139

وقد ظن بعض الناس فى هذا الموضع، أن معنى هذا الكلام أن العمى ينسب إلى البصر من طريق جنسه، حتى يكون كما قيل فى النحو من أنه مضاف من طريق جنسه، وكذلك العمى مضاف من طريق جنسه أو ما هو كجنسه وهو العدم، فإن العدم معقول بالعرض. ويسبب ماهو عدمه. وليس هذا الذى قاله صوابا بوجه من الوجوه. فإن العدم الذى هو جنس العمى، ليس مقول الماهية بالقياس إلى شئ، ولا بالقياس إلى الملكة، فإن العدم ليس إنما هو عدم لأجل أنه مقيس إلى صورة موضوعة فى الذهن، بإزائها، يقال لها عدم، حتى يكون العمى عمى لأن الملكة ملكة، كما يكون الأب أبا لأن الابن إبن، فينعكس القول من الجانبين كما قد علمت، إذ قول الماهية بالقياس، معناه هو حال الشئ من جهة أن شيئا آخر موجود بإزائه، ومأخوذ بإزائه من حيث هو كذلك، لنفس كون ذلك الشئ بإزائه. وليس حال الملكة عند العدم كذلك، فإن العدم يرفع الملكة، وليس العدم إنما هو عدم لأجل أن الملكة ملكة فقط، بل إنما هو عدم للملكة لا على أنها تجعل الملكة بحال، بل على أنه منسوب إليها بأنه زوالها وفقدانها لا فقدان شئ آخر كيف اتفق، ولذلك لا تحتاج الملكة أن تقال ماهياتها بالقياس إلى العدم المأخوذ بإزاء الملكة. فلما كانت المضافات مقولة الماهية بالقياس، وكذلك ما يتكافؤ المضافان فى العكس الخاص بالمضاف، ولم يكن العدم والملكة على هذه الصورة، فلا يقال: إن البصر بصر للعمى، ولا أن البصر إنما هو بصر لأجل العمى، كما ربما نقول: إن العمى عمى البصر. فظاهر أن العدم والملكة ليسا متضايفين، وكان قد علم بإشارة ما أنهما غير متضادين، فإن المتضادين اللذين لا واسطة بينهما حكمهما أحد الحكمين: إما أن يكون أحدهما طبيعيا للموضوع، يستحيل وجود الموضوع خاليا عنه، كالفردية للثلاثة فى ظاهر الأمر، والحرارة للنار؛ وإما أن لا يكون أحدهما طبيعيا، فلا يكون الموضوع فى شئ من الأوقات خاليا عن أحدهما ألبتة، مثل الصحة والمرض لبدن الإنسان. ثم العدم والملكة، فقد يكون الموضوع خاليا عنهما جميعا، قبل الوقت الذى من شأنه أن يكونا فيه، مثل الجرو الذى لم يفقح، فإنه لا بصير ولا أعمى؛ ولا يكون أحدهما طبيعيا بعينه للموضوع فى وقت كونه، فهذا التقابل ليس فيه أحد حكمى التضاد الذى لا واسطة فيه. وأما التضاد الذى فيه واسطة، فإن الموضوع فى وقت صلوحه للطرفين، قد يخلو عن الطرفين إلى الواسطة، ولا كذلك حال تقابل العدم والملكة، فإن الموضوع لا يخلو فى وقت صلوحه لهما عن أحدهما. وأيضا فإن الأطراف من المتضادات، إذا لم تكن طبيعية فقد يمكن أن تنتقل من كل واحد منهما إلى الآخر، فإنه ليس ما يقال: إن الذى له ملكة الرداة، لا ينتقل إلى ملكة الصالحين بشئ، فإنه لما كان إذا عاشر الصالحين انتقل إلى عاداتهم ولو يسيرا، فيوشك أن ينتقل عند الارتياض إلى التمام، أو يقارب التمام إن لم يخترم. ولا كذلك حال العدم والملكة، فإن الملكة تنتقل إلى العدم، والعدم لا ينتقل إلى الملكة، لا قليلا ولا كثيرا، فإن الذى يكون غير بصير، ثم يأخذ يبصر يسيرا يسيرا، فليس بأعمى، بل حكمه حكم محجوب أو مغموم أو معصوب البصر، يحتاج أن يزال المانع وينمحى. فالملكة التى هى القوة المبصرة ثابتة موجودة فيه، إنما العمى بالحقيقة أن تكون الملكة قد زالت، فأما إذا حجبت أو غمت، فليس ذلك بعمى، فقد افترق التقابل الذى للعدم والملكة، والذى للمتضادات.

Page 144