ولنستشهد أيضا على ما بيناء بالكلام الناظر فى جوهر النفس الناطقة وفى أخص فعل له بدلائل من أحوال أفعال أخرى له مناسبة لما ذكرنا، فنقول إن القوة العقلية لو كانت تعقل بالآلة الجسدانية حتى يكون فعلها الخاص إنما يستتم باستعمال تلك الآلة الجسدانية لكان يجب أن لا تعقل ذاتها وأن لا تعقل الآلة وأن لا تعقل أنها عقلت، فإنه ليس لها بينها وبين ذاتها آلة، وليس لها بينها وبين آلتها آلة، وليس لها بينها وبين أنها عقلت آلة، لكنها تعقل ذاتها وآلتها التى تدعى لها وأنها عقلت، فإذن تعقل بذاتها لا بآلة، بل قد نحقق فنقول لا يخلوا إما أن يكون تعقلها آلتها لوجود ذات صورة آلتها تلك أو لوجود صورة أخرى مخالفة لها بالعدد، وهى أيضا فيها وفى آلتها أو لوجود صورة أخرى غير صورة آلتها تلك بالنوع، وهى فيها وفى آلتها، فإن كان لوجود صورة آلتها فصورة آلتها فى آلتها وفيها بالشركة دائما، فيجب أن تعقل آلتها دائما إذ كانت إنما تعقلها لوصول الصورة إليها، وإن كان لوجود صورة لآلتها غير تلك الصورة بالعدد فذلك باطل، أما أولا فلأن المغايرة بين أشياء تدخل فى حد واحد إما لاختلاف المواد والأحوال والأعراض، وإما لاختلاف ما بين الكلى والجزئى والمجرد عن المادة والموجود فى المادة، وليس هاهنا اختلاف مواد وأعراض، فإن المادة واحدة والأعراض الموجودة واحدة، وليس هاهنا اختلاف التجريد والوجود فى المادة، فإن كليهما فى المادة، وليس هاهنا اختلاف الخصوص والعموم لأن إحداهما إن استفادت جزئية فإنما تستفيد الجزئية بسبب المادة الجزئية واللواحق التى تلحقها من جهة المادة التى فيها، وهذا المعنى لا يختص بإحداهما دون الأخرى، ولا يلزم هذا على إدراك النفس ذاتها، فإنها تدرك دائما ذاتها وإن كانت قد تدركها فى الأغلب مقارنة للأجسام التى هى معها على ما بيناه، وأنت تعلم أنه لا يجوز أن يكون لوجود صورة أخرى غير صورة آلتها فإن هذا أشد استحالة لأن الصورة المعقولة إذا حلت الجوهر العاقل جعلته عاقلا لما تلك الصورة صورته أو لما تلك الصورة مضافة إليه فتكون صورة المضاف داخلة فى هذه الصورة، وهذه الصورة المعقولة ليست صورة هذه الآلة ولا أيضا صورة شىء مضاف إليها بالذات لأن ذات هذه الآلة جوهر ونحن إنما نأخذ ونعتبر صورة ذاته، والجوهر فى ذاته غير مضاف البتة،
فهذا البرهان واضح على أنه لا يجوز أن يدرك المدرك بالآلة آلته فى الإدراك ولهذا فإن الحس إنما يحس شيئا خارجا ولا يحس ذاته ولا آلته ولا إحساسه، وكذلك الخيال لا يتخيل ذاته ولا فعله البتة، بل إن تخيل آلته تخيلها لا على نحو يخصه وأنها لا محالة له دون غيره إلا أن يكون الحس يورد عليه صورة آلته لو أمكن، فيكون حينئذ إنما يحكى خيالا مأخوذا من الحس غير مضاف عنده إلى شىء حتى لو لم يكن هو آلته لم يتخيله،
Page 218