333

Durūs al-Shaykh Saʿd al-Brīk

دروس الشيخ سعد البريك

Genres

حال السلف مع الموت
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار عياذًا بالله من ذلك.
معاشر المؤمنين! لقد كان حال السلف مع أنهم أحسنوا الإعداد، واستعدوا أطيب الاستعداد، كانوا يخافون من الموت، فإذا ذكروا به تذكروا، وإذا زجروا به انزجروا، وإذا وعظوا به اتعظوا، وأما نحن في هذا الزمان، فكم والله رأينا بأعيننا أقوامًا غافلين في المقابر يتضاحكون، وإذا مرت الجنائز أمام أبصارهم لا ينتبهون ولا يتدبرون، وإذا ذكر الموت في مجالسهم أعرضوا عن هذا، ولا يحبون من يذكرهم هذه النهاية، لا يحبون من يخبرهم بالحقيقة، لا يحبون من يذكرهم بالأجل، ولكن يعجبهم الذي يخادعهم، ويزور عليهم، ويضحك بعقولهم، ويستخف بأفئدتهم، يحبون الذي يسخر بهم، فيمنيهم فيما يتركون، ويبعدهم عما ينتظرهم ويدركون.
لما تولى عمر بن عبد العزيز وخطب خطبة الخلافة، ذهب يتبوأ مقيلًا، أي: يبحث عن ضل ليقيل فيه القيلولة، فأتاه ابنه عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين! من لك أن تعيش إلى الظهر؟ فقال عمر: ادن مني أي بني! فدنى منه فالتزمه، وقبل ما بين عينيه، فقال: الحمد الله الذي أخرج من صلبي من يعينني على ديني، فخرج ولم يقل، وأمر مناديًا له أن ينادي: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها.
وقال بعض الناس: دخلنا على عطاء السلمي، نعوده في مرضه الذي مات فيه، فقلنا له: كيف حالك؟ فقال عطاء: الموت في عنقي، والقبر في يدي، والقيامة موقفي، وجسر جهنم طريقي، ولا أدري ما يفعل بي، ثم بكى بكاءً شديدًا حتى أغشي عليه، فلما أفاق، قال: اللهم ارحمني وارحم وحشتي في القبر، ومصرعي عند الموت، وارحم مقامي بين يديك يا أرحم الرحمين.
ودخل المزني عند الإمام الشافعي في مرضه الذي مات فيه، فقال له: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟! فقال: أصبحت عن الدنيا راحلًا، وللإخوان مفارقًا، ولسوء عملي ملاقيًا، ولكأس المنية شاربًا، وعلى ربي ﷾ واردًا، ولا أدري أروحي صائرة إلى الجنة فأهنيها، أو إلى النار فأعزيها؟ وقال بعض الحكماء: ما زالت المنون ترمي عن أقواس حتى طاحت الجسوم والأنفس، وتبدلت النعم بكثرة الألبس، واستوى في القبور الأذناب والأرؤس، وصار الرئيس كأنه قط لم يرأس، فمن عامل الدنيا خسر، ومن حمل في صف طلبها كسر، وإن خلاص محبها منها عسر، وكل عاشقيها قد قيد وأسر: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب:٢٣].

22 / 4