا
فإن الناس في جهد جهيد!
37
على قدر الأذى والظلم يعلو
صياح المشفقين من المزيد!
جراح في النفوس نغرن نغرا
وكن قد اندملن على صديد
38
إذا ما هاجهن أسى جديد
هتكن سرائر القلب الجليد
إلى أن قال:
فما جئنا نطاولكم بجاه
يطولكم ولا ركن شديد
ولكنا نطالبكم بحق
أضر بأهله نقض العهود
وعاد إلى ذكر حادثة دنشواي وكيف كانت مبعث اليقظة والحياة للحركة الوطنية:
رمانا صاحب التقرير ظلما
بكفران العوارف والكنود
39
وأقسم لا يجيب لنا نداء
ولو جئنا بقرآن مجيد
وبشر أهل مصر باحتلال
يدوم عليهم أبد الأبيد
وأنبت في النفوس لكم جفاء
تعهده بمنهل الصدود
فأثمر وحشة بلغت مداها
وزكاها بأربعة شهود
40
قتيل الشمس أورثنا حياة
وأيقظ هاجع القوم الرقود
41
فليت «كرومرا» قد دام فينا
يطوق بالسلاسل كل جيد
ويتحف «مصر» آنا بعد آن
بمجلود ومقتول شهيد
لينزع هذه الأكفان عنا
ونبعث في العوالم من جديد
رثاؤه لمصطفى كامل
في يوم 11 فبراير سنة 1908 حين شيعت مصر جنازة مصطفى كامل وقف حافظ على قبره وأنشد قصيدته الرائعة في رثائه قال:
أيا قبر هذا الضيف آمال أمة
فكبر وهلل والق ضيفك جاثيا
عزيز علينا أن نرى فيك مصطفى
شهيد العلا في زهرة العمر ذاويا
أيا قبر لو أنا فقدناه وحده
لكان التأسي من جوى الحزن شافيا
42
ولكن فقدنا كل شيء بفقده
وهيهات أن يأتي به الدهر ثانيا
فيا سائلي أين المروءة والوفا
وأين الحجا والرأي؟ ويحك ها هيا!
هنيئا لهم
43
فليأمنوا كل صائح
فقد أسكت الصوت الذي كان عاليا
ومات الذي أحيا الشعور وساقه
إلى المجد فاستحيا النفوس البواليا •••
مدحتك لما كنت حيا فلم أجد
وإني أجيد اليوم فيك المراثيا
عليك
44
وإلا ما لذا الحزن شاملا
وفيك وإلا ما لذا الشعب باكيا
يموت المداوي للنفوس ولا يرى
لما فيه من داء النفوس مداويا
وكنا نياما حينما كنت ساهدا
45
فأسهدتنا حزنا وأمسيت غافيا
شهيد العلا لا زال صوتك بيننا
يرن كما قد كان بالأمس داويا
يهيب بنا: هذا بناء أقمته
فلا تهدموا بالله ما كنت بانيا
يصيح بنا: لا تشعروا الناس أنني
قضيت وأن الحي قد بات خاليا
يناشدنا بالله ألا تفرقوا
وكونوا رجالا لا تسروا الأعاديا
فروحي من هذا المقام مطلة
تشارفكم
46
عني وإن كنت باليا
فلا تحزنوها بالخلاف فإنني
أخاف عليكم في الخلاف الدواهيا •••
أجل أيها الداعي إلى الخير إننا
على العهد ما دمنا فنم أنت هانيا
بناؤك محفوظ وطيفك ماثل
وصوتك مسموع وإن كنت نائيا
عهدناك لا تبكي وتنكر أن يرى
أخو البأس في بعض المواطن باكيا
فرخص لنا اليوم البكاء وفي غد
ترانا كما تهوى جبالا رواسيا
فيا نيل إن لم تجر بعد وفاته
دما أحمرا لا كنت يا نيل جاريا
ويا «مصر» إن لم تحفظي ذكر عهده
إلى الحشر لا زال انحلالك باقيا
ويا أهل «مصر» إن جهلتم مصابكم
ثقوا أن نجم السعد قد غار هاويا •••
ثلاثون عاما
47
بل ثلاثون درة
بجيد الليالي ساطعات زواهيا
ستشهد في التاريخ أنك لم تكن
فتى مفردا بل كنت جيشا مغازيا
قصيدته في حفلة الأربعين
وله في رثاء مصطفى قصيدة أخرى ألقاها في حفلة الأربعين، قال:
نثروا عليك نوادي الأزهار
48
وأتيت أنثر بينهم أشعاري
زين الشباب وزين طلاب العلا
هل أنت بالمهج الحزينة داري؟
غادرتنا والحادثات بمرصد
والعيش عيش مذلة وإسار
ما كان أحوجنا إليك إذا عدا
عاد وصاح الصائحون: بدار
أين الخطيب وأين خلاب النهى؟
طال انتظار السمع والأبصار
بالله ما لك لا تجيب مناديا
ماذا أصابك يا أبا المغوار؟
قم وامح ما خطت يمين «كرومر»
جهلا بدين الواحد القهار
قد كنت تغضب للكنانة كلما
همت وهم رجاؤها بعثار
غضب التقي لربه وكتابه
أو غضبة «الفاروق للمختار»
49
قد ضاق جسمك عن مداك فلم يطق
صبرا عليك وأنت شعلة نار
أودى به ذاك الجهاد وهده
عزم يهد جلائل الأخطار
لعبت يمينك باليراع فأعجزت
لعب الفوارس بالقنا الخطار
50
وجريت للعلياء تبغي شأوها
فجرى القضاء وأنت في المضمار
أوكلما هز الرجاء مهندا
بدرت إليه غوائل الأقدار؟ •••
عز القرار علي ليلة نعيه
وشهدت موكبه فقر قراري
51
وتسابقت فيه النعاة فطائر
بالكهرباء وطائر ببخار
شاهدت يوم الحشر يوم وفاته
وعلمت منه مراتب الأقدار
ورأيت كيف تفي الشعوب رجالها
حق الولاء وواجب الإكبار
تسعون ألفا حول نعشك خشع
يمشون تحت «لوائك» السيار
خطوا بأدمعهم على وجه الثرى
للحزن أسطارا على أسطار
آنا يوالون الضجيج كأنهم
ركب الحجيج بكعبة الزوار
وتخالهم آنا لفرط خشوعهم
عند المصلى ينصتون لقاري
غلب الخشوع عليهم فدموعهم
تجري بلا كلح
52
ولا استنثار
قد كنت تحت دموعهم وزفيرهم
ما بين سيل دافق وشرار
أسعى فيأخذني اللهيب فأنثني
فيصدني متدفق التيار
لو لم ألذ بالنعش أو بظلاله
لقضيت بين مراجل وبخار •••
كم ذات خدر يوم طاف بك الردى
هتكت عليك حرائر الأستار
سفرت تودع أمة محمولة
في النعش لا خبرا من الأخبار
أمنت عيون الناظرين فمزقت
وجه الخمار فلم تلذ بخمار
53
قد قام ما بين العيون وبينها
ستر من الأحزان والأكدار •••
أدرجت في العلم الذي أصفيته
منك الوداد فكان خير شعار
علمان
54
من فوق الرءوس كلاهما
في طيه سر من الأسرار
ناداهما داعي الفراق فأمسيا
يتعانقان على شفير هاري
تالله ما جزع المحب ولا بكى
لنوى مروعة وبعد مزار
جزع «الهلال» عليك يوم تركته
ما بين حر أسى وحر أوار
55
متلفتا متحيرا متخيرا
رجلا يناضل عنه يوم فخار
إن الثلاثين التي بك فاخرت
باتت تقاس بأطول الأعمار
ضمت إلى التاريخ بضع صحائف
بيضاء مثل صحائف الأبرار
شبهتهن بنقطة عطرية
وسعت محصل روضة معطار
56
خلفتها كالمشق يحذو حذوها
راجي الوصول ومقتفي الآثار
ماذا على الساري وهن
57
منائر
لو سار بين مجاهل وقفار •••
مازلت تختار المواقف وعرة
حتى وقفت لذلك الجبار
58
وهدمت سورا قد أجاد بناءه
فرعون
59
ذو الأوتاد والأنهار
ووصلت بين شكاتنا ومشايخ
في «البرلمان» أجلة أخيار
كشفوا الغطاء عن العيون فأبصروا
ما في الكنانة من أذى وضرار
نبذوا كلام «اللورد» حين تبينوا
حنق المغيظ ولهجة الثرثار
ورماهم بمجلدين
60
رموهما
في رتبة الأصفار لا الأسفار •••
واها على تلك المواقف إنها
كانت مواقف ليث غاب ضاري
لم يلوه عنها الوعيد ولا ثنى
من عزمه قول المريب: حذار
فاهنأ بمنزلك الجديد ونم به
في غبطة وانعم بخير جوار
واستقبل الأجر الكبير جزاء ما
ضحيت للأوطان من أوطار
نعم الجزاء ونعم ما بلغته
في منزليك
61
ونعم عقبى الدار
قصيدته في الذكرى الأولى للفقيد
وله قصيدة ثالثة عند قبره يوم 11 فبراير سنة 1909 في الاحتفال بإحياء ذكراه الأولى، وهي من أبلغ روائع الشعر العربي، قال:
طوفوا بأركان هذا القبر واستلموا
62
واقضوا هنالك ما تقضى به الذمم
هنا جنان تعالى الله بارئه
ضاقت بآماله الأقدار والهمم
هنا فم وبنان لاح بينهما
في الشرق فجر تحيي ضوءه الأمم
هنا فم وبنان طالما نثرا
نثرا تسير به الأمثال والحكم
هنا الكمي
63
الذي شادت عزائمه
لطالب الحق ركنا ليس ينهدم
هنا الشهيد هنا رب اللواء هنا
حامي الذمار هنا الشهم الذي علموا •••
يا أيها النائم الهاني بمضجعه
ليهنك النوم لا هم ولا سقم
باتت تسائلنا في كل نازلة
عنك المنابر والقرطاس والقلم
تركت فينا فراغا ليس يشغله
إلا أبي ذكي القلب مضطرم
منفر النوم
64
سباق لغايته
آثاره عمم آماله أمم •••
إني أرى وفؤادي ليس يكذبني
روحا يحف بها الإكبار والعظم
أرى جلالا أرى نورا أرى ملكا
أرى محيا يحيينا ويبتسم
الله أكبر هذا الوجه أعرفه
هذا فتى النيل هذا المفرد العلم
غضوا العيون وحيوه تحيته
من القلوب إذا لم تسعد
65
الكلم «وأقسموا أن تذودوا عن مبادئه
فنحن في موقف يحلو به القسم» •••
لبيك نحن الألى حركت أنفسهم
لما سكنت ولما غالك العدم
جئنا نؤدي حسابا عن مواقفنا
ونستمد ونستعدي
66
ونحتكم
قيل اسكتوا فسكتنا ثم أنطقنا
عسف الجفاة
67
وأعلى صوتنا الألم
قد اتهمنا ولما نطلب جللا
إن الضعيف على الحالين متهم
قالوا لقد ظلموا بالحق أنفسهم
والله يعلم أن الظالمين هم
إذا سكتنا تناجوا: تلك عادتهم
وإن نطقنا تنادوا: فتنة عمم •••
قد مر عام بنا والأمر يحزبنا
68
آنا وآونة تنتابنا النقم
فالناس في شدة والدهر في كلب
69
والعيش قد حار فيه الحاذق الفهم
وللسياسة فينا كل آونة
لون جديد وعهد ليس يحترم
بينا نرى جمرها تخشى ملامسه
إذا به عند لمس المصطلي فحم
تصغي لأصواتنا طورا لتخدعنا
وتارة يزدهيها الكبر والصمم
فمن ملاينة أستارها خدع
إلى مصالبة أستارها وهم •••
ماذا يريدون؟
70
لا قرت عيونهم
إن الكنانة لا يطوى لها علم
كم أمة رغبت فيها فما رسخت
لها - على حولها
71 - في أرضها قدم
ما كان ربك رب البيت تاركها
وهي التي بحبال منه تعتصم
لبيك إنا على ما كنت تعهده
حتى نسود وحتى تشهد الأمم
فيعلم النيل أنا خير من وردوا
ويستطيل اختيالا ذلك الهرم
إلى أن قال:
يا أيها النشء سيروا في طريقته
وثابروا: رضي الأعداء أو نقموا
فكلكم «مصطفى» لو سار سيرته
وكلكم «كامل» لو جازه
72
السأم
قد كان لا وانيا يوما ولا وكلا
73
يستقبل الخطب بساما ويقتحم
وأنت يا قبر قد جئنا على ظمأ
فجد لنا بجواب جادك الديم
74
أين الشباب الذي أودعت نضرته
أين الخلال - رعاك الله - والشيم؟
وما صنعت بآمال لنا طويت
يا قبر فيك وعفى رسمها القدم؟
ألا جواب يروي من جوانحنا؟
ما للقبور إذا ما نوديت تجم؟
75
نم أنت يكفيك ما عانيت من تعب
فنحن في يقظة والشمل ملتئم
هذا «لواؤك» خفاق يظللنا
وذاك شخصك في الأكباد مرتسم
تحية العام الهجري
أعد الشباب في سنة 1909 (1327 هجرية) احتفالا كبيرا بالعام الهجري الجديد، تولى الطلبة تنظيمه برعاية نادي المدارس العليا، وكان احتفالا رائعا أقيم بدار التمثيل العربي مساء الجمعة غاية ذي الحجة سنة 1326 (22 يناير سنة 1909) برئاسة أحمد بك لطفي، وألقى فيه حافظ قصيدته المشهورة في تحية العام الجديد. قال في مطلعها:
أطل على الأكوان والخلق تنظر
هلال رآه المسلمون فكبروا
تجلى لهم في صورة زاد حسنها
على الدهر حسنا أنها تتكرر
وبشرهم من وجهه وجبينه
وغرته والناظرين مبشر
وأذكرهم يوما
76
أغر محجلا
به توج التاريخ والسعد مسفر
وهاجر فيه خير داع إلى الهدى
يحف به من قوة الله عسكر
يماشيه جبريل وتسعى وراءه
ملائكة ترعى خطاه وتخفر
بيسراه برهان من الله ساطع
هدى وبيمناه الكتاب المطهر
فكان على أبواب «مكة» ركبه
وفي «يثرب»
77
أنواره تتفجر
مضى العام ميمون الشهور مباركا
تعدد آثار له وتسطر
مضى غير مذموم فإن يذكروا له
هنات فطبع الدهر يصفو ويكدر
وإن قيل أودى بالألوف أجابهم
مجيب: لقد أحيا الملايين فانظروا «إذا قيس إحسان امرئ بإساءة
فأربى عليها فالإساءة تغفر»
ففيه أقام النائمون وقد أتت
عليهم كأهل الكهف في النوم أعصر
وفي عالم الإسلام في كل بقعة
له أثر باق وذكر معطر
وبعد أن سرد الحوادث في مختلف الأقطار الإسلامية طوال العام المنصرم، عرج على الحركة الوطنية في مصر فحياها أحسن تحية وكان ترجمان الشعر والأدب في تمجيدها وتأييدها، قال:
وفيه سرت في مصر روح جديدة
مباركة من غيرة تتسعر
خبت زمنا حتى توهمت أنها
تجافت عن الإيراء لولا «كرومر»
78
تصدى فأوراها وهيهات أن يرى
سبيلا إلى إخمادها وهي تزفر
مضى زمن التنويم يا نيل وانقضى
ففي مصر أيقاظ على مصر تسهر
وقد كان «مرفين» الدهاء مخدرا
فأصبح في أعصابنا يتخدر
شعرنا بحاجات الحياة فإن ونت
عزائمنا عن نيلها كيف نعذر؟
شعرنا وأحسسنا وباتت نفوسنا
من العيش إلا في ذرا العز تسحر «إذا الله أحيا أمة لن يردها
إلى الموت قهار ولا متجبر»
وحيا الشباب بقوله:
رجال الغد المأمول إنا بحاجة
إلى قادة تبني وشعب يعمر
رجال الغد المأمول إنا بحاجة
إلى مصلح يدعو وداع يذكر
رجال الغد المأمول إنا بحاجة
إلى عالم يدري وعلم يقرر
رجال الغد المأمول إنا بحاجة
إلى حكمة تملي وكف تحرر
رجال الغد المأمول إنا بحاجة
إليكم فسدوا النقص فينا وشمروا
رجال الغد المأمول لا تتركوا غدا
يمر مرور الأمس والعيش أغبر
رجال الغد المأمول إن بلادكم
تناشدكم بالله أن تتذكروا
عليكم حقوق للبلاد أجلها
تعهد روض العلم فالروض مقفر «قصارى منى أوطانكم أن ترى لكم
يدا تبتني مجدا ورأسا يفكر»
فكونوا رجالا عاملين أعزة
وصونوا حمى أوطانكم وتحرروا
وعرج على حركة المطالبة بالدستور، قال:
ويا طالبي «الدستور» لا تسكنوا ولا
تبيتوا على يأس ولا تتضجروا
أعدوا له صدر المكان فإنني
أراه على أبوابكم يتخطر
ولا تنطقوا إلا صوابا فإنني
أخاف عليكم أن يقال تهوروا «فما ضاع حق لم ينم عنه أهله
ولا ناله في العالمين مقصر»
لقد ظفر الأتراك عدلا بسؤلهم
79
ونحن على الآثار لا شك نظفر
هم لهم العام القديم مقدر
ونحن لنا العام الجديد مقدر
وقد قوبلت القصيدة بالتصفيق والإعجاب والحماسة البالغة من الحاضرين، وكان إلقاؤه رائعا أخاذا، ولبث في إلقائه ساعة من الزمان كاملة.
وفي 12 يناير سنة 1910 أقام الشباب أيضا احتفالا فخما بعيد رأس السنة الهجرية 1328 بمسرح «البيلوت باسك» بشارع عماد الدين، فألقى فيه حافظ قصيدة من أبلغ شعره، قال في مطلعها يحيي هلال العام الجديد:
لي فيك حين بدا سناك وأشرقا
أمل سألت الله أن يتحققا
ثم ذكر العام الذي مضى وما أصاب مصر فيه من كوارث، قال:
أشرق علينا بالسعود ولا تكن
كأخيك مشئوم المنازل أخرقا
إلى أن قال ينعى حرية الصحافة ويذكر ما أصابها من الضغط والاضطهاد:
ورمى على أرض الكنانة جرمه
بالنازلات السود حتى أرهقا
حصدت مناجله غراس رجائنا
ولو انها أبقت عليه لأورقا
فتقيدت فيه «الصحافة» عنوة
ومشى الهوى بين الرعية مطلقا
وأتى يساوم في «القناة» خديعة
ولو انها تمت لتم بها الشقا
80
إن البلية أن تباع وتشترى
مصر وما فيها وألا تنطقا
كانت تواسينا على آلامنا
صحف إذا نزل البلاء وأطبقا
فإذا دعوت الدمع فاستعصى بكت
عنا أسى حتى تغص وتشرقا
كانت لنا يوم الشدائد أسهما
نرمي بها وسوابقا
81
يوم اللقا
كانت صماما للنفوس إذا غلت
فيها الهموم وأوشكت أن تزهقا
كم نفست عن صدر حر واجد
82
لولا الصمام من الأسى لتمزقا
ما لي أنوح على الصحافة جازعا
ماذا ألم بها وماذا أحدقا
قصوا حواشيها وظنوا أنهم
أمنوا صواعقها فكانت أصعقا
وأتوا بحاذقهم
83
يكيد لها بما
يثني عزائمها فكانت أحذقا
وقال يخاطب الشباب ويهيب بهم أن يعملوا ليردوا إلى مصر مجدها واستقلالها:
أهلا بنابتة البلاد ومرحبا
جددتم العهد الذي قد أخلقا
لا تيئسوا أن تستردوا مجدكم
فلرب مغلوب هوى ثم ارتقى
مدت له الآمال من أفلاكها
خيط الرجاء إلى العلا فتسلقا
فتجشموا للمجد كل عظيمة
إني رأيت المجد صعب المرتقى
من رام وصل الشمس حاك خيوطها
سببا إلى آماله وتعلقا ••• «عار على ابن النيل سباق الورى
مهما تقلب دهره أن يسبقا»
أوكلما قالوا تجمع شملهم
لعب الشقاق بجمعنا فتفرقا؟
فتدفقوا حججا وحوطوا نيلكم
فلكم أفاض عليكم وتدفقا
حملوا علينا بالزمان وصرفه
فتأنقوا في سلبنا وتأنقا
84
هزوا مغاربها فهابت بأسهم
يا ويلكم إن لم تهزوا المشرقا
85
فتعلموا فالعلم مفتاح العلا
لم يبق بابا للسعادة مغلقا «ثم استمدوا منه كل قواكم
إن القوي بكل أرض يتقى»
وابنوا حوالي حوضكم من يقظة
سورا وخطوا من حذار خندقا
وزنوا الكلام وسددوه فإنهم
خبئوا لكم في كل حرف مزلقا
وامشوا على حذر فإن طريقكم
وعر أطاف به الهلاك وحلقا
نصبوا لكم فيه الفخاخ وأرصدوا
للسالكين بكل فج موبقا
86 «الموت في غشيانه وطروقه
والموت كل الموت ألا يطرقا»
87
فتحينوا فرص الحياة كثيرة
وتعجلوها بالعزائم والرقى «أو فاخلقوها قادرين فإنما
فرص الحياة خليقة أن تخلقا»
مسألة قناة السويس
في أواخر سنة 1909 وأوائل سنة 1910 شغلت الرأي العام مسألة كبرى تتصل بحياة البلاد الاقتصادية والسياسية، وهي مشروع مد الامتياز الممنوح لشركة قناة السويس أربعين عاما أخرى، وقد أثار هذا المشروع سخط الأمة واحتجاجها وطالبت بوقفه وبعرضه على «الجمعية العمومية» قبل البت فيه.
حركت هذه المسألة الهامة روح الشعر في نفس حافظ، فنظم في نوفمبر سنة 1909 قصيدة من بليغ شعره القومي، وصف فيها الحالة السيئة التي وصلت إليها البلاد، وأيد الحركة الوطنية في مطالبها، وعبر أصدق تعبير عن آلامها وآمالها، قال في مطلعها:
لقد نصل الدجى فمتى تنام
أهم ذاد نومك أم هيام
88
إلى أن قال:
أيجمل بالأديب أديب مصر
بكاء الطفل أرهقه الفطام
ويصرفه الهوى عن ذكر مصر
ومصر في يد الباغي تضام
عدمت يراعتي إن كان ما بي
هوى بين الضلوع له ضرام
وما أنا والغرام وشاب رأسي
وغال شبابي الخطب الجسام
ورباني الذي ربى «لبيدا»
فعلمني الذي جهل الأنام
89
لعمرك ما أرقت لغير مصر
وما لي دونها أمل يرام
ذكرت جلالها أيام كانت
تصول بها الفراعنة العظام
وأيام الرجال بها رجال
وأيام الزمان لها غلام
فأقلق مضجعي ما بات فيها
وباتت مصر فيه فهل ألام؟
وأهاب بالشعب أن يدع التواكل والتخاذل والانقسام، قال:
أرى شعبا بمدرجة العوادي
تمخخ عظمه داء عقام
90
إذا ما مر بالبأساء عام
أطل عليه بالبأساء عام
سرى داء التواكل فيه حتى
تخطف رزقه ذاك الزحام
91
قد استعصى على الحكماء منا
كما استعصى على الطب الجذام «هلاك الفرد منشؤه توان
وموت الشعب منشؤه انقسام»
وإنا قد ونينا وانقسمنا
فلا سعي هناك ولا وئام
فساء مقامنا في أرض مصر
وطاب لغيرنا فيها المقام
فلا عجب إذا ملكت علينا
مذاهبنا وأكثرنا نيام
وناجى الأمير حسين كامل وكان رئيسا لمجلس شورى القوانين أن يبث روح الحياة والتضامن في نفوس مجلس الشورى والجمعية العمومية، وناشدهم ألا يثقوا بوعود الاحتلال، قال: «حسين. حسين» أنت لنا فنبه
رجالا عن طلاب الحق ناموا
وكن - بأبيك - لابن أخيك عونا
فأنت بكفه نعم الحسام
أفض في قاعة الشورى وئاما
فقد أودى بنا وبها الخصام
وعلمهم مصادمة الأعادي
فمثلك لا يروعه الصدام
ففي «حزب اليمين» لديك قوم
وإن قلوا فإنهم كرام
وفي «حزب الشمال» لديك أسد
كماة لا يطيب لها انهزام
فكونوا للبلاد ولا يفتكم
من النهزات والفرص اغتنام
فما سادوا بمعجزة علينا
ولكن في صفوفهم انضمام «فلا تثقوا بوعد القوم يوما
فإن سحاب ساستهم جهام»
92
وخافوهم إذا لانوا فإني
أرى السواس ليس لهم ذمام
93
فكم ضحك «العميد» على لحانا
وغر سراتنا منه ابتسام
ونادى بالدستور وندد بمشروع مد امتياز القناة، قال:
وليس العلم يمسكنا وحيدا
إذا لم ينصر العلم اعتزام
وإن لم يدرك «الدستور» مصرا
فما لحياتها أبدا قوام
حمونا ورد ماء النيل عذبا
وقالوا: إنه موت زؤام
وما الموت الزؤام إذا عقلنا
سوى «الشركات» حل لها الحرام
لقد سعدت بغفلتنا فراحت
بثروتنا وأولها «الترام» •••
فيا ويل «القناة» إذا احتواها
بنو «التاميز» وانحسر اللثام
لقد بقيت من الدنيا حطاما
بأيدينا وقد عز الحطام
وقد كنا جعلناها زماما
فوالهفي إذا قطع الزمام! •••
فيا «قصر الدبارة» لست أدري
أحرب في جرابك أم سلام؟
أجبنا هل يراد بنا وراء
فنقضي أم يراد بنا أمام؟
ويا «حزب اليمين» إليك عنا
لقد طاشت نبالك والسهام
ويا «حزب الشمال» عليك منا
ومن أبناء نجدتك السلام
وقد اضطرت الوزارة تحت ضغط الرأي العام إلى عرض المشروع على الجمعية العمومية التي قررت رفضه، وبذلك حبط المشروع.
تنديده بالكولونل روزفلت
جاء الكولونل تيودور روزفلت الرئيس الأسبق لجمهورية الولايات المتحدة إلى مصر عن طريق السودان في مارس 1910، وألقى بالخرطوم خطبة سياسية مجد فيها الاحتلال البريطاني، ودعا إلى الخضوع لحكمه، ولما وصل إلى القاهرة ألقى بالجامعة المصرية خطبة أخرى أشد وطأة من خطبته بالخرطوم، وقد أثارت خطبتاه احتجاج الرأي العام، وشارك حافظ الأمة في سخطها على روزفلت، ونظم قصيدة عصماء لامه فيها على إطرائه الاحتلال، نشرها قبيل إلقاء خطبته الثانية بالقاهرة، قال:
أي خطيب الدنيا الجديدة شنف
سمع مصر بقولك المأثور
إنما شوقها لقولك يا «روز
فلت» شوق الأسير للتحرير
قف غدا أيها الرئيس وعلم
أهل مصر حرية التعبير
واخبر الناس كيف سدتم على النا
س وجئتم بمعجزات الدهور
وملكتم أعنة الريح والما
ء ودستم على رقاب العصور
قف وعدد مآثر العلم واذكر
نعم الله ذكر عبد شكور
وإذا ما ذكرت أنعمه الكب
رى فلا تنس نعمة «الدستور» •••
يا نصير الضعيف ما لك تطري
خطة القوم
94
بعد ذاك النكير
لم تطيقوا جوارهم بل أقمتم
في حماكم من دونهم ألف سور
أنت تطريهم وتثني عليهم
نائيا آمنا وراء البحور
ليت شعري أكنت تدعو إليهم
يوم كانوا على تخوم الثغور
يوم كانوا قذى بعين «نيويور
ك» وداء مستحكما في الصدور
يوم نادى «واشنجتون» فلبا
ه من الغيل كل ليث هصور
95
يوم سجلتم على صفحات الد
هر تاريخ مجدكم بالنور
ووثبتم إلى الحياة وثوبا
ونفضتم عنكم غبار القبور
إنما النيل والمسيسبي
96
صنوا
ن هما حليتان للمعمور
وعجيب أن فاز هذا بإطلا
ق وهذا في ذلة المأسور
يا نصير الضعيف حبب إليهم
هجر مصر
97
تفز بأجر كبير
فعليهم أن يهجروا وعلى المص
ري ذكر المتيم المهجور
رثاؤه لمحمد فريد
نظم حافظ في رثاء محمد فريد قصيدة من غرر شعره، ألقاها بصوته الجهوري في حفلة التأبين التي أقامها الحزب الوطني يوم الأربعين لوفاته (19 ديسمبر سنة 1919)، فهزت مشاعر السامعين والمواطنين لما حوته من المعاني الرائعة والتقدير البالغ للزعيم الراحل، قال:
من ليوم نحن فيه من لغد؟
مات ذو العزمة والرأي الأسد
حل ب «الجمعة» حزن وأسى
ومشى الوجد إلى «يوم الأحد»
98
وبدا شعري على قرطاسه
لوعة سالت على دمع جمد •••
أيها النيل لقد جل الأسى
كن مدادا لي إذا الدمع نفد
واذبلي يا زهرة الروض ولا
تبسمي للطل فالعيش نكد
والزم النوح أيا طير ولا
تبتهج بالشدو فالشدو حدد
99
فلقد ولى «فريد» وانطوى
ركن مصر وفتاها والسند •••
خالد الآثار لا تخش البلى
ليس يبلى من له ذكر خلد
زرت «برلين» فنادى سمتها
نزلت شمس الضحى برج الأسد
واختفت شمسك فيها وكذا
تختفي في الغرب أقمار الأبد
100 •••
يا غريب الدار والقبر ويا
سلوة النيل إذا ما الخطب جد
وحساما فل حديه الردى
وشهابا ضاء وهنا وخمد
قل ل «صب النيل»
101
إن لاقيته
في جوار الدائم الفرد الصمد
إن مصرا لا تني عن قصدها
رغم ما تلقى وإن طال الأمد
جئت عنها أحمل البشرى إلى «أول البانين»
102
في هذا البلد
فاسترح واهنأ ونم في غبطة
قد بذرت الحب والشعب حصد
103 •••
آثر النيل على أمواله
وقواه وهواه والولد
يطلب الخير لمصر وهو في
شقوة أحلى من العيش الرغد
ضارب في الأرض يبغي مأربا
كلما قاربه عنه ابتعد
لم يعبه أن تجنى دهره
رب جد حاد عن مجراه جد
104
يستجم العزم حتى إن بدت
فرصة شد إليها وصمد
فهو لا يثني عنانا عن منى
وهو هجيراه «من جد وجد»
فأياديه إذا ما أنكرت
إنما تنكرها عين الحسد •••
فقدت مصر «فريدا» وهي في
موطن يعوزها فيه المدد
فقدت مصر «فريدا» وهي في
لهوة الميدان والموت رصد
فقدت منه خبيرا حولا
105
وهي والأيام في أخذ ورد
لم يكد يمتعها الدهر به
في ربوع النيل حيا لم يكد
ليته عاش قليلا فترى
شعب مصر عينه كيف اتحد
ويح مصر بل فويحا للثرى
إنه أبلغ حزنا وأشد
كم تمنى وتمنى أهله
لو يوارى فيه ذياك الجسد
106 •••
لهف نفسي هل «ببرلين» امرؤ
فوق ذاك القبر صلى وسجد؟
هل بكت عين فروت تربه
هل على أحجاره خط أحد؟
ها هنا قبر شهيد في هوى
أمة أيقظها ثم رقد!
ثورة سنة 1919
حيا حافظ ثورة سنة 1919 في قصيدة نظمها عن أول مظاهرة للسيدات قمن بها يوم 16 مارس 1919 احتجاجا على عسف الإنجليز حيال المظاهرات السابقة وما ارتكبوه مع المتظاهرين من فظائع القتل والتنكيل، وقد مجد حافظ شعور السيدات المتظاهرات وشجاعتهن، وحمل في قصيدته حملة لاذعة على مسلك الجنود الإنجليز حيالهن، قال:
خرج الغواني يحتجج
ن ورحت أرقب جمعهنه
فإذا بهن تخذن من
سود الثياب شعارهنه
فطلعن مثل كواكب
يسطعن في وسط الدجنة
107
وأخذن يجتزن الطري
ق ودار «سعد» قصدهنه
يمشين في كنف الوقا
ر وقد أبن شعورهنه
وإذا بجيش مقبل
والخيل مطلقة الأعنة
وإذا الجنود سيوفها
قد صوبت لنحورهنه
وإذا المدافع والبنا
دق والصوارم والأسنة
والخيل والفرسان قد
ضربت نطاقا حولهنه
والورد والريحان في
ذاك النهار سلاحهنه
فتطاحن الجيشان سا
عات تشيب لها الأجنة
فتضعضع النسوان والن
سوان ليس لهن منة
108
ثم انهزمن مشتتا
ت الشمل نحو قصورهنه •••
فليهنأ الجيش الفخو
ر بنصره وبكسرهنه!
فكأنما «الألمان» قد
لبسوا البراقع بينهنه
وأتوا ب «هندنبرج»
109
مخ
تفيا بمصر يقودهنه
فلذاك خافوا بأسهن
وأشفقوا من كيدهنه!
وأنشأ قصيدة حيا بها جمعية المرأة الجديدة، وألمع فيها إلى بطولة المرأة في ثورة سنة 1919، قال:
إليكن يهدي النيل ألف تحية
معطرة في أسطر عطرات
ويثني على أعمالكن موكلي
110
بإطراء أهل البر والحسنات
أقمتن بالأمس الأساس مباركا
وجئتن يوم الفتح مغتبطات
صنعتن ما يعيي الرجال صنيعه
فزدتن في الخيرات والبركات •••
يقولون: نصف الناس في الشرق عاطل
نساء قضين العمر في الحجرات
وهذي بنات النيل يعملن للنهى
ويغرسن غرسا داني الثمرات
وفي السنة السوداء كنتن قدوة
لنا حين سال الموت بالمهجات
وقفتن في وجه الخميس مدججا
وكنتن بالإيمان معتصمات
وما هالكن الرمح والسيف مصلتا
ولا المدفع الرشاش في الطرقات
تعلم منكن الرجال فأصبحوا
على غمرات الموت أهل ثبات
مصر تتحدث عن نفسها
قصيدة غراء قالها سنة 1921 على أثر قطع مفاوضات عدلي-كيرزون، حين سفرت نيات الإنجليز في العدوان على مصر، وقد أشاد فيها بمجد مصر وعظمتها، ثم أشار إليها وهي تستنجد ببنيها البررة على غدرات الأيام، ويهيب بهم أن ينظروا من تليد مجدها إلى المثل الأعلى ليحتذوه، ويتعاونوا على التمسك بالحق كاملا حتى يبلغوه، وقد أجرى الخطاب في القصيدة على لسان مصر لينصت الجميع لصوتها؛ إذ هي فوق الجميع، وكان عنوان القصيدة حين نشرت «مصر فوق الجميع»:
وقف الخلق ينظرون جميعا
كيف أبني قواعد المجد وحدي
وبناة الأهرام في سالف الده
ر كفوني الكلام عند التحدي
أنا تاج العلاء في مفرق
111
الشر
ق ودراته فرائد عقدي
أي شيء في الغرب قد بهر النا
س جمالا ولم يكن منه عندي؟
فترابي تبر ونهري فرات
وسمائي مصقولة كالفرند
112
أينما سرت جدول عند كرم
عند زهر مدنر عند رند
113
ورجالي لو أنصفوهم لسادوا
من كهول ملء العيون ومرد
114
لو أصابوا لهم مجالا لأبدوا
معجزات الذكاء في كل قصد
أنا إن قدر الإله مماتي
لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي •••
ما رماني رام وراح سليما
من قديم عناية الله جندي
كم بغت دولة علي وجارت
ثم زالت وتلك عقبى التمدي
إنني حرة كسرت قيودي
رغم رقبى العدى وقطعت قدي
115 •••
قل لمن أنكروا مفاخر قومي
مثل ما أنكروا مآثر ولدي
هل وقفتم بقمة الهرم الأك
بر يوما فريتم بعض جهدي؟
116
هل رأيتم تلك النقوش اللواتي
أعجزت طوق صنعة المتحدي؟
حال لون النهار من قدم العه
د وما مس لونها طول عهد
هل فهمتم أسرار ما كان عندي
من علوم مخبوءة طي بردي؟
ذاك فن التحنيط قد غلب الده
ر وأبلى البلى وأعجز ندي •••
قد عقدت العهود من عهد فرعو
ن ففي «مصر» كان أول عقد
إن مجدي في الأوليات عريق
من له مثل أولياتي ومجدي؟
أنا أم «التشريع» قد أخذ الرو
مان عني الأصول في كل حد
ورصدت النجوم منذ أضاءت
في سماء الدجى فأحكمت رصدي
وشدا «بنتئور»
117
فوق ربوعي
قبل عهد اليونان أو عهد «نجد»
أتراني وقد طويت حياتي
في مراس لم أبلغ اليوم رشدي؟
أي شعب أحق مني بعيش
وارف الظل أخضر اللون رغد؟ •••
أمن العدل أنهم يردون ال
ماء صفوا وأن يكدر وردي؟
أمن الحق أنهم يطلقون ال
أسد منهم وأن تقيد أسدي؟ «نصف قرن إلا قليلا أعاني
ما يعاني هوانه كل عبد»
118
نظر الله لي فأرشد أبنا
ئي فشدوا إلى العلا أي شد «إنما الحق قوة من قوى الديا
ن أمضى من كل أبيض هندي»
وقال في تمجيد التضحية والصمود والصبر أمام الشدائد:
قد وعدت العلا بكل أبي
من رجالي فأنجزوا اليوم وعدي
أمهروها بالروح فهي عروس
تشنأ المهر من عروض ونقد
119
وردوا بي مناهل العز حتى
يخطب النجم في المجرة ودي «وارفعوا دولتي على العلم والأخ
لاق فالعلم وحده ليس يجدي»
وتواصوا بالصبر فالصبر إن فا
رق قوما فما له من مسد
خلق الصبر وحده نصر القو
م وأغنى عن اختراع وعد
شهدوا حومة الوغى بنفوس
صابرات وأوجه غير ربد
فمحا الصبر آية العلم في الحر
ب وأنحى على القوي الأشد
وقال يدعو إلى توحيد الكلمة ونبذ الشقاق، وكانت البلاد وقتئذ في غمرة من الانقسام:
إن في الغرب أعينا راصدات
كحلتها الأطماع فيكم بسهد
فوقها مجهر يريها خفايا
كم ويطوي شعاعه كل بعد
فاتقوها بجنة من وئام
غير رث العرا وسعي وكد «واصفحوا عن هنات من كان منكم
رب هاف هفا على غير عمد»
نحن نجتاز موقفا تعثر الآ
راء فيه وعثرة الرأي تردي
ونعير الأهواء حربا عوانا
من خلاف والخلف كالسل يعدي «ونثير الفوضى على جانبيه
فيعيد الجهول فيها ويبدي»
ويظن الغوي أن لا نظام
ويقول القوي قد جد جدي
فقفوا فيه وقفة الحزم وارموا
جانبيه بعزمة المستعد
إننا عند فجر ليل طويل
قد قطعناه بين سهد ووجد
غمرتنا سود الأهاويل
120
فيه
والأماني بين جزر ومد
وتجلى ضياؤه بعد لأي
وهو رمز لعهدي المسترد
فاستبينوا قصد السبيل وجدوا
فالمعالي مخطوبة للمجد
الاستقلال المقيد
قالها عندما أعلن تصريح 28 فبراير سنة 1922:
أصبحت لا أدري على خبرة
أجدت الأيام أم تمزح؟
أموقف للجد نجتازه
أم ذاك للاهي بنا مسرح؟
ألمح لاستقلالنا لمعة
في حالك الشك فأستروح
وتطمس الظلمة آثارها
فأنثني أنكر ما ألمح
قد حارت الأفهام في أمرهم
إن لمحوا بالقصد أو صرحوا!
فقائل لا تعجلوا إنكم
مكانكم بالأمس لم تبرحوا
وقائل أوسع بها خطوة
وراءها الغاية والمطمح
وقائل أسرف في قوله:
هذا هو استقلالكم فافرحوا
إن تسألوا العقل يقل عاهدوا
واستوثقوا في عهدكم تربحوا «وأسسوا دارا لنوابكم
للرأي فيها والحجا أفسحوا»
ولتذكر الأمة ميثاقها
ألا ترى عزتها تجرح «وتنتخب صفوة أبنائها
فمنهم المخلص والمصلح »
وليتق الله أولو أمرها
أن يسكتوا الأصوات أو يرفحوا
121
أو تسألوا القلب يقل حاذروا
وصابروا أعداءكم تفلحوا
إني أرى قيدا فلا تسلموا
أيديكم فالقيد لا يسجح
122
إن هيئوه من حرير لكم
فهو على لين به أفدح
حتام - والصبر له غاية -
لغيرنا من بئرنا نمتح؟
حتام - والأموال مشفوهة
123 -
نمنح إلا «مصر» ما نمنح؟
حتام يمضي أمرنا غيرنا
وذاك بالأحرار لا يملح؟
وعاد يدعو إلى الوحدة والوئام ويستنكر الفرقة والانقسام:
أساء بعض الناس في بعضهم
ظنا وقد أمسوا وقد أصبحوا
فانتهزت أعداؤنا نهزة
فينا وما كانت لهم تسنح
فالرأي كل الرأي أن تجمعوا
فإنما إجماعكم أرجح
وكل من يطمع في صدعكم
فإنه في صخرة ينطح
أخشى إذا استكثرتم بينكم
من قادة الآراء أن تفضحوا
فلتقصدوا ما اسطعتم فيهم
فإنما في القلة المنجح
يستحث المواطنين على التضحية والجهاد
نظم حافظ سنة 1904 قصيدة رائعة عن «غادة اليابان» ضرب فيها الأمثال في التضحية والجهاد، وجعلها على لسان غادة وطنية من اليابان وأشاد بشجاعتها في الحرب التي شبت بين بلادها والروسيا عام 1904؛ إذ ذهبت متطوعة إلى ميادين القتال تواسي الجرحى، وترعى حقهم، قال:
لا تلم كيف إذا السيف نبا
124
صح مني العزم والدهر أبى
رب ساع مبصر في سعيه
أخطأ التوفيق فيما طلبا
مرحبا بالخطب يبلوني إذا
كانت العلياء فيه السببا
إيه يا دنيا اعبسي أو فابسمي
لا أرى برقك إلا خلبا
125
إلى أن قال:
كنت أهوى في زماني غادة
وهب الله لها ما وهبا
حملت لي ذات يوم نبأ
لا رعاك الله يا ذاك النبا
وأنت تخطر والليل فتى
وهلال الأفق في الأفق حبا
ثم قالت لي بثغر باسم
نظم الدر به والحببا
نبئوني برحيل عاجل
لا أرى لي بعده منقلبا
126
ودعاني موطني أن أغتدي
127
علني أقضي له ما وهبا
نذبح الدب
128
ونفري جلده
أيظن الدب ألا يغلبا؟ •••
قلت والآلام تفري مهجتي
ويك! ما تصنع في الحرب الظبا؟
ما عهدناها لظبي مسرحا
يبتغي ملهى به أو ملعبا
ليست الحرب نفوسا تشترى
بالتمني أو عقولا تستبى
أحسبت القد من عدتها
أم ظننت اللحظ فيها كالشبا
129
فدعيها للذي يعرفها
والزمي يا ظبية البان الخبا
130 •••
فأجابتني بصوت راعني
وأرتني الظبي ليثا أغلبا
إن قومي استعذبوا ورد الردى
كيف تدعوني ألا أشربا؟
أنا يابانية لا أنثني
عن مرادي أو أذوق العطبا
أنا إن لم أحسن الرمي ولم
تستطع كفاي تقليب الظبا
أخدم الجرحى وأقضي حقهم
وأواسي في الوغى من نكبا
هكذا «الميكاد» قد علمنا
أن نرى الأوطان أما وأبا
ملك يكفيك منه أنه
أنهض الشرق فهز المغربا
بعث الأمة من مرقدها
ودعاها للعلا أن تدأبا
فسمت للمجد تبغي شأوه
وقضت من كل شيء مأربا
يستنهض الهمم، ويدعو إلى توحيد الكلمة
قال من قصيدة له سنة 1923 يخاطب المواطنين:
ويد الإله مع الجماعة فاضربوا
بعصا الجماعة تظفروا بنجاح
كونوا رجالا عاملين وكذبوا - والصبح أبلج - حامل المصباح
131
ودعوا التخاذل في الأمور فإنما
شبح التخاذل أنكر الأشباح
والله ما بلغ الشقاء بنا المدى
بسوى خلاف بيننا وتلاحي
132 •••
قم يا ابن مصر فأنت حر واستعد
مجد الجدود ولا تعد لمراح
133
شمر وكافح في الحياة فهذه
دنياك دار تناحر وكفاح
وإذا ألح عليك خطب لا تهن
واضرب على الإلحاح بالإلحاح
وخض الحياة وإن تلاطم موجها
خوض البحار رياضة السباح
في البحر لا تثنيك نار بوارج
في البر لا يلويك غاب رماح
وانظر إلى الغربي كيف سمت به
بين الشعوب طبيعة الكداح
إلى أن قال:
وابن الكنانة في الكنانة راكد
يرنو بعين غير ذات طماح
لا يستغل كما علمت ذكاءه
وذكاؤه كالخاطف اللماح
فانهض ودع شكوى الزمان ولا تنح
في فادح البؤسى مع الأنواح
واربح لمصر برأس مالك عزة
إن الذكاء حبالة الأرباح
واشرب من الماء القراح منعما
فلكم وردت الماء غير قراح
يحذر سعدا من خداع الإنجليز
قال سنة 1924 يخاطب سعد زغلول من قصيدة له في تهنئته بنجاحه من محاولة اغتياله، وكان إذ ذاك معتزما السفر إلى لندن لمفاوضة الحكومة البريطانية في القضية الوطنية:
لا تقرب «التاميز» واحذر ماءه
مهما بدا لك أنه معسول
الكيد ممزوج بأصفى مائه
والختل
134
فيه مذوب مصقول
كم وارد يا «سعد» قبلك ماءه
قد عاد منه وفي الفؤاد غليل
135
القوم قد ملكوا عنان زمانهم
ولهم روايات به وفصول
ولهم أحابيل
136
إذا ألقوا بها
قنصوا النهى فأسيرهم مخبول
ولكل لفظ في المعاجم عندهم
معنى يقال بأنه معقول
نصلت
137
سياستهم وحال صباغها
ولكل كاذبة الخضاب نصول
جمعوا عقاقير الدواء وركبوا
ما ركبوه وعندك التحليل
حافظ والإنجليز وجها لوجه
في سنة 1932 ساهم الإنجليز مع العناصر الرجعية في إلغاء الحياة الدستورية، وتظاهروا بأنهم على الحياد في هذه المحنة، مع أنهم مدبروها، وقد هاجمهم حافظ بقصائد رائعة نعى فيها عليهم بغيهم وعدوانهم، وكشف فيها الستار عن حيادهم الكاذب، وطعن على سياسة الاستعمار عامة، وأعاد بحملاته عليهم ذكرى قصائده الوطنية الخالدة التي نظمها في تمجيد الحركة الوطنية ومهاجمته الاحتلال في عهد مصطفى كامل ومحمد فريد.
قال في مارس سنة 1932 مخاطبا الإنجليز منددا بسياسة «الحياد» التي أعلنوها، ناعيا عليهم ظلمهم وإخلافهم وعودهم للأمة:
بنيتم على الأخلاق آساس ملككم
فكان لكم بين الشعوب ذمام
138
فما لي أرى الأخلاق قد شاب قرنها
139
وحل بها ضعف ودب سقام
أخاف عليكم عثرة بعد نهضة
فليس لملك الظالمين دوام
أضعتم ودادا لو رعيتم عهوده
لما قام بين الآمنين خصام
أبعد «حياد» لا رعى الله عهده
وبعد الجروح الناغرات
140
وئام؟
إذا كان في حسن التفاهم موتنا
فليس على باغي الحياة ملام
وقال في هذا المعنى:
لا تذكروا الأخلاق بعد «حيادكم»
فمصابكم ومصابنا سيان
حاربتم أخلاقكم لتحاربوا
أخلاقنا فتألم الشعبان
وقال عن «الحياد الكاذب»:
قصر الدبارة قد نقض
ت العهد نقض الغاصب
أخفيت ما أضمرته
وأبنت ود الصاحب
الحرب أروح للنفو
س من «الحياد» الكاذب
وقال مخاطبا السير برسي لورين المندوب السامي البريطاني وقتئذ، منددا بحياد الإنجليز المصطنع:
ألم تر في الطريق إلى «كياد»
141
تصيد البط بؤس العالمينا؟
ألم تلمح دموع الناس تجري
من البلوى؟ ألم تسمع أنينا؟
ألم تخبر بني «التاميز» عنا
وقد بعثوك مندوبا أمينا؟ «بأنا قد لمسنا الغدر لمسا
وأصبح ظننا فيكم يقينا»
كشفنا عن نواياكم فلستم
وقد برح الخفاء محايدينا
سنجمع أمرنا فترون منا
لدى الجلى
142
كراما صابرينا
ونأخذ حقنا رغم العوادي
تطيف بنا ورغم القاسطينا
143
ضربتم حول قادتنا نطاقا
من النيران يعيي الدارعينا
على رغم المروءة قد ظفرتم
ولكن بالأسود مصفدينا
فهل يجديكم الأسطول نفعا
إذا ما نازل الحق المبينا؟
وقال في هذا المعنى «أبريل سنة 1932»:
إلى المحايدين
أمحايد أم حائد
عن منهج الحق المبين؟
نازلت شعبا أعزلا
بمدرعين مدججين
وأمنت عقبى الظالمي
ن وبئس عقبى الظالمين!
مهما تصب منا فلس
نا الجازعين اليائسين
إنا بجبار السما
ء وبالعقيدة نستعين «إن العقيدة لا تزل
زلها حراب الغاصبين»
فلئن ملكتم يومكم
لغد لرب العالمين
أأمنتم صرف الزما
ن وفتكه بالغاشمين؟ •••
كم من قوي هده
كيد الضعيف المستكين
أولم تروا ما ذاقه
بالأمس ذياك السجين؟
144
في «سنت هيلين» قضى
من دوخ الدنيا سنين
من كان في غاراته
في الكون منقطع القرين
أمسى ألانته الخطو
ب وكان صلبا لا يلين
أوتتقون مصيره
أم لستم بالمتقين؟ •••
ضقنا بكيد محايدي
ن لنا وكيد مبشرين
ثاروا على دين الهدى
وتخطفوا منا البنين
داسوا العرين وقد خلا
من أسده ذاك العرين
خسر المبشر، إن دي
ن الحق دين المسلمين
الله حاميه وكا
فيه شرور المعتدين
نحن والإنجليز وجها لوجه
وقال أيضا:
قل للمحايد هل شهدت دماءنا
تجرى وهل بعد الدماء سلام؟
سفكت مودتنا لكم وبدا لنا
أن الحياد على الخصام لثام
إن المراجل شرها لا يتقى
حتى ينفس كربهن صمام
لم يبق فينا من يمني نفسه
بودادكم فودادكم أحلام
أمن السياسة والمروءة أننا
نشقى بكم في أرضنا ونضام؟ «إنا جمعنا للجهاد صفوفنا
سنموت أو نحيا ونحن كرام»
وقال في أبريل سنة 1932 تحت عنوان «إلى الإنجليز»، وهي من أبلغ ما قيل في تحدي القوة الغاشمة والصمود أمام الشدائد مهما عظمت:
حولوا النيل واحجبوا الضوء عنا
واطمسوا النجم واحرمونا النسيما
واملئوا البحر إن أردتم سفينا
واملئوا الجو إن أردتم رجوما
وأقيموا للعسف في كل شبر «كونستبلا» بالسوط يفري الأديما
145 «إننا لن نحول عن عهد مصر
أو ترونا في الترب عظما رميما» •••
عاصف صان ملككم وحماكم
وكفاكم بالأمس خطبا جسيما
غال «أرمادة»
146
العدو ففزتم
وبلغتم في الشرق شأوا عظيما
فعدلتم هنيهة، وبغيتم
وتركتم في النيل عهدا ذميما
فشهدنا ظلما يقال له العد
ل وودا يسقي الحميم الحميما
147
فاتقوا غضبة العواصف إني
قد رأيت المصير أمسى وخيما!
وقال أيضا «أبريل سنة 1932»:
لقد طال الحياد ولم تكفوا
أما أرضاكم ثمن الحياد؟
أخذتم كل ما تبغون منا
فما هذا التحكم في العباد؟
بلونا شدة منكم ولينا
فكان كلاهما ذر الرماد
وسالمتم وعاديتم زمانا
فلم يغن المسالم والمعادي
فليس وراءكم غير التجني
وليس أمامنا غير الجهاد
وعود الإنجليز في الجلاء
وقال في سنة 1932 يندد بكاتب فرنسي زعم أن جلاء الإنجليز سيكون في أكتوبر من ذلك العام:
كم حددوا يوم الجلاء الذي
أصبح في الإبهام كالمحشر
وسن قوم الطيش من جهلهم
كذبة «أبريل لأكتوبر»
حافظ وصدقي باشا
وقال في سنة 1932 يندد بسياسة صدقي باشا رئيس الوزارة وقتئذ من قصيدة لم ينشر منها إلا النزر اليسير:
قد مر عام ياسعاد وعام
وابن الكنانة في حماه يضام
صبوا البلاء على العباد فنصفهم
يجبي البلاد ونصفهم حكام
أشكو إلى «قصر الدبارة» ما جنى «صدقي» الوزير وما جبى «علام»
148
ومنها في مخاطبة صدقي باشا:
ودعا عليك الله في محرابه
الشيخ والقسيس والحاخام
لاهم أحي ضميره ليذوقها
غصصا وتنسف نفسه الآلام
يكافح الاستعمار ويدعو إلى الفداء
قال في حرب طرابلس (سنة 1911-1912) حين اعتدت إيطاليا على العرب، يستحث أمم الشرق أن تنهض وتكافح الاستعمار، ويمجد التضحية في سبيل الحرية:
طمع ألقى عن الغرب اللثاما
فاستفق يا شرق واحذر أن تناما!
واحملي أيتها الشمس إلى
كل من يسكن في الشرق السلاما
واشهدي يوم التنادي
149
أننا
في سبيل الحق قد متنا كراما
مادت الأرض بنا حين انتشت
من دم القتلى حلالا وحراما
عجز الطليان عن أبطالنا
فأعلوا
150
من درارينا الحساما
كبلوهم، قتلوهم، مثلوا
بذوات الخدر، طاحوا باليتامى
ذبحوا الأشياخ والزمنى،
151
ولم
يرحموا طفلا، ولم يبقوا غلاما
أحرقوا الدور، استحلوا كل ما
حرمت «لاهاي» في العهد احتراما
بارك المطران في أعمالهم
فسلوه: بارك القوم علاما؟
أبهذا جاءهم إنجيلهم
آمرا يلقي على الأرض سلاما؟
كشفوا عن نية الغرب لنا
وجلوا عن أفق الشرق الظلاما
فقرأناها سطورا من دم
أقسمت تلتهم الشرق التهاما
وختم قصيدته بقوله:
فاطمئني أمم الشرق ولا
تقنطي اليوم فإن الجد قاما «إن في أضلاعنا أفئدة
تعشق المجد، وتأبى أن تضاما»
تمجيده للشورى
قال في عمريته المشهورة التي أنشأها في سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب:
يا رافعا راية الشورى وحارسها
جزاك ربك خيرا عن محبيها
لم يلهك النزع عن تأييد دولتها
152
وللمنية آلام تعانيها
لم أنس أمرك للمقداد يحمله
إلى الجماعة إنذارا وتنبيها
إن ظل بعد ثلاث
153
رأيها شعبا
فجرد السيف واضرب في هواديها
فاعجب لقوة نفس ليس يصرفها
طعم المنية مرا عن مراميها
درى عميد بني الشورى بموضعها
فعاش ما عاش يبنيها ويعليها
وما استبد برأي في حكومته
إن الحكومة تغري مستبديها
رأي الجماعة لا تشقى البلاد به
رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها!
الاستمرار في الكفاح
قال سنة 1924 يدعو إلى الاستمرار في الكفاح:
إنا سنعمل للخلاص ولا نني
والله يقضي بيننا ويديل
154
كم دولة شهد الصباح جلالها
وأتى عليها الليل وهي فلول
وقصور قوم زاهرات في الدجى
طلعت عليها الشمس وهي طلول •••
يأيها النشء الكرام تحية
كالروض قد خطرت عليه قبول
155
يا زهر مصر وزينها وحماتها
مدحي لكم بعد الرئيس
156
فضول
جدتم لها بالنفس في ورد الصبا
والورد لم ينظر إليه ذبول
كم من سجين دونها ومجاهد
دمه على عرصاتها مطلول
سيروا على سنن الرئيس وحققوا
أمل البلاد فكلكم مأمول
أنتم رجال غد وقد أوفى غد
فاستقبلوه وحجلوه وطولوا
157
تقريعه للمواطنين
وبلغ حثه المواطنين على النهوض حد التقريع أحيانا، وله 1904 قصيدة ينعى فيها على مواطنيه بعض عيوبهم الاجتماعية، وقد نظمها لمناسبة قضية شخصية ثار لها الرأي العام بغير موجب؛ إذ تزوج صاحب المؤيد المرحوم الشيخ علي يوسف بكريمة السيد عبد الخالق السادات، فرفع هذا دعوى أمام المحكمة الشرعية طالبا فسخ عقد الزواج بحجة عدم الكفاءة في النسب، وانحاز الرأي العام إلى جانب المدعي، وأخذ القضاء بوجهة نظره رغم علو مكانة الشيخ علي يوسف في الهيئة الاجتماعية، قال حافظ:
حطمت اليراع فلا تعجبي
وعفت البيان فلا تعتبي
فما أنت يا مصر دار الأديب
ولا أنت بالبلد الطيب
وكم فيك يا مصر من كاتب
أقال اليراع ولم يكتب
فلا تعذليني لهذا السكوت
فقد ضاق بي منك ما ضاق بي
أيعجبني منك يوم «الوفاق»
158
سكوت الجماد ولعب الصبي؟
وكم غضب الناس من قبلنا
لسلب الحقوق ولم تغضب •••
أنابتة العصر إن الغريب
مجد بمصر فلا تلعبي
يقولون: في النشء خير لنا
وللنشء شر من الأجنبي
أفي «الأزبكية» مثوى البنين
وبين المساجد مثوى الأب؟ «وكم ذا بمصر من المضحكات»
كما قال فيها «أبو الطيب»
159
أمور تمر وعيش يمر
160
ونحن من اللهو في ملعب
وشعب يفر من الصالحات
فرار السليم من الأجرب
وصحف تطن طنين الذباب
وأخرى تشن على الأقرب
وهذا يلوذ بقصر الأمير
ويدعو إلى ظله الأرحب
وهذا يلوذ بقصر السفير
ويطنب في ورده الأعذب
وهذا يصيح مع الصائحين
على غير قصد ولا مأرب •••
وقالوا: «المؤيد» في غمرة
رماه بها الطمع الأشعبي
دعاه الغرام بسن الكهول
فجن جنونا ببنت النبي!
فضج لها العرش والحاملوه
وضج لها القبر في «يثرب»
161
ونادى رجال بإسقاطه
وقالوا: تلون في المشرب
وعدوا عليه من السيئات
ألوفا تدور مع الأحقب
وقالوا لصيق ببيت الرسول
أغار على النسب الأنجب
وزكى «أبو خطوة» قولهم
بحكم أحد من المضرب
فما للتهاني على داره
تساقط كالمطر الصيب؟
وما للوفود على بابه
تزف البشائر في موكب؟
وما للخليفة أسدى إليه
وساما يليق بصدر الأبي؟ •••
فيا أمة ضاق عن وصفها
جنان المفوه والأخطب
تضيع الحقيقة ما بيننا
ويصلى البريء مع المذنب؟
ويهضم فينا الإمام الحكيم
ويكرم فينا الجهول الغبي •••
على الشرق مني سلام الودود
وإن طأطأ الشرق للمغرب
لقد كان خصبا بجدب الزمان
فأجدب في الزمن المخصب
شعره الاجتماعي
يزخر شعر حافظ بالاجتماعيات؛ فهو من هذه الناحية أغزر مادة وأعمق غورا من شوقي، ولا غرو فقد كان أكثر اتصالا بالطبقات الشعبية، وعانى ما تعانيه من الألم والحرمان، فصار أدق تصويرا لأحوالها وآلامها، وفي ذلك يقول بحق عن نفسه في قصيدته التي أنشدها بدار الأوبرا سنة 1911 في حفلة جمعية رعاية الأطفال:
لم أقف موقفي لأنشد شعرا
صب في قالب بديع النظام
إنما قمت فيه والنفس نشوى
من كئوس الهموم والقلب دامي «ذقت طعم الأسى وكابدت عيشا
دون شربي قذاه شرب الحمام»
162
فتقلبت في الشقاء زمانا
وتنقلت في الخطوب الجسام
ومشى الهم ثاقبا في فؤادي
ومشى الحزن ناخرا في عظامى
فلهذا وقفت أستعطف النا
س على البائسين في كل عام
عطفه على منكوبي حريق ميت غمر
في سنة 1902شب حريق مروع في مدينة ميت غمر، وبقيت النار مشتعلة فيها عدة أيام، فدمرت كثيرا من دورها ومات في الحريق كثيرون، ولعظم النكبة تسابق أهل الخير في إعانة المنكوبين وإسعافهم، وفاضت أعمدة الصحف بأنباء ما أصابهم، وفي ذلك أنشأ حافظ قصيدته المشهورة في وصف هذه الكارثة والعطف على ضحاياها، قال:
سائلوا الليل عنهم والنهارا
كيف باتت نساؤهم والعذارى؟
كيف أمسى رضيعهم فقد الأم
وكيف اصطلى مع القوم نارا؟
كيف طاح العجوز تحت جدار
يتداعى وأسقف تتجارى؟
رب إن القضاء أنحى عليهم
فاكشف الكرب واحجب الأقدارا
ومر النار أن تكف أذاها
ومر الغيث أن يسيل انهمارا
أين طوفان صاحب الفلك يروي
هذه النار فهي تشكو الأوارا
163
أشعلت فحمة الدياجي فباتت
تملأ الأرض والسماء شرارا
غشيتهم والنحس يجري يمينا
ورمتهم والبؤس يجري يسارا
فأغارت وأوجه القوم بيض
ثم غارت وقد كستهن قارا
أكلت دورهم فلما استقلت
لم تغادر صغارهم والكبارا
أخرجتهم من الديار عراة
حذر الموت يطلبون الفرارا
يلبسون الظلام حتى إذا ما
أقبل الصبح يلبسون النهارا
حلة لا تقيهم البرد والحر
ولا عنهم ترد الغبارا •••
أيها الرافلون في حلل الوش
ي
164
يجرون للذيول افتخارا
إن فوق العراء قوما جياعا
يتوارون ذلة وانكسارا
أيهذا السجين
165
لا يمنع السج
ن كريما من أن يقيل العثارا
مر بألف لهم وإن شئت زدها
وأجرهم كما أجرت النصارى •••
قد شهدنا بالأمس في مصر عرسا
166
ملأ العين والفؤاد ابتهارا
سال فيه النضار حتى حسبنا
أن ذاك الفناء يجري نضارا
بات فيه المنعمون بليل
أخجل الصبح حسنه فتوارى
يكتسون السرور طورا وطورا
في يد الكأس يخلعون الوقارا
وسمعنا في «ميت غمر» صياحا
ملأ البر ضجة والبحارا •••
جل من قسم الحظوظ؛ فهذا
يتغنى وذاك يبكي الديارا
رب ليل في الدهر قد ضم نحسا
وسعودا وعسرة ويسارا!
الجامعة سبيل الكفاح
وقال من قصيدة له في سنة 1908 يدعو إلى معاضدة مشروع الجامعة المصرية:
حياكم الله أحيوا العلم والأدبا
إن تنشروا العلم ينشر فيكم العربا
167
ولا حياة لكم إلا بجامعة
تكون أما لطلاب العلا وأبا
تبني الرجال وتبني كل شاهقة
من المعالي وتبني العز والغلبا
ضعوا القلوب أساسا لا أقول لكم
ضعوا النضار فإني أصغر الذهبا
وابنوا بأكبادكم سورا لها ودعوا
قيل العدو فإني أعرف السببا
168
لا تقنطوا إن قرأتم ما يزوقه
ذاك العميد ويرميكم به غضبا
169
وراقبوا يوم لا تغني حصائده
فكل حي سيجزى بالذي اكتسبا
170
بنى على الإفك أبراجا مشيدة
فابنوا على الحق برجا ينطح الشهبا
وجاوبوه بفعل لا يقوضه
قول المفند أنى قال أو خطبا
لا تهجعوا إنهم لن يهجعوا أبدا
وطالبوهم ولكن أجملوا الطلبا
وختمها بقوله:
إن تقرضوا الله في أوطانكم فلكم
أجر المجاهد طوبى للذي اكتتبا
رعاية الأطفال
وألقى في أبريل سنة 1910 القصيدة الآتية في احتفال أقامته جمعية رعاية الأطفال يصف بؤس أم فقيرة حامل وكيف لقيت الرعاية والإسعاف في مستشفى الجمعية:
شبحا أرى أم ذاك طيف خيال؟
لا، بل فتاة بالعراء حيالي
أمست بمدرجة الخطوب فما لها
راع هناك وما لها من والي
حسرى تكاد تعيد فحمة ليلها
نارا بأنات ذكين
171
طوال
ما خطبها، عجبا، وما خطبي بها؟
ما لي أشاطرها الوجيعة ما لي؟
دانيتها ولصوتها في مسمعي
وقع النبال عطفن إثر نبال
وسألتها : من أنت؟ وهي كأنها
رسم على طلل من الأطلال
فتململت جزعا وقالت: حامل
لم تدر طعم الغمض منذ ليالي
قد مات والدها وماتت أمها
ومضى الحمام بعمها والخال •••
وإلى هنا حبس الحياء لسانها
وجرى البكاء بدمعها الهطال «فعلمت ما تخفي الفتاة وإنما
يحنو على أمثالها أمثالي»
ووقفت أنظرها كأني عابد
في هيكل يرنو إلى تمثال
ورأيت آيات الجمال تكفلت
بزوالهن فوادح الأثقال
لا شيء أفعل في النفوس كقامة
هيفاء روعها الأسى بهزال
أو غادة كانت تريك إذا بدت
شمس النهار فأصبحت كالآل
172 •••
قلت انهضي قالت أينهض ميت
من قبره ويسير شن بالي
173
فحملت هيكل عظمها وكأنني
حملت حين حملت عود خلال
وطفقت أنتهب الخطا متيمما
بالليل «دار رعاية الأطفال»
أمشي وأحمل بائسين؛ فطارق
باب الحياة ومؤذن بزوال
174
أبكيهما وكأنما أنا ثالث
لهما من الإشفاق والإعوال
175 •••
وطرقت باب الدار لا متهيبا
أحدا ولا مترقبا لسؤال
طرق المسافر آب من أسفاره
أو طرق رب الدار غير مبالي
وإذا بأصوات تصيح: ألا افتحوا
دقات مرضى مدلجين عجال
وإذا بأيد طاهرات عودت
صنع الجميل تطوعت في الحال
جاءت تسابق في المبرة بعضها
بعضا لوجه الله لا للمال
فتناولت بالرفق ما أنا حامل
كالأم تكلأ طفلها وتوالي
وإذا الطبيب مشمر وإذا بها
فوق الوسائد في مكان عالي
جاءوا بأنواع الدواء وطوفوا
بسرير ضيفتهم كبعض الآل
وجثا الطبيب يجس نبضا خافتا
ويرود مكمن دائها القتال
لم يدر حين دنا ليبلو
176
قلبها
دقات قلب أم دبيب نمال؟ •••
ودعتها وتركتها في أهلها
وخرجت منشرحا رضي البال
وعجزت عن شكر الذين تجردوا
للباقيات وصالح الأعمال
لم يخجلوها بالسؤال عن اسمها
تلك المروءة والشعور العالي
خير الصنائع في الأنام صنيعة
تنبو بحاملها عن الإذلال
وإذا النوال أتى ولم يهرق له
ماء الوجوه فذاك خير نوال
من جاد من بعد السؤال فإنه - وهو الجواد - يعد في البخال •••
لله درهم فكم من بائس
جم الوجيعة سيئ الأحوال
ترمي به الدنيا فمن جوع إلى
عري إلى سقم إلى إقلال
عين مسهدة وقلب واجف
نفس مروعة وجيب خالي
لم يدر ناظره أعريانا يرى
أم كاسيا في تلكم الأسمال
فكأن ناحل جسمه في ثوبه
خلف الخروق يطل من غربال
يا برد فاحمل قد ظفرت بأعزل
يا حر تلك فريسة المغتال
يا عين سحي يا قلوب تفطري
يا نفس رقي يا مروءة والي
لولاهم لقضى عليه شقاؤه
وخلا المجال لخاطف الآجال
لولاهم كان الردى وقفا على
نفس الفقير ثقيلة الأحمال •••
لله در الساهرين على الألى
سهروا من الأوجاع والأوجال
177
القائمين بخير ما جاءت به
مدنية الأديان والأجيال
أهل اليتيم وكهفه وحماته
وربيع أهل البؤس والإمحال
178 •••
لا تهملوا في الصالحات فإنكم
لا تجهلون عواقب الإهمال
إني أرى فقراءكم في حاجة - لا تعلمون - لقائل فعال
فتسابقوا الخيرات فهي أمامكم
ميدان سبق للجواد النال
179
والمحسنون لهم على إحسانهم
يوم الإثابة عشرة الأمثال
وجزاء رب المحسنين يجل عن
عد وعن وزن وعن مكيال
وقال في سنة 1911 يدعو إلى العطف على البؤساء:
دعوة البائس المعذب سور
يدفع الشر عن حياض الكرام
وهي حرب على البخيل وذي البغ
ي وسيف على رقاب اللئام
إن هذا الكريم قد صان عرضي
وحماني من عاديات السقام
عال طفلي وعالني وحباني
بكساء وبدرة وطعام
وهو من معشر أغاثوا ذوي البؤ
س وقاموا في الله خير القيام
وأقاموا للبر دارا فكانت
خير ورد يؤمه كل ظامي
ملئت رحمة وفاضت حنانا
فهي للبائسات دار السلام
إلى أن قال في الإحسان والزكاة:
قد نجا المنعم الجواد من المو
ت بفضل الزكاة والإنعام
فأطفنا بها وقد ملأ الأن
فس منا جلال ذاك المقام
وشهدنا ثغر الوفاء تجلى
إذ تجلى في ثغرها البسام
ورأينا شخص المروءة والبر
تبدى في شخص ذاك الهمام
وعلمنا أن الزكاة سبيل الله
قبل الصلاة، قبل الصيام
خصها الله في الكتاب بذكر
فهي ركن الأركان في الإسلام
بدأت مبدأ اليقين وظلت
لحياة الشعوب خير قوام
لو وفى بالزكاة من جمع الدن
يا وأهوى على اقتناء الحطام
ما شكا الجوع معدم أو تصدى
لركوب الشرور والآثام
راكبا رأسه طريدا شريدا
لا يبالي بشرعة أو ذمام
سائلا عن وصية الله فيه
آخذا قوته بحد الحسام
ملجأ الحرية
ومن قصيدة له سنة 1919 في تحية ملجأ الحرية، وفيها يهيب بالأثرياء أن يبروا الأيتام والفقراء، ويشير إلى يقظة الأمة سنة 1919 وما أحدثته الثورة في النفوس من التطلع إلى المثل العليا.
أيها الطفل لك البشرى فقد
قدر الله لنا أن ننشرا
180
قدر الله حياة حرة
وأبى سبحانه أن تقبرا
لا تخف جوعا ولا عريا ولا
تبك عيناك إذا خطب عرا
181
لك عند البر في ملجئه
حيث تأوي خاطر لن يكسرا
حيث تلقى فيه حدبا وترى
بين أترابك عيشا أنضرا •••
لا تسئ ظنا بمثرينا فقد
تاب عن آثامه واستغفرا
كان بالأمس وأقصى همه - إن أتى عارفة
182 - أن يظهرا
فغدا اليوم يواسي شعبه
وهو لا يرغب في أن يشكرا
نبهت عاطفة البر به
محنة عمت ومقدار جرى
جمعتنا في صعيد واحد
وأرادتنا على أن نقهرا
فتعاهدنا على دفع الأذى
بركوب الحزم حتى نظفرا
وتواصينا بصبر بيننا
فغدونا قوة لا تزدرى
أنشرت
183
في مصر شعبا صالحا
كان قبل اليوم منفك العرا
كم محب هائم في حبها
ذاد عن أجفانه سرح الكرى
وشباب وكهول أقسموا
أن يشيدوا مجدها فوق الذرى •••
يا رجال الجد هذا وقته
آن أن يعمل كل ما يرى
ملجأ أو مصرفا أو مصنعا
أو نقابات لزراع القرى
أنا لا أعذر منكم من ونى
وهو ذو مقدرة أو قصرا
فابدءوا بالملجأ الحر الذي
جئت للأيدي له مستمطرا
واكفلوا الأيتام فيه واعلموا
أن كل الصيد في جوف الفرا
أيها المثري! ألا تكفل من
بات محروما يتيما معسرا؟
أنت ما يدريك لو أنبته
ربما أطلعت بدرا نيرا
ربما أطلعت «سعدا» آخرا
يحكم القول ويرقى المنبرا
ربما أطلعت منه «عبده»
من حمى الدين وزان «الأزهرا»
ربما أطلعت منه شاعرا
مثل «شوقي» نابها بين الورى
ربما أطلعت منه فارسا
يدخل الغيل على أسد الشرى
184
كم طوى البؤس نفوسا لو رعت
منبتا خصبا لكانت جوهرا
كم قضى العدم على موهبة
فتوارت تحت أطباق الثرى •••
كل من أحيا يتيما ضائعا
حسبه من ربه أن يؤجرا
إنما تحمد عقبى أمره
من لأخراه بدنياه اشترى
جمعية إعانة العميان
وقال في سنة 1916 في احتفال أقامته جمعية إعانة العميان:
إن حق الضرير عند ذوي الأب
صار حق مستوجب التقديس
لم يضره فقدانه نور عيني
ه إذا اعتاض عنهما بأنيس
آنسوا نفسه إذا أظلم العي
ش بعلم فالعلم أنس النفوس
وجهوه إلى الفلاح يفدكم
فوق ما يستفيده من دروس
أكملوا نقصه يكن عبقريا
مثل «طه» مبرزا في الطروس
كم رأينا من أكمه لا يجارى
وضرير يرجى ليوم عبوس
لم تقف آفة العيون حجازا
بين وثباته وبين الشموس
عدم الحس قائدا فحداه
هدي وجدانه إلى المحسوس
مثل هذا إذا تعلم أغنى
عن كثير وجاءنا بالنفيس
ذاك أن الذكاء والحفظ حلا
في جوار النهى بتلك الرءوس
فعلى كل أكمه وبصير
شكر أعضائكم وشكر الرئيس
المال والعلم والأخلاق
قال سنة 1921 باسم مصر، من قصيدته «مصر تتحدث عن نفسها»:
وارفعوا دولتي على العلم والأخ
لاق فالعلم وحده ليس يجدي
وقال سنة 1910 في قصيدة له [انظر فصل حافظ إبراهيم شاعر النيل] في الحث على إعانة مدرسة البنات ببورسعيد:
كم ذا يكابد عاشق ويلاقي
في حب مصر كثيرة العشاق
إني لأحمل في هواك صبابة
يا مصر قد خرجت عن الأطواق
لهفي عليك متى أراك طليقة
يحمي كريم حماك شعب راقي
كلف بمحمود الخلال متيم
بالبذل بين يديك والإنفاق
إني لتطربني الخلال كريمة
طرب الغريب بأوبة وتلاقي
وتهزني ذكرى المروءة والندى
بين الشمائل هزة المشتاق •••
فإذا رزقت خليقة محمودة
فقد اصطفاك مقسم الأرزاق
فالناس هذا حظه مال وذا
علم وذاك مكارم الأخلاق
والمال إن لم تدخره محصنا
بالعلم كان نهاية الإملاق
185
والعلم إن لم تكتنفه شمائل
تعليه كان مطية الإخفاق
لا تحسبن العلم ينفع وحده
ما لم يتوج ربه بخلاق
186
فضل المرأة على المجتمع
وقال في هذه القصيدة ينوه بفضل المرأة في المجتمع:
من لي بتربية النساء فإنها
في الشرق علة ذلك الإخفاق «الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعبا طيب الأعراق»
187
الأم روض إن تعهده الحيا
188
بالري أورق أيما إيراق
الأم أستاذ الأساتذة الألى
شغلت مآثرهم مدى الآفاق •••
أنا لا أقول دعوا النساء سوافرا
بين الرجال يجلن في الأسواق
يدرجن حيث أردن لا من وازع
يحذرن رقبته ولا من واقي
يفعلن أفعال الرجال لواهيا
عن واجبات نواعس الأحداق
في دورهن شئونهن كثيرة
كشئون رب السيف والمزراق
189
كلا ولا أدعوكم أن تسرفوا
في الحجب والتضييق والإرهاق
ليست نساؤكم حلى وجواهرا
خوف الضياع تصان في الأحقاق
ليست نساؤكم أثاثا يقتنى
في الدور بين مخادع وطباق
تتشكل الأزمان في أدوارها
دولا وهن على الجمود بواقي
فتوسطوا في الحالتين وأنصفوا
فالشر في التقييد والإطلاق
ربوا البنات على الفضيلة إنها
في الموقفين لهن خير وثاق
وعليكم أن تستبين بناتكم
نور الهدى وعلى الحياء الباقي
المناصب والفضائل
من قوله في رثائه لمحمود سامي البارودي:
إن المناصب في عزل وتولية
غير المواهب في ذكر وتخليد
ومات حافظ سنة 1932 بعد أن خلف لمصر والشرق ذخيرة من الوطنية وكنوزا من الشعر والحكمة والأخلاق لا تفنى ولا تنفد على مر الزمان.
خليل مطران شاعر الحرية
1872-1949
شاعر الحرية والعروبة، حمل لواء التجديد في الشعر، نيفا ونصف قرن من الزمان، وبلغ الذروة في عالم الشعر والفن والبلاغة والخيال.
ولد سنة 1872 في بعلبك إحدى المدن الشهيرة بلبنان، ونشأ نزاعا إلى الحرية سمح النفس، كريم الخلق، صفي السيرة، محبا للخير، وديعا في شمم وإباء، معتزا بكرامته، عيوفا عن الصغائر.
ضاق صدرا منذ صباه بجو يضغط على حرية الرأي والفكر، فارتحل إلى باريس يتمم فيها دراسته وعلومه، وهناك ارتوى من مناهل الآداب الغربية، وإذ كانت شاعريته وليدة فطرته وسليقته، فقد اتجهت نفسه بتأثير الأدب الفرنسي إلى التجديد في شعره، فجمع بين البلاغة العربية والأساليب والمعاني الأوروبية.
ثم هاجر إلى مصر، واتخذها موطنه الثاني، بل موطنه المختار.
أخلص لها، وغرد في أكنافها، وتعشق نيلها وأرضها وسماءها، وهو ثالث الثلاثة الذين عاشوا معا وانتهت إليهم زعامة الشعر في العصر الحديث ؛ شوقي وحافظ ومطران.
ألهمه حب الحرية نظم القصائد الرائعة في تمجيدها والذود عنها، والجهاد في سبيلها، فكان من أعلامها الخالدين.
كان إنسانا في شخصه وفي أخلاقه وفي شعره وأدبه.
كان في شعره ينشد الكمال، ويحلق في أجواء الحرية والوطنية.
كان يستلهم شعره من المثل العليا، وفي ذلك يقول عن نفسه في الاحتفال بيوبيله الذهبي سنة 1948:
كان في الشعر لي مرام خطير
فعدا طوقي المرام الخطير
هائم في الوجود أسأله الوح
ي كما يسأل الغني الفقير
أكبروني ولست أكبر نفسي
أنا في الفن مستفيد صغير
لا يضق صدر شاعر بأخيه
يكره الفضل أن تضيق الصدور
والسموات لو تأملت فيها
ليس تحصى شموسها والبدور
كل جرم يعلو ويصبح نجما
فله حيز وفيه بدور
والنجوم التي تلوح وتخفى
ربوات وما يضيق الأثير
وبهذه الروح العالية والنفس الصافية والود الخالص والإيثار والأريحية، عاش محبوبا من معاصريه؛ يحبهم ويحبونه، وينشد لهم الخير والكمال.
وقد أرخ في شعره الوطني العذب مراحل النهضة المصرية والشرقية، وسجل حوادثها ووقائعها، وترجم لرجالها وأشخاصها، وغذى بقصائده الروح الوطنية جيلا بعد جيل.
يمتاز شعره بسعة الخيال وجمال التصوير وبلاغة التعبير، هذا إلى اقتباسه من آداب اللغة الفرنسية التي درسها وتمكن منها تمكنه من آداب اللغة العربية، فجمع بين الثقافة العربية والثقافة الأوروبية، وهو زعيم مدرسة التجديد في الشعر العربي، وسار على نهجه تلاميذه ومريدوه.
وقد عبر أبلغ تعبير وأرقه عن منهج التجديد في شعره، بقوله في مقدمة الطبعة الثانية لديوانه سنة 1948 قال:
هذا شعري، وفيه كل شعوري، هو شعر الحياة والحقيقة والخيال، نظمته في مختلف الآونة التي تخليت فيها عن العمل لرزقي، نظمته مصبحا وممسيا، منفردا ومتحدثا مع عشرائي، وقيدت فيه زفراتي وأحلامي، وسجلت بقوافيه أحداث زماني وبيئتي في دقة واستيفاء.
أتابع السابقين في الاحتفاظ بأصول اللغة، وعدم التفريط فيها، واستيحاء الفطرة الصحيحة، وأتوسع في مذاهب البيان مجاراة لما اقتضاه العصر، كما فعل العرب من قبلي. أما الأمنية الكبرى التي كانت تجيش بي، فهي أن أدخل كل جديد في شعرنا العربي بحيث لا ينكر، وأن أستطيع إقناع الجامدين بأن لغتنا أم اللغات إذا حفظت وخدمت حق خدمتها؛ ففيها ضروب الكفاية لتجاري كل لغة قديمة وحديثة في التعبير عن الدقائق والجلائل من أغراض الفنون، وإني لأرجو أن يرى المطلعون على هذا الجزء الثاني وما يليه من أجزاء «ديوان الخليل» مصداقا لدعواي.
وقال عنه صنوه وصديقه حافظ يشيد بنزعته في التجديد:
هو في طليعة أولئك الذين خرجوا من أفق التقليد وصدعوا قيود التقييد، وأوسعوا صدر الشعر العربي للخيال الأعجمي، وأفسحوا فيه للقصص وتصوير الحوادث، وطوفوا بسرد وقائع التاريخ، ففتح بذلك فتحا جديدا شن فيه الغارة على أهل الحفاظ والتمسيك.
وكان من أركان المسرح العربي بما كتب لهذا المسرح وعرب؛ فقد ترجم ليالي ألفريد دي موسيه، ورواية هرناني لفكتور هيجو، كما ترجم لكورنيل مسرحيات «السيد» وسينا وبوليكت، وترجم روايات شكسبير؛ هاملت، ومكبث، وعطيل، وتاجر البندقية.
النهضة العربية
قال سنة 1908 يحيي نهضة الشعوب العربية:
داع إلى العهد الجديد دعاك
فاستأنفي في الخافقين علاك
يا أمة العرب التي هي أمنا
أي الفخار نميته ونماك؟
يمضي الزمان وتنقضي أحداثه
وهواك منا في القلوب هواك
إنا نقاضي الدهر في أحسابنا
بالرأي لا بالصارم الفتاك
وملاك شيمتنا الوفاء فإنه
لسعادة الأقوام خير ملاك
آمالنا آلامنا، أرواحنا
أشباحنا يوم الفداء فداك
بالعلم ننشر ما انطوى من مجدنا
وبه نزكي في الورى ذكراك
مطران ومصطفى كامل
كان بينه وبين الزعيم مصطفى كامل صداقة وود داما طول العمر، كان مؤيدا لدعوته نصيرا لرسالته، دافع عنها في حياة مصطفى، وظل وفيا لها بعد وفاته، ويبدو مبلغ إعجابه به وتقديره لعبقريته في قصيدته التي أنشدها سنة 1908 في حفلة الأربعين لوفاته، وقد نشرها في ديوانه وصدرها في طبعته الأولى بهذه الكلمة التي تعد في ذاتها قصيدة من النثر المنظوم، قال: «مصاب الشرق في رجله المفرد، وبطله الأوحد، مصطفى باشا كامل، أيتها الروح العزيزة! إن في هذا الديوان الذي أختتمه برثائك نفحات من نفحاتك، ودعوات من دعائك، فإلى هيكلك المدفون بالتكريم تحية الأخ المخلص للأخ الحميم ، ووداع المجاهد المتطوع للقائد العظيم.»
وجعل عنوان القصيدة «حق الوطن وحق الإخاء» قال:
أعلى مكانتك الإله وشرفا
فانعم بطيب جواره يا «مصطفى»
اليوم فزت بأجر ما أسلفته
خيرا وكل واجد ما أسلفا
وجزيت من فاني الوجود بخالد
ومن الأسى الماضي بمقتبل الصفا •••
أعظم بيومك في الزمان ومن له
بك واصفا ذاك الجلال فيوصفا
حيث الوفود من الملائك أقبلوا
حافين حولك في السرير وعكفا
وتحملوك على الأشعة وارتقوا
سربا يجوز بك الدراري موجفا
فوردت وردك في الخلود منعما
والأرض مائدة عليك تأسفا
لم تلف قبلك أمة في مشهد
يذرو الرجال به المدامع ذرفا
يمشون من حول الجنازة ضائقا
بهم الرحيب من المسالك مصرفا
متثاقلين من الوقار وإنما
ساروا بطيف ناحل أو أنحفا
بحر من الأحياء نعشك فوقه
فلك يظلله اللواء مرفرفا
يبكون في آثاره العلم الذي
آثاره من رفعة لا تقتفى •••
سعت الخوادر حاسرات والأسى
ملق على الأبصار سترا أغدفا
ولئن سفرن ولم يخلن فإنه
خطب ألان بروعه صم الصفا
فزع الشباب إلى الشيوخ بثأرهم
من دمعهم إن خانهم متكفكفا
ومن الغضاضة أن دعا داعي العلا
بعد الفقيد فتى بهم فتوقفا
جزع النصارى واليهود لمسلم
هو خير من والى وأوفى من وفى
بكوا المرجى في خلاف عارض
ليزيل ذاك العارض المتكشفا
واشتد رزء المسلمين وحزنهم
لما مضيت ولست فيهم مخلفا •••
من بعد كاتبهم وبعد خطيبهم
يعلي لهم صوتا وينشر مصحفا؟
من يبرئ الإسلام من تهم العدى
ويرد نقد الناقدين مزيفا؟
يبدي لأعين جاهليه فضله
ويزيل ما يلد التناكر من جفا
ويثير من غضب الغضاب لمجده
همما تعيد له المقام الأشرافا
لكن من أعلام جندك حوله
سمرا تهز لكل خطب معطفا
ولعل حرا لا يدين به انبرى
ليذود عنه خصمه المتعسفا
قف أيها الناعي عليه جموده
فلقد تجاوزت الهدى متفلسفا
إن يعتر الشمس الكسوف هنيهة
أيكون منقصة لها أن تكسفا؟
وهل الكسوف سوى تعرض حائل
يثني أشعتها إلى أن يكشفا
لم تنزل الأديان إلا هاديا
للعالمين ورادعا ومثقفا
بشعار حي على الفلاح وما بها
أن قصر الأقوام عنه فأخلفا
وبكل أمر موجب إصلاحهم
أن خالفوه فما استحال ولا انتفى
قد كان للإسلام عهد باهر
فلنا به هذا الرقي مسلفا
ملأ البلاد إنارة وحضارة
ومنى السماحة عوده مستأنفا
فالخير كل الخير فيه مقبلا
والشر كل الشر أن يتخلفا
يدعو البقاء إلى التكافؤ بالقوى
بين العناصر أو يهين ويضعفا
والخلق جسم إن ألم ببعضه
سقم ولم يتلاف عم وأتلفا
بشرى البرية بعد مزمن دائها
بسلامة الإسلام وهي لها شفا
إن أغضبت تلك السلامة جائرا
أرضت خبيرا بالحياة ومنصفا
يا من نهضت بنصره وأبنته
حق الإبانة هل تبالي مرجفا؟
ما زلت في مصر تقيم مناره
حتى أنار الكون منها مشرفا •••
مصر العزيزة قد ذكرت لك اسمها
وأرى ترابك من حنين قد هفا
وكأنني بالقبر أصبح منبرا
وكأنني بك موشك أن تهتفا
مصر التي لم تحظ من نجبائها
بأعز منك ولم تعز بأحصفا
مصر التي لم تبغ إلا نفعها
في الحالتين ملاينا ومعنفا
مصر التي غسلت يداك جراحها
بصبيب دمعك جاريا مستنزفا
مصر التي كافحت لد عداتها
متصدرا لرماتها مستهدفا
مصر التي سقت الجيوش مناقبا
ومنى لتكفيها المغير المجحفا «مصر التي أحببتها الحب الذي
بلغ الفداء نزاهة وتعففا» «حتى مضيت كما ابتغيت مؤلفا
من شملها ما لم يكن ليؤلفا»
أمنية أعيت خلالك دونها
لو لم يضافرها رداك فيسعفا
وهي التي لو قسمت لنما بها
شعب يعز بنفسه مستنصفا •••
من كان أجرأ منك يوم كريهة
بالحق لا شكسا ولا متصلفا
من كان أقدر منك تصريفا لما
يعيي الحكيم مدبرا ومصرفا
من كان أطهر منك خلقا جامعا
فيه مهيب الطبع والمستظرفا
من كان أزهد منك إلا في الذي
يجدي البلاد فتبتغيه ملحفا
من كان أسمع منك مناعا لما
تهوى ومعطاء لغيرك مسرفا
من كان أصدق منك لا متنصلا
مما تقول ولا تعاهد مخلفا •••
لهفي على فخر الصبا هادي النهى
عالي اللواء حمى المروءة والوفا
يا من نعى تلك الفضائل والعلا
أغدت معالمهن قاعا صفصفا
لا لا وحقك يا شهيد وفائه
ورجائه كذب النعي وأرجفا
ما أنت بالرجل الذي يمسي وقد
ملئ الوجود به ويصبح قد عفا
إني أراك ولا تزال كعهدنا
بك في جهادك أو أشد وأشعفا
ثابر على تلك العزائم ذائدا
عن مصر تضرب في البلاد مطوفا
أصدر صحائفك التي تحيي بها
نضو الطريق وتدفع المتخلفا
تجري بها الأنهار وهي دوافق
همما وتوشك أن تطم فتجرفا
وتكاد أسطرها تهب نواطقا
ويكاد يعزف كل حرف معزفا
فإذا حنوت على الحمى متحببا
فهو النسيم وقد ذكا وتلطفا
وكأنما الألفاظ مما خففت
نقش المداد رسومها وتخففا
تستام من أثوابها أرواحها
وتعاف تحلية لئلا تكشفا
قم للخطابة في المجامع وامتلك
تلك النفوس مروعا ومشنفا
أعد القديم من الممالك والقرى
ذكرى وعرفنا الحياة لنعرفا
شدد عزائمنا وقاتل ضعفنا
حتى نبيت ولا نرى متخوفا
ما هذه الآيات يرمي لفظها
شررا وتهوي الشهب فيها أحرفا
ما ذلك الترصيع ليس مرصعا
ما ذلك التفويف ليس مفوفا
وحي بأهجية إذا ما أطلقت
هبطت رواسب عنه والمغزى طفا
تحيي حرارتها ويهدي نورها
متماهل الإشراق أو متخطفا
تالله ما أنت الخطيب وإنما
وقف القضاء من المنصة موقفا
عن نطقه تقع الصروف مواعظا
وكأمره أمر الزمان مصرفا •••
يا حبذا لو كل ذلك لم يزل
لكنه حلم مضى مستطرفا
والآن نحن لدى ثراك نحجه
متلهبين تشوقا وتشوفا
نثني وهل يوفى ثناؤك حقه
وبأي ألفاظ المحامد يكتفى
ماذا يعيضك من شبابك نظمنا
فيك الرثاء منسقا ومصففا
ويعيض منك وكنت جوهرة الحمى
صوغ الكلام مرصعا ومزخرفا •••
يا أخلص الخلصاء أبكي بعده
كبكاء مصر تحرقا وتلهفا
هذا مثالك لاح يرعانا وقد
كشف الجوى عنه الحجاب فأشرفا
جاد الهلال برسمه تاجا له
وكسته ناسجة الطهارة مطرفا
يا من رماه عداته بتطرف
حققت آمال الهدى متطرفا «كهواك للأوطان فليكن الهوى
لا مفترى فيه ولا متكلفا»
يجري على قدر المطالب ناميا
ويجل في مجراه عن أن يصدفا
أنشأت من مصر الشتات بفضله
مصر الفتاة حمى يعز ومألفا
أحدثت فيها أمة أندى يدا
للصالحات وبالعظائم أكلفا
عرفت أهليها حقيقة قدرهم
وكفاهم من قدرهم أن يعرفا
نفحات روحك خامرت أرواحهم
فهم مرامك ساء دهر أو صفا
حصن أشم تساندت أجزاؤه
علما وأمنه النهى أن ينسفا
فارقد رقادك إن ربك قد محا
بك ذنب مصر كما رجوت وقد عفا
وله في سنة 1933 قصيدة عصماء ألقاها لمناسبة مرور عام على وفاة حافظ إبراهيم، ضمنها وصفا رائعا للنهضة القومية التي كونت حافظا، وجعلته الشاعر المطبوع المترجم عن آمالها وآلامها، وكيف أن هذه النهضة هي غرس مصطفى كامل، وكيف تعهدها بجهاده إلى أن مات، وبموته كانت الآية التي تم بها استقرارها، قال فيها:
طرأت حالة تيقظ فيها
لدعاة الهدى ضمير السواد
1
فإذا «حافظ» وقد بث ما في
نفسه من تجهم واربداد
وبدا للمنى الجلائل فيها
أفق واسع المدى لارتياد
ما تجلى نبوغه كتجلي
ه وقد هب «مصطفى» للجهاد
يوم نادى الفتى العظيم فلبى
من نبا
2
قبله بصوت المنادي
وورى
3
ذلك الشعور الذي كا
ن كمينا كالنار تحت الرماد
فتأتى بعد القنوط الدجوج
ي
4
رجاء للشاعر المجواد
مس منه السواد فانبجست نا
ر ونور من طي ذاك السواد
أكبر الدهر وثبة وثبتها
مصر مفتكة من الاصفاد
وثغاء
5
غدا هزيما
6
فألقى
رعبه في مرابض الآساد
ما الذي أخرج الشجاعة من حي
ث طوتها قرون الاستبداد
وجلا غرة الصلاح فلاحت
تزدهي من غياهب الإفساد
فإذا أمة أبية ضيم
ما لها غير حقها من عتاد
نهضت فجأة تنافح في آ
ن عدوين أسرفا في اللداد
أجنبيا ألقى المراسي حتى
تقلع الراسيات في الأطواد
وهوانا كأنما طبع الشع
ب عليه تقادم الإخلاد
حلبة يعذر المقصر فيها
والخواتيم رهن تلك المبادي
ليس تغيير ما بقوم يسيرا
كيف ما عودوه من آماد؟
غير أن الإيمان كان حليفا
لقلوب الطليعة الأنجاد
فاستعانوا به على ما ابتغوه
غير باغين من بعيد المراد
إلى أن قال:
بعد وثب في إثر وثب عنيف
وارتداد في الشوط غب ارتداد
ساور الأمة التردد والتا
ث
7
عليها في السير وجه الرشاد
لا تسل يومذاك عن جلد القا
دة في ملتقى الخطوب الشداد
كلما ازدادت الصعاب أبوا إلا
كفاحا وعزمهم في ازدياد
يبذلون القوى وفوق القوى غي
ر مبالين أنها لنفاد
و«الزعيم الأبر» أطيبهم نف
سا عن النفس في صراع العوادي
هل ينجي شعبا من اليأس إلا
حدث من خوارق المعتاد
مصطفى مصطفى بحسبك إن يذ
كر فداء أن كنت أول فادي
مصطفى مصطفى ليهنئك أن أح
ييت قوما بذاك الاستشهاد
دب فيهم روح جديد له ما
بعده في القلوب والأخلاد
8
تنقضي الحادثات بعدك والرو
ح مقيم فيهم على الآباد
كاد يوم شيعت فيه يريهم
لمحة من جلال يوم المعاد
صدروا عنه بالتعارف فيما
بينهم وهو قوة الأعداد
واستشفوا لبأسهم فيه سرا
كم تحامى أن يدركوه الأعادي
هذه مصر الفتية هبت
في صفوف فتية للذياد
رجل مات مخلفا منه جيلا
رابط الجأش غير سهل المقاد
عهد نور من الحفاظ ونار
بعد طول الخمود والإخماد
تخذت عبقرية الشعر فيه
سلما للعروج والإصعاد
أبلغت «حافظا» من الحظ أوجا
زاد منه العلياء كل مراد
إزاحة الستار عن تمثال مصطفى كامل
وله في سنة 1940 قصيدة عن مصطفى كامل نظمها لمناسبة إزاحة الستار عن تمثاله بعد أن ظل حبيسا في «مدرسة مصطفى كامل» من سنة 1914، قال:
أمنوا بموتك صولة الرئبال
ماذا خشوا من فتنة التمثال؟
حبسوه عن مقل إليه مشوقة
فاضت أسى ودموعهن غوالي
حتى أرادت مصر غير مرادهم
وجلاء من أوفى بنيها جالي
أتهيئ استقلال قومك جاهدا
وتذاد عنهم يوم الاستقلال؟
أنصفت بعض الشيء بل هي توبة
في بدئها ولكل بدء تالي
فلقد تئوب وجد غيرك عاثر
فيما ادعى صلفا وجدك عالي
يا حسن عودك والكنانة حرة
تلقاك بالإكرام والإجلال
أيروعك الحشد الذي بك يحتفي
من غر فتيان وصيد رجال
ماذا بثثت من الحياة جديدة
في هذه الآساد والأشبال
بعث لموطنك العزيز رجوته
وسواك يحسبه رجاء محال
خاطرت فيه بالشباب وبذله
سرف لمطلوب بعيد نوال •••
أي مصطفى! ولت سنون وما اشتفى
شوقي إليك فهن جد طوال
عجب بقائي بعد أكرم رفقة
زالوا ولم يشأ القضاء زوالي
هم صفوة الدنيا وكانوا صفوها
فأحق حي بالأسى أمثالي
حزن بعيد الغور في قلبي فإن
وجب الرثاء فإنما يرثى لي
ماذا أقول وهذه أسماؤهم
وشخوصهم ملء الزمان حيالي
تعتادني في مسمعي أو ناظري
وإلى يميني تارة وشمالي
إني لأحفظ عهدهم وأصونه
في كل حادثة ولست بآلي
وكأن حسي حسهم فرحا بما
يقضي الحمى من حقهم ويوالي
كم في مغارسهم جنى ألفيته
متجددا بتعاقب الأحوال
سلوى أتاحتها مآثرهم وقد
يغدو الفراق بها شبيه وصال
وكذاك مجد العبقرية والفدى
لا ينقضي بتحول الأحوال •••
أي مصطفى ما كنت إلا كاملا
لو كان يتصف امرؤ بكمال
ماذا لقيت من الصبا ونعيمه
غير المكاره فيه والأهوال
إني شهدت شهادة العينين ما
عانيت في الغدوات والآصال
متطوعا تسخو بما يفني القوى
من جهد أيام وسهد ليالي
إذ قمت بالأمر الجسام ولم يكن
فيمن أهبت بهم مجيب سؤال
حال التورع دون إغراء المنى
زمنا نما من مسعد وموالي
والقوم في ظمأ ووعدك مطمع
لكن يرون له رفيف الآل
تسعى ويعترض السبيل قنوطهم
في كل حل منك أو ترحال
فتظل تضرب في جوانبه وما
تلقي إلى نظر الحبوط ببالي
لك دون ما تبغي مضاء مصمم
لا ينثني وبلاء غير مبال
حتى إذا وضح اليقين وصدقت
دعواك آية ربك المتعالي
فثويت أظهر ما تكون على عدى
مصر بعقبى دائك المغتالي •••
هزت منيتك البلاد ولم تكن
بأشد منها هزة الزلزال
فالقوم من جزع عليك كأنهم
آل وقد رزئوا عزيز الآل
كشف الأسى لهم الحجاب فأيقنوا
أن الحياة مطالب ومعالي
وتبينوا أن الخنوع مهانة
لا يستطال بها مدى الآجال
لله حسن بلائهم لما أبوا
متضافرين دوام تلك الحال
وتوثبوا بعزيمة مصدوقة
برئت من الأحقاد والأوجال
يردون حوضا والمنايا دونه
مستبسلين ضروب الاستبسال
حتى أتيح الفتح يجلو حسنه
في يومه إحسان يوم خالي
فتح بدا اسمك وهو في عنوانه
متخضبا بدم الشباب الغالي
إيها شديد الحب للبلد الذي
لا أنت ساليه ولا هو سالي
أبهج بأوبتك السنية طالعا
في أفقه كالكوكب المتلالي
للذكر آفاق سحيقات المدى
ولزهرها المتألقات مجالي
فإذا دنت منا فتلك عوالم
وإذا نأت عنا فتلك لآلي
تطوي من الأدهار ما لا ينقضي
وتجول في الأفكار كل مجال
أنوار وجهك طالعتنا اليوم من
برج حللت به لغير زيال
قد أثبتتها مصر بين عيونها
فالحال متصل بالاستقبال
نعم الثواب لذي مآثر في الفدى
فرضت محبته على الأجيال •••
فتيان مصر وعهدها غير الذي
عانته في الأصفاد والأغلال
حيوا مديل حياتها من يأسها
ومذلل الآلام للآمال
حيوا زعيم اليقظة الأولى بها
وخطيب ثورتها في الاستهلال
هذي مواكبها وتلك وفودها
في ملتقى ذي روعة وجمال
حفلت برمز نهوضها ومثاله
ما لا تداني صنعة المثال
لكنها مهج بنته ولم تكن
إلا ذرائعها فضول المال
وكفاه فخرا أن ذاك المال لم
يك مكس جاب أو تطول والي
رسم يلوح وفيه معنى أصله
فيروع بين حقيقة وخيال
لان الحديد له فصاغ لعينه
أثرا على الأيام ليس ببالي
كم في بليغ سكوته من عبرة
أوفى وأكفى من فصيح مقال
هو خالد ويظل مدره قومه
في كل نازلة وكل نضال
تحيته للمجاهدين في المؤتمر الوطني ببروكسل سنة 1910
ونظم في سنة 1910 قصيدة ناجى فيها الوطنيين الأحرار الذين اغتربوا عن مصر لحضور المؤتمر الوطني الذي عقد برئاسة المرحوم محمد فريد بمدينة بروكسل في سبتمبر سنة 1910، وقال:
أتراه فوق مناكب الأدهار
شفق تخلف عن بديع نهار
9
حقب دجت منها السفوح ولم يزل
فوق الذرى منها بريق نضار
10
يا مغرب الماضي أما من آية
فتعود في سحر من الأسحار؟
هذا صباح مقبل من غيبه
فتبينوه يا أولي الأبصار
تجد العيون على نواصي أفقه
ضوءا تألق من وراء ستار
سحر الرجاء بدا لكم وإزاءه
شفق البقية من علا وفخار
11
شقان من حلي أغر تصوغه
تاجا لمصر أنامل المقدار
12
تاج ستلبسه الفتاة مخلفا
عن أمها في سالف الأعصار
ويكون من آياته وشعاعه
آيات مجد رجالها الأخيار •••
نجباء مصر الواترين لعزها
وجلالها من ذلة وصغار
13
خوضوا غمار الضيم دون رجائكم
لا فوز إلا بعد خوض غمار
ما شاء سعد الدار أن تشقوا له
فاشقوا له ما شاء سعد الدار
إن شق ترحال فهذي هجرة
لا شقة
14
في مثلها فبدار
سيروا تتموا في الحياة فطالما
كان التقاعس مؤذنا ببوار
ما اللج وادع أو تشاكس حارنا
إلا ذلول الراكب الكرار
15
ما البر أنجد أو أغار بجائب
إلا سليب خطى ونهب قطار
16 •••
ركب النجاة استطلعوا لبلادكم
في الغرب كل مطالع الأنوار
هزوا منابره بعالي صوتكم
حتى يرن صداه في الأقطار
أنتم جنود السلم رسل جهاده
أنتم أشعة مصر في الأمصار
أنتم أشعة حزمها شفافة
عن حزنها والنور بث النار
ترجون أن تحيوا وتحيا مصركم
حق الحياة وما بها من عار
لا تسأمون تغربا في مبتغى
أسمى الهنات وأشرف الأوطار ••• «الحكم شورى لا تفرد صالح
في غير حكم الواحد القهار»
لا تسترق عشيرة وديارها
لعشيرة غلابة وديار
العدل إن يقصد فليس بكائن
في نكر معرفة وغصب جوار
الرأي تكمد شمسه في موطن
متناقض الإعلان والإسرار
الخير تفقد سبله في مجمع
متعارض الإقبال والإدبار •••
ماذا عليكم أن تكون شعاركم
هذي المطالب وهي خير شعار
لستم بسفاكي دم لستم إلى
غير الحقيقة طامحي الأنظار
لستم غلاة والأقل مرامكم
بين الشعوب السبق الأحرار
لستم غلاة خال ذلك منكم
من لم يخلكم من ذوي الأخطار
17
ليس الذي تبغونه من مطلب
إلا أحق مطالب الأحرار
من لم يخل في مصر عبدا شاكيا
في فترة التفكير والإضمار
أجزع بسار آمن في معهد
وثبت عليه فجاءة التزآر
18 •••
إني ليعجبني كبير مرامكم
وهو الحقيق بغاية الإكبار
وأقول للمزري بسن صغاركم
ليس العظيم نفوسهم بصغار «أمهاجري أرض الكنانة إنكم
وجميع من فيها من الأنصار»
19
امضوا دعاة للهدى واستنصفوا
بالحق للبلد العزيز الجار
كونوا الشهود له على أعدائه
برجوع شمس نهاره المتواري
الثبات في الكفاح
وقال لما زاد اضطهاد الحكومة للأحرار وسلطت قانون المطبوعات على الصحف:
شردوا أخيارها بحرا وبرا
واقتلوا أحرارها حرا فحرا
إنما الصالح يبقى صالحا
آخر الدهر ويبقى الشر شرا
كسروا الأقلام هل تكسيرها
يمنع الأيدي أن تنقش صخرا؟
قطعوا الأيدي هل تقطيعها
يمنع الأقدام أن تركب بحرا؟
حطموا الأقدام هل تحطيمها
يمنع الأعين أن تنظر شزرا
أطفئوا الأعين هل إطفاؤها
يمنع الأنفاس أن تصعد زفرا؟
أخمدوا الأنفاس هذا جهدكم
وبه منجاتنا منكم فشكرا!
وقال في هذا المعنى حين توعدته الحكومة بالنفي من مصر على أثر نشره الأبيات السابقة:
أنا لا أخاف ولا أرجى
فرسي مؤهبة وسرجي
فإذا نبا بي متن بر
فالمطية بطن لج
لا قول غير الحق لي
قول وهذا النهج نهجي
الوعد والإيعاد ما كانا
لدي طريق فلج
20
يحيي رأس السنة الهجرية
ونظم سنة 1911 قصيدة عصماء حيا بها العام الهجري 1329، خاطب فيها شباب مصر ودعاهم إلى الاعتبار بما في هجرة الرسول الكريم من المعاني الجليلة، والأغراض السامية، وأهاب بهم أن يضاعفوا جهودهم لبعث الحياة في مصر والشرق، قال:
هل الهلال فحيوا طالع العيد
حيوا البشير بتحقيق المواعيد
يا أيها الرمز تستجلي العقول به
لحكمة الله معنى غير محدود
كأن حسنك هذا وهو رائعنا
حسن لبكر من الأقمار مولود «لله في الخلق آيات وأعجبها
تجديد روعتها في كل تجديد» •••
فتيان مصر وما أدعو بدعوتكم
سوى مجيبين أحرارا مناجيد
21
سوى الأهلة من علم ومن أدب
مؤملين لفضل غير مجحود
المستسر شعار المقتدين به
العاملين بمغزى منه مقصود
22
ما زال من مبدأ الدنيا ينبئنا
أن التمام بمسعاة ومجهود
فإن تسيروا إلى الغايات سيرته
إلى الكمال فقد فزتم بمنشود •••
يا عيد جئت على وعد تعيد لنا
أولى حوادثك الأولى بتأبيد
بل كنت «عيدين» في التقريب بينهما
معنى لطيف ينافي كل تبعيد
رددت يوما يسر المؤمنون به
ولم تكن بادئا يوما لتعييد •••
رسالة الله لا تنهى بلا نصب
يشقي الأمين وتغريب وتنكيد
رسالة الله لو حلت على جبل
لاندك منها وأضحى بطن أخدود
ولو تحملها بحر لشب لظى
وجف وانهال فيه كل جلمود
فليس بدعا إذا ناء الصفي بها
وبات في ألم منها وتسهيد
ينوي الترحل عن أهل وعن وطن
وفي جوانحه أحزان مكبود
يكاد يمكث لولا أن تداركه
أمر الإله لأمر منه موعود •••
فإذ غلا القوم في إيذائه خطلا
وشردوا تابعيه كل تشريد
دعا الموالين إزماعا لهجرته
فلم يجبه سوى الرهط الصناديد
مضى هو البدء والصديق يصحبه
يغامر الحزن في تيهاء صيخود
23
موليا وجهه شطر «المدينة» في
ليل أغر على الأدهار مشهود
حتى إذا اتخذ الغار الأمين حمى
ونام بين صفاه نوم مجهود
حماه وشي بباب الغار منسدل
من الألى هددوه شر تهديد
24
يا للعقيدة والصديق في سهر
تؤذيه أفعى ويبكي غير منجود «إن العقيدة إن صحت وزلزلها
مفني القرى فهى حصن غير مهدود»
أما الصحاب الذين استأخروا فتلوا
سارين في كل مسرى غير مرصود
ما جند قيصر أو كسرى إذا افتخروا
كهؤلاء الأعزاء المطاريد
25
كأنهم في الدجى والنجم شاهدهم
فرسان رؤيا لشأن غير معهود
كأنهم وضياء الصبح كاشفهم
آمال خير سرت في مهجة البيد
في حيطة الله ما شعت أسنتهم
فوق الظلال على المهرية القود •••
عانى «محمد» ما عانى بهجرته
لمأرب في سبيل الله محمود
وكم غزاة وكم حرب تجشمها
حتى يعود بتمكين وتأييد «كذا الحياة جهاد والجهاد على
قدر الحياة ومن فادى بها فودي»
أدنى الكفاح كفاح المرء عن سفه
للاحتفاظ بعمر رهن تحديد
ليغنم العيش طلقا كل مقتحم
وليبغ في الأرض شقا كل رعديد
ومن عدا الأجل المحتوم مطلبه
عدا الفناء بذكر غير ملحود •••
لقد علمتم وما مثلي ينبئكم
لكن صوتي فيكم صوت ترديد
ما أثمرت هجرة الهادي لأمته
من صالحات أعدتها لتخليد
وسودتها على الدنيا بأجمعها
طوال ما خلقت
26
فيها بتسويد
بدا وللشرك أشياع توطده
في كل مسرح باد كل توطيد
والجاهليون لا يرضون خالقهم
إلا كعبد لهم في شكل معبود
مؤلهون عليهم من صناعتهم
بعض المعادن أو بعض الجلاميد
27
مستكبرون أباة الضيم غر حجى
ثقال بطش لدان كالأماليد
28
لا ينزل الرأي منهم في تفرقهم
إلا منازل تشتيت وتبديد
ولا يضم دعاء من أوابدهم
إلا كما صيح في عفر عباديد
ولا يطيقون حكما غير ما عقدوا
لذي لواء على الأهواء معقود •••
بأي حلم مبيد الجهل عن ثقة
وأي عزم مذل القادة الصيد
أعاد ذاك الفتى الأمي أمته
شملا جميعا من الغر الأماجيد
لتلك تالية الفرقان في عجب
بل آية الحق إذ يبغى بتأكيد
صعبان راضهما؛ توحيد معشرهم
وأخذهم بعد إشراك بتوحيد
وزاد في الأرض تمهيدا لدعوته
بعهده للمسيحيين والهود
وبدئه الحكم بالشورى يتم به
ما شاءه الله عن عدل وعن جود
هذا هو الحق والإجماع أيده
فمن يفنده أولى بتفنيد •••
أي مسلمي «مصر» إن الجد دينكم
وبئس ما قيل: شعب غير مجدود
طال التقاعس والأعوام عاجلة
والعام ليس إذا ولى بمردود
هبوا إلى عمل يجدي البلاد فما
يفيدها قائل: يا أمتي سودي
سعيا وحزما فود العدل ودكم
وإن رأى العدل قوم غير مودود
تعلموا كل علم وانبغوا وخذوا
بكل خلق نبيه أخذ تشديد
فكوا العقول من التصفيد
29
تنطلقوا
وما تبالون أقداما بتصفيد ••• ««مصر» الفؤاد فإن تدرك سلامتها
فالشرق ليس وقد صحت بمفئود»
30
الشرق نصف من الدنيا بلا عمل
سوى المتاع بما يضني وما يودي
والغرب يرقى وما بالشرق من همم
سوى التفات إلى الماضي وتعديد
تشكو الحضارة من جسم أشل به
شطر يعد وشطر غير معدود •••
أبناء «مصر» عليكم واجب جلل
لبعث مجد قديم العهد مفقود
فليرجع الشرق مرفوع المقام بكم
ولتزه «مصر» بكم مرفوعة الجيد
ما أجمل الدهر إذ يأتي وأربعنا
حقيقة الفعل والذكرى بتمجيد
والشرق والغرب معوانان قد خلصا
من حاسد كائد كيدا لمحسود
صنوان بران في علم وفي عمل
حران من كل تقييد وتعبيد
لا فعل يخطئ فيه الخير بعضهما
إلا تداركه الثاني بتسديد
ولا خصومة إلا في استباقهما
لما يعم بنفع كل موجود
هذى الثمار التي يرجو الأنام لها
من روضكم كل نام ناضر العود
لمصر والشرق بل للخافقين معا
دع زعم كل عدو الحق مريد
31 •••
جوزوا على بركات الله عامكم
فقد تبدل منحوس بمسعود
رجاؤكم أبدا ملء النفوس فما
ينفى بحسنى ولا يوهى بتهديد
بدا الفلاح وفي هذا الهلال لكم
بشرى التمام لوقت غير ممدود
غدا نرى البدر في طرس السماء محا
بخاتم النور زلات الدجى السود
يحيي بعثة الأطباء إلى حرب طرابلس
وقال سنة 1911 يحيي بعثة الأطباء المصريين الذين ارتحلوا إلى ليبيا لمعاونة المجاهدين العرب الذين قاوموا العدوان الإيطالي:
سيروا على بركات الله واغتنموا
أجر الجهاد وأجر البر بالناس
ليشف مبضعكم والرفق يعمله
صدع الرصاص وجرح الصارم القاسي
لهفي على شوس
32
أبطال تلوكهم
غول الردى بين أنياب وأضراس
كانوا وقد ركبوا للحرب أبهج ما
ترى العيون غياضا فوق أفراس
واليوم قد عثروا تندى نضارتهم
ندى الجفاف وتخبو شعلة الباس
كونوا لهم إن شكوا إخوان تأسية
وإن هم استوحشوا إخوان إيناس
ردوا على الوطن الباكي أعزته
ودافعوا الموت عنهم دفع أكياس
33
فإن أسقامهم في كل جارحة
منا وآلامهم في كل إحساس
لله مسعاتكم والحق يشكرها
والخلق يذكرها ترديد أنفاس
مبرة طهرت أرواحكم وسمت
بها مراتب فوق الضيم والياس
خوضوا المصاعب لا يلمم بأنفسكم
ما قد تلاقون من ضر ومن باس
هذا الهلال لكم رأد النهار هدى
وفي اعتكار الدياجي خير نبراس
وإن في ظله النادي برحمته
لبلسما لجراح القلب والراس
أي عصبة الخير داووا أبرياء هووا
صرعى مطامع قواد وسواس
لو صور الله في جسم امرئ ملكا
لصور الملك الإنسي في آس
34
عتب وطني
وقال سنة 1920 يعتب على أحرار مصر في موقف تردد:
إن تكونوا حماتها وبنيها
ما لتلك الذئاب تعتس فيها؟
35
أفترضون أن تهون عتيدا
بعد ذاك الإباء في ماضيها؟ «تلك أوطانكم تباع عليكم
صفقة بخسة فمن مشتريها؟»
رثاؤه لمحمد فريد
ونظم قصيدة رائعة في رثاء الزعيم الشهيد محمد فريد سنة 1919، قال:
أفريد لا تبعد على الأدهار
أنت الشهيد الخالد التذكار
بالأهل بالدم بالرفاهة بالغنى
فديت مصر وفديت من دار
حررت نفسك دائب المسعى إلى
تحريرها لتعز بعد صغار
مسترسلا والدهر في إقباله
مستبسلا والدهر في الإدبار
ثبتا إذا ما الراسخون تقلقلوا
متوافق الإعلان والإسرار
فبررت بالعهد الذي عاهدته
ووفيت في الإيسار والإعسار
ما كان ذاك العمر إلا قربة
موصولة الآصال بالأسحار
ومن المنى ما ليس يوفى حقه
حتى يكون الجود بالأعمار
فريد ومصطفى:
إني لأذكر مصطفى ورفيقه
في مستهلهما وفي الإبدار
متوخيا إعتاق مصر كلاهما
وكلاهما لأخيه خير مباري
وكلاهما يسعى الغداة مذللا
سبل النجاح لمقتفي الآثار
وكأن مصر حيال كل مخاطر
إذ ذاك في شغل عن الأخطار
في قلبها حب الحياة طليقة
لكنها تخشى أذى الإظهار
وضميرها آنا فآنا يجتلى
فيرى كما اقتدح الزناد الواري
عرفا حقيقتها وبثا بثها
ثقة وما كانا من الأيسار
لم يلبثا متآزرين بنية
مصدوقة في خفية وجهار
حتى إذا ما أيقظا إيمانها
فذكا ذكاء النور قبل النار
أبدت أساها يوم فارق مصطفى
هذا الجوار ورام خير جوار
فريد رئيسا للحزب الوطني:
ذهب الرئيس فنيط عبء مقامه
بالأنزه الأوفى من الأنصار
أفريد هذا الشأو قد أدركته
وسبقت من جاراك في المضمار
فتقاض أضعاف الذي قدمته
واستسق صوب العارض المدرار
إن تلتمس جاها أصب ما تشتهي
أو رفعة فاظفر بالاستيزار
والشرق يقبل قد علمت من الألى
يتحملون غرائب الأعذار
الشعب شبه البحر لا تأمن له
ما أمن مقتعد متون بحار
فغدا ويا حذرا لمثلك من غد
قد تستفيق ولات حين حذار
يسلو الألى عبدوك أمس وربما
كوفئت من عرف بالاستنكار
فتبيت صفر يد وكنت مليئها
وتذوق كل مرارة الإقتار
لكن أبيت العرض إلا سالما
وإن ابتليت بشقوة وضرار
لم تعتقد إلا الولاء وقد أبى
لك أن تلبي داعي الإخفار
وسموت عن أن يستميلك خادع
بالمنصب المزجى أو الدينار «فظللت مبدؤك القويم كعهده
عند الوفاء وفوق الاستئثار»
تزداد صدق عزيمة بمراسه
ورسوخ إيمان بالاستمرار
ما إن تبالي ساهرا مترصدا
يرنو إليك بمقلة الغدار
يجني عليك لغير ذنب باغيا
والبغي جناء على الأطهار
من كان جار السوء يوما جاره
عدت فضائله من الأوزار
فريد في السجن:
قل للرئيس إذا مررت بسجنه
إن السجون معاهد الأحرار «وافيته طوعا ورأيك ثابت
أن اعتقالك مطلق الأفكار»
إن يحجبوك فإن فكرك رافع
نورا تضاء به سبيل الساري
كم تحجب الظلمات طودا شامخا
فيلوح فوق ذراه ضوء منار
إنا لنسمع من سكوتك حكمة
ونرى هدى في وجهك المتواري
وإذا النفوس تجردت لمرامها
غنيت عن الأسماع والأبصار
حاشاك أن تأسى وهل تأسى على
علم بأن التم بعد سرار
الأنبياء انتابهم زمن به
لزموا التفرد عن رضا وخيار
لجئوا إلى الخلوات واحتبسوا بها
شظفي المعايش لابسي الأطمار
مستجمعين مروضين قلوبهم
لقيام دعوتهم على الأخطار
ومن الغيابات التي أمسوا بها
بعثوا الهدى كالشمس في الإزهار
سل موحشا في طور سينا سامعا
كلم المهيمن في اصطعاق النار
سل طيف جلجلة يكاد من الطوى
يسمو به راق من الأنوار
سل خاليا بحرا يلبي ربه
في الغار عن صرعاته في الغار
بالعزلة اكتملوا ورب مروض
للنفس حررها بالاستئسار
لا شيء أبلغ بالدعاة إلى المنى
من أن تمحصهم يد المقدار
فريد في طريق المنفى:
لم يكفه ما كان حتى جاءه
ما فوق غل الجيد والإحصار «النفي بعد السجن تلك عقوبة
أعلى وأغلى صفقة للشاري» «يسمو بها السجن القريب جداره
شرفا إلى سجن بغير جدار»
لا يترك الجاري عليه حكمه
إلا ليدركه القضاء الجاري
أي السفائن تستقل كأنها
إحدى المدائن سيرت ببخار
ينأى بها عن أهله ورفاقه
دامي الفؤاد وشيك الاستعبار
ينبو ذرا البلد الأمين بمثله
والزاحفات أمينة الأجحار
متلفتا حين الوداع وفي الحشى
ما فيه من غصص ومن أكدار
متشبعا مترويا مما يرى
لشفاء مسغبة به وأوار
يرنو إلى صفر الشواطئ منطقت
أعطافها بالأزرق الزخار
ويذوب قبل البين من شوق إلى
أنس الحمى وجماله السحار
يستاف ما تأتي الصبا بفضوله
من طيب تلك الجنة المعطار
وبسمعه لحن المواطن جامعا
لغة الأنيس إلى لغى الأطيار
لهفي عليه مشردا قبل الردى
سيهيم في الدنيا بغير قرار
من أجل مصر يؤم كل ميمم
في قومه ويزور كل مزار
لا يوم يسكن فيه من وثب ومن
بسكينة للكوكب السيار؟
في غربة موصولة آلامها
أنضته في الرحلات والأسفار
تنتابه الصدمات لا يشكو لها
إلا شكاة المحرب الكرار
ثقة بأن الفوز ليس لجازع
في العالمين، الفوز للصبار
وتعضه الفاقات لا يلوي بها
عزا ويسترها بستر وقار
حرصا على المتطولين بفضلهم
أن يجنحوا وجلا إلى الإقصار
فريد في مرضه:
ما كان هذا الحد حد عذابه
تردي الأسود ضرورة الأخدار
صال الشقاء على فريد صولة
بين الجوانح أنذرت ببوار
قصرت لياليه على مجهوده
واليوم عدن عليه غير قصار
ما بال ذاك الوجه بعد تورد
خلع النضارة واكتسى ببهار؟
ما بال ذاك الوجه بات من الضنى
كالرسم في جرف به منهار؟
ما بال ذاك العزم بعد مضائه
عثرت به العلات كل عثار؟
ما بال ذاك القلب بعد خفوقه
تنتابه هدآت الاستقرار؟
أمسى يعالج سكرة في نزعه
من لم يذق في العمر طعم عقار
ولو استطاع لما أضاع دقيقة
يمضي الزمان بها مضي خسار
وفى بما أعطاه حق بلاده
والموهبات ترد رد عواري
أمكانه هذا أتلك حليه
والبيت خال والمقلد عاري؟
أكذاك يختم في الشقاء حياته
من كان جم الجاه والإيسار؟
ماذا تفي من حقه بعد الذي
عاناه كل قلائد الأشعار؟
إن الذي يبلوه شاري قومه
غير الذي نتلوه في الأسطار
عظة وفاته:
مات الرئيس فراع مصر وأهلها
ذاك النعي وذاع في الأمصار
مات العصامي العظامي الذي
ما كان بالعاتي ولا الجبار
تحية الختام:
أفريد هذا ما يهيئه الفدى
لعشيرة فديتها وديار
نم إن مصرا عنك راضية وفز
من شكرها بمثوبة الأخيار
أوشكت أجزع فانتهيت بأنني
آنست فيك مشيئة للباري
تحية الشهداء
قال في حفلة أقيمت سنة 1924 لتحية أرواح شهداء الحركة الوطنية:
إلى أرواح الشهداء
تحية أيها القتلى وتسليما
بلغتم الشأو تخليدا وتعظيما «لا يعبد المرء ربا لا ولا وطنا
بمثل إغلائه القربان تقديما»
قلتم وصدق ما قلتم تحملكم
أذى يرد فرند الصبر مثلوما
36
ما الموت إن كان إنقاذ البلاد به
من غاصب وانتصاف الشعب مظلوما
يحطم العظم منكم دون بغيتكم
فتصبرون ويأبى العزم تحطيما
برا ب «مصر» وخوفا أن يسلمها
إلى العدى واهنو الإيمان تسليما
ليس الشهادة إلا من يموت على
حق ومن لا يبالي فيه ما سيما
امضوا رفاقا كراما حسبكم عوضا
مجد عزيز على الخطاب إن ريما
للمشتري بصباه عز أمته
ذكر يديم اسمه بالتبر مرقوما
وللتي استبدلت بالقبر مرتعها
قسط من الفخر فوق العمر تقويما
لا تحسبوا مصر تنساكم فكلكم
يبقى على الدهر مرئوما ومرحوما
وفي المرابع من أرواحكم نسم
تظل تأتي بها الأرواح تنسيما
تحية للذين أطلقوا من الاعتقال
وقال في هذه القصيدة مخاطبا من أفرج عنهم من الاعتقال:
يا خارجين كراما من محابسهم
ومبهجي كل قلب كان مغموما
كم كبل الحق بالأصفاد من قدم
ثم انطوين وباء البطل مهزوما
يا سوء دهر قضته قبل نهضتها «مصر» يخيم فيها الذل تخييما
تهي قوى الليث من عيث الذئاب بها
ويلتوي الأمر تحليلا وتحريما
فاليوم عاد إلى رأي يشرفها
من ظن إقليمها للخفض إقليما
دلت على قوة فيها صلابتكم
تذود عنها الأشداء المقاحيما
هل يجزئ الشكر من ضيم تحمله
بالأمس من منكم في رأيه ضيما
قد أثموكم وكم من مثلة نزلت
بالأبرياء وبالأبرار تأثيما
وبعض ما عاقبوكم فيه جعلكم
صدق الهوى للحمى دينا وتعليما
لا حاكما دون ما أوحت ضمائركم
تراقبون ولا ترعون محكوما •••
لقد ظفرتم بما أدنى القصي لكم
من المرام فليس الفوز مزعوما
هل استقام زمان لا يقومه
بنوه بالصبر والإقدام تقويما؟
أو نال حرية قوم بها جدروا
وهم يبالون تقتيلا وتكليما؟
37 •••
يا سادة كالنجوم الغر منزلة
وسيدات كعقد الدر منظوما
حمدا لإقبالكم هذا وحفلتكم
تهنئون الصناديد المقاديما
من الألى ما ونوا عن واجب فبنوا
لعز«مصر» طرافا
38
كان مهدوما
أولئكم إن بدا من فضلهم أثر
فكم لهم من جميل ظل مكتوما
فلتحي «مصر» وأبرار نجلهم
ونحتفي بهم حبا وتكريما
رثاؤه لأمين الرافعي
ومن قصيدة له في رثاء المرحوم أمين الرافعي الذي انتقل إلى جوار ربه في 29 ديسمبر سنة 1927، وقد ألقيت هذه القصيدة في حفلة تأبينه:
باعوا المخلد بالحطام الفاني
وشريت بالأغلى من الأثمان
تلك الحياة أمانة أديتها
بتمامها لله والأوطان
بالصبر والإيمان أخلص بدؤها
وختامها بالصبر والإيمان
أعرضت عن لذاتها منذ الصبا
والروض تغري والقطوف دواني
متوخيا من دونها أمنية
لم يوه وحدتها شتيت أماني
تهوى البلاد ولا هوى لك غيرها
أو تفتدى من ذلة وهوان
ظلت تنازعك الصروف بما بها
من منة وظللت ثبت جنان
مستنزفا دمك الزكي ولم يرق
بشباة قرضاب ولا بسنان
في صولة للدهر تعقب صولة
منتابة في الآن بعد الآن
حتى قضيت شهيد رأيك وانقضى
ما كنت تلقى دونه وتعاني
ويح الأبي تسوءه أيامه
وتسر كل مماذق
39
مذعان
ممن يقدم في الرجال وما به
إلا الطلاء بكاذب الألوان
ماذا دهى «الفسطاط» حين تجاوبت
أصداؤها لنواك بالإرنان؟
40
وجلا عن القدر المخبأ ليلها
وبدا الصباح مقرح الأجفان •••
خطب أرانا في مجالات الفدى
والصدق كيف مصارع الشجعان
فالشرق في شرق من الدمع الذي
أجرى العيون وفاض بالغدران •••
أي «مصطفى» يبكيك قومك كلما
عادتهم ذكرى فتى الفتيان
يوم الوفاء دعا فكنت لواءه
وطليعة لطليعة الفرسان
هذا شهيد من ولاتك خامس
يهوي بحيث هويت في الميدان
لكأنهم والموت أسوأ مغنم
يتراكضون إليه خيل رهان
بذلوا النفوس كما بذلت وأرخصوا
ما عز من جاه ومن قنيان
فإذا ذكرت وأنت عنوان الفدى
فاسم الرفاق تتمة العنوان
وظل خليل مطران يغرد بشعره ألحان الحرية، ولا ينقطع عن التغريد حتى فاضت روحه الكريمة مساء 30 يونيو سنة 1949.
أحمد محرم
1871-1945
شاعر ملهم، من شعراء الوطنية والأخلاق، كان أدباء الجيل يضعونه في صف شوقي وحافظ ومطران، وكان شيخ الشعراء إسماعيل صبري يتغنى بشعر هؤلاء الأربعة ويطيب له التحدث عنهم، وامتاز محرم إلى جانب مكانته الشعرية بحرارة العاطفة، وتذوقه للفن والجمال، وقوة إيمانه، وتأملاته العميقة الفلسفية، واستمساكه طول حياته بمبادئه الوطنية؛ فكان شعره كله وقفا على هذه المبادئ، لم ينحرف عنها يوما في قصيدة أو في أي بيت من الشعر، ظل مقيما عليها وفيا لها في السراء والضراء، فكان حقا مثلا أعلى في الشعر والوطنية، وكان مصطفى كامل يعجب به وبشعره، ويشيد به على صفحات «اللواء»، ويسميه «نابغة البحيرة»، وبقي أحمد محرم على صلته به ووفائه له ولذكراه، كما ظل وفيا لمبادئ الوطنية إلى أن توفاه الله في 13 يونيو سنة 1945.
كان شاعرا بفطرته وسليقته، قال الشعر وهو في سن مبكرة، ومعلقته التي يقول في مطلعها:
منازل سلمى لا عدتك الغمائم
وإن درست بالجزع منك المعالم
قد نظمها وهو في السادسة عشرة من عمره.
وطنيته في شعره
تتجلى روحه الوطنية التي ألهمته الشعر أكثر ما تتجلى حين أصدر الجزء الأول من ديوانه سنة 1908، فقد أهداه إلى «النيل»، وكتب كلمة الإهداء في عنوان الكتاب «هدية النيل»، وأعقبها بهذا البيت الذي يترجم عن وطنيته الأصيلة مخاطبا النيل، قال:
وهبتك ملك القريض العتيد
وذلك أفضل ما يوهب
وقال في مقدمة ديوانه يشرح المعنى الذي استوحاه في إهداء ديوانه إلى النيل:
لقد جرى أكثر الكتاب والشعراء على أن يهدوا مؤلفاتهم إلى من شاءوا من ذوي الثروة والجاه؛ تعرضا لمؤازرتهم والانتفاع بهم وسط هذا الكساد الآخذ بأكظام الأدب في بلادنا، ولكنني انصرفت بشعري عن تلك المواقف، وبرئت إلى نفسي أن آخذ بهذه الأسباب، على ما أعلم من وعورة مسلكي، وضيق مضطربي، وما كنت في ذلك إلا جاريا على سنتي في سياسة نفسي، وتصريف ما آتي وأدع من أمور الحياة، فما استظهرت بغير أخ حفي، أو صديق صفي، ولا آثرت أن أهدي ديواني إلى غير «النيل»، ذلك الأب الذي وهبني نعمة الحياة، وأفاض علي هذه المنح والصلات. «فيا نيل أنت الهوى والحياة
وأنت الأمير وأنت الأب» «ويا نيل أنت الصديق الوفي
وأنت الأخ الأصدق الأطيب»
وأنت القريض الذي أقتفي
فيزهى به الشرق والمغرب
فإن أهب الخصب هذه العقول
فمما سننت لها تخصب
وإن أنا أطربت هذه النفوس
فصوتك لا صوتي المطرب
تسيل فتندفق الرائعات
وتجري فتستبق الجوب
إلى أن قال:
لئن فاتني الذهب المستفاض
فما فاتني الأدب المذهب
وهبتك ملك القريض العتيد
وذلك أفضل ما يوهب
وقد ظهر الجزء الثاني من ديوانه سنة 1920.
دعوة الوطنية
قال يدعو مواطنيه إلى الإخلاص لبلادهم والعمل على استعادة مجدها:
دعا فأثار الساكنين دعاؤه
ونادى فراع الآمنين نداؤه
أخو وصب ما إن يحم انقضاؤه
وذو أرب ما إن يحين قضاؤه
به من بني مصر عناء مبرح
فيا ليت شعري هل يزول عناؤه؟
أما إنه لو كان يشفي غليله
بكاء على مصر لطال بكاؤه
تقسمها الأقوام لا ذو حمية
فيحمي ولا واق فيرجى وقاؤه «وما مصر إلا موطن نحن أهله
عزيز علينا أرضه وسماؤه»
إلى أن قال يستنكر الاحتلال البغيض ويهيب بالأمة أن تحاربه:
ثوى فيه أقوام مللنا ثواءهم
ويا رب ثاو لا يمل ثواؤه «لقد كان يأبى أن يذل لغاصب
فيا ليت شعري أين ضاع إباؤه؟»
لقد كان يرعاه رجال أعزة
بهم من صروف الدهر كان احتماؤه
هم ناضلوا عنه فصانوا ذماره
بصارم عزم ما يرد مضاؤه •••
بني وطني لا تسخطوه عليكم
فليس سواء سخطه ورضاؤه
بنى وطني خلوا التخاذل إنه
بلاؤكم يجتاحكم وبلاؤه
سلام عليكم من أخ ذي حمية
دعا فأثار الساكنين دعاؤه
لواء الوطنية
وقال يمجد لواء الوطنية ويدعو إلى الالتفاف حوله والتضحية في سبيله:
فداؤك نفسي من لواء محبب
حمى جانبيه كل ماض مدرب
إذا ما دعا أنصاره التف حوله
جحاجحة
1
من ذائد ومذبب
فمنهم قئول للصواب مسدد
يصرف صرارا له وقع أشطب
يدين له الجبار غير معذل
ويعنو له المغوار غير مؤنب
ومنهم فعول للمكارم ماجد
يلبي نداه كل داع مثوب
هم الصحب صانوا للديار لواءها
وصالوا على أعدائها غير هيب
يكرون كر الدارعين إلى الردى
إذا الحرب أبدت عن عبوس مقطب
إذا طلبوا حقا تداعوا فأجلبوا
على سالبيه فانثنوا غير خيب
إلى أن قال:
وما منع الأوطان إلا حماتها
وذادتها من ذي شباب وأشيب
هم ذخرها المرجو في كل حادث
وعدتها في كل يوم عصبصب
سلام عليهم من كهول وفتية
وبورك فيهم من شهود وغيب
كبوة الشرق
وقال تحت عنوان «كبوة الشرق» يستصرخ أهله ليعيدوا إليه سالف مجده:
متى ينهض الشرق من كبوته
وحتى متى هو في غفوته؟
كبا وكذلك يكبو الجواد
براكبه وهو في حلبته
ونام كما نام ذو كربة
تملكه اليأس في كربته
وهى عزمه ما يطيق الحراك
وقد كان كالليث في وثبته
تجر عليه عوادي الخطوب
كلاكلها وهو في غفلته
نواهب ما كان من مجده
سوالب ما كان من عزته
إلى أن قال:
فيا لهف قلبي لمجد مضى
ويا شوق نفسي إلى عودته!
ويا لهف آبائنا الأولين
على الشرق إن ظل في نكبته
هم غادروه كروض أريض
تتوق النفوس إلى نضرته «ونحن تركناه للعاديات
ولم نرع ما ضاع من حرمته»
فأذهبن ما كان من حسنه
وأفنين ما كان من بهجته •••
فهل يسمع القول أهل القبور
خطيب فيسهب في خطبته
يناديهم فيم هذا الرقاد؟
كفى ما دهى الشرق من رقدته
لقد ضاع بعدكم مجده
وكل المثالب في ضيعته
وأنتم رجال ذوو نجدة
فلا تقعدوا اليوم عن نجدته
يدعو إلى بعث مصر
وقال يذكر مجد مصر الغابر ويدعو مواطنيه إلى النهوض لاستعادة هذا المجد:
أهذي ديار القوم غيرها الدهر
فعوجوا عليها نبكها أيها السفر
محا آيها مر العصور وكرها
إذا مر عصر كر من بعده عصر
نسائلها أين استقل قطينها
وهل تنطق الدار المعطلة القفر؟
وكائن ترى من ذي ثمانين خضبت
لطول البكا من شيبه الأدمع الحمر «بكى وطنا أودت بسالف مجده
حوادث دهر من خلائقه الغدر»
أغارت عليه من جنوب وشمأل
فما برحت حتى أتيح لها النصر •••
ألا إنها مصر التي شقيت بنا
فيا ويح مصر ما الذي لقيت مصر؟
مضى عزها القدموس
2
ما يستعيده
بنوها فلا عز لديهم ولا فخر
هم رقدوا عنها فطال رقادهم
فديتكم هبوا فقد طلع الفجر!
ذكرى 14 سبتمبر سنة 1882
وقال عن ذكرى احتلال الإنجليز القاهرة يوم 14 سبتمبر سنة 1882:
نلومك يا يوم النحوس ونعذل
وأنت على ما أنت تمضي وتقبل
فلا نحن ما عشنا عن اللوم نرعوي
ولا أنت ما كر الجديدان تحفل
إلى أن قال:
لعلك أن تأتي بما تعد المنى
نفوس رجال أوشكت تتململ
لحى الله قوما حملونا من الأذى
بما ضيعوا الأوطان ما ليس يحمل
هم خذلوها فاستبيح حريمها
وما برحت تبغي انتصارا فتخذل
يهاجم الاحتلال
وقال سنة 1902 ينعى على الاحتلال بغيه وعدوانه، وعلى الإنجليز نقضهم للعهود والمواثيق:
في كل يوم شرعة ونظام
ما هكذا الأحكام والحكام
عشرون عاما والديار مريضة
تنتابها الأدواء والأسقام
لم يعرف المتطببون دواءها
فتنوعت في دائها الأوهام
إن الأساة لتعلم الداء الذي
ترك العليل تذيبه الآلام
ولربما غش الطبيب عليله
حتى يعود الداء وهو عقام
كيف الشفاء لمصر من أدوائها
أم كيف يرجى عزها ويرام؟
والمصلحون كما علمت وأهلها
عنها على زجر المهيب نيام
إلى أن قال مخاطبا بريطانيا:
يا دولة رفعت على أوطاننا
علما تنكس تحته الأعلام
أين المواثيق التي أبرمتها
إن كان منك لموثق إبرام؟
لم تحفلي بعهودنا فنقضتها
يا هذه، نقض العهود حرام
عشرون عاما ما كفتك وهكذا
تأتي وتذهب بعدها الأعوام
طال المقام وأنت أنت ولم يكن
ليطول لولا الجهل منك مقام
وقال يهيب بالأمة أن تهب للجهاد:
يا أمة خاط الكرى أجفانها
هبي فقد أودت بك الأحلام
هبي فما يحمي المحارم راقد
والمرء يظلم غافلا ويضام
هبي فما يغني رقادك والعدى
حول الحمى مستيقظون قيام
غنموا نفائسه وثم بقية
ستنيلها أيديهم الأيام ••• «عجبا لهذا النيل كيف نعقه
ويدوم منه البر والإكرام؟»
لو كان يجزينا بسوء صنيعنا
أودى بهاتيك النفوس أوام
لكنها رحم الجدود ولم تزل
ترعى لدى أمثاله الأرحام •••
يا آل مصر خذوا نصيحة شاعر
أبدا يكلف نصحكم ويسام
لا تغفلوا عنها فليس بغافل
عنكم وعنها ذلك الضرغام «شيئان يذهب بالشعوب كلاهما
نوم عن الأوطان واستسلام»
إلا يحن للراقدين قيام
فعليهم وعلى الديار سلام
يدعو إلى البذل والتضحية في سبيل مصر
من قصيدة له نظمها سنة 1904 لمناسبة إنشاء مدرسة محمد علي الصناعية بالإسكندرية:
من يسعد الأوطان غير بنيها
وينيلها الآمال غير ذويها
ليس الكريم بمن يرى أوطانه
نهب العوادي ثم لا يحميها
ترجو بنجدته انقضاء شقائها
وهو الذي بقعوده يشقيها
وتود جاهدة به دفع الأذى
عن نفسها وهو الذي يؤذيها
سبل المكارم للكرام قويمة
فعلام يخطئها الذي يبغيها؟
ما أكثر المتفاخرين وإنما
فخر الكرام بما حبت أيديها
يحوي الكريم المال لا يبغي به
شيئا سوى أكرومة يحويها
والجود يحمد حيث كان وخيره
ما نال أوطان الفتى وبنيها «ولقلمها أرضى امرؤ أوطانه
حتى تراه بنفسه يفديها» •••
يا آل مصر وما يؤدي حقها
إلا فتى يكفي الذي يعنيها «هي أمكم لا كان من أبنائها
من لا يواسيها ولا يرضيها» «وهبتكم الخير الجزيل فهل فتى
منكم بحسن صنيعها يجزيها؟»
سعدت لعمري بالصنائع حقبة
دلت على عجل فمن يثنيها؟
دار الصنائع خير دار تبتنى
فالله يجزي الخير من يبنيها
يطعن في الملوك، ويستهجن الرتب والألقاب
من قصيدة له بعنوان «الشرف والملوك»، وإذا عرفت أنه نظم هذه القصيدة ونشرها سنة 1908 في الجزء الأول من ديوانه، لرأيت أنه أول شاعر وطني حمل على الرتب والألقاب، وأول من هاجم الملكية والملوك بهذه القوة والشجاعة، فسبق بهذه القصيدة الخالدة عجلة الحوادث بنصف قرن من الزمان، قال: «كذب الملوك ومن يحاول عندهم
شرفا ويزعم أنهم شرفاء!»
رتب وألقاب تغر وما بها
فخر لمحرزها ولا استعلاء
آنا تباع وتارة هي خدعة
تمني بشر سعاتها الأمراء
كم رتبة نعم الغبي بنيلها
من حيث جللها أسى وشقاء «لو كان يعلم ذلها وهوانها
ما طال منه الزهو والخيلاء»
يلقى الكرامة حيث كان وفعله
جم المساوئ والمقال هراء
تلك الجهالة والغرور وباطل
ما يصنع الأغرار والجهلاء ••• «ذنب الملوك رمى الشعوب بنكبة
جلى تنوء بحملها الغبراء» «لا المجد مجد بعدما عبثت به
أيدي الملوك ولا السناء سناء» «مالوا عن الشرف الصميم وأحدثوا
ما شاءت الأوهام والأهواء» «رفعوا الطغام على الكرام فأشكلت
قيم الرجال ورابت الأشياء» «وإذا الرعاة تنكبت سبل الهدى
غوت الهداة وطاشت الحكماء»
وإذا الطبيب رمى العليل بدائه
فبمن يؤمل أن يبل الداء؟ •••
لو جاور الشرف الملوك لأورقت
صم الصخور وضاءت الظلماء «ظلم يبرح بالبريء وغلظة
يشقى بها الضعفاء والفقراء»
الحق منتهك المحارم بينهم
والعدل وهم والوفاء هباء
رفعوا العروش على الدماء وإنما
تبقى السفينة ما أقام الماء!
يرثي مصطفى كامل
قال سنة 1908 من قصيدة له في رثاء مصطفى كامل:
ما زلت تقتحم المصاعب مجهدا
نفسا موطنة على الأهوال
حتى طواك الموت غير مجامل
شعبا يجلك أيما إجلال
أحييته وقتلت نفسك بالذي
حملتها من فادح الأثقال
هلا رحمت نفوسنا فرحمتها
وبقيت تكفينا أذى المغتال
وختمها بقوله:
إن كان قد حم الفراق فوقفة
تشفي نفوسا آذنت بزوال
هيهات ما جزع النفوس لراحل
سارت به الحدباء غير خيال
سر فالحياة كما علمت رواية
محتومة الأدواء بالآجال
يدافع عن حرية الصحافة، ويلوم الخديو عباس
قال من قصيدة له سنة 1909 ينعى على الحكومة تقييدها حرية الصحافة، وفيها يوجه اللوم إلى الخديو عباس الثاني في خذلانه للأمة:
صبوا المداد وحطموا الأقلاما
واطووا الصحائف وانزعوا الأفهاما!
وخذوا على الوجدان كل ثنية
واقضوا الحياة مزملين نياما
ودعوا البلاد تذوق من عنت العدى
ما شاء خادمها الخئون وناما •••
اليوم نمنع أن نئن لمؤلم
أو نشتكي الإعنات والإرغاما
والله لا ندع الشكاية منهم
أو يمنعوا الأوصاب والآلاما
كيف القرار على الإساءة والأذى
أم كيف نكتم في القلوب ضراما؟
ومتى رضينا أن نعيش أذلة
فنطيق مسكنة أو استسلاما؟
إلى أن قال يخاطب الخديو عباس الثاني ويلومه:
ماذا بدا لك فاعتزلت صفوفنا
أفأصبحت حرب الغزاة سلاما؟
الحرب دائرة وجيشك قائم
ينضي السيوف ويرفع الأعلاما
والملك مضطرب ومصر كعهدها
تدعو الحماة وتشتكي الأقواما
إن كنت خاذلها ولست بفاعل
فحماتها لا يخفرون ذماما
3
أتخون مصر وما تحول نيلها
سما وما انقلب الضياء ظلاما
نبغي لها الشرف الأشم مؤيدا
بالبأس يؤيس صرحه الهداما
ونعز رايتها ونمنع حوضها
ونزيد صادق حبها استحكاما
عباس رأيك في البلاد وأهلها
أن الأذى يستضرم الأوغاما
إن كان عسف فالزمان مؤرخ
يحصي لنا الحسنات والآثاما •••
قلمي، كتابي، أمتي، وطني، متى
نشفي نفوسا تستطير أواما؟
يندد بملوك الشرق
من قصيدة له سنة 1912 بعنوان «الملك الزائل» يندد فيها بملوك الشرق لمناسبة ضياع مراكش بعد توقيع السلطان عبد الحفيظ المعاهدة التي قبل فيها وضع بلاده تحت حماية فرنسا:
هوت العروش وزلزلت زلزالا
عرش هوى وقديم ملك زالا!
ريعت لمصرعه المشارق إذ مشى
فيها النعي وأجفلت إجفالا
سلب المغير حياته واستأصلت
أيدي الجوائح عزه استئصالا «تنجو الممالك ما نجا استقلالها
فإذا اضمحل أعارها اضمحلالا» «أين «الخليفة» ما دهاه وما له؟
أرضى المغير وطاوع المغتالا» •••
ما قام شعب نام عنه حماته
واستشعر التفريط والإهمالا «تأبى العناية أن تصافح أمة
ترضى الهوان وتألف الإذلالا» •••
قد كان يأنف أن يكون قرينهم
ويعدهم لجلاله أمثالا
لعب الغرور به فضيع ملكه
واعتاض منه مذلة وخبالا
وإذا أراد الله شرا بامرئ
تبع الغواة وطاوع الجهالا •••
أخليفة يعطي البلاد وآخر
يهوى القيان ويعشق الجريالا؟
أغرور مفتون وصبوة جاهل
بئس «الخلائف» سيرة وفعالا
فظائع الإنجليز في مصر إبان الحرب العالمية الأولى
من قصيدة له سنة 1918 يندد بفظائع الإنجليز في مصر إبان الحرب العالمية الأولى:
أيها الجند ظافرا يتمشى
في الجماهير معجبا مختالا
يوم غاب الحماة واستصرخت مص
ر تنادي الرجال والأبطالا
أقتلت الكماة في الحرب غلبا
4
أم قتلت النساء والأطفالا؟
أنصفي «الظالمين» يا «دولة الفا
روق» منا وعلمي «الجهالا»
علمينا كيف الحياة نعاني
ها وصوني النفوس والآجالا «خففي الفتك إننا قد عيينا
ولقينا في ظلك الأهوالا»
اقبضي ظلك «المحبب» عنا
واجعليها عقوبة ونكالا
إلى أن قال يندد بغدر الاحتلال:
ما ذكرنا لكم من الخير شيئا
ما رضينا لكم على الدهر حالا
نذكر الحكم ظالما ما رأينا
فيه عدلا ولا وجدنا اعتدالا «نذكر العهد سيئا ما عرفنا
فيه حرية ولا استقلالا»
نذكر الشر والبلاء جميعا
فاذكروا عهدكم وشدوا الرحالا
رصعوا «التاج» بالوفاء وحلوا
بحلى الصدق «عزه والجلالا»
لا تريقوا دم الضعيف عليه
وانظروه من فوقه كيف سالا
أكرموا التاج إنكم إن أبيتم
زاد فينا مهانة وابتذالا
طال عهد احتلالكم فحسبنا
أن يوم الحساب يدعى احتلالا
إلى أن قال منذرا الإنجليز بسوء العاقبة:
هل من الله مهرب أو نجاة
حين يزجي جنوده والرعالا
5
يأخذ البر والبحار عليكم
ويريكم نزاله والدحالا
6
تلك عقبى الأذى فلا تنكروها
جاءكم يومكم فذوقوا الوبالا!
فظائع الإنجليز في ثورة سنة 1919
ومن قصيدة له سنة 1919 يندد بفظائع الإنجليز في إخماد الثورة، وما ارتكبوه من القتل والتنكيل بالأبرياء:
يا سوء ما حمل البريد ويا لها
من نكبة تدع النفوس شعاعا!
يا رب ما ذنب الذين تتابعوا
يسترسلون إلى المنون سراعا
جرحى وما حملوا السيوف لغارة
صرعى وما سألوا العدو صراعا
قالوا «الحياة» فعوجلوا أن يقرعوا
عند النداء بتائها الأسماعا «عزريل» نبئ ما أصاب جموعهم
فارتاب ثم رآهم فارتاعا!
مرأى يشق على العيون ومشهد
يدمي القلوب ويقصم الأضلاعا
لما أطل الظلم فيه بوجهه
ألقى عليه من الحياء قناعا
ودعا ب «نيرون الرحيم» فما رنا
حتى تراجع طرفه استفظاعا
وصفوا المصاب ل «دنشواي» فكبرت
ل «المصلحين» مقابرا ورباعا
واستيقنت أن الألى نكبت بهم
كانوا أبر خلائقا وطباعا •••
يا مصر خطبك في الممالك فادح
ومصاب أهلك جاوز المسطاعا
قوم يروعهم البلاء مضاعفا
وتصيبهم نوب الزمان تباعا
لاذوا بحسن الصبر حتى زلزلت
هوج الحوادث ركنه فتداعى
حملوا القلوب تفور مما تصطلي
وتمور مما تحمل الأوجاعا
إن هاجهم طمع الحياة رمى بهم
خطب يروع منهم الأطماعا
وإذا أرادوا نهضة نفرت لهم
حمر خلا الوادي فكن سباعا •••
سفكوا الدماء بريئة وتنمروا
يرمون شعبا لا يطيق دفاعا
لم يذكروا إذ نحن نبذل قوتنا
ونظل صرعى في البيوت جياعا
بئس الجزاء وربما كان الأذى
عدلا لمن يألو العدو قراعا
جاءوا فقوم يضمرون مودة
ورضا وقوم يظهرون خداعا
فتكافأ الحزبان في حاليهما
ومضت حقوق العالمين ضياعا
إلى أن قال يهيب بالشعب أن يذود عن حقوقه بالمهج والأرواح والإقدام والشجاعة: «لا يستقل الشعب يترك حقه
ويرى البلاد تجارة ومتاعا»
يخشى العدو فلا يطيق تشددا
ويهال منه فلا يريد نزاعا
إن الحياة لأمة مقدامة
تعيي العدو شجاعة ومصاعا
تزجي إليه من الحفاظ جحافلا
وتقيم منه معاقلا وقلاعا
إن شامها في الحادثات تفرقا
عقدت على خذلانه الإجماعا
وإذا أراد بها الهضيمة أرهقت
همما يضيق بها الدهاة ذراعا •••
يا رب مصر تول مصر وهب لها
شعبا يريد لها الحياة شجاعا «لو سيم يوما أن يبيع بلاده
بممالك الدنيا معا ما باعا!»
يرثي فريدا
من قصيدة له سنة 1919 يرثي محمد فريد :
أترى الكنانة كيف تعبث بالدم
الله للشهداء إن لم ترحم!
أدنى المراتب في الصبابة عندها
تلف المحب وطول وجد المغرم
تزجي تحيتها فيكذب دونها
أمل الملول ومطمع المتبرم
ضل امرؤ قتلته «مصر» فلم يصن
عهد الولاء لها وحق المنعم
معشوقة يجري مع الدم حبها
في قلب نصرانيها والمسلم
بعثته «مصر» مجاهدا ورمت به
فرمت بجيش للفتوح عرمرم
خاض الغمار يهد كل كتيبة
ويهز رايات الكمي المعلم
متجردا لله يطلب حقه
ويقيم جانب شعبه المتهدم
فإذا القياصر بالأرائك تتقي
وإذا الأرائك بالقياصر تحتمي
كل به فزع وكل جازع
يبغي القرار ولا قرار لمجرم
إلى أن قال: «يا سيد الشهداء بعد رفيقه
أرضيت ربك في جهادك فاغنم»
ليس الذي بدأ الجهاد فلم يمت
إلا كبادئ حجة لم يختم
والناس في شرف الحياة وعزها
ضدان من ماض وآخر محجم
وأجل ما رزق الرجال همامة
تنفي غرام المطلب المتهجم
تتجشم الصعب المخوف وعندها
أن المنية مركب المتجشم
مأوى الممالك والشعوب ومالها
وصفوك ظلما بالغريب المعدم
لك من يقينك ثروة إن قدرت
قيست كنوز العالمين بدرهم
إيمان ذي الإيمان أعظم ثروة
ويقين ذي الوجدان أفضل منجم
ضج النعاة فضج كل موحد
وارتج ما بين الحطيم وزمزم
ثم قال:
يا مصر حسبك ما رضيت من الأذى
وبرئت من ماضيك إن لم تنقمي
إن التي رمت الممالك باعدت
بين المضاجع والشعوب النوم
الأرض تركض بالشعوب حثيثة
فامشي على آثارها وترسمي
إن كان قيدك لم يحل فإنه
خلق المريب وشيمة المتوهم
سيري فما بك غير تلك وما بنا
إلا مراقبة العدى واللوم •••
يا نازحا لم نقض حق بلائه
الله جارك فاغتبط وتنعم
وانفض همومك عن فؤادك إننا
نلقى الهموم بكل أغلب أضخم
إن المناكب والنفوس بأسرها
لفداء «مصر» من المهم المؤلم
ماذا حفظت لأهلها من حرمة
وقضيت من حق عليك محتم
حيتك «مصر» على البعاد فحيها
ودعت مسلمة عليك فسلم
جاوزت حسن الصنع في خدامها
وكفيت سوء الذكر من لم يخدم
كذب المضلل لن ينالك سعيه
إلا إذا نال السماء بسلم
أقسمت ما لك في جهادك مشبه
والحر مؤتمن وإن لم يقسم
ما زلت تسرف في المغارم دائبا
حتى جعلت النفس آخر مغرم
أي القواضب بعدما قطع الظبا
ولوى الأسنة في الوغى لم يثلم
رددت صوتي في الرثاء وإنما
رددت من صوت الكنانة في فمي
حيتك في الملأ العلي وأزلفت
حور الجنان إليك شعر «محرم»
أسفي لأوبة راحل لم تقضها
عدة المنى وتحية لم تنظم
ذكرى فريد
وقال سنة 1922 في ذكرى محمد فريد:
ألا فاذكروا من قومنا كل مقدام
ففي هذه الذكرى حياة لأقوام
وما الناس إلا الخالدون على البلى
وصرف الليالي من هداة وأعلام
هم ثروة الإجيال لولاهم انطوت
على فاقة ما تستطاع وإعدام
إذا المرء لم يعمل لما بعد يومه
طوى كل حي ذكره بعد أيام •••
سلام على الحي المقيم وإن طوى
إلى المنزل الأقصى ثلاثة أعوام
على الكوكب الطافي على لجة الردى
إذا ما طوى الأقمار طوفانه الطامي •••
ألا فاذكروا الأبطال وابتذروا الوغى
وكونوا أولي بأس شديد وإقدام
هي الوثبة الأولى وإن وراءها
لما يستجيش الوثب من كل ضرغام •••
وقال سنة 1925 من قصيدة له في ذكراه:
جددوا الذكرى لأهل المشرق
وصفوا المجد لشعب شيق
يعشق المجد فإن لجت به
لوعة الوجد تنحى يتقي
علموه كيف يقضي حقه
نابه الموقف حر المصدق
وأروه السبل نارا ودما
من يهب فيها المنايا يصعق
مزقوا الأوهام عنه إنه
ليظن السبل من إستبرق
إلى أن قال:
يا «شهيد النيل» لو ناجيته
لشفاه منك عذب المنطق
شاقه الصوت البعيد المرتمي
والمقام الكسروي الرونق
وشجاه أن يرى صمصامه
غير وضاح السنا في المأزق
جاشت الأحداث تستقصي المدى
وارتمت من كل صوب تلتقي
إلى أن قال يندد بانقسام الأحزاب وبمساوئ الحكم القائم وقتئذ (نوفمبر سنة 1925) حكم الرجعية والسراي:
سائل الأحزاب ماذا عندها
غير ترجاف وهم مقلق
وتأمل هل ترى اليوم سوى
دولة فوضى وحكم أخرق
فات «نيرون» رجال رزقوا
من فنون الظلم ما لم يرزق
لو جرى «فرعون» أو «هامانه»
يتعاطى شأوهم لم يلحق
سجنوا الدستور طفلا ناعما
واستبدوا بالسجين الموثق
لا جرى «النيل» على الوادي ولا
بورك الشعب إذا لم يطلق •••
تلك ذكرى «النيل» للنفس التي
عكف «النيل» عليها يستقي
هي عين من حياة عذبة
في يفاع من سناء مشرق
فزعت مصر إلى أبطالها
فالبس النقع وسر في الفيلق
سائل القوم أما من غضبة
لذمام صادق أو موثق
لا أرى النجدة إلا في الألى
هم أولو العهد الأبر الأصدق
ننصر الله ونحمي أمة
نحن منها في الصميم المعرق
همة المقدام من آلائها
وبيان العبقري المفلق
الحالة السياسية سنة 1925
في سنة 1925 عين اللود جورج لويد معتمدا (مندوبا ساميا) لبريطانيا في مصر خلفا للمارشال أللنبي الذي استقال من منصبه، وقد حضر المعتمد الجديد إلى مصر في أكتوبر سنة 1925، فنظم أحمد محرم قصيدة يخاطبه فيها ويحذره مغبة السياسة الاستعمارية، وفيها يندد بانقسام الزعماء وتنكبهم سبيل الإخلاص والسداد، ويهيب بالأمة ألا تقع في شرك الاستعمار ومناوراته، وأن تصمد في الجهاد، قال:
أتسأل مصر ما حمل «العميد»
وهل عند الرماة لها جديد؟
هو السهم الذي عرفته قدما
وجرب وقعه الشعب الوئيد
تمرد مبدئ وطغى معيد
ولم تزل الرمية تستزيد «مسيح الهند» إن بمصر شعبا
يشق عليك إن خضع الهنود
فما نظر المسالم أين تبغي
ولا عرف المساوم ما تريد «دع الزعماء إن لهم لدينا
يدين بغيره الشعب الرشيد»
إذا ذكروا الزعامة فهي دعوى
يكيد بها «الكنانة» من يكيد
ولا تبقى البلاد إذا أصيبت
بمن يبغي الزعامة يستفيد «لمن تتألب «الأحزاب» شتى
وما هذي الصواعق والرعود؟» «تداعوا للوغى فهوى صريعا
على أيديهم الوطن الشهيد»
مضت أسلابه تزجى إليهم
فمأتمه لدى الأقوام عيد
إذا ساد التخاذل في أناس
فأعوز ما ترى شعب يسود
إلى أن قال:
عميد «الغاصبين» نزلت أرضا
يبيد الغاصبون ولا تبيد
يذود الواحد القهار عنها
إذا قهرت جنودك من يذود
أتذكر إذ لقومك ما أرادوا
وإذ ل «كرومر» البطش الشديد
تطوف جنوده فتصيد منا
ومن سرب الحمائم ما تصيد
أتذكر «دنشواي» وكيف كادت
جوانبها بأهليها تميد
تضج من العذاب ولا سبيل
إلى غير العذاب ولا محيد
إلى أن قال مشيرا إلى طغيان كرومر وكيف أكرهته مصر على الاستقالة من منصبه:
سيوف الجند مظهر كل حق
ورأي «كرومر» الرأي السديد
أتذكر إذ نعاتبه فيطغى
ويهدر في مقالته الوعيد
7
أخذناه بقارعة ألحت
عليه فزال واشتفت الكبود
صدعنا ركنه فانقض يهوي
وذاب الصخر أجمع والحديد
هوى جبل من العدوان عال
وزلزل للأذى صرح مشيد
ونحن القائمون بحق مصر
إذا ما استسلم القوم القعود
ونحن المقبلون على المنايا
إذا الأبطال كان لهم صدود
نضن بمصر إن عدت العوادي
ولكنا بأنفسنا نجود
هي الذمم المصونة والعهود
فما يبغي «كرومر» أو «لويد» •••
أخا «السكسون» هل نبئت أنا
جلاوذة لقومك أو عبيد
لقد كذبوا عليك فليس فينا
لمن يبغي الهضيمة مستقيد
إذا سعت «الوفود» إليك فاحذر
عواقب ما تقول لك «الوفود»
فما أحد بمالك أمر مصر
وما بالشعب جبن أو جمود
مضت دنيا القيود وتلك دنيا
تذم بها وتحتقر القيود
حمينا ما حمى الآباء قدما
وصان لنا وللنيل الجدود
بلاد ما تباع وباقيات
من الآثار معدنها الخلود
يدعو إلى اليقظة السياسة، ويندد بالتراخي في الوطنية
قال سنة 1927 من قصيدة له في «الشعر السياسي»:
تسعى الشعوب ونحن في غفلاتنا
نأبى الفعال ونكثر الأقوالا
ركبوا متون العاصفات وشأننا
أن نركب الأوهام والآمالا •••
يا باعث الموتى ليوم معادها
تنساب من أجداثها أرسالا
أعد الحياة لأمة أودت بها
غفلاتها فثوت سنين طوالا
وأضئ لها سبل النجاة ليهتدي
من زاغ عن وضح الطريق ومالا
وتولها بالصالحات ولقها
منك الأمان ووقها الأوجالا
وامنن عليها من لدنك بقوة
توهي القيود وتصدع الأغلالا
واجمع على صدق الإخاء فضاضنا
فلقد تفرق يمنة وشمالا
أودى بنا بين الشعوب تباغض
صدع القلوب ومزق الأوصالا
تستفحل النكبات بين ظهورنا
ويزيد معضل دائنا استفحالا
الله يحكم في الممالك وحده
ويصرف الأقدار والآجالا
إلى الشعب
وقال سنة 1927 في هذا المعنى موجها الخطاب إلى الشعب:
ادفع بنفسك لا تكن متهيبا
ما اعتز في الأقوام من يتهيب
شرف الحياة وعزها لمغامر
يمضي فلا يلوي ولا يتنكب
اشرع لأمتك الحياة ولا يكن
لك في حياتك غير ذلك مأرب •••
مصر الحياة وحبها الشرف الذي
بطرازه الغالي أدل وأعجب
نفسي وما ملكت يداي لأمتي
وسراة آبائي ومن أنا منجب
أبني إنك للبلاد وإنها
لك بعد والدك التراث الطيب
شمر إزارك إن ندبت لنصرها
إن الكريم لمثل ذلك يندب
ما المرء إلا قومه وبلاده
فانظر إلى أي المواطن تنسب
ليس التعصب للرجال معرة
إن الكريم لقومه يتعصب
للمرء من شرف العشيرة زاجر
ومن الخلال الصالحات مؤدب
حكم التاريخ
من أنعم التاريخ أن حسابه
حق وأن قضاءه لا يشجب
تقف الخلائق تحت راية عدله
فيقام ميزان الحقوق وينصب
في موقف جلل تجيش جموعه
فيداس فيه متوج ومعصب
ملك الزمان فما لعصر موئل
يحميه منه وما لجيل مهرب
يخاطب النيل
يا نيل والموفون فيك قلائل
ليت الزعاف لمن يخونك مشرب
قتل الوفاء فما غضبت وإنما
يحمي الحقيقة من يغار ويغضب
تهب الحياة له وليس لقاتل
في غير حكمك من حياة توهب
من لي بشعب في الكنانة لا القوى
تنشق منه ولا الهوى يتشعب
متألب يبغي الحياة كأنه
جيش على أعدائه يتألب
أين الرجال العاملون فإنما
تبقى الممالك بالرجال وتذهب
وطن يعذب في الجحيم: فلسطين الشهيدة
من قصيدة نظمها سنة 1938 عن مأساة فلسطين:
لبيك يا «وطن الجهاد» ومرحبا
لبيك من داع أهاب وثوبا
لبيك إذ بلغ البلاء وإذ أبى
جد الزمان وصرفه أن نلعبا
من ذا يرى دمه أعز مكانة
من أن يخضب من «فلسطين» الربى
وطن يعذب في الجحيم وأمة
أعزز علينا أن تصاب وتنكبا
بقلوبنا الحرى وفي أحشائنا
ما شب من أشجانها وتلهبا
وبنا من الألم المبرح ما بها
وأرى الذي نلقى أشد وأصعبا
نتجرع البلوى وندرع الأسى
نرعى لإخوتنا الذمام الأقربا «إنا لنعلم أن آكل لحمهم
سيخوض منا في الدماء ليشربا»
جعلوا الكفاح عن العروبة حرثهم
وتعهدوه فكان حرثا طيبا
يسقون ما زرعوا دما في مخصب
لولا الدم الجاري لأصبح مجدبا «البيت» يطرب من أنين جراحهم
أرأيت في الدنيا أنينا مطربا؟
وقال يحمل ساسة بريطانيا وأمريكا مسئولية مأساة فلسطين:
إن الذي زعم السلام مراده
جعل الدماء سبيله والمركبا
إن كان قد غمر الزمان وأهله
كذبا فمن عاداته أن يكذبا
أرأيت إذ سكب الدموع غزيرة
يأبى الحياء لمثلها أن يسكبا
متصنع باسم الضعيف يريقها
وهو الذي ترك الضعيف معذبا
ما كان أصدق نسكه لو أنه
رحم البريء ولم يحاب المذنبا «يهذي بذكر العدل في صلواته
أرأيت عدلا بالدماء مخضبا؟»
وقال يهيب بالأمم العربية أن تهب لنجدة فلسطين:
رسل العروبة هل أسيتم جرحها
ما باله استعصى وماذا أعقبا؟
جرح تقادم عهده وتفتحت
أفواهه تدعو الأساة الغيبا
أنتم أساة الجرح فاتخذوا له
من طب شيخ أساتكم ما جربا
وصف الدواء لكم وخلف علمه
فيكم فأين يريد منكم من أبى؟ •••
يا قوم لستم بالضعاف فغامروا
وخذوا مطالبكم سراعا وثبا
أفما كفاكم قوة من دينكم
ما جمع الإيمان فيه وألبا
يا «آل يعرب» من يريني «خالدا»
يزجي الخميس ويستحث المقنبا
من شاء منكم فليكنه ولا يقل
ذهب القديم فإنه لن يذهبا
السر باق والزمان مجدد
والسيف ما فقد المضاء ولا نبا •••
ردوا المظالم عن محارم أمة
ردت ظنون ذوي الجهالة خيبا «لم يعط أوطان العروبة حقها
من كان يطمع أن تباع وتوهبا»
يشفق على الفلاح
ومن قصيدة له بعنوان «رحلة عابسة» سنة 1940، وقد مر ببعض القرى وتحركت شاعريته إشفاقا على الفلاح، قال:
ويلي على فلاح مصر أما كفى
ما ذاق من عنت ومن إرهاق
يغني ألوف المترفين بماله
ويعيش في فقر وفي إملاق
سبحان من شرع السبيل لخلقه
أكذا يكون تفاوت الأرزاق؟
أحمد نسيم
1880-1938
شاعر مبدع، من أعلام الشعر الوطني، يمتاز بجذالة الأسلوب وتدفق المعاني والأحاسيس الوطنية في قصائده، لا يقل شعره رواء وحسن ديباجة عن شعر شوقي وحافظ وأحمد محرم.
ولد سنة 1880، واعتنق منذ صباه مبادئ الوطنية، وتجلت مواهبه الأدبية وهو في سن مبكرة، فامتزجت الوطنية بروحه الشاعرية، وتمشت في قصائده الغر، وأضفت عليها جمالا ورونقا وبهاء ، وجعلت لها رنينا موسيقيا يأخذ بمجامع القلوب.
سمي «شاعر الحزب الوطني»، واعتز هو بهذا اللقب، وسجله في ديباجة ديوانه الذي ظهر في جزأين سنة 1908 وسنة 1910، وأهداه إلى المرحوم محمد فريد زعيم الحزب الوطني إذ ذاك، قال في كلمة الإهداء:
رئيسي المحبوب
أما بعد، فإني أتشرف بإهداء الجزء الثاني من ديواني إلى سعادتكم؛ لاحتوائه على القصائد الوطنية التي نظمتها ما بين سنتي 1909 و1910 ميلادية، وقد اعتمدت في نقلها على الصحف التي تفضلت بنشرها، مبقيا ديباجتها كما هي حتى لا يغرب عن ذهن القارئ على مدى الأيام وصف الحادث الذي نظمت القصيدة بسببه.
وإني إذا أهديت ديواني إلى سعادتكم فكأني أهديته إلى الأمة المصرية التي يمثلها حزبكم الموقر.
أحمد نسيم
شاعر الحزب الوطني
ويعد نسيم ثاني الطبقة الأولى من شعراء الحزب الوطني، وأولهم أحمد محرم، وثالث الثلاثة المعاصرين أحمد الكاشف الذي سنتحدث عنه فيما يلي، وجميعهم تبدأ أسماؤهم ب «أحمد».
وتبدو مكانة نسيم الممتازة في عالم الشعر من قول إسماعيل صبري شيخ الشعراء في تقريظ الجزء الأول من ديوانه سنة 1908:
لك في الشعر يا «نسيم» معان
باهرات تحار فيها العقول
كل بيت يطل منه على أف
هام أهل النهى محيا جميل
ولما ظهر الجزء الثاني سنة 1910 قرظه صبري أيضا ببيتين آخرين رقيقين، قال:
أي غصن في الروض هز «نسيم»
نثرت منه هذه الأزهار
حبذا شعره الجني وأهلا
ببيان تزهى به الأشعار
يؤيد مصطفى كامل في قطع علاقته بالخديو
قال نسيم مخاطبا مصطفى كامل بمناسبة كتابه إلى الخديو عباس الثاني بقطع علاقته به سنة 1904:
خطيب الشرق لا تلوي العنانا
فأنت المرء أوقرهم جنانا
وأمضاهم إذا كتبوا يراعا
وأذلقهم إذا نطقوا لسانا
لقد دافعت دهرا عن بلاد
قد افتخرت بمدرهها زمانا
وكم رمت العلاء لقوم مصر
وكنت أشد من فيها جنانا
بقلب عاف أرزاء الليالي
كما عاف المذلة والهوانا •••
وجانبت الأمير وأنت تنوي
فعالا لا يكون بها مدانا
وكم من فرقة صعبت فهانت
وكم من طارئ أخنى فهانا
فزدنا مصطفى وازدد ثباتا
يزدك القوم شكرا وامتنانا
مدحتك لا لجائزة ولكن
وجدتك خير من يهدى البيانا
هدية شاعر ما ظل يطري
ويمدح فيك أخلاقا حسانا
فكن للشرق ساعده المرجى
تزرك قصائدي آنا فآنا
يهاجم المعتمد البريطاني
ومن قوله سنة 1907 مخاطبا اللورد كرومر لمناسبة رحيله عن مصر بعد خطبته التي هاجم فيها المصريين والإسلام:
يا لورد هل لك في الإسلام من غرض
ترمي إليه بسهم منك مسنون؟
هجوت قومي وما فارقت أرضهم
حتى تجرأت أن تنحى على الدين
رأيت أنك لست المرء تصلحنا
ولست فينا على مصر بمأمون
غادرتها وهي للتقرير صارخة
إلى الإله بقلب منك محزون
فلا رماك الحيا إلا بداجنة
تهمي عليك بزقوم وغسلين
يمجد الشرق ويحزن لحالته
قال يمجد الشرق ومصر ويحزن لحالتهما:
تداعت رواسي الشرق فانهار جانبه
وما هم حتى أقعدته نوائبه
تحاربه الأعداء من كل جانب
ولم يكفهم أن الزمان يحاربه
تحد على هاماته شفراته
وترهف فوق الناصيات قواضبه
وحسبك أن الشرق في كل أمة
مآثره مشهورة ومناقبه
تخرج منه الفاتحون لأرضه
فماجت به بطحاؤه وسباسبه
وكم كان للشمس المضيئة مطلعا
وأفق معال لا تغيب كواكبه
إلى أن قال:
وما الشرق إلا موطن عبثت به
على غرة أبناؤه وأجانبه
أضاعوا حمى يجري النضار بأرضه
وتهمي عليه باللجين سحائبه
يهاجم أسرة محمد علي
وقال سنة 1908 يخاطب مصر ويهاجم أسرة محمد علي وهي في إبان سلطانها:
رثيتك يا أرض الفراعنة الألى
قضوا في بلوغ المجد ما الحق واجبه «ورثت بفضل العلم عزا ممنعا
فما بات إلا وابن غيرك غاصبه» «ولا خير في عرش من الغرب ربه
ولا خير في مال من الغرب كاسبه»
أفيقي فما في الجهل إلا مذلة
ولا العلم إلا سؤدد عز صاحبه
أنيري ظلام الشرق بعد انسداله
فعند طلوع الشمس تجلو غياهبه
ولا تقنطي من رحمة الله مرة
إذا شيم من برق انخذالك خالبه
وددت بلادي أن تسود بنفسها
لأكتب فيها خير ما أنا كاتبه!
يدعو الأمة إلى الجهاد
ومن قوله سنة 1908 يدعو الأمة إلى الجهاد والذود عن حقوقها واستقلالها :
هلم ندافع جهدنا عن بلادنا
دفاع كماة أو ضراغم غاب
كذلكم الرئبال تعروه سورة
إذا احتل يوما خيسه بذئاب «ومن فقد استقلاله عاش هينا
يسام صنوفا من أذى وعذاب»
هلم نخض غمر الصعاب إلى العلا
ونفرق من الإقدام كل عباب
عسى يسعد الجد الذي مال نجمه
وتشرق شمس المجد بعد غياب
ألم نك كاليونان أهلا لمجلس
يدافع عنا عند كل مصاب
ألم نك كالبلغار والصرب في الحجا
وأخصب منهن اخضرار جناب
ألم نك أرقى من ممالك لم تقم
لدأب ولم تهمم لأي طلاب
أليست بلاد النيل أول أمة
أماطت عن العرفان كل نقاب
علوم وأخلاق وفضل وهمة
وتذليل أوعار ودك صعاب
وقال يفند مطاعن كرومر على المصريين:
فحتام ذياك العميد ينوشنا
بناجذ سرحان وظفر عقاب
فطورا يعادينا بتقرير كاشح
وطورا يناوينا بنشر كتاب
ويا ليته رد الدليل بمثله
وخفض من طعن له وضراب
إذا عجز المقهور عن قهر خصمه
لدى البطش لم يلجأ لغير سباب
يرثي مصطفى كامل
وقال سنة 1908 في رثاء مصطفى كامل من قصيدة تزيد على ستين بيتا:
ما بال دمعك لا هام ولا جاري
هل اكتفيت بما في القلب من نار؟
خفت دموعك من عينيك واستترت
فيها لواعج أحزان وأكدار
ضاع الصواب ونفس المرء ساهمة
ما بين أقضية تجري وأقدار •••
يا طائر البين لا قربت من سكن
ولا هدأت بأفنان وأوكار
نعيت خير فتى كنا نؤمله
يوم الرجاء لأوطان وأوطار
فليمرح الذئب ما شاءت مهانته
فقد غفت عنه عين الضيغم الضاري
لا أيد الله أعداء أذلهم
حتى أقاموا بدار الذل والعار •••
يا بائع الصبر إن الناس في جزع
فبع لهم كل مثقال بدينار
ما زال يدأب حتى خانه قدر
ألقى عليه عصا دأب وتسيار
وقال يصف الجنازة واحتشاد الجموع فيها:
أعزز على حامليه فوق أعينهم
أن يرجعوا بأكف منه أصفار
كأنما النعش عرش زانه ملك
يمشي الهوينى بإجلال وإكبار
كأنما الناس حول النعش مائجة
أمواج مضطرب الآذي زخار
فلو يعدون ما أوفى بهم عدد
كصيب القطر لا يحصى بمقدار
كأنما لجب الباكين من هلع
هزيم رعد أجش الصوت هدار
كأنما الأرض قد سدت طرائقها
بالناس من ثابت فيها وسيار
ومن قصيدة أخرى له سنة 1908 في رثائه:
أمل نأى عن أرض مصر وزالا
أصمى القلوب وقطع الأوصالا
يا نائبا عنا وكنت محسدا
فينا كما كنت الشريف فعالا
مدت إليك يد المنون فأنشبت
بقلوبنا قضبا لها ونصالا
إلى أن قال:
إنا سنبقي ذكر فضلك خالدا
لنكون في صدق الوفاء مثالا
قد كنت أفضل من يذود لسانه
عنا وأصدق من يقول مقالا
فليسق شؤبوب الحيا لك موحشا
قد ضم مجدا بينه وجلالا
يؤيد فريدا في جهاده
قال سنة 1908 مخاطبا محمد فريد رئيس الحزب الوطني مؤيدا له في جهاده:
اجهز برأيك إن الحق قد غلبا
هذا يراعك يحكي السيف ما كتبا
أرى المضلين قد زاغت بصائرهم
ومن يظن الدجى صبحا فقد كذبا
سر في طريقك لا تحفل بذمهم
ولا يهزك مغرور إذا غضبا
لا أنت ترجو افتقارا منهم نشبا
ولا تؤمل من إحسانهم رتبا
لا زلت بالحق بين القوم تخذلهم
حتى تراهم وكل في الوغى هربا
فاهزم كتائبهم وافلل مضاربهم
واسلل يراعك واكتب عنهم العجبا
يندد بوزارة مصطفى فهمي
وقال في نوفمبر سنة 1908 يندد بوزارة مصطفى فهمي على إثر سقوطها، وكانت موالية للاحتلال:
ما للوزارة ذات الضعف والفشل
باتت على دارس أعفى من الطلل؟
وزارة بلغت بالوهن غايتها
في كل نائبة أو حادث جلل
ترحلت غير مبكي على أحد
وودعت غير مأسوف على رجل
إن زال مجد الفتى أو زال منصبه
فذكره بعد في التاريخ لم يزل
يا هيئة الصم بيني غير راجعة
إلى جمودك في أيامك الأول
وزارة ما لها في الخير صالحة
ولا على صولة الأيام من قبل «كانت تماثيل بين القوم قائمة
بلا لسان ولا قلب ولا عمل»
يندد بالخديو عباس
وقال في ديسمبر سنة 1908 حين تنكر الخديو عباس الثاني للحركة الوطنية، وحيل بين جموع الشعب والاقتراب من موكبه لمطالبته بالدستور:
خطوب ما لها أبدا نصير
وأمر حل في مصر خطير
لئن كرهت حياة الشعب يوما
فخير لو تفتحت القبور •••
أيا رب الأريكة قد رضينا
بأنك لا تزار ولا تزور
وهبنا نطلب الدستور جهرا
ألا يرضيك ذياك الشعور؟
أغيرك في الملوك وأنت أدرى
له شعب على البلوى صبور؟
فهل خدعتك في البهتان ناس
أرادوا أن يسوء بنا المصير؟ «أمور يضحك السفهاء منها
ويبكي من عواقبها الخبير»
يمجد الوطنية في رأس السنة الهجرية
وقال سنة 1909 في الاحتفال بعيد رأس السنة الهجرية 1327 الذي أقامته لجنة الحزب الوطني الفرعية ببولاق بمدرسة الشعب، يمجد الوطنية ويخاطب فريدا:
قد مثلونا في التعصب مثلما
قد شاءت الآثام والأوزار
كذب قد ابتدعوه حتى ما لهم
في مصر إلا الكيد والإضرار
بان الضلال من الهدى وبدا لنا
في منهج الحق القديم منار
يا أمة ثبتت على كيد العدى
لا تجزعي إن الثبات فخار «سيري إلى طلب «الجلاء» ولا تني
نمنح من العلياء ما نختار»
أفريد لا تخذل بلادك بعدما
جمعت لديك أولئك الأنصار
هذي الشبيبة قل لها لا تحجمي
ما في ثبات المقدمين شنار
لك من يراع الكاتبين صوارم
ولديك منهم جحفل جرار «ترمي العداة إليك سهم سمومها
ويذود عنك الواحد القهار»
دعهم كما شاءوا ليوم حسابهم
فلهم كما شاء الهوى أطوار
إنا قد اخترناك خير مدافع
يرضى به الرحمن والمختار
وفي سنة 1911 ألقى قصيدة أخرى في تحية السنة الهجرية 1329 بالاحتفال الذي أقامه الطلبة لهذه المناسبة بدار التمثيل العربي يوم أول يناير سنة 1911، وقد حضره المرحوم محمد فريد، وأشار الشاعر في مطلع قصيدته إلى ما أصاب الحركة الوطنية من اضطهاد في العام السابق، قال:
تجلى العام فاستجلوا الهلالا
فإني شمته للسعد فالا
سأطريه متى عزت بلادي
وقد رزقت كما رزق الكمالا
وأمدحه متى قمنا بمصر
وأرجعنا لها ذاك الجلالا
فأما والبلاد وساكنوها
يزيد الدهر حالتهم نكالا
فلست بناظم فيه قريضا
ولا أنا قائل فيه مقالا •••
إلام نطالب الأعوام خيرا
ولم تنعم لنا الأعوام بالا؟
تمر وتنقضي منها ليال
بأرزاء الزمان غدت حبالى
وتلك ممالك الإسلام كادت
صروف الدهر تخبلها خبالا «فلست أخصها بالذكر عنا
ونحن من البلاء أشد حالا» •••
أيا عاما تقضى بئس سهم
رميت به الغواني والرجالا
فقالوا هل صروف العام كانت
نزاعا قلت بل كانت نزالا
هموم لو رشقت بها فؤادا
لكانت في جوانبه نبالا
لقد حملتنا للضيم عبئا
ثقيلا لا نطيق له احتمالا
وقد أجريت دمع القوم حتى
كأنا كلنا قوم ثكالى
ولولا ذكر أحمد
1
كل عام
لما صغنا لك الذكر الحلالا
المضي في الجهاد
أرى فرقا قد افترقت بمصر
ورامت عن أواصلها انفصالا
أناس أخلصوا من بعد زيغ
وثابوا بعد أن ألفوا الضلالا
وأقوام قد ارتدوا جهارا
فساءوا في عواقبهم مآلا
وقال الناكصون كفى غلوا
وإلا ذقتم منه الوبالا
خلائق في المكارم لم يمدوا
يمينا للفعال ولا شمالا
أولئك عصبة بالخزي باءوا
فسموا الخزي والجبن اعتدالا
وقال يخاطب الشباب:
أنابتة البلاد وخير نشء
غدوا للنشء بعدهم مثالا
عليكم بالإخاء ولا تفلوا
عرى القربى فتنخذلوا انخذالا «سيندب حظه الوطن المفدى
إذا لم تحسنوا عنه النضالا»
فجدوا في علومكم صغارا
ولا تشكو السآمة والكلالا
فمن رام الكواكب والدراري
بلا علم فقد رام المحالا «وإن صرتم رجال النيل يوما
فلا تنسوا بربكم القتالا»
وذودوا عنه ما اسطعتم برأي
حصيف واجعلوا الحسنى جدالا
وما زال الرئيس
2
لكم كفيلا
على رغم الخطوب ولن يزالا
وكونوا للأجانب خير عون
تزيدوا عروة الود اتصالا
إذا عشتم وإياهم بخير
محوتم عنكم قيلا وقالا
لقد أوجزت خيفة أن يقولوا:
نسيم في قصيدته تغالى
الجهاد في سبيل الدستور
وقال يستحث الأمة على طلب الدستور وعلى الاتحاد والثبات في ميدان الجهاد:
فلا تفكوا عرى القربى ولو رجعت
عنكم شفار الظبا مخضوبة بدم
ولا تضيعوا من الدستور فرصته
فتقرعوا السن من ذل ومن ندم
إن تيئسوا فانتهاء اليأس مسكنة
أو تسأموا فاحتمال الذل في السأم
ما نال قط المعاني وهي دانية
قوم نيام وشعب غير ملتئم
خير لنا الموت من عيش نكابده
مع الهوان إذا كنتم ذوي شمم
ذكرى مصطفى كامل
وقال في فبراير سنة 1909 في ذكرى مرور العام الأول على وفاة مصطفى كامل، وقد ألقى هذه القصيدة في دار اللواء بين يدي محمد فريد وأعضاء الحزب الوطني قبل أن يتحرك موكب الذكرى بالمسير:
ما بال عينك بالمدامع تسجم
رفقا بنفسك فالقضاء محتم
قد عادت الذكرى فجدد عودها
بين الحشا جرحا يثور فيؤلم
يا يوم كامل كنت يوما قاتما
كالليل أقبل وهو أسود أقتم
يا يوم لا كانت طلائعك التي
بالنحس أنذر وجهها المتهجم
وختمها بقوله مخاطبا محمد فريد:
أفريد يا ابن الأكرمين تحية
من شاعر لعقود مدحك ينظم
أفريد يقرئك السلام معاشر
مدوا إليك يد الولاء وسلموا
حصنت بيضتهم وصنت ذمارهم
بعزيمة قد أصغرت ما استعظموا
ركبوا مطايا الحزم نحو رئيسهم
إذ أنت بينهم الأجل الأحزم
فاضرب برأيك في مواقف جمة
فالرأي في بعض المواقف مخذم
يهاجم الاحتلال في إبان سلطانه
قال سنة 1909 من قصيدة يحمل فيها على الاحتلال ويفضح نكثه بعهوده ويستنهض الهمم للجهاد، وقد بدأها يستصرخ الإنسانية لتمد إلى مصر المكافحة يد العون والتأييد، وهي من عيون الشعر الوطني:
يا ناشرين لواء العدل في الأمم
الله في أمة أنت من الألم
مدوا إلينا يدا بيضاء نشكرها
عند التحدث شكر الروض للديم
إنا منينا بأقوام جبابرة
ما بين مغتصب منهم ومحتكم
3
لو استطاعوا لساقونا أمامهم
ما بين متهم منا ومجترم
جاءوا إلينا وفي أيمانهم شرف
يموهون به في العهد والقسم
قالوا لنا إننا جئنا بلادكم
نبني لكم ركن مجد غير منهدم
حتى تخدرت الأعصاب وانسدلت
على العقول سجوف البطل والوهم
ولم يزالوا على هذا الدعاء وهم
لا يقصدون سوى الإخماد للهمم
حتى إذا انتبهت منا جوارحنا
وأدرك الحال فهم الحاذق الفهم
حكوا القلوب فأذكوها وربتما
أدى إلى النار حك البارد الشبم
فلا عهود لهم ترعى ولا ذمم
كما استباحوا لدينا النكث في الذمم
صبوا على مصر سوطا من تعنتهم
وأججوا في حشاها جمر بغيهم
هم أحرجونا بهذا الضيم من زمن
فإن هممنا بدفع الضيم لم نلم •••
يا قائمين بأمر النيل حسبكم
ما أحرج القوم من ظلم ومن غشم
ناموا هنيئا قريري العين إن لنا
عينا من الشعب لم تغفل ولم تنم
وقال فيها يدعو الشعب إلى الاعتماد على نفسه: «وأنت يا شعب وادي النيل كن حكما
فليس غيرك من مستنصف حكم»
كم أمة حكمت في مصر وارتحلت
عنها حليفة جد بعد لم يقم
سل أمة الروم هل أبقت لنا أثرا
يبقى على الدهر أو سل أمة العجم
مضوا ولم يتركوا في مصر مأثرة
ينبيك عنها لسان النيل والهرم
هذي عجائب هذا القطر من زمن
وتلك حالات وادي النيل من قدم
يحيي جريدة العلم
قام في سنة 1910 خلاف على ملكية «اللواء» بين بعض ورثة المرحوم مصطفى كامل، طرح أمره أمام القضاء، وعين حارس قضائي على اللواء، وكانت صحيفة الحزب الوطني، وأراد الحارس أن يتدخل في تحريره وتوجيه سيايته، فرفض المرحوم محمد فريد هذا التدخل، وأنشأ جريدة «العلم» وجعلها لسان حال الحزب الوطني، وابتدأ ظهورها يوم 7 مارس سنة 1910، فحياها نسيم بقصيدة بديعة، قال:
ألا فليخفق «العلم» الجديد
يمينا إن طالعه سعيد
أيا علم البلاد عليك مني
سلام الله ما خفقت بنود
أرى الأعلام معقلها بناء
ومعقلك الجوانح والكبود
بربك خبر الأقوام عني
بما تنوي الوزارة والعميد
4
رفعت لنا وبالأبصار شك
من الشبهات والأيام سود
فجئنا من لدنك بكل فأل
تحداه التيمن والسعود «وإن كنا نرى الأعلام شتى
فأنت وربك العلم الفريد» •••
أيا «علم» البلاد أرى احتلالا
كأنا عنده نفر عبيد
أصر على الجفاء ونحن شعب
أضر به التعسف والوعيد
وكم من جذوة في القلب شبت
فلم يدرك تأججها الخمود «فقل لهم أثيروا كل عسف
فريح العاسفين لها ركود»
متى ينأى احتلال النيل عنا
وتصدق منه هاتيك الوعود؟
قضوا فينا بما شاءوا وصدوا
كما راموا فهل نفع الصدود؟
لقد فرحوا بما أوتوا فجاروا
وللباغي إذا عقلوا حدود
ضروب في المكايد يوم تحصى
عليهم ليس يحصيها العديد «وكم ودوا الشقاء لأهل مصر
كما شقيت بظلمهم «الهنود»» «مكايد يفزع التاريخ منها
ويصدف عن إعادتها المعيد» •••
أقول الحق لا أخشى انتقاما
يهم إليه «طاغية» مريد
أإن أن المضيم فقال رفقا
تشد له السلاسل والقيود؟
إذا مدوا حبال السوء يوما
فإن الله يومئذ شهيد •••
أيا «علم» البلاد إليك شعرا
تردده التهائم والنجود
ودونك عقد نظمي من جمان
ومن درر يقال لها قصيد
يريد الشامتون بنا نكالا «ويأبى الله إلا ما يريد»
فكن في الحق مثل الحق يمضي
يكن لك بينهم بأس شديد
ولا تتبع هواهم بعد علم
يضلوا في الغواية أو يزيدوا
فليس بنافع فيهم رشاد
ولا من بينهم رجل رشيد
إلى الزعيم محمد فريد في سجنه
في سنة 1911 حوكم الزعيم محمد فريد أمام محكمة الجنايات بتهمة أنه حبذ الجرائم وأهان الحكومة إذ كتب مقدمة لكتاب «وطنيتي» الذي تضمن قصائد نظمها الأستاذ علي الغاياتي، ومع أن هذه المقدمة كتبها الزعيم دون أن يطلع على محتويات الكتاب وقبل أن يتم المؤلف وضعه، ثم سافر الزعيم إلى أوروبا في مايو ولم يظهر الكتاب إلا في شهر يوليو، وليس في المقدمة ما يقع تحت أي نص من قانون العقوبات، ومع ذلك فقد أقامت عليه النيابة الدعوى العمومية، وكان الغرض من محاكمته إرهابه وتهديد أنصاره واضطهاد الحركة الوطنية، وقد حكم عليه في 23 يناير سنة 1911 بالحبس ستة أشهر في هذه التهمة الباطلة، ونفذ فيه الحكم يوم صدوره.
فنظم أحمد نسيم قصيدة من روائع الشعر الوطني بعنوان «إلى الرئيس في سجنه» حياه فيها أبلغ تحية، وعبر عن الشعور العام بإزائه أصدق تعبير، قال:
يا ليت سجنك لم يكن بمقدر
فاصبر على المقدور ستة أشهر
قد جل رزء الشهر حتى خلته
بعض الرثاء وأنت لما تقبر
لولا احترام الحاكمين وحكمهم
لجعلته مثل الشواظ الأحمر
أقصرت فيما قلت حتى لم تسل
أمقصرا أم كنت غير مقصر
5
وتركت أقيال الدفاع فلم تعن
بالمدره المشهور أو بالأشهر
يكفيك عطف العالمين ووجدهم
من أكبر يطأ الثرى أو أصغر
حتى لقد ماد «البقيع» و«يثرب»
وتزلزت أرض «الصفا» و«المشعر»
والتاع قلب «محمد» لمحمد
رب المحامد والعلا والمفخر •••
إني نظرتك في اتهامك واقفا
فظننت أنك واقف في المنبر
لتقول شعبي أو بلادي إنني
لهواكما بين اللظى المتسعر
ولقد رأيتك جالسا مستبسلا
خلف الشباك جلوس من لم يذعر
فرأيت في هذا الشباك معانيا
فهي العرين وأنت أجرأ قسور
ولقد لمحتك ماشيا في ثلة
تعتز بينهم بقدر أوفر
فسألت هل هذا المسور «خالد»
أم «جوهر» يختال بين العسكر •••
أفريد يا ابن الأكرمين تحية
من شاعر بسوى الأسى لم يشعر
في مصر قوم ناوءوك بشرهم
فاردد مكايدهم إليهم وانحر
ذكروك في حب البلاد وأهلها
ما قيمة الإنسان إن لم يذكر؟ «لو كنت ممن تاجروا بضميرهم
للعبت لعبا بالنضار الأصفر» «أو كنت ممن يطلبون مراتبا
لشأوت في العلياء نجم المشتري»
وسبقت أجرام السماء وفتها
من مظلم في ذاته أو نير •••
أ«محمد» كن في النوائب ضيغما
مستجمعا للطارئ المتنمر
إن بت أنت من الفوادح جازعا
ما فضل مفتول الذراع غضنفر؟
أشرق لعلك بين سجنك مشرقا
تهدي سبيل الطارق المتنور «فالشعب بعدك بات ينتجع العلا
وغدا مناه ورود هذا الكوثر»
أنعم بسؤددك العظيم ومرحبا
بك من كريم الأصل زاكي العنصر
أعزز علينا يا ابن «أحمد» حالة
جاءت بعيش بالهموم مكدر •••
فكأنه بذر يحجب نوره
ظلمات غيم في السماء كنهور
أو درة مكنونة في زاخر
أو دمعة مخبوءة في محجر
أو زهرة فيحاء خيف ذبولها
وضياع نفحتها إذا لم تستر
أو ناظر غمضت عليه جفونه
حذرا عليه من القذى والعثير
أو أنت سر الكائنات محجب
أو بعض مكنون القضاء المضمر •••
إلى أن قال:
أمحمد ما أنت أول مبتلى
بالفادحات من الزمان الأكدر
إني عهدتك خير من يسدي الورى
رأيا وخير مفكر ومدبر
فاشهر لدى الأهوال عزما صادقا
فلرب عزم كالحسام الأبتر
ما الناس إلا اثنان ذاك ميسر
للصالحات وذاك غير ميسر
جل الإله فقد أرانا علمه
من كل شيء في الوجود مسخر
بانت مراحمه بأكمل رونق
وبدت مآثره بأكمل مظهر
لولا الفؤاد وما أصاب دفينه
ما كنت عن ذكراك بالمتأخر
لولا مراس الداء صغت قصيدة
أربت على شعر الأديب المكثر •••
عفوا رئيس المخلصين فإنني
ما رمت إلا جل عفوك فاغفر
قد جئت أزجي في القريض خريدة
قد بات يحسدني عليها «البحتري»
عطرية فيحاء طورا عن شذا
ورد وطورا عن أريج العنبر
فيها معان صاغها لك مبدع
جم البيان خياله لم يحصر
فاخلع عليها من خلالك نفحة
حتى تضوع بنفح مسك أذفر
لي فيك ملء الخافقين لآلئ
زهر تبيع بها الرواة وتشتري
فعليك مني ما حييت تحية
وسلام كسرى في الملوك وقيصر
يحيي الوحدة الوطنية
قال سنة 1919 يحيي الوحدة الوطنية والتآخي بين المسلمين والأقباط:
أقباط مصر ومسلموها ضمهم
دين المسيح وشرعة الإسلام
الناشئون على الطهارة والتقى
والقائمون بمصر خير قيام
والخالدون إلى السكينة كلما
جاء الزمان بشدة وعرام
برح الخفاء وبان أنا أمة
لم تبغ غير محبة ووئام
إنا لنرجو أن نعيش بغبطة
توحي السلام وتنتهي بسلام
يرثي فريدا
قال سنة 1919 من قصيدة في رثاء محمد فريد:
رمانا الزمان بإحدى الكبر
ومنه العظات ومنه العبر!
شهيد تصارع في حومة
رماه القضاء بها والقدر
وخلف من بعده أمة
كسرب النجوم فقدن القمر
أتى جثة سافرت للبلى
ولم يسترح من عناء السفر
منى أوردته حياض الردى
وورد الردى ما له من صدر
تعلقها عند شرخ الصبا
ولم يجفها عند مس الكبر
وأينع في روضها غرسه
ولم يبق إلا اجتناء الثمر
وأي امرئ عاش أقصى المدى
فنال من العيش أقصى الوطر؟ •••
إلى أن قال:
هنيئا لميت نعته العلى
وطوبى لحي وعى وادكر
وحسب فريد منى نالها
فقد حصدت كفه ما بذر
فتى أغمض الموت أجفانه
وأطبقها بعد طول السهر
أفاض على قومه ماله
فأدى الحقوق وأسدى البدر
طويل نجاد الجدا عائل
لكل ضريك إليه افتقر
رأى الحرص عارا على نفسه
فهان على نفسه ما ادخر
وكان بصيرا بعقبى الندى
يرى المال يفنى وتبقى السير
وأخلد ما للفتى ذكره
إذا نزل القبر لا ما يذر
وكم صامت ناطق في الثرى
بآي فصاح كآي السور
وليس الذي ذكره خامل
كمن شاع صيت له وانتشر
وليس بميت أغر اسمه
على صفحات العلى مستطر
خطيب المنابر منطيقها
وأسلس من فوق جمع نثر
فإن يكب يوما بمضماره
فكم من جواد كبا أو عثر
وما زال ينهب في عدوه
فيافي الفجائع حتى ضمر
وحتى دهته بأعناتها
كوارث كاسرة للفقر
وختمها بقوله:
أرى «كاملا» راح في شرخه
وأودى «فريد» حميد الأثر «زعيما بلاد خلت منهما «أبو بكر» مات وولى «عمر»»
عزاء العلا عنهما أمة
تنادت لتجديد مجد دثر
وشعب سعى نحو آماله
بعز توقد حتى استعر
وما من ضعيف القوى واهن
تشبث بالحق إلا انتصر
يحيي جريدة الأخبار
قال سنة 1920 يحيي المرحوم أمين الرافعي لمناسبة إصداره جريدة الأخبار:
يا وحي أسعفني بنظم قلادة
صيغت لآلئها من الأشعار
هذا «أمين الرافعي» ومن له
خير السجايا الغر والآثار
يا «رافعي» لأنت أصدق مخلص
للنيل في الإعلان والإسرار
جرد يراع المخلصين وذد بها
بطش القوي وصولة الجبار
واحذر على «الأخبار» من آفاتها
إن «الرواة» لآفة الأخبار
اليوم هنأت البلاد بكاتب
ملكت يداه صحيفة الأحرار
يندد بالانقسام ويدعو إلى التآخي
وقال سنة 1921 حين اشتد الانقسام بين سعد وعدلي وأنصارهما، يندد بهذا الانقسام ويدعو إلى توحيد الصفوف:
قالوا انقسمنا فقلنا فتنة عمم
بها تفل مواضي العزم والهمم
ولم نكن غير جيش راكب طرفا
شتى المسالك من سهل ومن أكم
حتى يرف لواء الفوز منعقدا
على الزمان بحق غير مهتضم
وكيف نقسم والتاريخ ينبئنا
أن الفلاح لشعب غير منقسم
فحاذروا أن تحلوا عقد شملكم
فتقرعوا السن من حزن ومن ندم
ونظموا ما استطعتم من صفوفكم
فالجيش إن يعره الإخلال ينهزم
ولا أحدثكم عن إرثكم عجبا
فمنه كان بزوغ المجد والكرم •••
والمجد يدرك بالأعمال منجزة
لا يدرك المجد بالألفاظ والكلم
أحمد الكاشف
1878-1948
من الرعيل الأول من شعراء الوطنية، ولد سنة 1878 بالقرشية من بلاد مركز السنطة غربية، وهو ابن المرحوم ذو الفقار الكاشف، وجده من ضباط الجيش المصري الذين خاضوا غمار المعارك في عهد محمد علي، تلقى علومه الأولية في منزل والده بالقرشية، ثم التحق بمدرسة الأقباط الابتدائية بطنطا حتى استوفى دراسته، ثم عاد إلى بلدته وأقام فيها، ومالت نفسه مند صباه إلى الشعر والأدب، وكان الشعر طبيعة له وسليقة، فعكف على المطالعة وأكب على كتب الأدب ودواوين الشعراء المتقدمين يدرسها ويستوعبها، فحاكاهم في الأسلوب والبلاغة، واتجهت نفسه إلى نظم الشعر في المعاني الوطنية، فجادت قريحته بشعر وطني من الطراز الرفيع، ووقف حياته على هذا اللون من الشعر، وعاش عمره عيوفا أبيا، معتكفا في بلدته «القرشية»، وفي ذلك يقول عن نفسه:
ولقد تحاشيت المدائن زاهدا
وبدوت أطلب وحدة وسكونا
لا أرتضي غير الطبيعة مأنسا
والذكر كأسا والقريض خدينا
وله قصائد عصماء نظمها في مختلف المناسبات، وعبر فيها أبلغ تعبير عن أحاسيسه ومشاعره الوطنية، وظل وفيا لمبادئه طول حياته، وتألق شعره في سماء الأدب والوطنية، وبلغ الذروة في هذا المجال.
اتفاقية السودان
قال عن اتفاقية السودان التي أكرهت مصر على إمضائها سنة 1899 على أثر انتصار الجيش المصري في السودان:
انتصرنا وما الذي قد جنينا
ه من النصر بعد طول العناء؟
ما جنينا سوى «الوفاق» جزاء
إن هذا الوفاق شر جزاء «وإذا شارك الضعيف قويا
في منال فحظه كالهباء»
الجندي في المعركة
وطني أنت الحبيب الدائم
لك في قلبي المقام الأشرف
وغرامي بك طبع لازم
سرني أني به متصف •••
لك أسعى دائبا مجتهدا
برجاء ثابت مقتدر
لا أبالي في طريقي أبدا
طال ليلي أو تمادى سهري •••
وطني أفديك بالروح إذا
مسك الدهر بسوء لا يطاق
وأرى اللذة في دفع الأذى
عنك بالنيران والبيض الرقاق •••
دمت يا نيل أبر الأنهر
بنفوس كم رأت منك وفاء
دمت تجري يا شبيه الكوثر
مهدي الوادي هناء ورخاء •••
دمت يا صحراء ميدان الجنود
بين قطريك اللذين اتحدا
مظهرا للبأس من بيض وسود
يضمن النصر لنا والسؤددا
قصيدته في اللورد كرومر سنة 1907
لما رحل اللورد كرومر عن مصر على أثر حادثة دنشواي، شيعه الكاشف بقصيدة ندد فيها بطغيانه وجبروته، قال:
أعيا عزائمك القضاء الأغلب
وطوى صحيفتك الزمان القلب
أرأيت كيف يفاجأ السباق في
غاياته ويقاطع المتوثب
ولبثت تبدو في زخارف مخلص
للقوم تخفي ما اعتزمت وتحجب
غافلتهم حينا فلم يتلفتوا
إلا ونابك فيهم والمخلب
وذكر حادثة دنشواي وكيف فرح المصريون بإقصائه عن منصبه:
وختمت عهدك بالذي اهتزت له
أركان «مكة» واستعاذت «يثرب»
وتنفس الصعداء شعب حامل
هما يضيق به الفضاء الأرحب
ماذا كسبت وأنت عنا راحل
إلا الجفاء وبئس هذا المكسب
ينذر الإنجليز
وقال يخاطب الإنجليز وينذرهم سوء العاقبة:
قلدتم الرومان في استعمارهم
هلا ذكرتم منتهى الرومان؟
اليوم سؤددكم وسؤددنا غدا
كم أدرك المتمادي المتواني
رحماكم فينا لنذكركم إذا
دار الزمان وحالت الحالان
إنا لنرجو من بنينا عدة
لا عدة الجيران والضيفان
يندد بوزارة مصطفى فهمي
قال في أبريل سنة 1908 يدعو وزارة مصطفى فهمي إلى الاستقالة، وكانت بغيضة إلى الشعب:
أفي كل يوم يشهد النيل نابغا
يعيش فنرجوه ويقضى فنجزع؟
1
وليس لكم في موسم الحي مظهر
وليس لكم في مأتم الميت مفزع
لقد سئمت تلك الكراسي مكثكم
فهلا شعرتم وهي تشكو وتضرع
2
وهلا اعتزلتم منصبا لا ينيلكم
من الأمر إلا أن تذلوا وتخضعوا؟
أخاف عليكم أن تموتوا وأنتم
أضر من العادي علينا وأشنع
فإن شئتم أن يعفو النيل عنكم
ويكبركم أبناء مصر ويرفعوا
فخلوا وزارات البلاد لأهلها
إذا أرعد الجبار لم يتزعزعوا
إذن لرأيتم ما رأى من كرامة
ومرحمة ذاك الشهيد المشيع
3
يمجد الفلاح ويمدحه
وقال يمدح «الفلاح المصري»:
إذا استبقيت في الدنيا حبيبا
فخير أحبتي فلاح مصرا
كريم يملأ الوادي ثراه
ولا يلقى سوى الإجحاف أجرا!
فقير ما أراه شكا افتقارا
ولو يجزى على تعب لأثرى
فمحراث يشق الأرض عندي
ويخرج من ثراه الخصب تبرا
كسيف في يد الجندي لاقى
به جيشا وحصنا مشمخرا
صلته بمصطفى كامل
كان الكاشف صديقا ونصيرا لمصطفى كامل، وكان لدعوة الزعيم وتعاليمه صداها في قصائده، وكان مصطفى يقدره ويعجب به ويسميه «شاعر العربية النابغة»، وكثيرا ما كان هو يردد كلمات مصطفى كامل ومعانيها ويصوغها في قالب شعري رفيع.
قال عن صلة الخطابة بالشعر:
ولئن هززت العالمين فإن من
تلك الخطابة هذه الأشعارا
وقال يردد كلمة مصطفى كامل «لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا»:
لو كنت في الخلد أو في غيره ملكا
وددت لو أنني في مصر إنسان!
وقال في محاربة اليأس:
وما معنى القنوط وأنت حي
وما معني القنوط مع الحياة؟
وقال في قيمة الاستقلال: «إن البلاد بلا استقلال صاحبها
قفر لديه وإن أصبحن جنات»
ولما مات الزعيم رثاه الكاشف بمرثية رائعة بلغت نحو مائة بيت، قال فيها:
لهفي عليك وقد رحلت اليوم لم
تدرك لغرسك في البلاد ثمارا
إلى أن قال يشير إلى الرحلة التي كان يعتزم الزعيم القيام بها في الشرق:
لهفي وما لاقتك «يثرب» ضيفها
وخطيبها المسترسل المكثارا
لهفي عليك ولم تسر متفقدا
في الهند إخوانا لمصر حيارى
لهفي ولم تنقل من اليابان ما
يهب البلاد حضارة وعمارا
قد كنت مزمع هجرة لو قدرت
قربت أعوانا لمصر كبارا
وجمعت بين السابقين وأمة
مهضومة تتبع الآثارا
ثم يستنكر على وزراء مصر وقتئذ تخلفهم عن تشييع جنازة الزعيم خشية إغضاب الإنجليز، قال:
ويل الذين تخلفوا عن مشهد
مشت الملائك حوله إكبارا
هل يعرضون ترفعا وتكبرا
أم يسكنون تهيبا وحذارا؟
ثم يصف احتشاد الأمة يوم تشييع الجنازة، قال:
يا قائد الأبطال هذا جيشك ال
جرار فانظر جيشك الجرارا
يوم كيوم الحشر ضمهم وكم
رحبت في أرب لهم مضمارا
فلئن بكوا فلقد بكيتهم وهم
غرباء في أوطانهم وأسارى
أو يحملوك على رءوسهم فقد
أصعدتهم فوق النجوم فخارا
وختم مرثيته بقوله:
أشهدت مصر على علاك ونيلها
وصعيدها والنبت والأحجارا
لو لم تسل قطع النفوس لشيدوا
منها لك التمثال والتذكارا
ما مات من ورثت مناه أمة
تجري على منهاجه استمرارا
يحمل على سياسة الوفاق، ويعاتب الخديو عباس الثاني
في سنة 1909 كانت سياسة الوفاق بين الخديو عباس الثاني وإنجلترا تسيطر على الجو السياسي في مصر، وكان هدف هذه السياسة محاربة الحركة الوطنية، وبدت مظاهر هذه السياسة في تنكر الخديو للكفاح الشعبي ومناصرته للاحتلال وسياسته.
نظم الكاشف هذه القصيدة سنة 1909 يحمل فيها على سياسة الوفاق، ويخاطب الخديو عباس الثاني ويعاتبه ويحذره مغبة الاستنامة إلى وعود الإنجليز، وهي من أبلغ قصائده وأقواها:
أهلا وسهلا بالوفاق ومرحبا
لو كان فيه قضاء ما وعدوكا
إن كنت مشترط «الجلاء» فواجب
لك أن تودهم كما ودوكا
خير لنا أن يعلنوا البغضاء من
أن يعلنوا ذا الموثق المفكوكا
حاسنتهم لترد عنا شبهة
كم حاربوك بها وما حربوكا؟
ما كان حبا ما ترى لكنه
كتم المخاتل سره المهتوكا
أرأيت كيف وشى بكل مهذب
حر فكان الآفك المأفوكا؟
اليوم يشكونا إليك وما بنا
غير الوفاء وفي غد يشكوكا
أعيا على أوهامه ووعيده
هذا المراس فقام يستصفيكا •••
ماذا ترى في غاصبين يسوءهم
أنا نحس وأننا نرجوكا
أتخاف شكوى المخلصين ولم تخف
فيما مضى عدوان مضطهديكا؟
يا ليتهم جعلوا القيود لكل ذي
نظر وما انتقموا بأن حجبوكا
هل كان مسمعك السلام مشاغبا
أم كان غير مشوق رائيكا؟
إنا وإياك ابتليناهم فهل
صدقوا الورى يوما وهل صدقوكا؟
أولى بهم وقد اتهمنا نصحهم
ألا تصدقهم إذا نصحوكا •••
أرهم مراسك قبل أن يستأسدوا
إنا لنخشاهم إذا أمنوكا «يا حبذا يوم «الجلاء» ولا نرى
جندا يصول ولا دما مسفوكا»
يخاطب اللورد كتشنر
في سنة 1911 عين اللورد كتشنر معتمدا لبريطانيا في مصر، وكان معروفا عنه الصلف والغطرسة، فاستقبله الكاشف بقصيدة رائعة تفيض وطنية وشمما وإباء، قال في مطلعها:
مهلا لتمتحن الطريق خطاكا
إن كلفوك لغاية إدراكا
في مصر شعب لا يضام ومالك
4
متفرد لا يقبل الإشراكا
ما أنت حابس نيلها يوما ولا
أهرامها مهدومة بقواكا
الله أكبر من جيوشك سطوة
والدهر أبعد من مدى مرماكا
إلى أن قال:
هل يذنب الجرحى إذا هم حاولوا
دون الضواري صيحة وحراكا؟
لسنا قطيعا غاب راعيه كما
كنا ولست الضيغم الفتاكا
إن كنت طلق الوجه أو متجهما
فالله يعلم منتهى نجواكا
ولعل شأنك في مشيبك غير ما
أسلفته في عنفوان صباكا
إلى أن قال:
واذكر لوادي النيل نعمته عسى
تعطي بنيه بعض ما أعطاكا
فإذا تجاوزت الكنانة فافتتح
ما شاء عزمك واصعد الأفلاكا
في غير مصر ذرائع ومواقع
للمستزيد مطامعا وعراكا
ولئن غضبت على الأباة فصبرهم
أولى وأجمل من رجاء رضاكا
فاعرف لهم عذر الحريص إذا هم
لم يسلموا لك ما تنال يداكا
يبشر بالاشتراكية
في أعقاب الحرب العالمية الأولى وبعد توقيع معاهدة الصلح في فرساي (مايو سنة 1919) بين ألمانيا والحلفاء، نظم الكاشف قصيدة عصماء تناول فيها شتى المعاني السياسية والوطنية.
فمن قوله يبشر بالاشتراكية:
للاشتراكية العقبى إذا شملت
شتى الشعوب وجاراها المجارونا
فلا الكثيرون ملك للأقلينا
ولا الأقلون ملك للكثيرينا
ولا نرى واحدا ملأى خزائنه
بالمغنيات وآلافا يجوعونا
ولا نرى درة في رأس محتكم
تهفو إليها قلوب المستظلينا
يندد بغدر الإنجليز وتنكرهم لمصر
وقال في هذه القصيدة يندد بغدر الإنجليز وتنكرهم لمصر بعد أن عاونتهم في تلك الحرب:
يا نائلين من الحرب العوان سوى
ما كان منتظرا منها ومظنونا
نجوتم من رزاياها وما لكم
لا تذكرون رفاقا غير ناجينا؟
مدوا الحديد لكم في كل مرحلة
وذللوا لكم أطوادها لينا
5
ورابطوا لأعاديكم على هدف
وألحقوا النيل بالأردن ساقينا
وكم عتبنا على قوم لأجلكم
وهم إلينا الأحباء المحبونا
وقلتم لم ينل قوم بغير دم
حرية فبذلناه مضحينا
ونال من دمنا في عصر جندكم
ما نال منه عداكم في فلسطينا
فهل غسلتم خطايا الأبرياء به
أم لا تزال خطيئات البريئينا؟
أتستهينون بالإنسان ماثلكم
وتؤثرون عليه الماء والطينا؟
هبوا حمى مصر والسودان مزرعة
أيرهق الأجراء المستغلونا؟
ورثتم خصمكم ميتا وصاحبكم
حيا وما زلتم في الأرض تسعونا •••
جربتم مصر في تقييدها زمنا
فجربوا مصر في إطلاقها حينا
أمنتم مصر فيما نال أمتكم
فأي شيء على مصر تخافونا؟
وقلتم مصر للهند السبيل فإن
ضاع السبيل أضعنا الهند ساهينا
أما إلى الهند إلا مصر من سبل
ملأى شواهين أو ملأى سراحينا
6
يهدد الهند أهلوه وجيرته
ولا يزال سبيل الهند مأمونا
خافوا سوانا وأعطونا أمانينا
فما تضركم يوما أمانينا
وإن فردا لذي ملك يبر به
خير له من جماعات يثورونا
عن أي شيء لمصر تسألون وقد
هزت مسائل مصر الهند والصينا
7
بالسيف والنار يدعو الناس جندكم
وتطلبون من الصرعى مجيبينا
ضعوا السلاسل عنا واطلبوا جدلا
تروا أدلة مصر والبراهينا
وربما قبلت دعواكم دول
وأهل مصر أباة غير راضينا
ليت الذي حرم الألمان غايتهم
أخاف قوما سواهم لا يبالونا
وليت من زاد قوما قوة وغنى
يرعى ويحرس أقواما مساكينا
أتسفكون لمظلوم دماءكم
وبالكلام على عان تضنونا؟
وهل وفيتم بميثاق لمصر كما
رعيتم العهد للبلجيك موفينا؟
كم أعجبتكم من الأحرار عزتهم
كانوا موالين أو كانوا معادينا
فهل ذكرتم وأكبرتم لنا غرضا
كما ذكرتم وأكبرتم «وشنطونا»
8
كم أنجب البطل الأحداث عالية
وأنجب الحدث الأبطال عالينا
كنا أمانة دهر عندكم وأتى
وقت الأداء فهل أنتم مؤدونا؟
وقد أقر لمصر كل منتصف
بحق مصر فهل أنتم مقرونا؟
وقد أصرت على استقلالها فعلى
أي المآرب أصبحتم مصرينا؟
يحذر قومه من التحالف مع بريطانيا
وفي هذه القصيدة «التي نظمها في أواخر سنة 1919» يحذر قومه من فكرة التحالف بين مصر وبريطانيا، قال:
أواهبون لمصر كل ما طلبت
أم آخذون بمقدار ومعطونا؟
وإن رفعتم عن الوادي حمايتكم
فما اسم لاحقها فيما تسمونا؟
وإن تروا بدلا منها «محالفة»
فمن لنا بضمانات المساوينا؟
إنا لنعجز عن حق الحليف وعن
حق الشريك وأنتم تستزيدونا
وما مجاورة الأقوى وشركته
إلا كما جاور العصفور شاهينا
ادعوا بني مصر أندادا لكم ودعوا
ولاة مصر ملوكا أو سلاطينا
وغادروها لأكفاء تجاربهم
تغنيهم عن تكاليف المشيرينا
يفدون مصر وإن شاكت منابتها
وإن جرى نيلها مهلا وغسلينا
وإن تدفق في البيداء منصرفا
وإن أقام وراء السد مخزونا
أحرار مصر تباريهم حرائرها
ففاديات كما نرجو وفادينا
يندد بالاستعمار والطغيان
وفي هذه القصيدة يندد بالاستعمار والطغيان ويحملهما مسئولية الحرب الطاحنة التي اكتوت الشعوب بنارها، قال:
أمضى على الصلح قوم يعبثون به
وقد نأى عنه قوم غير ممضينا
تنفس الصعداء اليوم بعضهم
ولم يزل بعضهم أسوان محزونا
هل يعرف الدهر حربا كالتي شهدت
تلك الثماني يتلوها ثمانونا
صناعة هي يعتز الملوك بها
على العباد الأذلاء المطيعينا
أم كانت المرض الموروث في دول
أعيت طبائعها السود المداوينا
ما كان أكبر آثام الأنام وما
أذكى وأغلى الضحايا والقرابينا «أين الأسرة والتيجان أسألها
عن الملوك الطغاة المستبدينا»
الرافعين على الأشلاء دورهم
المالئين دما تلك الميادينا
جنت على ملكهم أسلاب غيرهم
فهل تذكر هذا المستغلونا؟
إلى أن قال:
دانت لعسكر «ولسون» جبابرة
وأين ما صنعت آراء ولسونا؟
9
أغرى البرية باستقلالهم ونأى
عنهم وهم بالذي أغرى يهيمونا
القوة سناد الحق
والحق في كل عصر فاقد سندا
إن لم يجد طلبا بالبأس مقرونا
فذو السلاح هو المرهوب جانبه
إذا انثنى الأعزل المغلوب مغبونا
أمل مصر في بنيها
وختم هذه القصيدة الرائعة بقوله:
من لم ير اليوم في العمران موضعه
لم يلق في غده دنيا ولا دينا
ونحن أولى بأن نرعى مواطننا
نوفي المكاييل فيها والموازينا
مؤتمر لوزان: الحق للقوة
في سنة 1923 ترامت الأنباء عن مؤتمر لوزان بأنه يخذل مطالب الشعوب الشرقية، فقال الكاشف يدعوها إلى القوة والتعاون في مكافحة الاستعمار:
عودوا إلى البأس بعد اللين فهو لكم
قد يفعل البأس ما لا تفعل الخطب «لا حق للشرق إلا في معاقله
والحق منقلب في الغرب مغترب»
هل يملك الحكم في «لوزان» خصمكم
ودونه في سوى لوزان مضطرب
ما كان «كرزون» بالموفي لأمته
ودون ما يبتغيه الهول والنوب
إلى أن قال:
إني لأشفق من يوم على دول
يقضي الحديد عليها فيه واللهب
ممالك الشرق والإسلام تذكرة
فالشرق أسوان والإسلام ينتحب
أين الأمانة والميثاق بينكم
والبيت منتهب و«القدس» مغتصب «مجد الرجال على مقدار ما بذلوا
من الدم الحر لا الدمع الذي سكبوا»
ذودوا عن الوطن الغالي وعن شرف
بذل النفوس له بعض الذي يجب
ومن أراد حياة العز طيبة
فالأرض تحمله حرا أو الشهب •••
يا وافد الشرق جوابا بلا سند
في الغرب ينتظر العقبى ويرتقب
مصير كل قبيل بعد جولته
ما خطه في فروق الفتية النجب
فصل الخطاب لهم بعد القضاء غدا
في سائر الأمر جد القوم أو لعبوا
أين السلام وأين العاملون له؟
وأنه أمل الأبرار والأرب
كل يمد وراء الغيب غايته
وليس يعلم ما يأتي به رجب
يتندر على عيد 15 مارس سنة 1922
قال من قصيدة له في مارس سنة 1923 يتندر على عيد الاستقلال الذي جعلوا تاريخه يوم 15 مارس سنة 1922 حيث أعلن الملك فؤاد استقلال مصر على أثر صدور تصريح 28 فبراير سنة 1922:
يا عيد الاستقلال أن
ت له خيال أم حقيقة؟
للعتق أم للرق ما
خطوه في تلك الوثيقة؟
أبمهرجان تحتفي الظ
مأى وتحتفل الغريقة؟
وتنال مصر مرامها
من بعدما سدوا طريقه
10
يتكلفون
11
الصالحا
ت لها وتأباها السليقة
إن أطلقوا أمس البلا
د فمنهم ليست طليقة
وحديقة أضحت ول
كن للغريب جنى الحديقة
وإن استبد بنيلها
قتل الشقيقة بالشقيقة
12 •••
وا حر أكباد إلى
حرية الوادي مشوقة
هذا زكي دمي لها
أجد الرضا في أن أريقه •••
أتخاذل زعماء مص
ر أمام هاوية عميقة؟
أي العقاب أحق بالر
جل الذي يؤذي رفيقه؟
عاد الغريم لمصر يع
بس بعد خدعته الدقيقة
فإن افترقتم عنده
كنتم جميعكم فريقه
يحذر من نوايا الإنجليز ويدعو النواب إلى أداء واجباتهم
وقال من قصيدة له يوم 15 مارس سنة 1924 وهو اليوم الذي اجتمع فيه البرلمان الأول، وكان سعد زغلول يتولى رئاسة وزارة الأغلبية:
سلاما على حصنكم والعلم
ورعيا لندوتكم في الأمم
سلاما على ذلك الملتقى
سلاما على ذلك المزدحم
إلى أن قال:
أمانة مستوثق معلن
لكم من سرائره ما كتم
وهذا غريمكم
13
الملتوي
تجمل بعد الأذى واحتشم
تولى بغاياته عابسا
وعاودها فاتنا فابتسم
إلى أجل أم إلى منتهى
مراميه يلزمكم ما التزم
وهل ينجلي الأفق أم يرتمي
بعاصفة بعد هذا النسم
ولو كان يعرف عقبى النزا
ع في الحق من زمن لانحسم
وقال يدعو إلى التآخي وصفاء القلوب بين المواطنين:
وليس يقال فريق هفا
وليس يقال فريق ظلم
يضيع على مصر هذا النعي
م إن لم يكن كل بيت أجم
وما أنا بالآمن المطمئن
إلى المستعد الذي لم ينم
14
أعد المرابط في المسلكين
ومن ملك المسلكين اقتحم
وهل يترك الذئب عاداته
وإن لبس الذئب ثوب الغنم؟ •••
وداهية مرجف بالذي
تعدى به غيره فانهزم
وليس الذي قاله حجة
فقد ألف الناس هذا النغم
وهل يستطيع اغتصاب الرقا
ب من بمراس النفوس اصطدم
وما صنعت بالمغير القلا
ع صنع إبائكم والشمم
وحسبكم شملكم عدة
وحسبكم صبركم معتصم «وما أحسن العفو من قادر
إذا ما اشتهى حاقد وانتقم» •••
سيجلو عن الأرض جبارها
ويلبث فيها كريم الشيم
ولا دولة لسوى المصلحين
ولا ملك إلا لأهل الهمم
عيوب الحزبية
وقال سنة 1925 من قصيدة له حين اشتد التناحر بين الأحزاب، ويدعو إلى نبذ الخصام:
وقفت وما أدري أعد حوادثا
تدور أمامي أم أعد ذنوبا «تحملت عن قومي نصيبا من الأسى
ولم أرج من أجر الجهاد نصيبا»
وأمعنت في غيب المقادير علني
أرى فرجا للأمتين قريبا «وليس بمغن أمة خصب أرضها
إذا لم يكن خلق الرجال خصيبا» •••
تنازع قومي اليوم جندا وقادة
فلم أر إلا سالبا وسليبا «مبادئ أحزاب أرى أم منافعا
توالت صنوفا بينهم وضروبا؟»
تقضت حروب العالمين ولم أزل
أرى بين أبناء البلاد حروبا
بقومي على قومي استعان غريبهم
فصال شمالا واستطال جنوبا
فمن لهم بالمنفذ الأمر حازما
إذا لم يطيعوا نافذا وحسيبا
يردهم بعد القطيعة والنوى
رفاقا كما يلقى العليل طبيبا
قريتي
قصيدة نظمها بهذا العنوان سنة 1936، يصور فيها حياته في بلدته «القرشية» ويؤثرها على حياة المدن، قال:
جمعت في العيد حولي سائر الآل
وملتقى الآل حولي كل آمالي
أبا دعوني وما لي فيهم ولد
ولست للقوم غير العم والخال
كأنني وهم في الدار مطلع
منهم على أمم شتى وأجيال
إلى أن قال في إيثاره الإقامة في الريف:
أقمت في الريف لا أشقى بطاغية
من الرجال ولا لاه وختال
وعشت بالرطب من بقل وفاكهة
فيما ملكت وماء فيه سلسال
أطلت فيها اعتزال العالمين ولي
بكل ناحية همي وأشغالي
لقيت في عشرة الجهال عاطفة
لم ألقها من رجال غير جهال
يحذر قومه من مفاوضات سنة 1936
وعرج في هذه القصيدة بالمفاوضات التي كانت جارية وقتئذ بين مصر وبريطانيا وأسفرت عن معاهدة سنة 1936، فحذر قومه من مغبة هذه المفاوضات، قال:
ولم أزل بينهم للخصم متقيا
دخائلا هي في ذهني وفي بالي
أخشى على رسلهم نياته وهم
منه أمام جلاميد وأدغال
وما تزال كما كانت سياسته
يدور فيها بأشكال وألوان
وموضع الند أرجو عنده لهم
لا موضع الصيد من أنياب رئبال
وقد يكون لهم من ضيقهم فرج
كما تدافع أهوال بأهوال
وظل الكاشف في قريته وعزلته، وفيا لشعره ومبادئه، إلى أن أدركته الوفاة في 29 مايو سنة 1948.
محمد عبد المطلب
1870-1931
هو الشاعر البدوي البليغ، والمجاهد الوطني الصميم، محمد عبد المطلب، ولد سنة 1870 ببلدة «باصونة» من قرى مديرية جرجا لأبوين عربيين مصريين من سلالة قبيلة جهينة إحدى قبائل جزيرة العرب، وكان والده رجلا صالحا متفقها، فأرسل ابنه إلى الأزهر وتلقى فيه العلم نحو سبع سنين، ثم انتقل إلى «دار العلوم» ومكث بها أربع سنوات، وتخرج منها عالما أديبا، وتولى التدريس في مدارس الحكومة، واختير مدرسا بمدرسة «القضاء الشرعي»، ثم مدرسا في «دار العلوم»، ونضج علمه، واكتمل شعره وأدبه، فصار من فطاحل الشعراء الذين يشار إليهم بالبنان، ولما شبت ثورة سنة 1919 ساهم فيها بشعره وأدبه وجهاده، وخلد حوادثها بقصائده الغر، وكان حجة في الأدب واللغة، وشعره يجمع بين البلاغة والجزالة وروعة الأسلوب، وبلغ في مكانته الشعرية منزلة فطاحل الشعراء المتقدمين، وكانت الروح الوطنية الدفاقة تتجلى في معظم أشعاره وقصائده، وله في هذه الناحية إنتاج ضخم يصلح في ذاته أن يكون ديوانا مجتمعا من الشعر الوطني، وقد ظل على إنتاجه الشعري إلى أن أدركته الوفاة سنة 1931.
روحه الوطنية
إن أحسن وصف لروحه الوطنية ومساهمته في الجهاد وخاصة في ثورة سنة 1919 ما قاله في رثائه صديقه وزميله الشاعر محمد الهراوي؛ إذ يقول عن «جهاده الوطني»:
فذاك وإن جدت خطوب وأجلبت
فإنك للجلى وللحادث الجد
تخاطر والجند المدجج محدق
وتمضى وصوت «الموزريات» كالرعد
فتبكي وتستبكي العيون على الحمى
وتعدو على العادي عليه وتستعدي
وتخطب حتى تستشير وتنثني
وقد حميت آناف قومك من وقد
وما هالك الجند الذي كان محدقا
ونفسك من فرط الحمية في جند
نزلت عن النفس الكريمة فدية
إلى الوطن العاني كذلك من يفدي
مصر أثناء الحرب العالمية الأولى
1914-1918
قال من قصيدة له يصف ما عانته مصر أثناء الحرب العالمية الأولى، وينعى على الإنجليز بغيهم وعدوانهم وإعلانهم الحماية في ديسمبر سنة 1914، ويندد بفظائع السلطة العسكرية البريطانية في سني الحرب:
وعادت رياض النيل نارا جحيمها
يشب لغير الخائن المتملق
فكم سيد بين الغيابات حتفه
وآخر بالأصفاد والسوط مرهق
1
ترى أدمع النعمى بناعم جسمه
نجيع دم من جلده المتمزق
يقضي الليالي بين ظلم وظلمة
طريد الكرى في جوف أغبر مطبق
وتمسي نجي الحزن جارة بيته
سواد الدجى بالمدمع المترقرق
وفي حجرها لو أبصروا ذو تمائم
يكلمها بالعين من غير منطق
إذا فزعت في الخدر من هول ما ترى
فلا راحما تلقى ولا عطف مشفق
ودارة عز أوحشت من أنيسها
وما كان فيها من جلال ورونق
تحمل أهلوها على غير موعد
وبانوا على حكم الزمان المفرق
ينادي لسان الحال من شرفاتها «قفوا ودعونا قبل وشك التفرق»
ولم ينسها التوديع موقف شامت
يقلب في الغادين أجفان محنق
وما ملهم فيها ثواء وإنما
نجوا بالنوى من ظلم أرعن أحمق
يناديه فينا قائد الجيش
2
قومه
وما قادهم إلا إلى شر مأزق
تعسف بالأحكام غير موفق
وما ظالم في حكمه بموفق
فكم ساق من مصر إلى الموت فتية
زهاها الصبا في عنفوان وريق
3
جموع كآجال النعام تلفها
يد القهر للآجال من كل منعق
4
له عصب في غورها وصعيدها
تخير أبناء الشباب وتنتقي
5
ففي كل إقليم حجول مقيد
لغير عصي أو حبال مربق
6
وفي كل واد منهم سوط معجل
يهدد بالتنكيل كل معوق
ومن لم يسقه السوط والسيف ساقه
إلى حيث شاءوا جهد عيش مرمق
7
يوم إعلان الحماية
وقال عن إعلان الحماية في ديسمبر سنة 1914:
بلاء على القطرين أغطش ليله
ضحى يوم نحس بالخطوب مئوق
8
دجت يوم إعلان «الحماية» شمسه
فيا لك من يوم على مصر أورق
9
به لقحت سود الليالي فليته
قضى في بطون الغيب لم يتخلق
قضينا به يوم المدله بالأسى
وبتنا على ليل السليم المؤرق
10
عشية يدعو «مكسويل»
11
سراتها
لعيدين يوم الجمع يوم التفرق
يبوئ عرش النيل من شاء جانفا
12
فننشده والخطب بالخطب يلتقي «رويدك حتى تنظري عم تنجلي
غيابة هذا العارض المتألق»
فمن دون عرش النيل كل مدرب
كمي متى يرعد له الهول يبرق
بصير بأسباب الردى غرب سيفه
لبوس المنايا بين هام ومفرق
ثوت نفسه من بأسه في مجنة
13
متى يدن منها طائف الموت يصعق
نقض العهود والمواثيق
وقال يهاجم الإنجليز وينعى عليهم نقضهم للعهود والمواثيق:
فسائل بنا أعلاج «لندن» هل وفوا
بعهد لنا بين الأنام وموثق
لدى فتنة لم يغن عن مصر عندها
حمية حام أو تقية متقي
جرت عمما لم تبق أرضا أمينة
ولا بلدا بناؤها لم يحرق
ثلاثين عاما لا ترى مصر منهم
سوى صلف المستكبر المتعزق
14
ثلاثين عاما لم تشم برق راحة
ولا طيب مخضر من العيش غيدق
15
ثلاثين عاما بين يأس وحسرة
وهول زمان بالحوادث متأق
16
إذا ودعت «عاما» من الجور أبقعا
تفيء إلى عام من البؤس أبلق
ثلاثين عاما بالهوان تسومها
سفاهة غار في المكايد مغرق
يرى نفسه فوق القوانين بيننا
متى ما نذكره القوانين يحنق
يبيح غدا ما حرم اليوم بالهوى
لغير الهوى في حكمه لم يوفق
إلاهة جبار وإمرة خاطل
وتدبير أعمى في الحكومة أحمق
إذا ما شكوناهم عميدا فأمرنا
لأعلم منه بالنكاية أحذق «يقرب خوانا ويرفع جاهلا
ويسعد أشقاها ويشقى به التقي»
إذا ما مضى هذا أتى ذاك بعده
على النهج لم يعدل ولم يترفق
إفساد التعليم
وقال يذكر إفسادهم التعليم والدور المشئوم الذي قام به دنلوب في هذا الصدد:
وبالعلم سل «دنلوبهم»
17
لم لم يدع
ذواقا من العرفان للمتذوق
هو الجهل فينا حشدته لحكمة
يد الله تنكيلا بشعب مدوق
18
رمتنا به حمى أصابت بلاده
تطاير عنها كل فدم حبلق
19
فحل بنا فيمن تمرق منهم
فيا عجبا للسارب المتمرق
ولو وزنوا في غير مصر مقامه
لأرخصه في السوم كل مدنق
فأصبح داء في المعارف قاتلا
يسدد فيها كل سهم مفوق
فواها على تلك العقول التي ثوت
بكفيه في لحد من الجهل ضيق
ثلاثين عاما يسكب النيل حسرة
على العلم دمع الواله المتشوق
وما وردوا من عذبه غير لامع
من الآل في بيدائها متريق
ولولاه كانت مصر بالعلم روضة
تلألأ بالأنوار للمتأنق
أ«دنلوب» ما تلك المباني رفيعة
متى ما تسامق هامها النجم تسمق
وما العلم أن يعلو رتاج وقبة
على فدن بالأرجوان مزوق
أ«دنلوب» هل أرضيت قومك غاية
أم العير
20
إن يبعد به الشوط ينفق
ثورة سنة 1919
وله قصائد غراء في ثورة سنة 1919 أرخ فيها جهاد المصريين والمصريات وفظائع الإنجليز في قمع الثورة.
حضارة مصر ومجدها
قال من قصيدة له أنشدها سنة 1919 في الاحتفال بعيد النيروز يشيد بحضارة مصر ومجدها وفضلها على العالم:
فلا يا ابنة البيت الذي عند بابه
تخر ملوك العالمين إذا مروا
رويدك إنا في العلا يوم ننتمي
كلانا أبوه النيل أو أمه مصر
لنا ذروة المجد الذي تحت ظله
تناسلت الأحقاب واعتمل الدهر
لنا آية الأهرام يتلو قديمها
حديث الليالي فهي في فمها ذكر
ملأنا بها لوح الوجود مناقبا
إذا ما خلا عصر تلاه بها عصر
وللعلم من آثارنا في جبالنا
على الدهر آيات بها ينطق الصخر
وللملك منا كل أروع نظمت
على تاجه الأفلاك والأنجم الزهر
ومنا الذي ساق الأساطيل شرعا
على البحر يستحيي لصولتها البحر
إذا جهلوا «مينا» و«خوفو» و«كفرعا»
فليس «برمسيس» على ملكه نكر
وإن أنكروا ملك «ابن يعقوب» بيننا
ف «موسى» على ما أنكروا شاهد بر
لنا كل ما في الأرض من مدنية
بها تعمر الأمصار والبلد القفر •••
جزى الله مصرا ما جزى أهل نعمة
على الناس يعيا دونها العد والحصر
فكم كشفت من ظلمة «عين شمسها»
فما ثم سهل لا يضيء ولا وعر
لنا في الورى حق المعلم لو رعوا
لنا ذمة والدهر شيمته الغدر
فهل ينكر اليونان أنا هداتهم
إلى حكمة في العالمين بها بزوا
وهل نسي الرومان للنيل أنعما
بما ورثوا منها سما لهم الفخر
فنحن الألى قد أورثوا كل أمة
من الفضل ما يغنى به الحمد والشكر
إذا اعتز قوم بالجديد سمت بنا
مكارم في طي الزمان لها نشر
الوحدة بين العنصرين
وقال يشيد بالوحدة بين عنصري الأمة:
بنينا على آداب عيسى وأحمد
منازل عز دونها يقع النسر
فنحن على الإنجيل والذكر أمة
يؤيدها الإنجيل بالحق والذكر
لنا كل ما في مصر والحق قائم
تؤيده الآيات والحجج الغر
فلن يستطيع الدهر تفريق بيننا
وإن جر قوم بالسعاية ما جروا «كلانا على دين به هو مؤمن
ولكن خذلان البلاد هو الكفر»
إذا ما دعت مصر ابنها نهض ابنها
لنجدتها سيان مرقس أو عمرو
ترى ذكر مصر في الهياكل قربة
وفي صلوات المسلمين لها ذكر
فلا يحسبن الناس أنا تزلزلت
بنا قدم أو مس وحدتنا الضر
ألم ترنا في كل عيد وموسم
حليفي ولاء لا جفاء ولا هجر
إذا كان عيد الفطر فالكل مفطر
يهلل بالبشرى ويزهو به البشر
وإن جاء بالنيروز يوم تزاحمت
عليهم به الأفراح وانتعش القطر
فيا عيد أهل النيل عد أهلك المنى
تجلى منار الحق وانبلج الفجر
وصافح بشعبيك السعادة مقبلا
بمصر على الأفراح وليقل الشعر:
تلاقت أمانينا على غير غاية
وسارت بنا الآمال يقدمها النصر
ثورة الأمة سنة 1919
ومن قصيدة أخرى أنشدها في حفلة لعقائل السيدات في مسرح برنتانيا سنة 1919:
مصر أمي فداء أمي حياتي
سلمت أمنا من العاديات
21
يا رياح الحياة في مصر هبي
روحينا بطيب ريا الحياة
يا سماء الحياة في مصر جودي
أنفسا فوق نيلها صاديات
22
ما لأم الأمصار حملها الده
ر صنوف الآلام والموجعات؟
ما رعى ذمة لها يوم كانت
زينة في عصوره الخاليات
إن تناست قديم مصر ليال
أنكرت صالحاتها الباقيات
فاسألوهن عن حديث حديث
لبنيها عدوه في المعجزات
دهش الناس يوم قيل صحت مص
ر وكانت في غفلة وسبات
إذ لقينا الخطوب وهي شداد
فتولت جموعها مدبرات
وركبنا متن الزمان ذلولا
فمضينا لغاية الغايات
بين شيب بالحزم تحدو شبابا
صادقي العزم ثاقبي النظرات
دور المرأة في الثورة
وقال يشيد بدور المرأة في الثورة:
وغوان سمعن داعي مصر
بين تلك القصور والغرفات
أفزعتهن حادثات الليالي
في بنيهن بالردى راميات
فترامين من وراء خدور
كن فيها البدور مختدرات
23
سافرات ولسن أهل سفور
حاسرات من شدة الحسرات
وكتبن الوفاء للنيل عهدا
في قلوب بحبه داميات
وتواصين لا يضيعن دينا
أو يعطلن سنة المؤمنات
إيه لله سعيكن جميلا
يا بنات الأنجاب والمنجبات
ظلموا النيل يوم عدوا بنات الن
يل جهلا في زمرة الجاهلات
زعموهن بالحجاب عن العل
م ونور العرفان محتجبات
بنت مصر كالشمس يحجبها اللي
ل وراء الآفاق والظلمات
وهي في أفقها ضياء ونور
ساطع في بدورها النيرات
أو هي المسك ينفذ العرف عنه
من وراء الأستار والحجرات
عرفت كيف يكبر المرء طفلا
كيف يقفو أباه في المكرمات
أبصرت منبت المحامد فيه
فتولته بالتقى والأناة
وغذته المجد الذي ورثته
عن كرام الآباء والأمهات
يا ابنة النيل أنت للنيل ذخر
خالد في آثاره الخالدات
وثبة مصر
ومن قصيدة له سنة 1920 يصف وثبة مصر:
تكلم وادي النيل فليسمع الدهر
وأملى على الأيام فليكتب الشعر!
فحسب العوادي نهمة النيل زاجرا
وحسب الليالي أن يقال صحت مصر
24
صحت بعدما أزرى بها الصبر والأنى
25
ويا ربما أذرى بصاحبه الصبر
لعمرك ما صبر الأبي مهانة
ولكن صمت الليث يعقبه الزأر
فلا تحسبوا أنا ونينا عن العلا
ولا زهدت فينا مناقبنا الغر
ولا أنكرتنا شمس جيل ولا انطوى
لنا علم بين الدهور ولا ذكر
وفي الناس من شابت قرون «وأعصر»
وهم في بطون الغيب عرفانهم نكر
وهل مصر إلا آية أزلية
مقدسة والنيل في لوحها سطر
تفلقت الأجيال حول وجودنا
ونحن الجبال الشم والزهر النضر
لئن كان ماضينا فخارا فإنما
بحاضرنا تعلو المحامد والفخر
وقفنا لريب الدهر حتى تغللت
مضاربه وانشق عن ليله الفجر
حرام علينا أن نعيش أذلة
وذو الذل أولى ما يكون به القبر!
فظائع الإنجليز في قمع الثورة
وقال حين اشتد عدوان الإنجليز في قمع الثورة سنة 1919 وفتكوا في طريقهم ببعض القرى كالعزيزية والبدرشين:
يا مصر ما بال الأسى لك حالا
لو أن مفجوعا يرد سؤالا
ظلم الزمان بني في أحداثه
وعدا عليهم بالخطوب وصالا
يا ناشري علم السلام ألم تروا
للسلم في أرجاء مصر مجالا؟
ما العدل؟ ما حرية الأمم التي
سارت رسائلكم بها أرسالا؟
ما عهد «ولسن»
26
أين ولسن هل درى
أنا بمصر نكابد الأهوالا؟
أمن العدالة عنده أن يبتلى
شعب يريد بأرضه استقلالا؟
سفراء «ولسن» هل لكم أن تبلغوا
عن مصر صوتا بالشكاة تعالى؟
صرخات أهل النيل من أحلافكم
طار الزمان لوقعها إجفالا
أضحت شعوب الأرض في بحبوحة
يتفيئون من السلام ظلالا
وهم أحق العالمين بورده
صفوا وشرب رحيقه سلسالا
لكنهم سيموا الردى فتواردوا
شرع
27
المنايا مسرعين عجالا
تعسوا بحكم الإنجليز وطالما اع
تمدوا عليه وخادعوا الآمالا
ما بال أبناء الحضارة أوغلوا
في أرض مصر نكاية ونكالا
وثبوا على القطرين وثبة قاهر
هتك الستور ومزق الأوصالا
نزلوا بأرض النيل منزل غادر
نصب الخداع حبائلا وحبالا
حلفوا لأهل الأرض حلفة فاجر
لبس المسوح مرائيا محتالا
أن يبسطوا ظل الحضارة فوقه
ويعلموا من أهله الجهالا
حتى إذا ملكوا أزمة أمره
ساموا بنيه الضيم والإذلالا
واستنزفوا ثمرات مصر كأنما
خلقت لهم ثمراتها أنفالا
فإذا بدا وجه الخداع وأشرقت
شمس العدالة في الورى تتلالا
نغضوا
28
رءوسهم لغيلة أمة
خلقت تعاف الغادر المغتالا
شجاعة المصريات في الثورة
وقال في هذه القصيدة يصف شجاعة النساء المصريات في مقاومة الإنجليز:
تلك العقائل يرتمين مع الظبا
مستقبلات للردى استقبالا
تغضي عيون بني البلاد مهابة
من حولهن وتنحني إجلالا
وأرى ابن لندن نحوهن مصوبا
بيض الظبا متوثبا مجتالا
يا ابن اللكيعة
29
إنهن عقائل
يفدين من فتكاتك الأنجالا
يا ابن اللكيعة إنهن عقائل
يسألن حقا لا يردن قتالا
يا ابن اللكيعة ما حملن صوارما
لبني أبيك ولا دعون نزالا
أبناؤهن إذا الأصول تقارعت
كانوا الكرام وكنتم الأنذالا
يا ابن اللكيعة تلك سبتك التي
صدع المقطم خزيها فأمالا
وا رحمتاه لقرية مفجوعة
والليل يرخي فوقها أسدالا
محزونة خبأ القضاء لأهلها
تحت الظلام وقيعة ونكالا
من غادة غال البغاة عفافها
فبكى الحجاب عفافها المغتالا
ومصونة في الخدر طار بلبها
صيحات كلب في الحظيرة جالا
ماذا أرى؟ جن أحاط بمضجعي
أم تلك أحلام تمر خيالا؟
ما هذه الجلبات؟ لا أدري لها
معنى ولست أعي لهن مقالا
أنا لست نائمة وهذي جنة
30
تدنو كأعجاز النخيل طوالا
ويلاه! ما لأبي علي نائما؟
والبيت من وقع الحوافر زالا
أعلي ناد أباك، لا، أنا خائف
يا أم لا تتكلمي؟ لا لا لا
هذي جنود الإنجليز رأيتها
ب «البدرشين» تقتل الأطفالا
صاحوا بصحن البيت صيحة فاتك
عات يرى النفس الحرام جلالا
فإذا متاع البيت ينهب بينهم
وقد استحلوا نهبه استحلالا
ولرب دار بالقنابل أصبحت
قبرا تضمن نسوة وعيالا
وأب تحيط به هنالك صبية
تبكي عليه وتكثر الإعوالا
ظلما تشول به القنابل فهو في
جو السماء مع القشاعم شالا
31
يا رب إن الإنجليز تعمدوا
إرهاق مصر سفاهة وضلالا
يا رب مصر بك استجار ضعيفها
في عبرة تذري الدموع سجالا
فأذق عدوك سوء ما مكروا به
واجعل عواقبه عليه وبالا
يخاطب مؤتمر الصلح بباريس سنة 1919
ومن قصيدة له أنشأها حين اعتقل سعد زغلول لأول مرة في أوائل سنة 1919، يذكر الثورة ويعاتب مؤتمر الصلح في إهماله مطالب مصر:
يا دماء الشباب تجري على الأر
ض جسادا
32
به ثرى مصر يطلى
ما لباريس لا ترى أهل مصر
بين أهل السلام للعدل أهلا؟
كل شعب له بمؤتمر الصل
ح نصير من البعوث ومولى
ليت شعري فهل أتاه كتاب
أو تلقى من جانب النيل رسلا؟
أو درى أننا نراد اختلاسا
في بياض النهار والشمس تجلى
سفراء الملوك ضجة مصر
حولكم من زمازم
33
الرعد أعلى
كم رفعنا إليكم في شكاة
حجة كالصباح أو هي أجلى
وسألناكم البلاغ فلم نس
مع جوابا يرد في الغمد نصلا
إن للنيل ذمة وعهودا
هي دين عليكم ليس يبلى
لو حقنتم تلك الدماء اللواتي
أهرقتها بنادق القوم سيلا
كان سهلا عليكم أن تصونوا
أنفسا وردها الردى كان سهلا
يندد بفظائع الإنجليز في إخماد الثورة
وقال في هذه القصيدة موجها حديثه إلى المارشال أللنبي الذي عهدت إليه بريطانيا قمع الثورة:
أيها القائد المدل علينا
قاتل الله من علينا أدلا
صلف بين أهل مصر وعجب
كان هذا بأرض «بلجيك»
34
أولى
صلف جد في مواطن هزل
فإذا جد جدها عاد هزلا
علم الناس أن مصر بلاد
لم تكن للحروب والسيف قبلا
منعتها الأيام حمل المواضي
35
وهي زين السيوف هزا وحملا
فلم الكبرياء بين أناس
تركتهم حوادث الدهر عزلا؟
أيها القائد الذي حير السي
ف بدار الأمان شيما
36
وسلا
علم الخيل كيف تختال في غي
ر بلاد لم تجر للحرب خيلا
إنما يحمد المخيلة
37
يوم
أشرف الموت فوقه أو أطلا
ما لمصر تجزى جزاء سنما
ر لديكم وبالدنية تبلى
وأراكم لولا بنوها سقيتم
من حياض المنون علا ونهلا
سائلوا الشام هل بغير بنينا
جبتم الوعر من فلسطين سهلا
أو مددتم بغير أبناء مصر
في بلاد العراق للفوز حبلا
إبل مصر وأتنها
38
تعرف الفض
ل عليكم لا تنكر العجم فضلا «لو درى النيل ما سيلقى بنوه
حرم الأرض غيرة أن تغلا»
كم ظفرتم منه بما عجز «التا
ميز» عنه وناء بالعبء حملا
كل عام تجبى إليه حبوب
تفضخ الجاريات وزنا وكيلا
39
وقناطير من نضار يوافي
كم بها القطن كل عام أهلا
نعم لو أردتموهن شكرا
ما وفيتم منها القليل الأقلا
ما جهلتم لمصر فيها صنيعا
إن تقولوا قد ينكر الفضل جهلا
أنسيتم لمصر ما منحتكم
من هبات ما جاوزت بعد حولا
أم نسيتم أبناءها يفتك المو
ت بهم في الوغى وباء وقتلا
وختمها بقوله:
معشر الإنجليز مصر لأهلي
ها ومن ظن غير ذلك ضلا
معشر الإنجليز مصر استقلت
وجدير بالنيل أن يستقلا
يخاطب مؤتمر الصلح أيضا وينادي بالاستمرار في الكفاح
ومن قصيدة أخرى له سنة 1919 يخاطب مؤتمر الصلح بباريس، وينذر بالاستمرار في الكفاح إذا لم تجب مطالب مصر:
أباريس إن كانت لضيف كرامة
لديك فضيف النيل أبلغ من يثني
أباريس إن تدني العدالة وافدا
عليك فأهل النيل أكرم من تدني
أباريس كم للنيل عندك من يد
تناقلها التاريخ قرنا إلى قرن
ومن شكرها أن تعرفوا حق أهله
وألا تسوموا «وفده» صفقة الغبن
حرام عليكم أن يراق له دم
حرام وأنتم قادرون على الحقن
فيا أمراء الغرب دعوة مسمع
يصرح في رفع الشكاة ولا يكني
سلوا حلفكم عما جرى في ديارنا
وما جرحوا مما يشين وما يضني
وما هذه الغارات يعلو صريخها
مؤججة هذي تروع وذي تفني
وما هذه الأجساد في كل بلدة
مصرعة فوق التراب بلا دفن
إذا طفح الخزان من دم أهله
فثم دم في الثغر يربي على الخزن
نرى الحرب فيما بينكم جف عودها
فما بالها في مصر ناضرة الغصن؟
على غير ما ذنب جنينا فما لنا
نسام الدنايا لم نحارب ولم نجن
فيا عجبا شعب يساق بأرضه
أسيرا إلى دار المذلة والسجن •••
ملوك الورى لن يترك النيل حقه
ولو مزقونا بالمثقفة اللدن
40
ملوك الورى لن يترك النيل حقه
ولو طحنوه بالمقذفة الدكن
41
ظننا بهم خيرا من الدهر حقبة
فكانت قصارانا بهم خيبة الظن
صبرنا وأشهدنا الأنام عليهم
إلى أن رمونا بالمهانة والجبن
ثلاثين عاما بعدها سبعة خلت
طوال الليالي السود حالكة الدجن
عواصف بأس ينشد النيل تحتها
نقمت الرضا حتى على ضاحك المزن
سقونا بها مرا من العيش آجنا
ويا ليتهم لم يرهقوا الناس بالمن
فإن تنصفوا أبناء مصر فمنة
لكم أبدا نثني عليها بما نثني
وإلا رددناها عليهم كريهة
وللدهر شأن لا يقاس على شأن
رثاؤه لمحمد فريد
ولما جاء نعي الزعيم محمد فريد في منفاه (نوفمبر 1919) - وكانت مصر في إبان الثورة - رثاه بقصيدة مؤثرة تفيض وطنية وبلاغة، قال:
سلوا جفن عيني ما له بات ينزف
وعهدي به إن سمته الدمع يأنف
ويا رب هم يملك النفس بالأسى
ويعدو على العين الجمود فتذرف
وما أنا! ما دمعي! وفي مصر أنة
بها الطير نوح والغمائم وكف
42
بكين غريبا طوح البين داره
فلا العود مأمول ولا الدار تعرف •••
وما أنكرت مصر ابنها فنبت به
ولكنه دهر على الحر يجنف
43
ثوى غربة بعد المعاد قرارها
فيا طول ما يستشرف المتشوف
وكنا حسبنا شقة البين تنطوي
فيأوي إلى مرباعه المتصيف
44
وأطمعنا في الملتقى لمع بارق
من السلم في ليل الحوادث يخطف
فلم نر سلما ينتهي النأي عندها
بناء ولا حتم الردى يتخلف •••
بعيني من نادى مناديه للنوى
فودع لا يأنى ولا يتوقف
يدافع آلاما تياسرن قلبه
لها حرق تدمي القلوب فتنطف
ففي قلبه مما دهى النيل زفرة
يكاد لها من تحته البحر ينشف
وفي عينه من لوعة البين عبرة
يكفكفها كبرا فلا تتكفكف
وفي نفسه عتبى على البلد الذي
قسا أهله جهلا عليه وأجنفوا
برمت بنا يا مصر لا عن جناية
يعني عليها جارم أو يعنف
وكيف تناست مصر حسن بلائنا
إذ الدهر ألوى والحوادث تعصف
مواقفنا يا أم فيك شهودها
تؤيدنا يوم العتاب وتنصف
رويدك نفسا أنكرت فعل قومها
بذي حدب يقسى عليه فيرأف
على رغم قومي ما لقيت وإنما
هو الدهر في أحكامه يتعسف •••
سلام على قومي وداعا بني أبي
وللنيل ما ألقى وما أتكلف
ويا موقف التوديع هل تسعد المنى
فيجمعنا يوم بمصر وموقف
أخاف المنايا أن يكن رواصدا
وما لي من أسبابها أتخوف
تحدثني طير جرين بوارحا
بأن المطايا بي إلى الموت تزحف
ويحزنني ورد المنايا ولم تزل
بلادي تحبو في الإسار وترسف
حرام علينا أرضها وسماؤها
ألية
45
من لا يمتري حين يحلف
ويا فلك باسم الله مجراك أقلعي
فإما الردى أو ينصف النيل منصف
فما كان إلا أن طوى البحر والثرى
وحجبه ستر من الغيب مسجف
46
فدون تلاقينا ليال وأشهر
وبين ديارينا جبال وصفصف
47 •••
هنالك ألقى في بني الغرب رحله
على همة من همها الدهر يكلف
بعيد المرامي لا تهد صفاته
عواد إذا صبت على «الألب»
48
تحرف
تقذفه في زاخر اليأس همة
جدير بها الليث الهصور المقذف «وهيهات أن يخشى أخو الحق قوة
سوى الحق أو يعنو لبأس فيضعف»
ثوى في بلاد الغرب بالنيل عاتبا
وفي الغرب للعاني مراد ومألف
يصرف أحداث الليالي غواشما
وأنيابها من شدة البأس تصرف
فطورا تراه في «جنيف» لباسه
على القر أسمال به يتلفف
إذا صفرت من ذات دنياه كفه
تجلد لا يشكو ولا يتأفف
ويأوي إلى بيت وطيء عماده
وفي مصر يبكيه البناء المطنف
ويكنفه من فتية النيل أنجم
بهم نعتلي هام الفخار ونشرف
إذا احتدمت للبأس نار فعلهم
49
على البأس ماض ذو غرارين مرهف
وإن ذكر المجد القديم فإنما
بذكرهم تلهو القيان وتعزف
إذا ما انتمى قوم لدنيا جدودهم
نمتهم لعلياها معد وخندف
50
وإن ذكروا أبناء فرعون رجعت
مناقبهم ورق من الفخر هتف •••
فيا مسمع الأحرار من كل أمة
منى قومه والحر للحر ينصف
لقد فجع «الفسطاط» فيك وأهله
من الغرب ناع قام باسمك يهتف
لقد فجعونا فيك يوم تتابعت
رسائلهم بالموجعات وأرجفوا
فيا ويح يوم قال فيه غريبها
على فرش البلوى ببرلين مدنف
بروحي إذ جاء الأطباء خشعا
وقاموا بأكناف السرير وطوفوا
يعلله بالقول منهم مبشر
وتبكي له منهم قلوب وترجف
تجوفه الداء العضال وهل نجا
من الموت مضنى داؤه يتجوف
قضى الله أن يسقى «فريد» بأرضنا
كئوسا بالاستسقاء للنفس تخطف
يعز على «برلين» أن يغلب الردى
عليك بنيها والردى ليس يصرف
أطباءه لو يستطيع فداءه
بنو مصر غالوا في الفداء وأسرفوا
قليل عليه لو يفديه قومه
بما جمعوا من تالد أو تطرفوا
فليت الليالي سالمت فيه أمة
براها الأسى من بعده والتلهف
عرفنا له بر الوفي بعهدها
إذا خان قوم عهد مصر فلم يفوا
أفاض عليها نفسه بعد ماله
ومال بهم عنها متاع وزخرف
ولولا رجال مؤمنون نجوا بها
لراحت بها ريح من الغدر زفزف
51
يندد بالفرقة والانقسام، ويدعو إلى الوحدة
وحين حدث الانشقاق في الوفد سنة 1921 وقام الخلاف بين سعد وعدلي، وانقسمت الأمة تبعا لذلك، نظم قصيدة يندد فيها بالفرقة والانقسام، ويدعو إلى توحيد الصفوف، قال فيها:
كنا أشقاء الإخاء فما لنا
صرنا بني العلات والأخياف؟
52
بالأمس كان إخاؤنا مثلا وكنا
زينة الخلطاء والألاف
كنا إمام المشرقين سبيلنا
قصد ومشرعنا نمير صافي
يترسمون على الحياة طريقنا
للحق في الإيضاع والإيجاف
فإذا بنا جارت هوادي ركبنا
عن منهج الآباء والأسلاف
عبثت بوحدتنا الخطوب وأعملت
في غرس أيدينا يد الإتلاف
والخصم يحجل بيننا للشر في
ثوبين ثوب موافق ومنافي
متنمر يغري العداوة بيننا
بالكيد والتفريق والإرجاف
أوليس فيما قد مضى من عبرة
لبني أبي والأمر ليس بخافي؟
أولم يروا أو يسمعوا نذر الردى
تطوي إلينا لجة الرجاف
53
هذي تلوح من بعيد وتلك تر
مينا به في لهجة الأجلاف
54
جعلوا صحافتهم مظاهر كيدهم
فتزاورت جنفا عن الإنصاف
صحف يضيع الحق في ألوانها
صورا يزيد بها على الآلاف
الحق فيها كل ما شاء الهوى
حكم نؤيده بلا استئناف
فليعتبر قومي كفى ما قد جرى
من ذات خلف بيننا وتنافي
لا توجعوا تلك القلوب فحسبها
جام أصاب من الزمان الجافي
عشر كوامل في الخلاف فهل بها
من ذلك الداء المبرح شافي
شربت من الأيام كل مرنق
من كل مر بالخطوب زعاف
أبني أبي ردوا القلوب إلى الهدى
وتنبهوا فالدهر ليس بغافي
الوفد منا والحكومة بعضنا
هذا أخو هذا بغير خلاف
والشر غايته البوار ومن أبى
فالله للشعب المروع كافي
أحمد زكي أبو شادي
ولد سنة 1892
هو الشاعر المجدد، والأديب الحر المفكر، الدكتور أحمد زكي أبو شادي.
ولد سنة 1892 بالقاهرة، من أسرة عريقة في الوطنية، وأبوه المرحوم محمد أبو شادي أحد كبار المحامين الذين نالوا المكانة الرفيعة في عالم المحاماة وممن جاهدوا في الحركة الوطنية، ووالدته السيدة أمينة نجيب من السيدات الأديبات الشاعرات، وكان أخوها المرحوم مصطفى نجيب
1
أديبا وطنيا وصديقا ونصيرا للمرحوم مصطفى كامل.
أتم دراسته الابتدائية ثم الثانوية في المدارس المصرية، وظهرت مواهبه الشعرية والأدبية في هذه المرحلة من الدراسة، وكان من تلاميذ مصطفى كامل في الوطنية، ودخل كلية الطب بالقاهرة، ولم تصرفه الدراسات الطبية والعلمية عن الاستمرار في دراساته الأدبية؛ فأحب الشعر وتذوقه، وأقبل على نظمه وهو في هذه السن المبكرة، وشعره رقيق ممتع، يمجد الوطنية وينزع إلى الحرية والتجديد والخروج على الأساليب القديمة، واحتفظ بهذا الطابع على تعاقب السنين، وأكمل دراسته الطبية في إنجلترا، وتعمق في الآداب الإنجليزية إلى جانب دراسته من قبل للآداب العربية، وازداد تعلقا بالتجديد في الأدب والشعر، ولما عاد إلى مصر تنقل في مناصب الحكومة وصار أستاذا للبكترولوجيا بكلية الطب بجامعة الإسكندرية ومديرا للمعمل البكترولوجي بالمستشفى الحكومي بها.
كان ولا يزال يصدر في شعره عن إلهامه وعقيدته وإيمانه، وفي ذلك يقول عن نفسه:
وهل كان شعري غير إيمان مهجتي
وعشقي وإحساسي ولحني المردد
وكون مدرسة أدبية تزعمها، ترمي إلى الثورة على القديم والدعوة إلى الحرية في الفكر والأدب والفن، وكان لهذه المدرسة مجلة أدبية تسمى مجلة «أبولو» الشعرية الأدبية، أصدرها أبو شادي في القاهرة سنة 1932، وكانت لأنصار الجديد من الشعراء والأدباء، وتكاد تكون المجلة الشعرية الوحيدة التي ظهرت في العالم العربي، وقد استمرت نحو ثلاث سنوات ثم احتجبت.
وقد صادف أبو شادي في حياته الحكومية والأدبية عنتا وأذى من رؤسائه وأنداده، واستهدف من أجل نزعته الحرة لشتى ضروب المناوأة؛ فاعتزم الهجرة من مصر، وهاجر فعلا إلى نيويورك في سنة 1946، وهناك رحبت به الدوائر الأدبية والعلمية ترحيبا عظيما، وأخذ ينشر في الصحف والمجلات العربية والأفرنجية في أمريكا ثمار أدبه وشعره، ونفحات آرائه وأفكاره، كما أخذ يذيع من «صوت أمريكا» مرتين في الأسبوع، وأسس في نيويورك «رابطة مينرفا» الشعرية الأدبية على غرار «جمعية أبولو»، وقدرته الحكومة الأمريكية والجامعات والمعاهد والمؤسسات الثقافية في العالم الجديد، وانتخب أستاذا للأدب العربي بمعهد آسيا بنيويورك، وهو يتولاه إلى اليوم بجدارة تفخر بها مصر، ويعد أبو شادي رائدا من رواد النهضة الأدبية والفكرية الحديثة، وهو رغم هجرته إلى العالم الجديد دائم الصلة بوطنه بواسطة الصحافة في أمريكا وفي مصر، وبواسطة مريديه وتلاميذه الممتازين الذين اقتبسوا من روحه التقدمية وتعلقه بالحرية وإيمانه بما يقول ويكتب.
وهو في أحاديثه ومحاضراته لا يفتأ يذكر مصر ويناضل عنها ويحن إليها ويشيد بها وبعلمائها وأدبائها وكتابها وتاريخها، وهو في غربته خير سفير أدبي لمصر في العالم الجديد.
وله عدة دواوين من الشعر نحا فيها منحى التجديد والابتكار، وحلق في سماء الفن والخيال والسمو الفكري.
نذكر منها ديوان «أنداء الفجر» وهو أول دواوينه ومختارات من نظمه سنة 1910، و«أنين ورنين» وهو صور من شعر الشباب، و«الشفق الباكي» وقد ظهر سنة 1924، و«الينبوع»، و«أشعة وظلال» وقد نشر سنة 1931، و«أطياف الربيع» و«فوق العباب» وقد طبع سنة 1935، و«عودة الراعي» وقد ظهر سنة 1942.
ومن آخر دواوينه «من السماء» وقد ظهر في نيويورك سنة 1949، ويضم معظم شعره من سنة 1941 إلى 1949.
هذا عدا ما أخرجه من الكتب والمؤلفات والقصص والمسرحيات.
رثاؤه لمصطفى كامل
قال من قصيدة له في فبراير سنة 1908، وكان لا يزال طالبا بالمدرسة الثانوية، يرثي مصطفى كامل:
يا مصر حلق طير اليأس في أفق
داج بأحزان شعب كان ساليها
مات الرئيس فماتت بعده همم
قد كان نبراس فكر منه يجليها
إلى أن قال:
سارت به أمة أحيا مداركها
حتى إلى القبر وارت فيه حاميها
ودت لو ان صروف الدهر تأتيها
وتلكم النفس هذا الشعب يفديها
والكل يلبس ثوبا للحداد أسى
على الفقيد وما من مات يهديها
أبصارها نكست من فوقها كتبت
عبارة كان صدق الحس يمليها
مصر الفتاة مرور العمر تذكره
لروحه لم تزل تعدو أمانيها
مفخرة رشيد
وله في سنة 1925 قصيدة وطنية من نيف وستين بيتا، نظمها تمجيدا لذكرى معركة رشيد التي وقعت يوم 31 مارس سنة 1807 بين المصريين والإنجليز، وفاز فيها أبطال رشيد على الجيش البريطاني الذي زحف على مدينتهم يريد احتلالها، فصمدوا له وقابلوه في الشوارع واستبسلوا في الدفاع عن مدينتهم حتى صدوه عنها وهزموه، وارتد عن المدينة بعد أن فقد في المعركة 170 قتيلا و250 جريحا و120 أسيرا،
2
وكانت هذه المعركة حقا مفخرة لرشيد، أشاد أبو شادي أيضا في قصيدته بالمعركة الثانية التي وقعت في «الحماد»، وانتهت كذلك بهزيمة الجيش البريطاني.
قال:
روحينا بأحاديث الجلال
وبنفح من هواهم غير بال
واسمحي يا «مصر» أن نزجي لهم
منتهى فخر رجال برجال
ما عرفنا قدرنا إن لم نحز
سيرة منهم تغذينا بحال
وبآمال لآت غالب
إن آتي المجد من ماضي الخيال
خاطئ من ظن ماضيه بلا
مرشد يهدي إلى غالي المآل
ما نما شعب بلا جهد مضى
وتبقى فيه تذكار الفعال
هي أحلام وأعمال بنت
في سنين وسنين كل غالي
هو مهد ولدت فيه العلا
بأناة وكفاح ونوال
لم تجئ طفرة جيل لاعب
إنما جاءت على طول الليالي
كابر عن كابر قد صانها
بمراعاة وأخلاق المعالي
إلى أن قال محييا ذكرى أبطال رشيد الذين صدوا جيش الغزاة المستعمرين:
روحينا «مصر» من ذكراهم
تلك ذكرى عن بلوغ لمحال!
بلغينا كيف أودى عزمهم
بصعاب قمن أقسى من جبال!
كيف هزوا قوة أكبرها
عالم القوة والحرب الضلال!
كيف ضحوا للرمال دمهم
في دفاع العز عن تلك الرمال!
كيف أفنوا من جنود صوبت
نحوهم أقوى معدات القتال!
كيف كيف استبسلوا في واجب
وأقاموا الملك وضاء الخلال؟! •••
يا «رشيد» الذكر حي خالد
لعظيم الجهد معدوم المثال
أنت ثغر ناطق في رسمه
حرمة الماضين ل «النيل» الزلال
إلى أن قال:
مثل ما أذكى لها شبانها
فتحدوا خصمهم قبل السؤال
كالجراد نشرهم فيك على
ربوات يرقبون وتلال
فإذا العادون جاءوا ما بهم
ثقة إلا وضاعت في ملال
وأتت فرقتهم في نشوة
عنك فارتدت خيالا في خيال!
3
بين قتلى وحيارى هربوا
وضحايا لإسار وعقال
ثم جاءوا في خميس لجب
وعواد لم تكن جالت ببال
4
من متاريس كفت رؤيتها
لحساب وعقاب ونكال!
وعديد بين باغي مدفع
أسود الوجه وإمداد موال!
وأبوا إلا حصارا هائلا
فدفعت الحصر دفعا بالعوالي!
وغنمت كل ما كان لهم
من شموخ وإباء قبل مال
رحلوا رحلة جان ضائع
بئس يوم الخسر من يوم ارتحال! •••
هكذا بالبأس تحيا أمة
لا بخوف أو غلو أو خبال
هكذا بالوحدة الحسناء لا
يعدم الإصباح أبناء الهلال
إن شعبا يتحدى «انجلترا»
في مجال الحق شعب لا ينال
وبنين ينشدون مثل ما
أحسن الآباء أولى باكتمال
إنما الأمة من أفرادها
في ثبات ووفاء ونزال
إلى أن قال:
إيه قومي قمت فيكم ذاكرا «نافرين» الأمس في مشجى المقال
وأنا اليوم طروب ذاكر
درة التاريخ شعت كاللآلي
فلنا كلتاهما عنوان ما
يحفظ التاريخ من غال وحال
أي مصري درى ما لقنا
من عظات ثم أضحى وهو سالي؟
أي جمع من خصال حرة
لم تكرم جمع هاتيك الخصال؟
أي شعب في جلال وسنى
يدعي أنا عبيد وموالي؟
كلنا فرد له أمته
حظه بل قصده في كل حال
لا سبات - هان أم طال بنا -
ما يؤدي بعلانا لانحلال
في طلاب المجد أن تمضي بنا
فترة للهو أو دور انتقال
خاب من ظن الرقاد ميتة
كم أسود رقدت تحت الظلال! •••
آن رجع الجهد قومي فانفضوا
سنة اللهو وهيا للمجال!
بسلاح العلم قبل السيف قد
صارت الحرب أعاجيب اشتغال
رب خيط من نسيج القطن لا
يبلغ المدفع منه كفعال
عالم فيه الفنون قوة
والصناعات وليست للجدال
عمل مستتبع لا ينقضي
لاقتصاد وانتفاع واشتمال •••
أمتي! أحلى دعائي دعوة
لك من قلبي بها أسمى ابتهالي؟
رثاؤه لفريد
قال سنة 1919 من قصيدة له في رثاء محمد فريد:
سلوا «برلين» عمن حل فيها
يفتت كبده المرض العنيد
مضى يستوهب الأيام عمرا
تتم به المساعي والجهود
فلم يذهب بعلته طبيب
ولم يكتب له عمر جديد
وخر على السرير وحب مصر
على تبريح علته يزيد
فيا لهفي عليك وأنت كهل
غريب عن أحبته بعيد
تموت فلا ترى مثواك أم
ولا أخت ولا زوج ودود
ولا يروي ثراك أخ شقيق
بدمعته ولا طفل وليد
الحياة كفاح
قال سنة 1933 من قصيدة له عن «المجاهد الجريح» يصف الحياة وكأنها كفاح وجهاد:
شهدت من الدنيا المعارك والمنى
تشوق الفتى نحو المعارك والخطب
فصرت كجندي جريح مضمد
يئن ولكن كم يحن إلى الحرب
ويهرب من حكم الحجا في وثوبه
إلى ساحة الهيجاء والموقف الصعب
توالت جراحاتي وأوذيت دائما
وهيهات ألقي من سلاحي ومن دأبي
يدعو الشعب إلى مجاهدة الفساد
وقال من قصيدة له في ديوانه «عودة الراعي» سنة 1942:
يا شعب قم وانشد حقو
قك فالخنوع هو الممات «تشكو الغريب وعلة الش
كوى الزعامات الموات»
قد عمت الفوضى وقد
دب الفساد بكل شي
فإذا سكنت فلن تعد
ولن يفي لك أي حي •••
ما دمت تقبل أن تك
ن من الضحايا كالعبيد
سيسومك القوام وال
أسياد ألوان القيود •••
يا شعب كيف تطالب ال
غرباء بالبر السخي
وتطيق ملكك في محا
باة وفي نهب وغي •••
هيهات يعطى الحق من
ألف التهاون في الحقوق
هذا هو العدل الصحي
ح وغيره عين المروق •••
انهض وحاكم بائعي
ك إلى الهوى وإلى الفساد
أو مت ذليلا لا يقا
س بذله حتى الجماد
يودع مصر
وقال يودع مصر ويذكر أسباب هجرته في قصيدة له عنوانها «لم ارتحلت؟»:
سألوني لم ارتحلت؟ كأني
لم أجبهم بسيرتي نصف قرن
شاديا بالطليق من شعري البا
كي أغني لمجدهم ما أغني
وحياتي لعزهم في كفاح
ككفاح الشعاع في وسط دجن
مثل لن تحد نوعا وعدا
كنجوم السماء في كل فن
وتبلغت بالعذاب وبالبؤ
س مرارا وكل حظي التجني
وكأني وحدي المسيء بإحسا
ني لعصري أو أنه لم يسعني
ما كفاهم أني أعاني وجودي
في وجود بقاؤه محض غبن
ما كفاهم أني أواصل ليلي
بنهاري لأجلهم وسط من
ما كفاهم أني أضحي بروحي
حينما عز من يضحي ويفني
ما كفاهم أني تناسيت نفسي
فوق نسيانهم حقوقي وأمني
ما كفاهم أني لهم ذلك الرا
ئد يشقى كالراح في أسر دن
ما كفاهم أني ارتضيت شقائي
لي جزاء ويهدمون وأبني
ما كفاهم هذا وهذا فنادوا
بعقوقي وما رعوا حق سني
ثم حالوا بين المثالية العل
يا لفكري وبين شعبي وبيني
فترحلت حيث تحترم الأح
رار حيث الهواء طلق لذهني
وأظل الوفي رغم اغترابي
لبلادي ما غيبت قط عني
القلب الباكي
ومن قصيدة له نظمها في عيد ميلاده عام 1948 يناجي فيها الوطن قائلا:
يا مصر لولاك ما فارقت في حرقي
أزكى الجنان ولا عوقبت لولاك
أهواك في غربتي أضعاف ما سمحت
به المقادير في قربي وأهواك
ما العيد عندي عيد في مباهجه
أنا الغريب فعيدي يوم ألقاك
على سلام وفي حرية شملت
لا أن أعود لأغلال وأشراك
الثلج حولي أحنى في تحرره
على فؤادي من ضيم بدنياك
والنفي أسعد أيامي إذا فرضوا
ذل الجباه لمأفون وأفاك
يا رب مقترب في حكم مغترب
وضاحك كل ما في قلبه باكي
الحنين إلى الوطن
قال يصف حنينه إلى الوطن وتعلقه به في غربته:
نفيان نفي مغرب عن أمتي
عان ونفي معذب في وحدتي
وحيالي الأفراح شتى ما لها
حد فلا ألقى النعيم بنعمتي
قالوا فررت وما فررت وإنما
كافحت في وطن به حريتي
وضربت بالحرمان أمثال الهدى
للعاملين وكم شقيت لأمتي
لم أعن بالأشكال قدر عنايتي
بتمسكي بمبادئي في ثورتي
حرق البخور لمن أذل بلاده
وحرقت في إعزازها من مهجتي
وجعلت ما عانيت قربانا لها
وأظل في سقمي وفي شيخوختي «وطني! رضيتك منصفا في قدره
جهدي وإخلاصي وغاية غيرتي»
يتشوق إلى مصر
ومن قصيدة له في حفلة أقيمت لتكريمه في نيويورك سنة 1950:
تركت مصر وقلبي لوعة ولظى
لجنة ضيعت في نوم جنان
فدى لها - لو أباحت - كل ما ملكت
نفسي وما وهبت في حبها الجاني
تركتها وبودي غير ما حكمت
به المقادير في أشجان لهفان
وقلت علي على بعد أشارفها
وأنفخ الصور إن فاتته نيراني «اثنان خلدت الدنيا لأجلهما
الحب والنيل مذ كانا بإنسان»
الوطن بأبنائه
قال في اعتراف المواطنين بأقدار الرجال وأنه من مظاهر الوطنية السليمة:
إذا عرف الرجال حقوق بعض
لبعض نزهوا عن كل ضعف
فتنتظم البلاد بهم وتسمو
ويغدو الفرد معدودا بألف
تأملات
ومن قوله في قصيدة له بعنوان «أقصى الظنون»:
ما الخلق ما هذه الدنيا ومنشؤها؟
ما الفكر ما الجوهر الباقي وما العدم؟
مسائل هي للأحقاب باقية
كما سيبقى الردى والشك والألم
أجل فرض لها وهم وأيسره
وهم وقد يستوي الدهماء والعلم
الوطنية والعروبة
ومن قصيدة له يعبر فيها عن وطنيته وعروبته:
إن العروبة والكنانة ملتي
دين يوحده الوفي العابد
فلموطني روحي وكل جوارحي
ولكم حنيني والشعور الماجد
يكفي لنا النسب العتيد مجمعا
فجميعنا صيد رماه الصائد
نداء الحرية
ومن قصيدة له سنة 1951 يناجي الشعب ويمجد جهاده ضد الاحتلال في معركة القتال: «بوركت يا شعب الكنانة ثائرا
حرا ويا وطن البطولة قاهرا»
أزجي إليك تحيتي من خاطر
دام ومن قلب يذوب مشاعرا
يأبى النفاق ولا يبوح بغير ما
جعل الحياة نفائسا وذخائرا
ليس الصديق هو المقرب وحده
ولرب مهجور يظن الهاجرا «إن كان غيبني العتاة فمهجتي
لك أين كنت مكافحا ومناصرا»
آبى مساومة الطغاة وإن أذق
شر الأذاة، مواليا لك ذاكرا
إن كان يعوزنا السلاح فربما
خلق الإباء بنا السلاح الباترا! •••
وحش للاستعمار يمعن شره
باسم الحضارة والتقدم ساخرا
وكأنما حسب العقول نفاية
للناس أو بعض الهواجس دائرا
هل يصلح المذياع من آثامه
حين الرصاص يصيح أرعن كافرا؟
حين الفظائع قد خطبن بألسن
للنار واعتلت الجراح منابرا؟
حين الأساطير التي يدلي بها
سبت بصائر للورى وسرائرا؟
حين الخرائب صارخات حوله
مثل اليتامى لا تمثل عامرا؟ •••
إن كان حسن الظن ذنبا أولا
فيه فكيف يعد ذنبا آخرا؟
هو غاية الإجرام للوطن الذي
عانى وعانى من أذاه خسائرا
لن يمنح الوطن المفدى صفحه
لفتى يخادع أو يخادع صابرا
ويرى بالاستعمار بعض خلاصه
هل كان الاستعمار إلا جائرا؟ «قرن من التغرير علم نشأنا
أن يحذروه مفاوضا ومشاورا»
حذرا بني وطني! فذاك عدوكم
مهما تقلب في المظاهر ماكرا
لا تمنحوه سوى القطيعة وحدها
فمن القطيعة ما يكون الزاجرا
أو ما يكون به الخلاص ليومكم
وعد نؤمل فيه بعثا باهرا!
حذرا بني وطني وكونوا وحدة
فعالة لا ضجة وحناجرا!
ليست سلامتكم مجالا هينا
إن السلامة قد تكون مخاطرا
لا تأسفوا - مهما حزنتم - للألى
ذهبوا الضحايا في «القناة» حرائرا
حمل الأديم من النجيع وصية
تبقى لأحقاب تدوم ذواكرا
خلوا التغني بالجدود وفضلهم
مهما تلألأ روعة ومفاخرا
فهو الغني بذاته عن ذكره
إلا ليلهم غافيا أو شاعرا
وخذوا بأسباب لمنعة حاضر
إن الحقيقة ما تمثل حاضرا
كونوا من الشهداء في إعجازكم
بثباتكم لا تجعلوه العابرا
لا عذر بعد اليوم عند تهاون
إن التفوق لا يطيق معاذرا!
يهاجم فاروقا قبل خلعه
ومن قصيدة له نشرها في مجلة «الشهباء» التي تصدر في حلب - عدد أبريل سنة 1951 - يهاجم فيها فاروقا قبل خلعه بعام، ويشبهه بالكركدن، وهي من بليغ شعره الوطني، قال:
من دمعة الشعب ومن كده
ومن دم الأمة في نرده
مملك الحد على صفوها
يا ليتها تملك من حده
كم يجعل الدين حبالاته
ليخنق المصلح في مهده
قد عضها النحس وما عضه
إلا فم يرشف في وجده
يمرغ الأمة في رجسه
ويسرق الأمة في رنده
عانت به وبأوشابه
في قربه الجاني وفي بعده
منتفخا، يمزح مستغرقا
في اللهو، كالصائد في صيده
كالكركدن الذي يزدهي
في قبحه يسخر من قده
لم تعطه غانية قبلة
إلا كمن تهزأ من رشده
أو بادلته نكتة حلوة
إلا ومغزاها مدى نقده •••
حتام يا قوم ضلالاتكم
تمكن الفاجر من قصده؟
كنا نرجيه مثال الهدى
فأصبح الغاشم في حقده
كنا نغنيه أغاني العلا
فأصبح المبدل من حمده
كنا نفديه بأرواحنا
في روحه العالي وفي زهده
ما باله أضحى فتى ماجنا
الشارد الخادع في وعده؟
حتام يستهزئ من مجدكم؟
حتام؟ والخسة من مجده
حتام يسترسل في غيه؟
حتام؟ والسوقة من جنده
حتام أعلاكم له صاغر؟
حتام؟ بل أهون من عبده
أعقلكم دون دفين الثرى
لو يعقل الميت في لحده
يحيي ثورة 23 يوليو سنة 1952
وقال سنة 1952 من قصيدة له محييا ثورة سنة 1952:
بوركت يا وطني العزيز محررا
سمحا وفي كل القلوب حبيبا
لو أستطيع كتبت شعري من دمي
حتى أزيد بشعري الترحيبا
لو أستطيع سألت كل خميلة
وبعثت بالشعر المنور طيبا
لو أستطيع زففت ما أنا عاشق
ليكون قربانا أعز قريبا
لو أستطيع بعثت من ضحك الضحى
كنزا ومن لهف الغروب نسيبا
لو أستطيع وهبت كل مكافح
عمرا تكرر في الخلود عجيبا
لو أستطيع أعدت أعواما مضت
لتقص أحلاما رأت ووجيبا
لو أستطيع بذلت أضعاف الذي
حملت في إيثاري التعذيبا
لو أستطيع غسلت ساحة دوركم
بمدامعي ورششتها تطييبا
لو أستطيع هربت من شيخوختي
ورجعت أرفل في الشباب قشيبا
ينادي بإلغاء الملكية
من قصيدة له في أكتوبر سنة 1925 يدعو إلى إلغاء الملكية:
اقطعوها وانبذوا من دعاها
نعمة إنا شبعنا من أذاها
قد خدعنا في الذي قالوا لنا
عن جناها بئس ما يجني جناها
أثر أحيا قرونا سلفت
وأمات العصر
5
في بغي تناهى
قلت «أحيا» ليته الحلم الذي
كان أحيا الأمس إصلاحا وجاها
إنما أحيا شرورا سلفت
زوقوها كي يعدوه إلها
خدعونا حقبة واستسهلوا
أن يضلوا الشعب في الذل فتاها
6
كم تغنينا بحب صادق
فرأينا من هوى فيمن تباهى
سلطة الشعب هي الأم التي
أنمت الأحرار لا دعوى سواها
يحيي الجمهورية المصرية
وقال من قصيدة له في 19 يونيو سنة 1953 يحيي الجمهورية المصرية بعد إعلانها:
7
إذا الحكم للجمهور أصبح رائدا
أبى الحق أن يلقى به العار والظلما
فيا أمة «النيل» المبارك حاذري - وقد نلت ما تهوين - أن تخلقي الضيما
ولا تقبلي التفريق في أي مظهر
فمن يقبل التفريق يستأهل الرجما •••
أعيذك من وهم يصير عقيدة
فكم أمة هانت بإعزازها الوهما
أعيذ «جمالا»
8
والزعيم «محمدا»
9
بحذقهما من حد مطلبك الأسمى
قد انتزعا من قبل حظك عنوة
وما برحا والدهر كالطائش الأعمى
تجبر واستعلى فرداه صاغرا
وقد كان كالمحموم سكران بالحمى
وها أنت بالعهد الجديد طليقة
ومنجية أعلام نهضتك الشما
ففي كل شبر من ثراك خميلة
وقد كانت الويلات تغتاله قضما
وفي كل ركن من ربوعك ملجأ
تلوذ به خير المواهب أو تحمى •••
فيا «مصر» عضي بالنواجذ حرة
على ما كسبت اليوم واغتنمي اليوما
وهيا أعدي للغد المرتجى علا
تبز بإعجاز لها كل ما تما
إخاء وتنظيما وعلما وهمة
وفنا تهز الغافلين أو الصما
ولا تشتكي من لاعج اليتم بعدما
أزلت بهذا النصر من دمك اليتما
ألا في سبيل المجد ما قد غنمته
وها هو قد أضحى لكل الورى غنما
فإنك للأقوام أمثولة الهدى
وما خص شعبا يستفيق ولا قوما •••
تبارك ربي حين ينصف أمة
تعاف ذليل العيش واليأس والنوما
عزيز على مثلي البعاد وقد زهت
منائرك الزهراء تستقبل السلما
عزيز وفي قلبي حنان مؤرق
وحسبي - على رغمي - مفارقتي الأما
إذا جئت هذا اليوم أزجي تهانئي
فمن قلب محروم تهلل إذ يدمى
ولكن نفس الحر نفس عجيبة
تعيش على الأضداد مهما تكن غرما
يذكر مصر ويحن إليها
وقال من قصيدة أخرى يذكر مصر ويحن إليها:
لا تنهروا روحي لفرط ولوعها
دمعي الذي تأبون بعض دموعها
ألقت بي الأحداث دون ربوعها
وأظل أحيا في صميم ربوعها
تثب الرؤى حولي بأنفاس الربى
ونوافح الغدران حول ربيعها
وتهزني الذكرى فأشرق بالأسى
والذكريات وهوبها كمنوعها •••
كم واهم أني سلوت وما درى
معنى السلو وحرقتي لجموعها
إني الفتى الوافي بكى حصباءها
كبكائه لسمائها وزروعها
دنيا الصباحة والجمال تلألأت
بحنانها وتراقصت بولوعها
أجد الخضوع لها أحب عبادة
شتان بين عبادتي وخضوعها •••
لو أستطيع طردت عن أزهارها
غير الندى والشمس غب طلوعها
وحميتها مما أغار تجنيا
وجعلت أضلاعي أبر دروعها
وبعثتها من نومها وجعلتها
في عزمها كالشمس بعد هجوعها
وأثرتها لعظائم ومفاخر
سيان بين وضيعها ورفيعها •••
مصر الحبيبة جنة لا أشتهي
منها الخيار فخيرها بجميعها
أهوى لها الإعزاز كيف تمثلت
بحياتها وتصورت بصنيعها
إن كان عاقبني الزمان بغربتي
فلقد أفاء علي حلم بديعها
أو لم تنل عيني شعاع سنائها
فلقد جنت عيني طيوف نزوعها
وتركنني في حيرة لا تنتهي
والنفس حيرتها أشد صدوعها
ركعت بمحراب الجمال بوهمها
وتبتلت في حبها وركوعها
وأذابت الأحلام في ألحانها
والدمع والتقبيل يوم رجوعها!
لا تنهروا روحي لفرط ولوعها
دمعي الذي تأبون بعض دموعها
ذكرى الشهداء
وقال في «ذكرى الشهداء»:
ذكرى يرددها الزمان الوافي
ألق الشموس لها من الأفواف
شعت على مر السنين وعمرها
عمر البطولة بآل كل شغاف
متغلغلا بنهى الفوارس دافعا
من يحجمون إلى الخلود الضافي
اليوم يوم صلاتنا لجلالها
واليوم نقرئها الحنان الوافي
وعلى الثرى نجثو نقبل تربة
عبقت بحر شعورها الرفاف
ما كان بالخافي على مستلهم
شهم وليس على الأبي بخافي •••
إنا بني الأحرار نعرف قدرها
ونشيمها في النور والأطياف
وبكل معنى للعظائم شامخ
وبكل نبع للحقيقة صافي
لا مجد غير الحق يبقى ناصعا
سمحا على رغم الردى المتلافي •••
هذي مقابرهم وتلك دماؤهم
مثل النجوم ونورها الشفاف
هيهات يدركها الطغاة وربما
سجدوا لها رغما عن الآناف
سيجيء يوم للحساب، قضاتهم
تلك العظام، بغضبة الإنصاف! •••
يا أمة الأحرار دومي حرة
والتضحيات لك الجلال الكافي
وبحسبك الشهداء ضمخ ذكرهم
هذا الأثير وشاع في الألطاف
يوم كهذا اليوم تهتف عنده
مهج الشعوب العانيات هتافي
وتعزه الدنيا التي حلمت به
حلمي وتزأر وثبة الآلاف!
يهاجم الاستعمار وينادي بالثورة
ومن قصيدة به يهاجم فيها الاستعمار وينادي بالثورة عليه، نظمها سنة 1925 لمناسبة الصراع بين الحرية والاستعمار في تونس، قال في مطلعها:
ثوروا على الظلم العتي جهارا
لا ترهبوه وإن يكن جبارا!
النار لم تخلق لغير مجاهد
طلب العظائم حين خاض النارا
لا بد من صهر اليقين بشعلة
حتى يخلص رائعا قهارا
خلوا الرصاص مدويا من حولكم
لا بد أن يهوي وأن يتوارى
هذي البداية للنهاية لم يدم
حكم أسف به الدخيل فبارا
مراكش ثارت عليه وفي غد
سنرى الجزائر تصفع الجبارا •••
أمم العروبة نخوة وأرومة
وثقافة، أتقدس استعمارا؟
خسئوا وضلوا والخسيس بطبعه
يلقى الكرامة والمكارم عارا
يا ويلهم ومن الضحايا حولهم
لسن تحدث في الصموت مرارا ••• «فرحات»
10
ليس بأول أو آخر
لجرائم روعننا تكرارا
ما كان الاستعمار إلا سبة
ولو انها لبست حلى ووقارا
يلهو به المستعمرون كأن نسوا
عقبى الذين يلاعبون النارا
قالوا: «هو النعم الجزيلة فيضه»
واستنطقوا الأدهار والآثارا
فتضاحكت منهم وفاضت عبرة
ودما وآلاما حوت وشرارا
إلى أن قال:
إن قدر المستعمرون خضوعها
أبدا فقد فقدوا لهم أعمارا
ومن الشعوب الساكنات ثوائر
في حين يسمع غيرها هدارا
لن يستطيع الذل من تجري بهم
تلك الدماء وتخلق الأحرارا
عبد الحليم المصري
1887-1922
من الشعراء الضباط، ولد في مايو سنة 1887، وبعد أن أتم دراسته الابتدائية دخل المدرسة الحربية وتخرج منها سنة 1906 في التاسعة عشرة من عمره، وألحق ضابطا بالأورطة السادسة عشرة من المشاة في كسلا.
تعشق الشعر والحرية منذ صباه؛ فجاد بقصائد رقيقة في التغني بالوطنية والحرية.
وظل يغرد بالشعر ويتغنى به إلى أن توفي في يوليو 1922، وكان حين وفاته في ريعان الشباب؛ فكان لوفاته وقع أليم في النفوس.
كانت له في الشعر مكانة ممتازة، عبر عنها حافظ إبراهيم بقوله في رثائه:
لك الله قد أسرعت في السير قبلنا
وآثرت يا «مصري» سكنى المقابر
وقد كنت فينا يا فتى الشعر زهرة
تفتح للأذهان قبل النواظر
فلهفي على تلك الأنامل في البلى
فكم نسجت قبل البلى من مفاخر
ويا ويح للأشعار قبل نجيها
وويح القوافي ساقها غير شاعر
تزودت من دنياك ذكرا مخلدا
وذاك لعمري نعم زاد المسافر
وللمصري ديوان شعر من ثلاثة أجزاء.
فجر الأمل
من قصيدة له نظمها سنة 1909:
ترعرع عهد اليمن واخضل جانبه
ورد علينا الله ما الدهر سالبه
مضى زمن كنا فريسة حربه
وجاء زمان ما نزال نحاربه
فلم يغلب الدهر العصي مجاهدا
من الشرق إلا قام ألف يغالبه
فيا شرق قد جاشت بنفسك أنفس
فعدد لها بالله ما أنت طالبه
فإما أصابت من مناها طليبة
وإما تمشت للقضاء تطالبه
تقول له إما احتسبت جزاءنا
وإما محونا اليوم ما أنت كاتبه
جزاكن عني الله يا خير أنفس
ورواك من ماء المجرة ساكبه
إذا ما النفوس الطاهرات تضامنت
على فوزها أبدى لها الفوز حاجبه
إلى أن قال مخاطبا الزعيم محمد فريد: «محمد» لا يلو الكرى لك عزمة
عن البأس حتى إن ترن نوادبه
نهزت بأنباء البلاد ولم تمل
عن الجد حتى نظم الدر ثاقبه
طلعت بهم في باسم الصبح عابسا
فقالوا أبو حفص بدا وكتائبه
كأني وأنت اليوم تدعو إلى الهدى
وأكتب ما يملي الرسول وكاتبه
فجرد شبا تلك اليراعة صارما
وضارب به من لا نطيق نضاربه
لقد روعت منا الهموم جوانحا
وفرت من الجفن الحريص سواربه
ثم قال مخاطبا الكتابة:
فيا غادة في الشرق قد غار نجمها
أطلي على واد نمتك جوانبه
لقد كان روضا وارف الظل في العلا
بلابله تشدو وتصفو مشاربه
فأصبح تذروه الرياح عوصفا
ترامى نواحيه وينهال كاتبه
إلى أن دعا داعي الصلاح حياله
فألفى رجالا كالأسود تجاوبه
دعوت أناسا ليس يدعوهم امرؤ
إلى رغبة إلا وتمت رغائبه
يصف قصر أنس الوجود ويشيد بعظمة مصر
وقف عليك دموعي أيها الطلل
عيني إليك وقلبي للألى رحلوا
أرسلت بالعين في سقياك هامية
وفي الطلول البوالي ترسل المقل
لولا بقية أطلال لما عرفت
عيوننا أين كانت دورنا الأول
ليت الأحبة حين البعد طاح بهم
أدناهم الشوق أو أقصاني الأجل
يا عالما بالهوى أرشد فتاك إلى
غير البكاء فقد ضاقت به الحيل
تبكي على دورهم مثلي وتعذلني
أن أبكها وكلانا خطبه جلل
يا أيها الطلل المزور جانبه
هون عليك كلانا بعدهم طلل
وقفت باليم رسما لا حراك به
واليم مضطرب والموج مقتبل
رياك من جنة الفردوس سارية
وأنت كالركن فيه تحمد القبل
الدهر مل وآي الدهر كامنة
في وجهك الطلق لا يبدو بها ملل
قرأت فيهن سر العالمين فيا
شتان ما بين من قالوا ومن عملوا
وختمها بقوله:
فمن يجاريك فيما شدت يا «أنس»
المرء مرتحل والذكر مقتبل
يكرم الشيخ عبد العزيز جاويش بعد خروجه من السجن
من قصيدة له سنة 1909 في حفلة تكريم الشيخ عبد العزيز جاويش لمناسبة خروجه من السجن بعد استيفائه مدة الحبس (ثلاثة أشهر) التي حكم بها عليه في أغسطس سنة 1909 عن مقالة له في «ذكرى دنشواي»:
تصف السجون وما بها
من جائر للمستجير
أيام كنت تخال نف
سك بين سكان القبور
متقلبا فوق الفرا
ش تقلب العاني الأسير
وتود رؤية زائر
يحنو على ذاك المزور
ما خفت من سجن الخيا
ل وخفت من سجن الضمير
في جانب الوطن العزي
ز تهون هائلة الأمور
أسود النيل
من قصيدة قالها سنة 1909 في الاحتفال برأس السنة الهجرية سنة 1327:
ما لي أرى السودان طعمة آكل
هل أطمعتهم مصر في السودان؟
أنسوا أسود النيل يوم تضرجوا
بدم العدى حين التقى الجيشان
متسابقين إلى الحصون كأنها
أوكارهم شيدت على الأفنان
متقاسمين العاديات كأنهم
في الحرب مشتركان مختصمان
صوت الشعب
من قصيدة له يخاطب الخديو عباس الثاني ويطالبه بالدستور:
رد الوديعة لا مالا ولا شانا
لم نرج في جانب الدستور إحسانا
لولا ولاؤك لم نبسط إليك يدا
من الرجاء ولم نسألك غفرانا
يناجي الحرية
من قصيدة له في مناجاة الحرية سنة 1910:
حلا لها البين فانجابت عن المقل
ولم تودع قبيل السير من رجل
كأنما لم يضفها القوم في بلد
ولم يؤهل بها في منزل حفل
إلى أن قال:
عودي أطلي علينا إننا نفر
إن حلت عنا فإنا عنك لم نحل
الدهر غيرنا حتى إذا بصرت
بنا الديار غدت منا على دخل
ردي علينا عهودا منك ناضرة
يا رب عهد تولى ثم لم يؤل
كنا وكنت وكان الدهر فانقرضت
أيامنا وتولينا على عجل
أصبحت في غير وادى النيل ثاوية
والشمس في الحوت غير الشمس في الحمل
أيسجنون يراعا لم يثر فتنا
ويعقلون لسانا غير منعقل
1
وختمها بقوله مخاطبا المواطنين:
أتى زمان نهوض وانقضى زمن
كان البكاء يرى فيه من الحيل
فراقبوا الله يوما في كنانته
إن الكنانة أضحت مطمح الدول
عزيز فهمي شاعر الحرية والشباب
1909-1952
هو الدكتور عزيز فهمي، من أعلام الحرية والأدب، وأبطال الوطنية والجهاد.
ولد سنة 1909 بطنطا، وهو نجل الأستاذ عبد السلام فهمي رئيس مجلس النواب السابق ومن المجاهدين في الحركة الوطنية.
تلقى علومه الابتدائية والثانوية في المدرسة الابتدائية ثم في المدرسة الثانوية بطنطا، ثم انتقل إلى مدرسة الجيزة الثانوية حيث نال منها شهادة البكالوريا.
وبدت عليه منذ أن كان يتلقى التعليم الثانوي ميوله نحو الحرية والأدب والشعر، وأنشأ وهو في مدرسة الجيزة الثانوية مجلة أدبية كان ينشر فيها آراءه وأشعاره.
وانتقل إلى التعليم العالي بالقاهرة، وجمع بين دراسة الحقوق في كلية الحقوق ودراسة الأدب بالانتساب إلى كلية الآداب، فنال ليسانس الآداب سنة 1932، والحقوق في سنة 1933، وكانت رسالته التي قدمها إلى كلية الآداب في المقارنة في الشعر العربي بين العصر الأموي والعصر العباسي.
وكان طموحا إلى الاستزادة من العلوم والآداب ، فسافر إلى باريس سنة 1933، والتحق بجامعتها وحصل منها سنة 1938 على الدكتوراه في القانون، وكان موضوع رسالته «الامتيازات الأجنبية في مصر ومعاهدة مونترو»، وكانت أول رسالة من مصري عن هذه المعاهدة، والتحق في الوقت نفسه بالسوربون للحصول على الدكتوراه في الأدب.
وقد شبت الحرب العالمية الثانية وهو في باريس، فعاد إلى مصر سنة 1942 مملوءا وطنية وتضحية، مستكملا دراساته العلمية والأدبية.
وشغل منصب وكيل نيابة بالمحاكم المختلطة وقتا قصيرا، ثم ضاق صدرا بالقيود الحكومية، فاستقال مؤثرا العمل الحر، والجهاد الحر، واشتغل بالمحاماة والصحافة، ووقف قلمه ولسانه، وقلبه وجنانه، على الجهاد في سبيل الحرية، ومكافحة الاستعمار والطغيان والفساد.
كان أديبا شاعرا، وخطيبا مفوها، يجمع بين بلاغة العبارة وسلاسة الأسلوب، وقوة التفكير وغزارة المادة، والشجاعة الأدبية، كان يدافع عن الحرية بقلمه ولسانه على صفحات الجرائد، وبلسانه فوق المنابر، وفي ساحات القضاء، وتحت قبة البرلمان.
وقد اعتقل وحقق معه غير مرة بتهمة العيب في الذات الملكية، أو التحريض على الإخلال بالنظام، وكان في المحاماة يدافع عن الحرية وعن المتهمين في جرائم الرأي، ويهاجم الطغيان والقلم السياسي والإجراءات التعسفية.
دخل البرلمان سنة 1950 نائبا عن دائرة الجمالية بالقاهرة، فكانت صفحته في دار النيابة أقوى صفحات حياته التي قضاها في الكفاح الوطني، وعلى أنه انتخب مرشحا من الوفد، فإنه لم يتقيد بسياسة الحكومة الوفدية، وعارضها فيما يستحق المعارضة من تصرفاتها، وله في ذلك المواقف المشرفة، وظهرت مواهبه البرلمانية كخطيب ومناضل برلماني من الطراز الرفيع، كان يناضل عن الحرية في كل مناسبة، وله المواقف المشهودة في معارضة نظام الاشتباه السياسي، ومعارضة القانون المعدل لنظام مجلس الدولة؛ وهو القانون الذي قدمته الحكومة الوفدية إلى البرلمان للانتقاص من سلطات المجلس واستقلاله، ودوى صوته مجلجلا معارضا مشروعات تقييد حرية الصحافة سنة 1951، وكان لمعارضته لهذه المشروعات دوي كبير وصدى استحسان عظيم في الرأي العام، وبلغت مكانته الوطنية والبرلمانية ذروتها في معارضته لهذه المشروعات حتى انتهت بسحبها من البرلمان، فكانت هذه النتيجة أعظم انتصار للفقيد في حياته السياسة والوطنية.
ولما شبت معركة القنال بين الفدائيين والإنجليز عقب إلغاء معاهدة سنة 1936 في أكتوبر سنة 1951، سافر إلى منطقة القنال، وساهم في حركات المقاومة ضد القوات البريطانية واستهدف للقتل غير مرة، فكان ذلك منه غاية البذل والتضحية.
وكانت وفاته يوم أول مايو سنة 1952 في حادثة فاجعة، بل مأساة أليمة؛ إذ كان يعتزم السفر إلى الفشن في صبيحة ذلك اليوم ليترافع أمام محكمتها في إحدى القضايا، وكان ينوي السفر بالقطار، ولكن مواعيد السفر كانت قد تغيرت ابتداء من أول مايو لحلول الصيف، وقد فاته أن يعرف الموعد الجديد للسفر، فلم يدرك قطار الصباح، فاستأجر سيارة ركبها قاصدا الفشن، وفيما هي تسير في الطريق الزراعي وقع لها قبل العياط ببضعة كيلومترات حادث فجائي، قلبها رأسا على عقب وهوى بها في الترعة المحاذية للطريق، فمات الفقيد غريقا، وكانت وفاته فجيعة للوطن وبنيه؛ إذ فقدوا بوفاته مجاهدا صادقا بين المجاهدين الأحرار.
كانت وطنيته فوق حزبيته، وعقيدته أساس شخصيته، كان يرى في الحياة السياسية رسالة يؤديها، لا يبتغي منها لنفسه مغنما ولا نفعا، ولا يقصد إلا وجه الله والوطن، فلا غرو أن حزنت الأمة لوفاته حزنا عظيما.
اسلمي مصر
قال رحمه الله من قصيدة له سنة 1931 بعنوان «اسلمي مصر»:
اسلمي مصر على مر القرون
حسبك الله نصيرا ومعين
لن تضامي أنت يا مهد الخلو
د وهذا بعض أشبال العرين
من تكن ليلاه مصر لا يهن
ساعة البذل ولو ذاق المنون
إلى أن قال:
لا رعاك الله يا عهدا مضى
عهد بغي وافتئات وأفون
محنة لا عهد للناس بها
جزع الصبر لها والصابرون
عصفت بالحرث والنسل معا
وأعادت عهد كسرى ونرون
ونضت سيفا بتوكا كلما
هب ذقنا بين حديه المنون
دولة الحجاج إن قيست بها
مثل في الرفق عند المنصفين
وهوى الأوطان للأحرار دين
إلى أن قال في تمجيد التضحية:
في يمين الله ما ضحيتم
لا يضيع الله أجر المخلصين
في هوى مصر يضحي عن حجا
ورضاء كل مستبق ضنين
لن يضيع العرف عند الله إن
ضيع الخير أصيل وهجين
هو عند الناس جود ووفا
وهو عند الله إيمان ودين
ولبانات الهوى شتى كنا
ر سل التاريخ عنها والمنون
فهوى ليلى بقيس متعة
وهوى الأوطان للأحرار دين
هي ليلانا جميعا فانظروا
هل قسطنا ما علينا من ديون؟
هل جمعنا من أفانين المنى
ما تمنته على مر السنين؟
ليتني أحيا إلى يوم أرى
فجر مصر فيه وضاء الجبين
لا أبالي أعظامي بعده
في سهوب
1
من ثراها أم حزون
لا سقاك النيل يا مصر إذا
لم نقرب من أمانيك الشطون
2
ونعد مجدا سليبا غابرا
ونغير بلواك العالمين
لا يخشى الموت
كان رحمه الله يتنبأ بألا يطول به العمر وأنه سيموت في ربيع الحياة، فكان يستعد للقاء الموت، ولا يهابه ولا يخشاه، وينشد الخلود.
قال في هذا المعنى من قصيدة له سنة 1933 بعنوان «لحن الموت»:
أيها العراف هل عند النجوم
سر هذا الكون أو عند المنون؟
كاذب علمك ما لم تنبني
حرت والله ولجت بي الظنون
جهل السر أناس قبلنا
وجهلنا فوق جهل الأولين
حملوا العبء وقد ناءت به
أمم من قبل عاد و«أمون»
ولكم ساءلت نفسي حائرا
حيرة الساري بليل ذي دجون:
ما وجودي؟ ما سبيلي؟ من أنا؟
ما جهادي؟ ما مصيري بعد حين؟ •••
يا بني أمي لقد جد نوى
وغدا يجمعني واد شطون
3
لا تقولوا مات في شرخ الصبا
ذلك الحق تجلى واليقين
ليس مني من بكاني فارعووا
لن يرد الدمع محتوم المنون •••
لا تقولوا ليته عاش! فقد
فارق الأصفاد عصفور سجين
شاقني الخلد كما شاق القطا
سلسبيل في عقاب وقرون
4
يا قارئ الكف!
وقال في هذا المعنى سنة 1944 من قصيدة له بعنوان «يا قارئ الكف»:
يا قارئ الكف ماذا أضمر القدر؟
ولا عليك إذا لم يصدق الخبر
وما اهتمامك باسمي؟ هبه عنترة
وهبه زيدا وجدي عمرو او عمر
عليك بالكف فاقرأ بين أسطرها
ماذا يدل عليه الخط والأثر؟ •••
أطالع اليمن أن الخط متصل
وآية النحس أن الحد منبتر؟
وما الشيات
5
على جنبي ثمانية
تبدو كوشم وتخفي حولها غرر؟ •••
خبر عن الفأل لا تجفل فسانحة
عندي كبارحة والشر ينتظر
هل أنسأ الله في عمري إلى أجل
يلح فيه علي الهم والكبر؟
وهل أبلغ آمالي؟ وأبعدها
عندي كأقربها ناء ومحتضر
هبني ظفرت بآمالي على ظمأ
إذا ارتويت فماذا يعقب الظفر؟
وهل أوسد حزنا حرة وحصى
في جوف هاوية أغوارها حجر
أم هوجلا
6
قذفا
7
تنبو براكبها
لا البيد عبدها يوما ولا الحضر
قفراء جرداء لم تكلأ حشائشها
إلا السواقي ولم يعلق بها مطر
أم تقدح النار من حولي فتطعمني
حيا وأشوى بها أيان تستعر «أم أن في مسبح الحيتان منقلبي
يوم الرحيل إذا ناداني السفر؟»
8 •••
قل ما بدا لك واهرف غير مبتدع
فالرجم بالغيب - لو تدري - هو الهذر
اللحد كاللحد والأكفان واحدة
ولا خيار لميت حين يدثر
والمال كالعدم لولا أنه أمل
إن الغني إلى الأموال مفتقر
والسعد حال على الإنسان طارئة «وعند صفو الليالي يحدث الكدر»
لولا التشابه في الأقدار ما صدقت
عرافة الحي من توفى لها النذر
الشورى
وقال من قصيدة له سنة 1943:
بني مصر هذا الحق أبلج واضح
وهذا صراط يستوي عنده القصد
إذا شئتم الشورى فذلك حكمها
وإن شئتم الفوضى فليس لها حد «تولى زمان الحاكمين بأمرهم
ولم يبق في الدنيا مسود ولا عبد» «تولى زمان الفرد لا عاد عهده
وبدل بالدستور سلطانه الفرد»
الضمير
وقال يصف الضمير من قصيدة له سنة 1944:
صاحب وسنان من طول السهر
إن تنم ناداك أو تنس ادكر
كلما غافلته في سكرة
من أمانيك تجنى أو عذر
فإذا كفرت عن وزر عفا
وإذا عدت إلى إثم ثأر
ليس ملموسا فتدري كنهه
وهو ما كتمت يدري ما تسر
وتواريه فيغضي ساعة
ثم يستيقظ في لمح البصر
ليس عقلا أو شعورا خالصا
بل تراثا من شعور وفكر
فهو عقل باطن أو ملهم
وهو إحساس قديم مدخر
كم جرعت الصاب من ترياقه
واستسغت الشهد مما قد هصر
أنتما الدهر طريد آبق
وغريم طارد أو منتصر
أينما وليت أحصى مرجئا
موعدا حتما فأيان المفر؟ •••
يتراءى شاحبا أو إمعا
فهو كالظل إذا الظل انتشر
وهو جبار عنيف تارة
وهو أحيانا ضعيف يأتمر
وهو إعصار وريح صرصر
وهو كالسيل إذا السيل انهمر
وهو كالبحر إذا البحر طغى
وهو كالموج إذا الموج انحسر
وهو كالسهم إذا السهم رمى
وهو كالسيف إذا السيف بتر
آمر ناه وعاص طيع
وهو الآمر وهو المزدجر
لا ينام العمر إلا ساعة
فترقبها وبالغ في الحذر
ساعة إن نمت عنها غافلا
عدت كالمخمور أو كالمحتضر
أيها الساهر نم أو لا تنم
وترفق وتجلد واستعر
إن جنينا فعلينا وزرنا
وإذا نحن أنبنا فاعتذر
ومصر تناديهم وصوتي يردد
وقال في يونيو سنة 1946 وهو معتقل في سجن الأجانب:
كفاك عزاء أنك اليوم أوحد
وقد يسكن الغمد الحسام المجرد
يهون عذاب السجن والليل موحش
ويذهب عنك الحزن فيه تجلد
وقد يؤسر الليث المنيع عرينه
ويرهب منه الصوت وهو مصفد «أهبت بقومي أن يذودوا عن الحمى
وما زلت أدعوهم وما زلت أشهد»
أهبت بقومي والخطوب زواحف
تلم بهم طورا وطورا تهدد «وأنذرت حتى بح صوتي ولم أزل
ومصر تناديهم وصوتي يردد»
نذرت نفسي قربانا لفاديها
ومن قصيدة أخرى نظمها وهو في سجن الأجانب سنة 1946:
شكت إلى الله من عدوان أهليها
وعاث غاصبها في أرض راعيها
وا حر قلباه من يأس يصارعها
يكاد لولا بقايا الصبر يرديها
فزعت من غدها علما بحاضرها
ورضت نفسي على نسيان ماضيها
وقفت قلبي عليها في شبيبته
فشاب منها ومن عدوان ساليها
لما أفقت من الماضي بلا أمل
نذرت نفسي قربانا لفاديها •••
ذكرت مصر فهاجتني مواجعها
وعزني الدمع حتى كدت أبكيها
يا لائمي وأنا الجاني على كبدي
دع عنك لومي فإن اللوم يغريها
كل يغني ليشجي سامرا وهوى
وقد يغني لأوطار يرجيها
وليس لي سامر فيها ولا وطر
ولا زعمت جوادي من مذاكيها
وإنما هي آلامي أكتمها
حتى يضيق بها صدري فأحكيها •••
نزحت عنها فلم أعدل بها وطنا
وبات قلبي أسيرا في مغانيها
وصنت شعري إلا عن مفاتنها
وهمت في الأرض مسحورا بواديها
ورق شعري كما رقت جداولها
وراق وصفي كما راقت مجاليها
وما رأيت كناسا فيه جؤذره
إلا ذكرت غزالا في مراعيها •••
لما رددت إليها رد لي أملي
عند اللقاء وأحياني تدانيها
وقد طويت إليها اليم واقتربت
بي السفينة من أولى موانيها
فكاد يطفر قلبي من توثبه
وقد تنسم ريحا من نواحيها
وحال قلبي دموعا عندما اتأدت
فرحت أنثر دمعي في ضواحيها
سجدت لله عرفانا لنعمته
لما حللت رفيقا من روابيها
فكيف حالت حياتي عندها سقرا
وكيف أصليت نارا من سواقيها! •••
جارت عليها صروف الدهر واختلفت
أيدي الرماة فآها من أعاديها!
راشوا لها السهم مسموما فشتتها
وكاد لولا يد الرحمن يصميها
وأثخنوها جراحا في مقاتلها
يا للجريمة من عدوان آسيها
إلى أن قال:
فزعت من شرك يلقيه غاصبها
قبل الجلاء لعل «الوعد» يغريها
وما الجلاء إذا شدت
9
بسلسلة
من القيود و«شرط الحلف» يمليها
تشعب الرأي والأحزاب سادرة
ومصر صابرة والصبر يضنيها
وكيف تنهض من أسر يكبلها
والقيد آمرها والقيد ناهيها
بني وطني أهبت بكم زمانا
وقال في نوفمبر سنة 1946 يندد بالإنجليز على أثر الاعتداءات الدامية التي وقعت منهم في القاهرة والإسكندرية، ويدعو المواطنين إلى البذل والتضحية:
سلوا من سامها
10
هذا العذابا
ومن شرع الأسنة والحرابا
سلوا جلادها تبت يداه
بأي شريعة فرض العقابا
أما ينهاه عقل أو ضمير
يرد له المحجة والصوابا
ضلال أن يعاتب مستبد
وأولى بالمسود أن يعابا
وجهل أن يخاطب غير أهل
فلا تحزن عليه إذا تغابى
يصعر خده صلفا وحمقا
ويوردها على ظمأ سرابا
وكم أسدت إليه وكم تجنى
ولم يحسب لعاقبة حسابا
بأي جريرة وبأي عدل
تجرع مصر كأس النصر صابا؟
ولولا مصر ما غنموا فلاة
ولولا مصر ما غلبوا ذبابا •••
سلوا «دنكرك» هل نهضوا بعبء
وقد غنموا السلامة والإيابا
سلوا «الصحراء» عنهم كيف طاروا
وهل تخذوا النعام لهم ركابا
سلوا «العلمين» هل ثبتوا بأرض
وقد سبقوا مع العدو السحابا
فكيف تعاظموا بعد انكسار
وكيف تبدلوا أسدا غضابا
سلوا «الميثاق»
11
هل وأدوه صبحا
وهل نسجوا من الكفن الإهابا
وكيف جرى على فمهم كذابا
وسال على سواعدهم خضابا
وكيف استبدلوا شرعا بشرع
فأضحى الحق عندهم اغتصابا
كذلك تلدغ الأفعى كريما
جزاء صنيعه وتمد نابا
وبين الناس رقط وابن آوى
وذؤبان ومن غلب الذئابا
إلى أن قال:
ويا وطني فديتك من جراح
إذا نكأت حملناها عذابا
وهل يأسو الجريح سوى جريح
يشاطره الفجيعة والمصابا
وكم من قسور ورد المنايا
يروع ببطشه السبع السغابا
إذا كرت عليه الخيل فرت
وإن سام الجياد حمى العرابا
روى دمه ثراك ففاح مسكا
وأينع روضة وزكا ترابا
وآخر في «الجنوب» ثوى شهيدا
فضج النيل واجتاح الرحابا
لحى الله الخوارج والمطايا
ومن أضحت نفوسهم خرابا
ولا كان الجلاء إذا أحلوا
مع الحلف المرافق والرقابا
وطوبى للألى ذهبوا فداء
إلى الرضوان واستبقوا الثوابا •••
بني وطني أهبت بكم زمانا
فلما بح صوتي قيل هابا
ولو نطق الجماد كما نطقنا
لأسمعه الصدى عنكم جوابا
علي الغاياتي
من شعراء الوطنية ومن المجاهدين القدامى، اعتنق مبادئ مصطفى كامل منذ أن استمع إلى خطبته الكبرى التي ألقاها بالإسكندرية في 22 أكتوبر سنة 1907، وصار من تلاميذه وأنصاره الأوفياء الحافظين لعهده طوال السنين.
انضم إلى أسرة الصحافة منذ صباه، وعمل في صحف الحزب الوطني المتعاقبة واتجهت نفسه إلى الشعر، فنظم قصائد تفيض وطنية وإخلاصا، وقد جمعها في ديوان أصدره سنة 1910 بعنوان «وطنيتي» وله مقدمتان؛ إحداهما بقلم محمد فريد، والثانية بقلم عبد العزيز جاويش، وكان لهذا الديوان قضية أثرت في مجرى حياة الشاعر؛ فقد أقيمت عليه الدعوى العمومية وحوكم على قصائد من هذا الديوان عدتها الحكومة وقتئذ عيبا في ذات ولي الأمر (الخديو عباس الثاني) وتحريضا على كراهية الحكومة والازدراء بها، وتحبيذا للجرائم (السياسية)، وحكم عليه من محكمة جنايات القاهرة في أغسطس سنة 1910 بالحبس سنة، وقد صدر الحكم عليه في غيبته؛ إذ كان قبل محاكمته قد ارتحل إلى الآستانة، ثم إلى سويسرا حيث أقام في «جنيف»، وأصدر بها سنة 1922 جريدة «منبر الشرق» بالفرنسية، وجعلها وقفا على الدفاع عن قضية مصر وقضايا الشرق عامة، وظل في منفاه حتى عاد إلى مصر سنة 1937 واستأنف فيها إصدار صحيفته «منبر الشرق» بالعربية حتى اليوم - مد الله في حياته - وهي صحيفة وطنية شرقية إسلامية أخلاقية، تدافع عن القضية الوطنية وقضايا العروبة، وتناضل عن الحرية والاستقلال للشعوب الشرقية جمعاء.
إلى مصطفى في حياته
من أول شعره الوطني قصيدة نظمها سنة 1907 وقدمها إلى مصطفى كامل عقب خطبته بالإسكندرية، قال فيها مخاطبا الفقيد:
اصدع بقولك إن أردت مقالا
فالقوم جندك إن دعوت رجالا
لم تدر مصر سوى حماك تؤمه
فترى به آلامها آمالا
أقبل على الوطن العزيز بصارم
لا تدرك الأعداء منه كلالا
وختمها بقوله:
فادأب على إنهاض أمتك التي
ترجو وراء خطاك الاستقلالا
وطن يناجي ربه
قال من قصيدة له بهذا العنوان:
رب إن البلاد أرهقها الظل
م وحاقت بأهلها البأساء
رب إن الصدور أحرجها الوج
د وأودت بحلمها الأرزاء
فتدارك بلطفك النيل حتى
لا تجاري حياة مصر دماء
قصائد حوكم من أجلها سنة 1910
من قصيد له بعنوان «طيف الوطنية»:
وعداة ملكوا الأمر ولم
يحفظوا للشعب في حق ذماما
وولاة أقسموا أن يسجدوا
كلما رام العدى منهم مراما
رب ماذا يصنع المصري إن
جاوز الصبر مدى الصدر فقاما
طال يوم الظلم في مصر ولم
ندر بعد اليوم للعدل مقاما
هل يرى المحتل أنا أمة
مذ عرفنا السلم لا ندري الخصاما
أو يرى الظالم فينا أننا
نحمل الخسف ولا نبغي انتقاما
زعموا زورا فما من أمة
سامها العسف ظلوم ثم داما
كتب النصر لشعب ناهض
في سبيل المجد لا يخشى الحماما
ومن قصيدة له يندد بالخديو عباس الثاني:
أعباس هذا آخر العهد بيننا
فلا تخش منا بعد ذاك عتابا
أيرضيك فينا أن نكون أذلة
ننال إذا رمنا الحياة عقابا
ونيئس من آمالنا فيك كلما
قضيت علينا أن نكون غضابا
وأرضيت أعداء البلاد وأهلها
وأصليتنا بعد «الوفاق» عذابا
رويدك يا عباس لا تبلغ المدى
ولا تستمع للظالمين خطابا
فما يبتغي «جورست» إلا مكيدة
تحول أقلام السلام حرابا
وها قد رمى حرية القول رمية
بسهمك تجني للبلاد خرابا
يهاجم الوزارة
وقال في هذه القصيدة يهاجم وزارة بطرس غالي التي كانت تتولى الحكم وقتئذ:
ألا أمطر الله الوزارة نقمة
ولا بلغت مما تروم مراما
تحاول أن تقضي علينا بإثمها
ولكن ستلقى دون ذاك أثاما
وزارة خداع أقامته بيننا
يد الحاكمين الآثمين فقاما
ومن قصيدة أخرى له يندد بهذه الوزارة على أثر امتناعها عن حضور جلسات مجلس شورى القوانين فرارا من مناقشات الأعضاء:
يا أيها الوزراء ماذا نابكم
حتى هجرتم صورة النواب
إلى أن قال:
فتزلزلت أقدامكم من هولها
وهرعتم فزعا إلى الأبواب
ورضيتم الهرب المعيب لأنه
خير من الإفلاس عند حساب
عار عليكم أن يقال وزارة
لم تدر إن سئلت بيان جواب
ومن قصيدة أخرى له سنة 1910:
طال ليل البلاد والشعب سار
لا يرى غير هذه الظلمات
ظلمات من المظالم أودت
بضياء الحياة بعد الحياة
يشتكي الشعب والقضاة خصوم
فلمن يشتكي خصام القضاة
ومن قصيدة له يخاطب الشيخ عبد العزيز جاويش عندما حكم عليه لأول مرة سنة 1909، ونشرها في ديوانه «وطنيتي»:
يا ساكن السجن الكري
م وأنت نعم الأكرم
ما السجن للشرفاء إلا
رفعة وتنعم
أنت البريء ومن يخا
لك مجرما هو مجرم
هذا ما وعته الذاكرة وما وسعني الجهد في استقصاء الشعر الوطني، ولعلي بإخراج هذا الكتاب أحقق أمنية كانت تجول في خاطري منذ عدة سنوات، ولا زلت أكرر اعتذاري عما عسى أن يكون قد فاتني تدوينه من الشعر الوطني، وإني لمتدارك هذا النقص في المستقبل القريب إن شاء الله.
Unknown page