وأيضا مما يشهد لنا بهذا ويقنع فيه أن القوى الدراكة بالآلات يعرض لها من إدامة العمل أن تكل لأجل أن الآلات تكلها إدامة الحركة وتفسد مزاجها الذى هو جوهرها وطبيعتها، والأمور القوية الشاقة الإدراك توهنها وربما أفسدتها، ولا تدرك عقيبها الأضعف منها لانغماسها فى الانفعال عن الشاق، كالحال فى الحس فإن المحسوسات الشاقة والمتكررة تضعفه وربما أفسدته كالضوء للبصر والرعد الشديد للسمع، ولا يقوى الحس عند إدراك القوى على إدراك الضعيف، فإن المبصر ضوءا عظيما لا يبصر معه ولا عقيبه نورا ضعيفا، والسامع صوتا عظيما لا يسمع معه وعقيبه صوتا ضعيفا، ومن ذاق الحلاوة الشديدة لا يحس بعدها بالضعيفة، والأمر فى القوة العقلية بالعكس، فإن إدامتها للعقل وتصورها للأمور التى هى أقوى يكسبها قوة وسهولة قبول لما بعدها مما هو أضعف منها، فإن عرض لها فى بعض الأوقات ملال أو كلال فذلك لاستعانة العقل بالخيال المستعمل للآلة التى تكل، فلا تخدم العقل، ولو كان لغير هذا لكان يقع دائما أو فى أكثر الأمر، والأمر بالضد،
وأيضا فإن أجزاء البدن كلها تأخذ فى الضعف من قواها بعد منتهى النشوء والوقوف، وذلك دون الأربعين أو عند الأربعين، وهذه القوة المدركة للمعقولات إنما تقوى بعد ذلك فى أكثر الأمر، ولو كانت من القوى البدنية لكان يجب دائما فى كل حال أن تضعف حينئذ لكن ليس يجب ذلك إلا فى أحوال وموافاة عوائق دون جميع الأحوال، فليست إذن من القوى البدنية،
ومن هذه الأشياء تبين أن كل قوة تدرك بآلة فلا تدرك ذاتها ولا آلتها ولا إدراكها، ويضعفها تضاعف الفعل، ولا تدرك الضعيف إثر القوى، والقوى يوهنها، ويضعف فعلها عند ضعف آلات فعلها، والقوة العقلية بخلاف ذلك كله،
Page 219