فقد بان من هذا أن البياض بالحقيقة فى الأشياء ليس بضوء ثم لسنا نمنع أن يكون للهواء تأثير فى أمر التبيض، ولكن ليس على الوجه الذى يقولون بل بإحداث المزاج المبيض، ولذلك ليس لنا أن نقول إن بياض الناطف كله من الجهة التى يقولون بل من المزاج، فإن الهواء يوجب لونا أبيض لا بحسب المخالطة فقط بل بحسب الإحالة أيضا، ولو كان مذهبهم صحيحا لكان يمكن أن يبلغ بالشىء الأبيض والملون بشدة الترقيق حتى يذهب تراكمه إلى أن يشف أو إلى قريب منه، وهذا مما لا يكون، وأما قولهم إن الأسود غير قابل للون آخر فإما أن يعنوه على سبيل الاستحالة أو على سبيل الصبغ، فإن عنوا على سبيل الاستحالة فقد كذبوا ومما يكذبهم الشباب والشيب، وإن عنوا على سبيل الصبغ فذلك حال مجاورة لا حال كيفية، فلا يبعد أن يكون الشىء المسود لا يكون مسودا إلا وفيه قوة نافذة متعلقة قباضة فيخالط وينفذ ويلزم، وأن يكون ما هو موجود فى الأشياء أبيض بخلاف ذلك فى طبعه فلا يمكنه أن يغشى الأسود ويداخله ويلزمه، على أن ذلك أيضا ليس مما لا يمكن فإنه إذا احتيل بمثل الإسفيداج وغيره حيلة ما حتى يغوص ويحلل السواد صبغه أبيض، وأما المذهب الثانى فإن ذلك المذهب لا يستقيم القول به إلا إذا فرض الخلاء موجودا، وذلك لأن المسام التى يذكرونها لا يخلوا إما أن تكون مملوءة من جسم أو تكون خالية، فإن كانت مملوءة من جسم فإما أن يكون ذلك الجسم يشف من غير مسام أو تكون له أيضا مسام وينتهى لا محالة إما إلى مشف لا مسام له - وهذا خلاف قولهم - وإما إلى خلاء، فيكون مذهبهم يقتضى وجود الخلاء والخلاء غير موجود، ثم بعد ذلك فإنهم يقولون إنه ليس كل مسام تصلح لتخييل الإشفاف بل يجب أن تكون المسام مستقيمة الأوضاع من غير تعريج حتى تنفذ فيها الشعاعات على الاستقامة، فلنخرط كرة من جمد بل من بلور بل من ياقوت أبيض شفاف، فهذه المسام التى تكون فيها شفافة مستقيمة هبها تكون كذلك طولا، فهل تكون كذلك أيضا عرضا؟ وهل تكون كذلك قطرا؟، ومن أى جهة أثبت فكيف تكون مستقيمات تداخل مستقيمات فتكون من أى جهة تأملتها لا تتعرج؟ فمن الضرورة أن يعرض من بعض الجهات خلاف الاستقامة ووقوف الأجزاء التى لا مسام لها فى سمت الخطوط التى تتوهم خارجة على الاستقامة من العين، أو يكون الجسم خلاء كله، وهذا محال، فيجب أن تكون الكرة إذا اختلف منك المقامات فى استشفافها اختلف عليك شفيفها ضرورة، ثم كيف يكون حال جسم فيه من المسام والمنافذ ما يخفى لونه حتى تراه كأنه لا لون له وله فى نفسه لون؟ ولا يستر لونه شيئا ملتصقا مما وراءه بل يؤدى ما وراءه بالحقيقة، فإن أحدث سترا فإنما يحدث شيئا كأنه ليس، فتكون لا محالة الثقب التى فيه أكثر كثيرا من الملأ الذى فيه، فكيف يجوز أن يكون لها استمساك الياقوت وهو كله فرج؟ ولو أن إنسانا أحدث فى الياقوت منافذ ثلاثة أو أربعة ثم حمل عليه بأضعف قوة لانرض وانكسر، فهذا المذهب أيضا محال،
فالألوان إذا موجودات، وليس وجودها أنها أضواء ولا الأضواء ظهورات لها ، ومع ذلك فليست هى ما هى بالفعل بغير الأضواء، والمشف أيضا موجود، وهذا ما أردنا بيانه إلى هذه الغاية، وقد بقى علينا أن نخبر عن حال الإبصار أنه كيف يكون، ويتعلق بذلك تحقيق كيفية تأدى الأضواء فى المشف،
فصل 5 (فى اختلاف المذاهب فى الرؤية وإبطال المذاهب الفاسدة بحسب الأمور أنفسها)
Page 115