128

ومن الناس من تسمو همته على المال، فلا يبالي إلا بما يقيم أوده ويسد خلته، ويستحي أن يعد في أصحاب الأموال، ويفر من أن يحسب من الأغنياء. همته فيما هو أعلى وأعظم من علم وتعليم، وصلاح وإصلاح. لا يحرم جمع المال وإنفاقه في الخير، ولكن في نفسه كبرا على الجمع والادخار، لا يتمنى المال الكثير ولو عرض عليه ما قبله، بل لو عرضت عليه الدنيا مالها وزينتها ومتاعها لأعرض عنها حاقرا، وصدف مستكبرا. هو في غنى من نفسه، وفي شغل بمطالبه العليا.

الأحد 12 ذي الحجة/24 سبتمبر

الكائن لا المكان والزمان

المكان والزمان لهما حكمهما في الكائن فيهما.

للمكان طبيعته من البرودة والحرارة والرطوبة واليبوسة، والسهولة والحزونة، والخصوبة والقحولة ... وغيرها. وله أحكامه الاجتماعية من العرف والعادات وما يتصل بها.

وللزمان كذلك صفاته الطبيعية تختلف اختلاف فصول السنة، وله أطواره وأحواله التي تسمى حكم الزمان، وطبيعة العصر.

كلا الكونين له حكمه وأثره، وحكم المكان أشد وأنفذ، بما كان أدخل في الطبيعة، وأشد اتصالا بها وأقل مطاوعة لفعل الإنسان، مما يسمى حكم الزمان. والناس يختلفون في الخضوع للزمان والمكان والاستسلام لأحكامهما، وهذا الاختلاف معيار العلوم والصناعات، والأخلاق والقوانين. فمن الناس مسيطر على مكانه، مسخر إياه بعزمه وجهاده، فترى بلدا هواؤه شديد، وماؤه بعيد، وأرضه كزة، يسلط الإنسان فيها عقله وعمله، فإذا هو جنة يطيب فيها المقام ويسعد بها القطان. ومن الناس من يقهرهم المكان فلا يزالون في بأسائه خانعين بين أرضه وسمائه.

والذين يغلبون الطبيعة فيردون البلد الماحل خصبا، والمقام الخبيث طيبا، كذلك يقهرون الزمان الطبيعي بل هم أقدر عليه، وأكثر احتيالا له.

وينبغ في الأمم القوية على مر العصور دعاة يقهرون عرف الزمان وحكم العصر، ويبدلونه كما يشاءون، وأحرار يستكبرون على قيود العصر ويستوي عندهم ما وقع وما لم يقع. إنما معيار الأمور لديهم ما ينبغي أن يكون وما ينبغي ألا يكون، أفكارهم وأعمالهم هي الزمان فكل واحد عصر نفسه، ومبدأ تاريخ أمته، ينشئ الجيل، ويبدع التاريخ.

فإنما الأمم بكائنيها، لا بحكم الزمان والمكان فيها، وإن تعلل العاجزون وكذب المتعللون.

Unknown page