مقدمة‏

الفصل الأول‏

الفصل الثاني‏

الفصل الثالث‏

الفصل الرابع‏

الفصل الخامس‏

الفصل السادس‏

الفصل السابع‏

الفصل الثامن‏

الفصل التاسع‏

الفصل العاشر‏

الفصل الحادي عشر‏

الفصل الثاني عشر‏

الفصل الثالث عشر‏

الفصل الرابع عشر‏

الفصل الخامس عشر‏

الفصل السادس عشر‏

الفصل السابع عشر‏

مقدمة‏

الفصل الأول‏

الفصل الثاني‏

الفصل الثالث‏

الفصل الرابع‏

الفصل الخامس‏

الفصل السادس‏

الفصل السابع‏

الفصل الثامن‏

الفصل التاسع‏

الفصل العاشر‏

الفصل الحادي عشر‏

الفصل الثاني عشر‏

الفصل الثالث عشر‏

الفصل الرابع عشر‏

الفصل الخامس عشر‏

الفصل السادس عشر‏

الفصل السابع عشر‏

الشرق الفنان

الشرق الفنان

تأليف

زكي نجيب محمود

مقدمة

نستطيع أن نقول على وجه الإجمال إن في العالم طرفين مختلفين من حيث النظرة إلى الوجود؛ طرف منهما يتمثل في الشرق الأقصى: الهند والصين وما جاورهما، ويتمثل الآخر في الغرب: أوروبا وأمريكا، وبين الطرفين وسط يجمع بين طابعيهما؛ هو الشرق الأوسط.

فأما الشرق الأقصى فطابعه الأصيل العميق هو النظر إلى الوجود الخارجي ببصيرة تنفذ خلال الظواهر البادية للحس إلى حيث الجوهر الباطن، فيدرك ذلك الجوهر بحدس مباشر يمزج ذاته في ذاته مزجا تفنى معه فردية الفرد لتصبح قطرة من الخضم الكوني العظيم، ومثل هذه النظرة المعتمدة على اللمسة الذاتية المباشرة التي لا تحتاج إلى تعليل وتحليل ومقدمات ونتائج، أو إن شئت فقل: إن إدراك حقيقة الوجود بما يشبه التذوق هو ما يميز الفنان في نظره إلى الأشياء. ونحن إذا أخذنا «الفن» بمعناه الواسع، شمل فيما يشمله تصوف المتصوف وخشوع المتدين؛ لأن هذه كلها جوانب لوقفة واحدة، هي وقفة من يدرك العالم بروحه لا بعقله.

وأما الغرب فطابعه الأصيل العميق هو النظر إلى الوجود الخارجي بعقل منطقي تحليلي يقف عند الظواهر مشاهدا لها وهي تطرد وتتتابع على هذه الصورة أو تلك، فيجعل من هذه الاطرادات في الحدوث قوانين يستخدمها بعدئذ في استغلال الظواهر الطبيعية على النحو الذي يرتضيه، ولا بد لمثل هذه النظرة من السير في خطوات استدلالية تنتزع النتائج الصحيحة من مقدماتها الصحيحة، وتلك هي نظرة العلم .

وهذه التفرقة التي تجعل من الشرقي فنانا يدرك الحقيقة بذوقه، ومن الغربي عالما يدرك الحقائق بالمشاهدة والتجربة والتحليل والتعليل، لا تنفي بطبيعة الحال أن يكون في الشرق علماء، ولا أن يكون في الغرب رجال فن ودين، لكننا نطلق القول على وجه من التعميم الواسع الذي يفسر بعض التفسير ما هو شائع على الألسنة من وصف الشرق بالروحانية، ووصف الغرب بالمادية.

ولقد التقى الطرفان في الشرق الأوسط طوال عصوره التاريخية؛ ففي حضاراته القديمة تجاور الدين والعلم، كما تجاور الفن والصناعة، ثم شاء الله لهذا الشرق الأوسط أن يكون مهبطا للديانات المنزلة جميعا، فلم يلبث رجال الفكر فيه أن حلوا عقائدهم الدينية هذه بحيث أقاموها على أسس عقلية، كما هي الحال عند فلاسفة المسلمين، وهكذا جعل أهل الشرق الأوسط ينظرون إلى الوجود بالنظرتين معا: بالنظرة الروحانية - التي هي في صميمها نظرة الفنان - التي تميز وحدها بلاد الشرق الأقصى، وبالنظرة العقلية المنطقية التي تحلل وتعلل وتستدل، وهي النظرة التي تميز وحدها بلاد الغرب.

تلك هي الفكرة الرئيسية التي بسطتها في هذه الرسالة الصغيرة التي جعلتها أقرب إلى السمر أسمر به مع القراء، منها إلى بحث علمي تذكر فيه المراجع والأسانيد.

والله ولي التوفيق.

الجيزة في 15 يناير 1960

زكي نجيب محمود

الفصل الأول

سأستعمل كلمة «الفن» في هذه الرسالة بأوسع معانيها، وهو أن ينظر الإنسان إلى الوجود الخارجي نظرة ذاتية مباشرة، كأنما هذا الوجود خطرة من خطرات نفسه، أو نبضة من نبضات قلبه، وتلك هي نظرة الروحاني ونظرة الشاعر ونظرة الفنان، وهي نظرة تتم على خطوة واحدة، بخلاف العلم النظري الذي تتم نظرته إلى العالم على خطوتين؛ ففي الأولى يتلقاه كما تنطبع به الحواس انطباعا مباشرا، وفي الثانية يستخلص من معطياته الحسية نظريات وقوانين يصور بها مجرى الظواهر والأحداث.

فانظر إلى العالم من داخل تكن فنانا، أو انظر إليه من خارج تكن عالما؛ انظر إلى العالم من باطن تكن شاعرا، أو انظر إليه من ظاهر تكن من رجال التجربة والعلم؛ انظر إليه وجودا واحدا حيا تكن من أصحاب الخيال البديع المنشئ الخلاق، أو انظر إليه كثرة من ظواهر يصحب بعضها بعضا، أو يعقب بعضها بعضا، تكن من أصحاب العقل النظري الذي يستدل النتائج ويقيم الحجة والبرهان ... ولك بطبيعة الحال - بل ينبغي لك إن أردت لنفسك تكامل الجانبين - أن تجمع بين النظرتين، فتصبح الفنان حينا والعالم حينا.

هما نظرتان إلى الوجود مختلفتان: نظرة الفنان الذي يمس الكائنات بروحه - إذا صح هذا التعبير - ليقف عندها لأنه ينشدها في ذاتها، ونظرة العالم النظري الذي يقيم بينه وبين الكائنات حاجزا من قوانينه ونظرياته؛ فالجزئية الواحدة تهم العلم من حيث هي مثل يوضح القانون، لكنها تهم الفنان لذاتها؛ هذه الزهرة هي عند عالم النبات ملتقى اجتمعت عنده طائفة من قوانين الطبيعة الحية؛ فهي مجموعة من خلايا تنشأ وتفنى على أسس كيميائية. وأما الفنان فينظر إليها كائنا واحدا متكاملا كما تبدو لعينيه؛ فالقوانين الكيميائية التي تتمثل في الزهرة وفي سواها هي بغية العلم؛ وبالتالي فهو لا يجعل لهذه الزهرة وجودا مستقلا خاصا بها؛ لأنها لا تعنيه إلا بمقدار ما هي مثل يساق لتلك القوانين. وأما الفن فيفرد الزهرة وحدها، ويقف عندها يتملاها ويخلطها بنفس الفنان كأنما هي امتداد لوجوده.

هذان عالم فلكي وفنان ينظران إلى السماء ونجومها في ليلة شفافة صافية، فيقول الفلكي: لا تحسب أن هذا النجم اللامع الذي تراه الآن قائم حيث تراه، بل هو حزمة ضوئية غادرت مصدرها الأصلي منذ أمد طويل، وقطعت المسافة في كذا عاما حتى جاءت آخر الأمر لمعة من الضوء عابرة كما تراها. وأما الفنان فلا شأن له بشيء من هذا كله، وما النجم عنده إلا هذا الكائن الحاضر المشهود، يملأ بين عينيه، وتهتز له جوانحه. ففي النظرة العلمية ترد الظاهرة إلى قانونها الذي يطويها طيا مع أخواتها، مستعينا في ذلك بأسباب المنطق العقلي من استقراء وقياس، وأما عند النظرة الجمالية فلا ترد الظاهرة إلى سواها، فهي عندئذ تكون المبدأ والمنتهى.

ولهذا كانت النظرة العلمية دائما بحاجة إلى تعليل، فإذا قلت عن حجر ألقي به في الفضاء إنه يسير بالسرعة الفلانية، وسيسقط في المكان الفلاني في اللحظة الفلانية، كان للسامع أن يسألك: كيف عرفت هذا؟ فتجيبه عندئذ بقانون الجاذبية، أو بما شئت من قوانين العلم الطبيعي. وأما في النظرة الفنية إلى الشيء فلا تعليل، فإن رأيت زهرة وأحببتها فقربتها إلى نفسك، لم يكن للسامع الحق في أن يسألك كيف ولماذا، ولو شاءت لجاجة السامع أن يلح عليك في أن تهديه إلى السر في حبك لهذه الزهرة بعينها، لم يكن أمامك سوى أن تشير له إلى جوانبها التي أعجبتك قائلا: انظر إلى لونها، وانظر إلى أوراقها، وهكذا؛ فأنت بهذا تلفت نظره إلى جوانب المرئي نفسه، دون أن تجاوز به هذا المرئي إلى قانون عام يشمله ويطويه.

وهذا نفسه هو الفرق بين النافع والجميل، فلو عرضت عليك شيئا لنفعه، كان لزاما علي أن أبين لك الأغراض التي من شأنه أن يحققها لك، فأقول لك مثلا: هذا القلم أفضل من ذلك؛ لأنه أدوم منه بقاء، وأوسع منه جوفا، فلست بحاجة إلى ملئه بالمداد إلا مرة في كل أسبوع، وهكذا. وأما إن عرضت عليك شيئا لجماله، فلا غرض هناك يحققه لك سوى أنه جميل وكفى؛ وهكذا ترى النظرة الجمالية إلى الأشياء بغير حاجة إلى تعليل وتبرير، فلا القانون الطبيعي يفسرها، ولا القانون الغائي يعللها.

نعم، إن جمال الشيء الجميل قوامه دائما نظام داخلي في الشيء تتسق به أجزاؤه وعناصره؛ فجمال القصيدة من الشعر هو آخر الأمر نسق باطني فيها ينتظم أطرافها ودقائقها، وهكذا قل في جمال اللوحة الفنية، وجمال التمثال، وغير ذلك، لكن هذا النسق الخفي الكامن في جسم الشيء الجميل إنما يتبدى مباشرة لرائيه، فإما أن يراه معك زميلك أو أن يغفل عن رؤيته، فلا تكون لك حيلة في الأمر، على خلاف القوانين العلمية بما فيها هي الأخرى من نسق ونظام؛ إذ إن المدار ها هنا على استدلال النتيجة من مقدماتها، لا على العيان المباشر، فإن اختلف عالمان على أمر، أشار كل منهما لزميله إلى طريقة استدلاله ، لينتهي إلى تصويبه أو تصويب نفسه حسبما تكون الحال.

والنظرة الفنية من شأنها - آخر الأمر - أن توحد العالم؛ وذلك لأنها، كما أسلفنا، نظرة العيان المباشر الذي يلمح في حدوسه الحسية علاقات تربط أطرافها، ونسقا ينتظم أجزاءها؛ ومن هنا كانت الفردية - أو قل: الكيان العضوي المترابط - شرطا أساسيا جوهريا في نتاج الفن كائنا ما كان؛ فلو كان موضوع الفنان زهرة أو إنسانا أو منظرا طبيعيا أو حالة وجدانية أو الكون كله دفعة واحدة، فالأساس واحد، وهو أن يصاغ الموضوع على نحو يبرز وحدته وفرديته؛ فليس كل تتابع للألفاظ قصيدة من الشعر، وليس كل تتابع للنغمات لحنا جميلا؛ إذ لا بد لهذا التتابع أن يجيء على نحو معين فذ فريد، بفضل العلاقات الداخلية التي يستحدثها الفنان بين أجزاء موضوعه بحيث تستقيم كلها في كائن واحد، ولعل هذا نفسه هو الذي يجعل القطعة الفنية - كائنة ما كانت - مستحيلة على الترجمة والتلخيص والوصف، فإذا أردت أن تدرك جمال صورة معينة، فلا مندوحة لك عن مقابلتها لتراها في بنائها كله مادة وعلاقات، وكذلك إذا أردت أن تدرك جمال قصيدة من الشعر أو غير ذلك من آيات الجمال.

الفصل الثاني

وقد أراد الله للإنسان أن تكون له النظرتان معا؛ فبالنظرة العلمية إلى الأشياء ينتفع، وبالنظرة الفنية ينعم، إلا أن إحدى النظرتين قد تغلب على زيد، على حين تغلب الأخرى على عمرو، وكذلك قد تسود إحداهما شعبا، وتسود الأخرى شعبا آخر، أو قد تشيع إحداهما في عصر كما تشيع الأخرى في عصر آخر ... وإني لأزعم أن نظرة الشرق إلى الوجود كانت نظرة الفنان، على حين كانت نظرة الغرب إلى الوجود نظرة العالم، حتى لتستطيع أن تعد الشرق معرضا كبيرا من معارض الفن، وأن تعد الغرب معملا كبيرا من معامل العلم، ذلك إن جاز لي أن أعمم القول تعميما لا يخلو من مجازفة خطيرة في الحكم - فيستحيل أن يخلو من هذه المجازفة حكم يعمم القول على ملايين البشر خلال عشرات من القرون.

إن ما قد جرى العرف على أن يطلق عليه اسم «الشرق» ليس بالبلد الصغير، بل هو أقطار بعيدة الأطراف فسيحة الأرجاء، تفصلها آنا شم الجبال، وآنا تفصلها الصحارى والبحار، فلا رقعة الأرض واحدة، ولا المناخ متشابه، كلا ولا الناس من طراز واحد؛ فليس التشابه ظاهرا قريبا بين أهل الشرق الأوسط وأهل الهند وأهل الصين واليابان، وإذن فما يسمى ب «المدنية الشرقية» لا بد أن يكون في حقيقة أمره بناء مركبا كثير التفصيلات، معقد العناصر، متشعب الأصول والفروع، غير أنه على الرغم من هذا الاختلاف البعيد كله، فما من شك في أن للشرق لونا ثقافيا واحدا تتحد فيه أقطاره جميعا، وهو الروحانية التي ظهرت في أرضه دينا وفنا.

والدين والفن كلاهما مما يتذوقه المتذوق، فلا سبيل إلى معرفتهما حق المعرفة سوى أن يحياهما الإنسان حياة ينبض بها قلبه، ولا يكفي لهذه المعرفة الصحيحة أن تقرأ عنها تلخيصا يصف لك حدود القواعد والأصول؛ ففرق بعيد بين أن أشرح لك نظرية الجاذبية مثلا في العلم الطبيعي، فتفهم عنها كل شيء، وبين أن أشرح لك الديانة البوذية أو إحدى الصور الفنية، فيصل الشرح إلى عقلك لكنه لا يتسلل إلى قلبك؛ أفلا يجوز لنا إذن أن نقول إن عبقرية أهل الشرق هي في التفاتهم إلى الوجود من حيث هو حقيقة تمارس بالخبرة الذاتية، لا من حيث هو شيء يوصف وتوضع له القوانين النظرية؟ فثقافة الشرق الأصيلة يوصل إليها بالمكابدة والمعاناة، وليست هي كالعلم النظري وصفا وتحليلا، فإذا أراد الشرقي أن يعرف طبائع الأشياء على حقيقتها، التمسها في أعماق خبرته من داخل، لا في الظواهر البادية للعين من خارج، إنه كالعاشق الذي لا يعرف شوقه إلا من يكابد مثل شوقه، ولا صبابته إلا من يعانيها؛ فالمعرفة إذن من وجهة نظره مكابدة ومعاناة، هي ممارسة وخبرة، وليست هي بالتجارب تجرى في المخابير، ولا بالمشاهدة التي ينظر صاحبها إلى الحقائق من وراء المناظير وخلال العدسات.

ذلك على خلاف المعرفة العلمية النظرية التي نقول إنها على وجه الإجمال طابع التفكير الغربي، والتي إن بدأ صاحبها بما يقع له في خبرة حواسه من بصر وسمع ولمس، فهو يعود فيجزئ تلك الخبرة قطعا قطعا، ليتناول كل قطعة منها على حدة، فيخضعها للتحليل والتشريح والوزن والقياس؛ ذلك لأن المعرفة العلمية تريد أن تنتهي - آخر الأمر - إلى قوانين ذات صياغة رياضية، تقوم عليها الحجة بسلامة الاستدلال المنطقي من جهة، وبصدق التطبيق من جهة أخرى.

بل إن الفلسفة الغربية نفسها - ودع عنك العلوم - إنما تستند في سياقها - أو على الأقل هكذا يزعم لها أصحابها - إلى استدلالات منطقية تخاطب في القارئ عقله لا قلبه؛ إنها لا تدعي أنها جاءت لتثير في القارئ خياله، أو أنها تحتكم في صدقها إلى الخبرة الذاتية الخاصة، بل هي تلجأ إلى العقل تقنعه بأن المقدمة الفلانية تلزم عنها النتيجة الفلانية، سواء كانت تلك المقدمة أو هذه النتيجة مما عانيته معاناة في خبرتك الخاصة أو لم تكن ... ولا كذلك الفلسفة الشرقية القديمة، التي قالها قائلوها تعبيرا عن ذوات أنفسهم قبل كل شيء، ولا عجب أن كان هؤلاء حكماء أكثر منهم فلاسفة بالمعنى الغربي لهذه الكلمة، والذين يقولون إن الفلسفة قد بدأت عند اليونان لا ينكرون بطبيعة الحال حكمة الشرق القديم، وإنما المهم أن نفرق بين نظرتين: نظرة تقيم البراهين وتسلسلها مقدمات ونتائج، ونظرة أخرى تستوحي وجدان القلب وحدس اللقانة وصفاء البصيرة - وهي النظرة التي أسلفنا لك القول عنها بأنها في صميمها هي نظرة الفنان.

الفرق بين ثقافة الغرب وثقافة الشرق التقليديتين هو نفسه الفرق بين الرأس والقلب، بين العقل والوجدان، بين الحياة توصف لغير صاحبها والحياة يحياها صاحبها، فبينما الشرقي يرتكز أولا وآخرا على إدراكه المباشر الحي، ترى الغربي لا يعنيه هذا الإدراك المباشر إلا بمقدار ما يترتب عليه من نتائج، وسواء لديه أن يكون هو نفسه الذي أدرك الإدراكات المباشرة، أو أن يكون قد أدركها سواه ثم وصفها له وصفا دقيقا أمينا؛ لأن الجانب الذاتي لا يعنيه، ما دام هدفه هو استخلاص القوانين النظرية لا المشاهدات في ذاتها.

وما كذلك الشرقي الصوفي الفنان، الذي إن لجأ إلى كلمات اللغة ليعبر بها عن ذات نفسه، فما ذلك إلا لأنه لا حيلة له سواها، على أن تجيء للسامع موحية بما هو خفي خبيء، لا واصفة وصفا كاملا شاملا دقيقا، واقرأ إن شئت شيئا من حكمة الشرق وديانته، وشيئا يقابله من فلسفة الغرب وعلمه، تجد هذا الفرق واضحا، فهنا خبرة ذاتية فردية حية، وهناك أحكام منطقية عامة لا فرق إزاءها بين عقل وعقل، فلئن كان الغربي يحكم بالنتائج، فالشرقي يحكم بالشعور الراهن، فإذا سعد بشعوره وبقلبه وبإيمانه فلتكن النتائج بعد ذلك ما تكون، وما أصدق ما قاله في هذا حكيم من الشرق الأقصى حين طفق يعلم تلاميذه ألا يأخذن أحدا منهم خزي لطعامه الغليظ وثوبه الخشن ومأواه الفقير، فالخزي خليق فقط بمن لا يجد في ثقافته ما يدعوه إلى إدراك الوجود إدراكا جماليا تستروح به النفس، وينعم به الروح، ومما قاله ذلك الحكيم في هذا الصدد: «عش على أرز وماء، متخذا من ذراعك المطوية وسادة، تكن نشوة النفس نصيبك، وأما الثراء الذي ساءت وسائله، والأمجاد التي جاءتك عن طرائق السوء، فكالسحائب العابرة، لا خصب منها ولا نماء.»

كانت الكتابة الشرقية القديمة - وبعضها ما يزال - صورا تصور المسميات تصويرا مباشرا، وفرق بعيد في عملية الرمز اللغوي بين أن تستخدم كلمة «إنسان» مثلا لتدل بها على كائنات معينة لا وجه للشبه بين صورها في الحقيقة، وبين صورة هذه الكلمة كما تكتب، أقول إنه فرق بعيد بين هذا الموقف من ناحية، وبين أن ترسم صورة كائن بشري ذي رأس وجذع وأطراف لتشير بها إلى هذه الكائنات من ناحية أخرى؛ ففي هذه الحالة الثانية ترتكز في الرمز الكتابي على إدراكك الحسي المباشر لما هو قائم في الوجود الحقيقي الواقع، فليست الكتابة الصينية مثلا مركبة من أحرف هجاء معينة نفكها ونركبها، وننثرها ونجمعها، لنكون منها أية كلمة شئنا، بل هي مجموعة من رسوم يبين كل رسم منها - بيانا قريبا أو بعيدا - طريقة تكوين الشيء نفسه الذي جاءت الكلمة لتسميه، فالعلاقة وثيقة بين الاسم والمسمى ، شكلا وتكوينا، وهي علاقة الرؤية المباشرة للأشياء، أو إن شئت فقل إنها نقل للخبرة المباشرة بها.

إن كل كلمة في الكتابة الصينية مؤلفة من جرات، كل جرة منها مستقلة بذاتها؛ لأنها تشير إلى جانب معين من جوانب الشيء الخارجي المدرك، ثم تأتي التركيبة اللغوية، سواء كانت كلمة واحدة أو عبارة كاملة، تأتي وقد تآلفت فيها تلك الجرات المستقل بعضها عن بعض تآلفا يجعل منها وحدة واحدة، هي نفسها الوحدة الإدراكية التي يحصل عليها الإنسان المدرك حين يدرك الحقيقة الخارجية؛ ومن هنا امتازت اللغة الصينية في قدرتها على نقل الحقيقة التي يراد التعبير عنها، نقلا يحافظ لها على فرديتها وتفردها وشتى خصائصها ومميزاتها وتفصيلاتها وظلالها التي تجعل منها حقيقة فردية قائمة بذاتها.

وانظر إلى الكتابة الهيروغليفية تجدها تصويرا، ثم انظر إلى التصوير المصري تجده ضربا من ضروب الكتابة، حتى يصح القول - كما قال «دريتون» مدير الآثار المصرية ذات يوم - بأن الكتابة المصرية القديمة تسجيل بصري للمسموع، والتصوير المصري القديم تسجيل بصري للمنظور؛ فقد كان الكاتب يرسم ما يريد أن يقوله، والرسم بطبيعته لصيق العلاقة بالأشياء المحسة المرئية، ومن ناحية أخرى قد كان التصوير المصري - في رأي «دريتون» أيضا - ضربا من الكتابة؛ لأن المصور إذا ما أراد تصوير بضعة أشياء يجمعها في لوحته لتعبر له عن معنى معين، كان يختار العناصر التي تكون ذلك المعنى، من ناس وحيوان ونبات وغيرها، ثم يرتبها ترتيبا ترتبط به أجزاء المعنى المقصود، كأنه كاتب يضع الكلمات جنبا إلى جنب ليصوغ منها جملة مفيدة؛ فلا عجب إذن أن نرى التصوير المصري خاليا من دلائل الانفعال والعاطفة في الشخوص المصورة؛ فقد ترى صورة لسيد يضرب خادمه، أو صورة لعامل يحمل الأثقال، دون أن ترتسم في الصورة الأولى دلائل الغضب على وجه السيد، ولا دلائل الألم عند الخادم المضروب، ودون أن ترتسم في الصورة الثانية دلائل التعب في ملامح العامل الذي ينوء بحمله الثقيل. كذلك قد ترى صورة للملك رافعا عصاه على جمع من الأسرى والهدوء والسكينة باديتان على وجهه، حتى لكأنه يقدم لهؤلاء الأسرى طاقة من الزهر؛ فالعاطفة والانفعال في التصوير المصري لا يعبر عنهما بتغير في الملامح، بل يعبر عنهما بوضع معين للجسم يصطلح عليه للدلالة على عاطفة معينة أو على انفعال معين؛ فوضع خاص للرجل وهو يتكلم، وآخر للرجل وهو نشوان، وثالث للرجل وهو سأمان أو حزين، وهلم جرا. وهذه هي نفسها الحال في الكتابة، فلا ينتظر من الكاتب أن يجعل كلماته التصويرية معبرة عن نشوة أو حزن، فهو مثلا لا يصور الكلمة الدالة على خوف تصويرا يجعلها مرتعشة الأحرف، ويكفي أن ترص الكلمات رصا مستقرا هادئا، بحيث تثير في قارئها ما يراد له من فرح وحزن وسأم وخوف، وحسبنا هذا التشابه الشديد عند المصريين القدماء بين طريقتهم في الكتابة وطريقتهم في التصوير، لنعلم أن النظرة إلى العالم الخارجي هي في صميمها نظرة الفنان.

ولئن كانت الكتابة العربية مؤلفة من أحرف الأبجدية التي نفكها ونركبها في مختلف الكلمات والجمل، وليست هي كالهيروغليفية صورا فعلية تمثل الأشياء بأعيانها؛ إلا أننا نلاحظ قدرتها العجيبة على مسايرة الأوضاع الجزئية للأشياء الخارجية، مما يقربها جدا من وسائل الفنان. ونعيد ما قد فصلنا فيه القول، فنقول إن الفرق الجوهري بين نظرة الفنان ونظرة العالم، هو أن الأولى تساير جزئيات الوجود الفعلي، بينما الثانية تبدأ بتلك الجزئيات ثم تجاوزها إلى معان مجردة تتمثل في الصيغ الرياضية التي نصوغ بها القوانين العلمية؛ فكلمة واحدة في الكتابة العربية، مثل كلمة «كتبت» تستطيع أن تغير في شكلها فتحا وضما وكسرا وسكونا فتجعل منها عدة كلمات، كل كلمة منها تشير إلى حالة جزئية غير الحالة الجزئية التي تشير إليها الصورة الثانية من مختلف صورها، فافتح التاء الأخيرة تخاطب مذكرا، واكسرها تخاطب مؤنثا، وضمها تتكلم عن نفسك ... وهكذا وهكذا.

ولا بد أن نلاحظ هنا أن هذه الميزة التعبيرية في اللغة لها ثمنها، وذلك أن تركيز مجموعة كبيرة من الوظائف في كلمة واحدة، أو في عبارة واحدة، لا بد أن يتبعه تعقيد في النحو والصرف؛ لأن اللغة إذا سايرت جوانب الوجود الفعلي الكثيرة بما بينها من فروق دقيقة ولطائف رقيقة، كان لا بد لصور كلماتها وعباراتها أن تتنوع تنوعا يقابل تلك الكثرة الهائلة.

إن روعة لغات الشرق لتتبدى حين يكون الموضوع شعرا أو ما هو قريب الصلة بالشعر، ودقة لغات الغرب تظهر حين يكون الموضوع علما أو ما هو قريب من العلم.

الفصل الثالث

نظرة الشرقي هي في جوهرها نظرة الفنان، تمس الأشياء مسا مباشرا يهز الوجدان، ولا تبعد عن الأشياء بالتحليل والتجريد اللذين هما من وظائف العقل المنطقي الصرف، وهي نظرة ترى الكائن الواحد في مجموعه كأنه حقيقة واحدة، لا بعناصره التي ينحل إليها ويتألف منها، ثم هي نظرة سرعان ما تهتدي إلى الوحدة التي تضم شتى الكائنات في كائن واحد يطويها في ذاته فإذا هي جزء منه؛ فمهما يكن من أمر هذه الكثرة الكثيرة التي تراها أعيننا هنا وهناك في أرجاء المكان، فالحقيقة واحدة لا تعدد فيها.

والطابع الذي يميز هذه النظرة الجمالية للوجود، فيميز بالتالي ثقافة الشرق، إنما يتمثل في الأسفار الدينية، وفي الكتب المنزلة التي أراد الله أن يوحي بها في بقاع الشرق المبارك، فمن هذه الأسفار والكتب انبثقت نظرة الشرقي إلى الحياة وإلى الفن وإلى الدنيا وإلى الآخرة، ومن لم يتمثل الروح المنبثة السارية في هذه الأسفار والكتب، بحيث يمزجها بنفسه مزجا، فلا أمل له في معرفة صحيحة عن الشرق وثقافته، حتى لقد قيل إن تفهم هذه الأسفار والكتب ليغني الغريب عن السفر إلى الشرق والعيش فيه بين أهله وبنيه؛ لأنه إن أدركها تمام الإدراك، فقد أدرك تلك الوحدانية الصوفية التي تدمج الكون في كائن واحد على اختلاف ما فيه من كائنات، أو التي تجعل للكون ربا واحدا على تعدد ما فيه من أشياء وأحياء، وأما من لم يستطع أن يتمرس هذه الخبرة الروحانية في حياته وفي فلسفته، فهو أبعد ما يكون عن روح الشرق، ولو عاش في ربوعه طيلة حياته.

نعم، إن هذا بعينه يصدق على كل ثقافة غير ثقافة الشرق، فحسبك أن تدرس وتتمثل ذخيرة الغرب الفكرية لتصبح ذا نظرة غربية إلى دنياك، ولكنه أصدق بالنسبة إلى الشرق منه بالنسبة إلى الغرب؛ لأن ثقافة الشرق - كما أسلفنا - معتمدة على اللمسة الفنية والخبرة الذاتية الباطنية، وثقافة الغرب أقرب إلى النظرة العلمية، واللمسة الفنية مستحيلة على من لم يمارسها لمسا مباشرا، كما يستحيل على من لم يذق لونا من الطعام أن يعرف كيف يكون طعمه على ذوق اللسان، وأما النظرة العلمية فتوقف صاحبها على مبعدة من موضوع بحثه، فليس به حاجة مثلا إلى أن يرى الضوء بعينيه ليفهم قوانين الضوء في علم الطبيعة.

ففي مصر القديمة كان الدين - والدين خبرة ذاتية لا صيغة رياضية نظرية - عماد الحياة ومحور الأدب والفن وأساس النظام الاجتماعي كله، وقد كانت عقيدة المصري أن بداية الخلق هي السماء، ولكنه لم يصور لنفسه هذه السماء وأجرامها تصويرا يحولها إلى مسافات وأبعاد فلكية يقيسها القياسون ويحسبها الحاسبون، بل تصورها قبة تقف في فضائها الرحيب بقرة عظيمة أقدامها مرتكزة على الأرض، وبطنها هو هذا الذي تراه مزدانا بآلاف النجوم الساطعة، وبهذه الصلة بين الأرض والسماء عن طريق البقرة الثرة الولود، ولدت الأشياء جميعا ... فماذا تكون هذه النظرة إن لم تكن نظرة الفنان؟

ونظر المصري إلى الحياة فلم تتحول في عينيه «بيولوجيا» تخضع لتجارب العلماء، بل نظر إليها فإذا هي حقيقة متصلة واحدة مقدسة أصولا وفروعا؛ فمصدر الحياة مقدس، نباتا كان أو حيوانا، فالنخلة السامقة المثقلة بثمرها والوارفة بظلها في قلب الصحراء، والجميزة التي تزدهر وتترعرع في الرمال، والماء الذي يسقيهم، كلها قمينة بالقداسة والتوقير ... ألا ما أجمل أن ترى القروي حتى يومنا هذا ينحني لقطعة الخبز إذا وجدها ملقاة في عرض الطريق، فيقبلها ثم يضعها في حضن الجدار بمأمن من أقدام السائرين؛ لأن لقمة الخبز نعمة الله إذ هي من مقومات الحياة.

والمغرور من الناس هو الذي ينظر إلى صنوف الحيوان والطير، فلا يلمس فيها رابطة الحياة التي تؤاخي بينه وبينها، فلا غرابة أن يهتدي المصري بوجدانه الحي الحساس إلى توقير هذه الأسرة الكبيرة بمختلف أفرادها توقيرا بلغ حد التقديس.

على أن ما هو أقرب صلة بموضوعنا، عقيدة المصري في الخلود؛ فها هو ذا النيل يغيض ثم يفيض بالحياة، وها هو ذا النبات يذبل ويذوي مع الخريف والشتاء، ثم يحيا ويزدهر مع الربيع والصيف، أفيكون الخلود مكتوبا للماء والنبات ولا يكتب للإنسان؟ كلا! بل إنه ليعود إلى الحياة بعد موت، يعود ليحيا حياة الخلود في فردوس السماء، على شريطة ألا يكون قد اقترف في حياته من الإثم ما يستلزم بقاء جسده في قبره ظمآن جائعا، ولقد أعد مركب للصالحين يعبر بهم إلى حيث الجنة الأبدية، لكن أحدا من الناس لا ينزل هذا المركب إلا بعد حساب يؤديه له «أوزيريس» بميزان، فيضع قلبه في كفة، ويضع ريشة خفيفة في الكفة الأخرى، حتى إذا ما تعادلا كان جزاؤه العبور إلى جنة الخلد ... فماذا تكون هذه الصورة إذا لم تكن من لمسة الفنان؟

واستمع إلى هذا الدعاء يخاطب به الإنسان قاضيه الإلهي عند لقائه - وهو من المجموعة الكبيرة من الأدعية والصلوات والتعاويذ التي يطلق عليها اسم «كتاب الموتى»:

يا من يكمن في كل خفايا الحياة،

ويا من يحصي كل كلمة أنطق بها،

انظر! إنك تستحي مني، وأنا ولدك،

وقلبك مفعم بالحزن والخجل؛

لأني ارتكبت في دنياي من الذنوب ما يفعم القلب حزنا،

وقد تماديت في شروري واعتدائي،

فعفوك اللهم عفوك،

حطم الحواجز القائمة بيني وبينك،

وامح اللهم ذنبي؛

لتسقط آثامي عن يمينك وشمالك.

أو استمع إلى هذا الدعاء يخاطب به الإنسان قاضيه الإلهي ليثبت له براءته من الذنوب:

سلام عليك أيها الإله العظيم، رب الصدق والعدالة! لقد وقفت أمامك يا رب، وجيء بي لأشهد جمالك ... جئت إليك أحمل قول الصدق. إني لم أظلم الناس ... لم أظلم الفقراء ... لم أفرض على رجل حر أكثر مما فرضه هو على نفسه ... لم أهمل ولم أرتكب إثما بغيضا لدى الآلهة، ولم أكن سببا في أن يسيء السيد معاملة عبده، لم أمت أحدا من الجوع، ولم أبك أحدا، ولم أقتل أحدا، ولم أخدع أحدا ... لم أطفف الكيل، ولم أنتزع اللبن من أفواه الرضع ... أنا طاهر، أنا طاهر، أنا طاهر.

على أن المصري القديم قد بلغ من نظرته الروحانية الفنية ذروتها في شخص «إخناتون»، الذي ربما كان أول إنسان في الوجود أدرك وحدانية الوجود، أدركها بالبصيرة لا بالبصر، أدركها بخفقة الوجدان لا بالقياس العقلي، أدركها بطويته لا من خارج، أدركها بالروح لا بالبدن، أدركها إدراك الفنان لا إدراك العالم، وهاك ترنيمة من ترانيمه الخالدات، لترى هل ينطق بمثل هذا الكلام إلا شاعر فنان؟

قال يخاطب الشمس رمز الإله الواحد، ومصدر النور والحياة:

ما أجمل مطلعك في أفق السماء! إيه يا منشئ الحياة، ويا مخرج الأحياء، إنك إذا أشرقت ملأت الأرض جمالا من جمالك، فأنت الجميل العظيم المضيء المتعال، يحيط شعاعك بالأرض وما عليها من خلائقك التي ربطتها جميعا بآصرة من حبك، فمهما نأيت غمرت الأرض بنورك، ومهما علوت ألمت أطرافك بالأرض لألأة بإشراق الضحى.

إنك حين تغرب يكتنف الأرض ظلام كالموت، ويأوي الناس إلى مخادعهم، معصوبة رءوسهم، مسدودة خياشيمهم، لا يرى أحد منهم أحدا ... وعندئذ يخرج الأسد من عرينه، وتلدغ الأفعى، وتسكن الدنيا سكونا لا حراك فيه.

ألا ما أبهى الأرض حين تشرق أنت في الأفق فتضيئها بنورك يا مصدر النور، فتمحو آية الظلام ... ويستيقظ الناس وينشطون، فيغسلون أجسادهم ويرتدون ثيابهم، ويرفعون أيديهم تمجيدا لطلعتك.

عندئذ تنشط الدنيا بالعمل، وتستريح الأنعام في مراعيها، ويزدهر الشجر، ويورق النبات، ويرفرف الطير في مناقعه باسط الجناحين تسبيحا بحمدك، وترقص الأغنام نشوانة، ويطير كل ذي جناحين؛ إنها كلها لتحيا بإشراقك عليها.

وبإشراقك تقلع السفائن رائحة غادية، وتثب الأسماك في أنهارها، ويتلألأ بشعاعك البحر العظيم الأخضر.

يا خالق الناسلة في المرأة، ويا صانع النطفة في الرجل، ويا واهب الحياة للجنين في بطن أمه، تهدهده فلا يبكي، وتغذوه وهو في الرحم، يا واهب الأنفاس ويا محرك العباد! إنه إذا ما خرج الوليد من بطن أمه، فرجت شفتيه لينطق، وسددت له حاجته.

إنك أنت واهب الحياة للفرخ في بيضته، وحافظ له حياته حتى يخرج منها مغردا بكل قوته، ماشيا على قدميه منذ اللحظة الأولى.

زرقة السماء وصفرة الصحراء، هكذا رأى المصري بلاده نورا على نور، فأقام شوامخ الأهرامات والمعابد، وسوامق المسلات والتماثيل، ليصل بين النورين، وجاشت نفسه بما لمسه في الطبيعة كلها من حوله، من صمت رهيب، فتكلم معبرا عما جاش في نفسه، تكلم بلغة الحجر الأصم تماثيل تراها على اختلاف عصورها ذات طابع واحد، هو طابع الجلال الهادئ الرزين الرصين، تراها فتحسبها الرهبان قد ملأتهم السكينة والرضا، وترى على شفاهها بسمات خفيفات هامسات، فيها معنى الإشفاق على من ألهته دنيا العوابر والزوائل؛ هذا الإيمان الصابر، هذا الجلال الصامت، هو المصري من أول عصوره حتى اليوم، وإنما اكتسب المصري القديم فنه من عقيدته، ثم استمد حكمته من فنه، وكلها جوانب من نفسه نشأت حين لمس الوجود لمسة الروحاني الفنان.

وأنظر إلى التصوير المصري على جدران المعابد، أنظر إليه نظرة الفاحص المتأمل، وأعجب أن يمضي على هذا التصوير ثلاثون قرنا أو يزيد، وإذا بالفنان المعاصر - فنان القرن العشرين - يعود القهقرى مع القرون، ليجعل مبادئ فن التصوير كما عرفه المصريون هي المبادئ التي يثور بها على الفن الأوروبي التقليدي، ثم يجعلها هي نفسها المبادئ التي يحتذيها ويسير في فنه الحديث على نهجها.

ذلك أن المصور المصري كان يرسم شخوصه مسطوحة ذات بعدين، ويهمل البعد الثالث الذي من شأنه أن يظلل الرسوم ليجسمها فتصبح على اللوحة كما هي قائمة في عالم الواقع؛ أقول إن الفنان المصري كان يهمل البعد الثالث، لا جهلا منه بقواعد المنظور في الرسم، بل إدراكا منه بجوهر الفن الأصيل، وهو ألا يحاكي الفنان بفنه موجودات الطبيعة الخارجية محاكاة تجعل اللوحة الفنية صورة تطابق الواقع كما يعرفه الإنسان بعقله، لا كما ينطبع ذلك الواقع على حواسه؛ فأنت إذ ترى رجلا قائما أمامك على مقربة أو على مبعدة، إنما ترى منه في حقيقة الأمر مسطحا ملونا، فإذا قدرت لنفسك بعد ذلك أنه جسم ذو أبعاد ثلاثة: طول وعرض وعمق، فإنما تضيف العمق من خبرة أخرى غير الخبرة المباشرة التي تنطبع على شبكية العين عند الرؤية. ولقد أراد الفنان المصري أن يكون أمينا في فنه مخلصا لحواسه، فأثبت على لوحاته رسوم الأشياء وفق إدراك الحس لها لا وفق حساب العقل، وها هم أولاء قادة الفن في عصرنا الراهن «بيكاسو» و«جوجان» و«ماتيس» وغيرهم، يثورون على التقليد الذي كان قائما في الفن الغربي منذ النهضة الأوربية في القرن السادس عشر، ويستلهمون الفن القديم في مبادئه؛ لأنه أقرب إلى الخلق الفني بمعناه الصحيح.

وكذلك لم يكن الفنان المصري - إذ يضع على لوحة عدة أشياء، بعضها قريب منه وبعضها بعيد عنه - لم يكن ذلك الفنان يعبأ عندئذ بقواعد المنظور، من حيث تكبير القريب وتصغير البعيد، بل كان يضع أشكاله كلها في حجم واحد رغم تفاوتها في البعد بعضها عن بعض، فتراه يرصها جنبا إلى جنب، أو يضعها بعضها فوق بعض، كأنما هي كلها في مستوى واحد، ثم لم يكن يعبأ أيضا برسم المحيط الذي تكون تلك الأشياء موضوعة فيه، فلا منظر من مناظر الطبيعة، ولا جدران غرفة ولا أرضية بأي معنى من المعاني ... وهو ها هنا أيضا لم يكن جاهلا بقواعد المنظور، بل كان على وعي كامل بأنه فنان حر في وضع أشيائه، ولا إلزام عليه بأن يجعل صورته تنطق بالمحاكاة الدقيقة للطبيعة كما هي قائمة.

وانظر آخر الأمر كيف كان يرسم الفنان أشخاصه: فالوجه جانبي، ولكن العين مرسومة كاملة على الجانب الظاهر، والصدر متجه كله إلى الأمام، غير ملتفت إلى جانب مع اتجاه الوجه، ثم القدمان متجهتان إلى جانب، على غير اتساق بينهما وبين اتجاه الصدر، ولا مانع عنده من أن يجعل الفخذين ظاهرين كأنهما عاريتان، مع أنه يلفهما بالرداء، فهو يضع الثوب على الجسم، ثم يتجاهل وجوده ليظهر ما تحته، وهكذا وهكذا من ألوان الخروج على قواعد المنظور. لماذا؟ لا لأن الفنان جاهل بتلك القواعد، بدليل أنه يراعيها كلما أراد ذلك، إنما هو يصدر عن مبدأ فني أصيل، وهو أن يبرز «الشكل» (الفورم) على أكمل وجوهه، فخير شكل يبدو عليه الوجه هو الجانب، فيرسمه ملتفتا إلى جانب، وخير شكل تبدو عليه العين هو أن تكون شاخصة كلها إلى أمام، فيرسمها بأكملها على جانب الوجه رغم قواعد المنظور، وخير شكل للجذع هو أن يكون متجها إلى أمام، فليكن كذلك، سواء وافق هذا الوضع وضع الوجه الجانبي أو لم يوافقه، وخير شكل للقدمين هو حين تكون جانبية ليراها الرائي كاملة، وإذن فلتكن كذلك في الصورة، ولا عبرة باتفاق وضعهما مع وضع الصدر والوجه والعين. ثم لماذا يجعل الثوب يخفي الفخذين ما دام هدفه هو أن يبرز شكل الفخذين في استدارتهما واستقامتهما، فليس الأصل عنده هو أن يحاكي الواقع على حقيقته، بل الأصل هو أن يوضح الأشكال في أجمل صورها ... ليس الفنان آلة تصوير تنقل عن الطبيعة وهي صماء بكماء، فتنقلها كما هي، بل الفنان إنسان خلاق يتصرف في خلقه الفني كما يهديه ذوقه وفطرته، ولقد كان الفنان المصري أول من عرفته دنيا الفنون أو يكاد، لكنه كان من سلامة الذوق والفطرة بحيث استطاع أن يقع على المبادئ الفنية التي غفلت عنها القرون الطويلة بعدئذ، حتى جاءت بعض مدارس الفن المعاصرة فالتقطت أطراف الخيوط من جديد لتستأنف السير في طريق شقها ذلك الفنان الأول.

الفصل الرابع

وننتقل إلى الهند فنجد وحدة الوجود بادية في كل كلمة ينطق بها الهندي، وفي كل نفس يتنفسه، نراها بادية في دينه وفي أدبه، فالهندي يمزج نفسه بمحيطه الطبيعي مزجا، ويكتنه الوجود إلى سره الخفي الدفين، فيؤاخي بين نفسه وبين الحيوان كأنهما أفراد من أسرة واحدة هي أسرة الحياة، فليس العالم الخارجي عند الهندي مادة ميتة جامدة تتحرك في فضاء بسرعات معلومة محسوبة، وحسب قوانين محكمة مضبوطة، بل العالم عنده دار تعج بالأرواح الكثيرة التي تستكن في الصخور، وتدب في الحيوان، وتسري في الأشجار، وتكمن في مجاري الماء، وتعمر الجبال والنجوم، فحتى الثعابين والأفاعي مقدسات؛ لأنها آيات ناطقة بالحياة المقدسة، فأقدم آلهة ذكرتها «أسفار الفيدا» هي قوى الطبيعة وعناصرها؛ هي: السماء والشمس والأرض والنار والضوء والريح والماء، جعلوا السماء أبا والأرض أما، وكان النبات هو ثمرة التقائهما بوساطة المطر ... فإذا لم يكن هذا شعرا فكيف تكون نظرة الشاعر؟

وأراد الهندي أن يعبر عن هذه الوحدانية التي تشتمل الكائنات الحية كلها في كائن واحد، فصور الأمر تصويرا فنيا بارعا في هذه العبارة المشهورة التي وردت في سفر من أسفار «يوبانشاد»:

حقا إنه لم يكن مسرورا، فواحد وحده لا يشعر بالسرور، فتطلب ثانيا، لقد كان حقا كبير الحجم حتى ليعدل جسمه رجلا وامرأة تعانقا، ثم شاء لهذه الذات الواحدة أن تنشق نصفين، فنشأ من ثم زوج وزوجة؛ وعلى ذلك تكون النفس الواحدة كقطعة مبتورة ... وهذا الفراغ تملؤه الزوجة، وضاجع زوجته فأنسل البشر، وسألت الزوجة نفسها قائلة: كيف استطاع مضاجعتي بعد أن أخرجني من نفسه؟ فلأختف، واختفت الزوجة في صورة البقرة، فانقلب هو ثورا وزاوجها، وكان بازدواجهما أن تولدت الماشية، واتخذت الزوجة لنفسها هيئة الفرس، فاتخذ هو لنفسه هيئة الجواد، وأصبحت هي أتانة فأصبح هو حمارا، وزاوجها، وولدت لهما ذوات الحافر، وانقلبت عنزة فانقلب لها تيسا، وانقلبت نعجة فانقلب لها كبشا، وزاوجها، فولدت لهما المعز والخراف، وهكذا كان الخالق حقا خالق كل شيء، مهما تنوعت الذكور والإناث، حتى تبلغ في درجات التدرج أسفلها حيث النمال، وقد أدرك هو حقيقة الأمر قائلا: «حقا إني أنا هذا الخلق نفسه؛ لأني أخرجته من نفسي» ... وهكذا نشأت الخلائق.

في هذه الفقرة الرائعة نلمس بذرة مذهب وحدة الوجود وتناسخ الأرواح، فالخالق وخلقه شيء واحد، وكل الأشياء وكل الأحياء كائن واحد، فاختر ما شئت من صور الكائنات، تجدها كانت ذات يوم صورة أخرى، ولا يميز هذه الصورة من تلك ويجعلهما حقيقتين منفصلتين إلا الحس المخدوع ... وليس يهمنا من هذا كله الآن إلا إلقاء الضوء على الفكرة الرئيسية التي نريد توضيحها في هذه الرسالة الصغيرة، وهي أن طابع الشرق الأول الأصيل هو أن ينظر إلى الوجود نظرة الفنان التي تجاوز السطوح الظاهرة إلى الكوامن الخافية، فلئن كانت ظواهر الأشياء تدل على تعددها، فحقيقتها الخبيئة هي أنها كائن واحد، وهي وحدانية يدركها الإنسان ببصيرته النافذة إن لم يدركها ببصره.

وما تنفك هذه الفكرة تتكرر عند الهندي في أسفار «يوبانشاد»، تكرارا يتخذ صورا شتى، لكنها صور تجتمع كلها على رأي واحد، وهو أن حقائق الأشياء تدرك بلمح الحدس ولا ترى بالأعين الظاهرة، فاستمع مثلا إلى هذا الحوار بين معلم وتلميذه:

المعلم :

هات لي تينة من ذلك التين.

التلميذ :

هذه هي يا مولاي.

المعلم :

اقسمها نصفين.

التلميذ :

ها أنا ذا قد قسمتها يا مولاي.

المعلم :

ماذا ترى هناك؟

التلميذ :

أرى هذه الحبيبات الدقاق يا مولاي.

المعلم :

اقسم حبيبة منها نصفين.

التلميذ :

ها أنا ذا قد قسمتها يا مولاي.

المعلم :

ماذا ترى هناك؟

التلميذ :

لا أرى شيئا قط يا مولاي.

المعلم :

نعم يا ولدي، فهذا الجوهر الذي هو أدق الجواهر، والذي لا تستطيع العين رؤيته، هو نفسه الجوهر الخفي الدقيق الذي نبتت منه هذه الشجرة العظيمة، فصدقني يا ولدي، إن روح العالم هو هذا الجوهر الذي ليس في دقته وخفائه جوهر سواه؛ هذا هو الحق في ذاته، هذا هو الخالق، هذا هو أنت يا ولدي.

إن أول درس يعلمه حكماء أسفار «اليوبانشاد» لتلاميذهم المخلصين هو قصور العقل؛ إذ كيف يتاح لهذا الدماغ الضعيف الذي تتعبه عملية حسابية صغيرة، أن يدرك هذا العالم الفسيح المعقد الذي ليس دماغ الإنسان إلا ذرة عابرة في أرجائه؟ وليس معنى ذلك عند حكماء الهند أن العقل لا خير فيه، بل إن له لمكانة متواضعة، وهو يؤدي لنا أكبر النفع إذا ما عالج الأشياء المحسوسة وما بينها من علاقات، أما إذا حاول فهم الحقيقة الخالدة، اللامتناهية، فما أعجزه من أداة! فإزاء هذه الحقيقة الصامتة التي تكمن وراء الظواهر كلها دعامة لها، والتي تتجلى في وعي الإنسان، لا بد للإنسان من وسيلة إدراكية أخرى غير هذه الحواس الظاهرة وغير هذا العقل المنطقي؛ ذلك أننا لا ندرك روح العالم بالتحصيل والدرس، ولا بالعبقرية الفذة وسعة الاطلاع في الكتب، إنما الوسيلة المثلى في هذه الحالة هي نفسها وسيلة الطفل في براءته، هي الإدراك الحدسي المباشر، أو هي البصيرة النافذة إلى جوهر الحق وصميمه بغير مقدمات ولا نتائج، وما البصيرة إلا بصر ينثني إلى الداخل ويسد أبواب الحس الخارجي ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ليشهد الإنسان حقيقة الوجود متمثلة في ذات نفسه؛ ذلك لأن جوهر النفس الإنسانية ليس هو الجسم ولا هو العقل، بل ليس هو الذات الفردية، وإنما هو الوجود العميق الصامت الكامن في دخيلة أنفسنا، وذلك هو «أتمان» - كما يسمونه - أو هو روح العالم كله، هو القوة الواحدة التي هي فوق جميع القوى.

روح الثقافة الهندية بأسرها هي في دمج الفرد في الكون دمجا يزيل الفواصل التي تميز الفرد من محيطه، ولو أريد الشقاء لفرد من الأفراد كتب عليه أن يعود مرة بعد مرة إلى ولادة جديدة تجعل منه فردا. والنعيم الأبدي هو أن يذوب الفرد في الوجود ذوبانا لا يبقي من ذاته الفردة المتميزة أثرا، فعندئذ يعود الجزء إلى الكل الذي كان قد انفصل عنه حينا من الدهر؛ «فكما تفنى الأنهار المتدفقة في البحر، وتفقد أسماءها وأشكالها، فكذلك الرجل الحكيم إذا ما تحرر من اسمه وشكله، يفنى في الكائن الواحد القدسي الذي هو فوق الجميع» ... وتلك هي «النرفانا».

وتلك هي نظرة الفنان التي نظر بها الهندي إلى نفسه وإلى الوجود، وهي نظرة إن وقف صاحبها عند جزئية من الأشياء، فما ذلك إلا لينسجها خيطا في رقعة الكون الواحد الفسيح.

وبهذه الروح نفسها جاءت فلسفة الفيلسوف وعقيدة المتدين وفن الفنان، فالموسيقي الهندي شبيه بالفيلسوف الهندي، كلاهما يبدأ بالجزئي المحدود ليرسل روحه بعدئذ إلى الكون اللامحدود، إنه يظل يمعن في وشي موضوعه وشيا دقيق الأجزاء ناعم النغمات؛ حتى يتمكن آخر الأمر بتأثير تيار التوقيعات المتكررة النغم أن يخلق نوعا من «التخدير» الموسيقي في نفس السامع؛ لأن غاية الموسيقي - كما هي غاية الفلسفة والدين والفن عندهم - أن يصيب النفس الفردية بضرب من الذهول الذي يشل الإرادة ويطمس الفردية، وبهذه النفس الذاهلة عما يحيط بها من مادة ومكان وزمان، ترتفع الروح إلى ما يشبه الاتحاد الصوفي بكائن عميق عظيم ساكن.

وهكذا قل في فن التصوير الهندي، الذي لا يحاول تصوير الأشياء، بل يستهدف تصوير العواطف، ولا يحاول مطابقة الأصل بل يكتفي بالإيماء إليه، فغايته ليست هي أن يحاكي هذا الواقع الجزئي الماثل أمام بصر الفنان، بل غايته هي أن يثير في نفس الرائي وجدانه الديني وعاطفته الجمالية؛ لكي تنزاح عنه السدود الحوائل بينه وبين الحقيقة الكونية العليا، فليس المهم عند المصور الهندي أن يكرر الطبيعة المرئية نفسها على لوحته، بل المهم هو أن يقتنص من تلك الطبيعة الزائلة العابرة روحها الدفينة، ليبرزها في رسومه.

ولئن كان شاعر القوم هو لسانهم المعبر، فهذا هو شاعرهم «أكبر» يقول:

هنالك يا أخي عالم لا تحده الحدود،

وهنالك «كائن» لا اسم له، ولا يوصف بوصف،

ولا يعلم عنه شيئا إلا من استطاع أن يصل إلى سمائه،

وإنه لعلم مختلف عن كل ما يسمع وما يقال،

هنالك لا ترى صورة، ولا جسدا، ولا طولا، ولا عرضا،

فكيف لي أن أنبئك من هو؟

إنه ليستحيل أن نعبر عنه بألفاظ الشفاه،

ويستحيل أن يكتب وصفه على ورق.

إن الأمر هنا لكالأخرس الذي يذوق طعاما حلوا؛ فكيف يصف لك حلاوته؟

وفي قصيدة أخرى يقول:

إنه ليضحكني أن أسمع أن السمك في الماء ظمآن!

إنكم لا ترون «الحق» في دياركم، فتضربون من غابة إلى غابة هائمين على وجوهكم.

هاكم الحقيقة! اذهبوا أين شئتم ...

فإذا لم تجدوا أرواحكم، أمسى العالم زائفا في أعينكم ...

إلى أي الشطآن أنت سابح يا قلبي؟ ليس قبلك من مسافر، كلا ولا أمامك من طريق ...

ليس هنالك جسم ولا عقل، فأين تلتمس ما يطفئ غلة روحك؟

إنك لن تجد شيئا في الخلاء؛

فتذرع بالقوة وادخل إلى باطن جسدك أنت،

تقف بقدميك هنالك على موطئ ثابت.

فكر في الأمر مليا يا قلبي، أفلا تغادر هذا الجسد إلى مكان آخر؟

اطرد صنوف الوهم عن نفسك،

وثبت نظرك في حقيقة ذاتك ،

تنكشف أمام عينيك حقيقة الوجود.

الفصل الخامس

وننتقل إلى ثقافة الصين، فنلتقي أول ما نلتقي باللغة الصينية - منطوقة أو مكتوبة - لنجد لها من الخصائص ما يدل على طابع الشرق كله، فهي لغة مثقلة بمضمونها الفني، بالإضافة إلى كونها رموزا تشير إلى مسمياتها، وأعني بذلك أن الكلمة المعينة من تلك اللغة، تكتب على هيئة تصويرية تجمع عددا من الخصائص الفردية المميزة لمسمى تلك الكلمة، فتنظر إلى الكلمة مكتوبة وكأنك تنظر إلى مسماها نفسه؛ ولهذا فإن كلمات اللغة الصينية أقرب إلى الرسوم الدالة على أعلام أفراد، منها إلى الأسماء الكلية المجردة الدالة على أنواع وأجناس؛ ولذلك كانت اللغة الصينية على وجه الإجمال أقرب إلى أن تشير إلى جزئيات العالم الخارجي المحسوس، منها إلى أن تشير إلى خواطر المتكلم وما يدور في عقله من معان مجردة.

وما دامت اللغة وثيقة الصلة بعالم الجزئيات الخارجية المحسوسة، تحتم أن تجيء تلك اللغة وفيها كثرة من اللفظ تعادل كثرة تلك الجزئيات، ولو كتبت فلسفة بهذه اللغة، لجاءت هذه الفلسفة وصفا لمواقف جزئية فردية، كأنها الأمثلة يسوقها الفيلسوف ليوضح بها فكرة مجردة، إلا أن الفكرة المجردة هنا لا يكون لها وجود، والوجود كله مقتصر على أمثلتها الجزئية التي يسوقها الفيلسوف مثلا في إثر مثل حتى يستوفي الفكرة التي يريد استيفاءها.

ومعنى ذلك بعبارة أخرى، أن الفكر لا يكون نظريا بالمعنى المعروف في العلوم النظرية، بل يكون حالات مفردات لا يشترط لها ارتباط منطقي يصلها صلة المقدمات بنتائجها، بحيث يرتبط السابق منها باللاحق ارتباطا منطقيا يوجبه العقل النظري ويحتمه، فيجوز لك أن تبدل وتغير من ترتيب الأمثلة الجزئية المتعينة التي يسوقها المفكر توضيحا لوجهة نظره؛ لأن ما يجمعها معا هو اشتراكها في توضيح الفكرة المراد توضيحها، وليس هو تسلسلها على النحو الذي يجعل الحلقة السابقة مقدمة تستتبع بالضرورة الحلقة التي تليها.

فذلك بعينه هو الطابع الذي يميز كتابات «كونفوشيوس» حكيم الصين؛ فأنت إذ تقرأ له، فإنما تقرأ عبارات تنساب انسيابا مرسلا، حتى لكأنه يتحدث بما تقتضيه المناسبات، لا بما تحتمه في تسلسله مبادئ المنطق الصوري؛ ولذلك تراه ينتقل بك من مثل إلى مثل، ومن حالة جزئية إلى حالة جزئية، لا يلتزم في تتابع سياقه إلا مجرى السليقة الفطرية في انسياب الحديث، فلا تجد في عباراته مصطلحا خاصا يحتاج إلى تعريف وتحديد كما يفعل أصحاب العقول العلمية، كما لا تجد في تلك العبارات ترتيبا منطقيا كالذي تستدعيه إقامة البرهان في بسط النظريات العلمية.

لكن هذه الأمثلة الجزئية والحالات المتعينة الفردية تتميز بما تحمله من صور روعي فيها أن تكون مما يدركه الإنسان إدراكا مباشرا بحسه وشعوره، ولا إلزام هنا يقضي أن تجيء هذه الصور الجمالية مصورة لوقائع بعينها وقعت في العالم الخارجي؛ إذ ليست الحقائق الخارجية بذاتها وكما تقع هي مدار الوصف والحديث، بل المدار هو طريقة تأثر الإنسان بتلك الحقائق وكيفية وقوعها في نفسه.

ولهذا فلا تتوقع أن تجد في أقوال حكيم الصين تعميمات نظرية مجردة كالتي تراها عند أصحاب النظرة العلمية، بل إنه ليكتب كما يكتب الأديب من حيث مراعاته للمضمون الفني في كتابته، وأعني بهذا أن تكون دلالة الكلام فردية جزئية مما يستطيع السامع أن يتصوره تصورا مباشرا، وتلك هي اللمسة الفنية التي جعلناها طابع التفكير الشرقي على وجه التعميم الغالب ... يريد «كونفوشيوس» مثلا أن يرسم الطريق إلى السلام العالمي، فكيف يرسمه؟ إنه لا يلجأ إلى نظريات السياسة والاجتماع، بل استمع إليه في ذلك يقول: «إنه إذا ما تهذبت حياة الإنسان الشخصية استقامت حياة الأسرة، وإذا ما استقامت حياة الأسرة اتسقت حياة الأمة، وإذا ما اتسقت حياة الأمة ساد السلام في العالم، فينبغي لنا - من الحاكم فنازلا إلى سواد الناس - أن نجعل تهذيب الحياة الفردية الشخصية بمثابة الجذر أو الأساس، فيستحيل على فروع الشجرة أو الطوابق العليا في البناء أن يستقيم لها كيان إذا دبت الفوضى في جذور الشجرة أو في أساس البناء، فلم تشهد الطبيعة كلها بعد شجرة استدق جذعها وأخذ منه النحول، ثم جاءت فروعها العليا سميكة ثقيلة؛ وهذا هو ما أسميه «معرفة الأشياء من جذورها أو من أسسها» ...» وهكذا يسوق لك الحديث وكأنما هو يغترف من خبرات حياته الخاصة ومن مشاهداته الجزئية في مجرى الحياة اليومية؛ فهو لا يلجأ إلى البرهان النظري يدعم به صدق زعمه، بل يكتفي بمثل هذا التصوير الفني لفكرته، وهو تصوير لا يسع القارئ إلا أن يتقبله وكأنما هو منه إزاء البداهة التي لا سبيل إلى نقضها.

إن «كونفوشيوس» لينثر أقواله نثرا، كأنه المصور الفنان ينثر ألوانه على لوحة التصوير، فالرابطة بينها ليست هي الرابطة المنطقية، بل هي رابطة الاتساق والانسجام، حتى ليخيل إليك أن ليس له من مبدأ واحد ينتظم حياته وفلسفته، لكن بين أقواله المتناثرات خيطا يسلكها جميعا في عقد واحد، يستطيع العقل التحليلي الفاحص أن يستخرجه ويبرزه، أما «كونفوشيوس» نفسه، فلم يضع آراءه على صورة مبدأ ونتائجه، والمبدأ الذي يسري في حياة الرجل وفلسفته هو أنه جعل علاقة الأبوة بمثابة القانون العام، الذي بغيره يصاب النظام الاجتماعي - كائنا ما كانت صورته - بالعطب والفساد، فعلاقة الحاكم بالمحكوم مثلا لا تستقيم إلا إذا جرت مجرى العلاقة بين الوالد وولده، وهكذا قل في كل علاقة اجتماعية أخرى؛ فما لم تكن الرابطة بين أفرادها هي نفسها رابطة البر بين الأبناء والآباء، أو هي عاطفة الرحمة والعطف بين الآباء والأبناء، فلا يرجى لها صلاح؛ فحتى العلاقات التجارية - على هذا الأساس - لا يكتب لها النجاح إلا إذا ارتبط الشركاء بروابط الأسرة أو ما يشبهها، فالبيوت التجارية هناك «بيوت» بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة، والمؤسسات الصناعية وغيرها تكون أقرب إلى تحقيق النجاح إذا كان أصحابها أبناء أسرة واحدة. لكن قارن هذه النظرة بنظرة أخرى تقيم المؤسسات الاقتصادية على أساس المساهمة بين شركاء لا علاقة بينهم، بل لا يعرف أحد منهم أحدا، وليس للعضو في الشركة من وزن وقيمة إلا بمقدار ما يملك من الأسهم ... قارن بين النظرتين، تجد النظرة الأولى هي نظرة من لا يريد أن يعيش في عالم من المعاني المجردة، بل يريد أن يحيا حياة فيها دفء الوجدان، وفيها دائما ما يشبه نشوة الفنان.

إن ل «كونفوشيوس» عبارة عميقة المغزى بعيدة الدلالة فيما نحن الآن بصدده؛ إذ يقول: «إنه لا موضع لإنسان في المجتمع إلا إذا درب نفسه أولا على إدراك الجمال.» فإذا فهمنا «إدراك الجمال» على أنه الإدراك الذي يتم باللمسة المباشرة، ولا يقوم على تحليل وتعليل وحجة وبرهان، فهمنا مراد الحكيم بعبارته تلك؛ ذلك أن علاقة الأبوة - التي هي عنده أساس كل علاقة اجتماعية سليمة - ليست مما تحتاج إلى شرح وتفسير؛ فالوالد يحس علاقته بولده، والولد يحس علاقته بوالده، إحساسا مباشرا، وهكذا ينبغي أن يكون إحساس الفرد في المجتمع السليم بسائر الأفراد، فإذا كان الشعور القومي خيرا، فهو إنما يستمد خيريته هذه من كونه شعورا بين أبناء الوطن الواحد شديد الشبه بالشعور الذي يربط أفراد الأسرة الواحدة؛ أي أنه شعور لا يقيمه صاحبه على منفعة مرجوة، ولا على نظرية علمية مجردة، وإذن فهو شعور قائم على إدراك «جمالي» لا على إدراك منطقي نظري. وإذا كانت طاعة الحاكم واجبة، فلأنها شديدة الشبه بطاعة الولد لوالده، تقتضيها طبائع الأشياء التي يدركها الإنسان بفطرته الداخلية من غير تعليل وبرهان. وما هكذا يسوق حديثه المفكر الغربي حين يحلل الشعور القومي أو طاعة الحاكم، فها هنا تراه يجعل أساسه مبادئ نظرية مجردة عامة، كهذا الذي يقوله «لوك» الفيلسوف الإنجليزي، أو يقوله «جان جاك روسو»، عندما يتحدثان عن تعاقد أفراد المجتمع كيف نشأ وتطور ... الفرق بين الحالتين هو الفرق بين النظرتين؛ فنظرة تنبني على الفطرة واللقانة، وأخرى تلتمس المنطق العقلي والبرهان؛ والأولى هي نظرة الفنان، والثانية هي نظرة العالم.

الفصل السادس

مواجهة الحقيقة الوجودية مواجهة مباشرة، لا تتوسطها حلقات من تعليل وتدليل، هي لب الشرق وصميمه؛ ومن ثم كان إدراكه قبل غيره للألوهية، وإدراكه قبل غيره للعلاقة الرابطة بينه وبين الوجود من حوله، وفي هذه المواجهة المباشرة للحقيقة الوجودية تلتقي شتى فروع الثقافة الشرقية، قاصيها ودانيها، فلا فرق في هذه الخاصة بين «إخناتون» و«بوذا» و«كونفوشيوس»، وسواء كان محور الإدراك المباشر هو الوجود الطبيعي أو النظام الاجتماعي، فالمدار في جميع الحالات هو اللمسة المباشرة بين الذات المدركة والحقيقة المدركة، وهي نفسها اللمسة المباشرة التي أدرك بها أنبياء الشرق وقديسوه ورهبانه ومتصوفته حقيقة الوجود الخافية وراء ظواهره العابرات.

هذه اللمسة المباشرة بين الذات والموضوع هي التي جعلناها تعريفا للنظرة الفنية إلى الحقيقة بالقياس إلى نظرة العلم، وإن هذا التباين ليظهر بين الفنان في الشرق والفنان في الغرب رغم التقائهما في مجال واحد، فليست نظرة المصور الصيني - مثلا - إلى الطبيعة شبيهة كل الشبه بنظرة زميله الغربي إلى الطبيعة، فبينما المصور الغربي يخرج إلى الطبيعة مزودا بأدواته وأصباغه ليجلس واللوحة أمامه والمنظر المراد تصويره ماثل أمام بصره، وما عليه سوى أن يجتزئ مما يراه جانبا يثبته على لوحته، ترى المصور الشرقي يخرج إلى الطبيعة وليس معه شيء من أدوات التصوير، يخرج إليها وحده وليس معه إلا حسه ووجدانه، وهناك يتخذ جلسته مغرقا نفسه فيما حوله حتى يصبح جزءا منه؛ إنه يغمس نفسه في تيار الكون غمسا حتى لكأنه القطرة من ماء البحر، لا تتميز عما حولها من قطرات، وعندئذ يتاح له أن يشهد الطبيعة في سيالها المتصل الدفاق، وعندئذ كذلك تكون الصلة وثيقة مباشرة بين الرائي والمرئي فلا يحول بينهما حائل؛ لأنهما يكونان عندئذ شيئا واحدا؛ ولهذا تخرج الصورة من إنتاج الفنان الصيني وكأنها كل واحد متصل، لا تمايز فيها بين جزء وجزء، إنه لا يعنيه - كما يعني المصور الغربي - أن يبرز هذا الجزء وذلك الجزء من أجزاء الصورة إبرازا يحقق لكل شيء كيانه المستقل في أبعاده الثلاثة؛ كلا، فليس المعول في الفن الشرقي على صيانة الحقائق الواقعة بواقعيتها كما هي قائمة في العالم الخارجي، بل المعول هو اندماج الفنان بذاته وبروحه في تلك الحقائق، ثم على اندماجها بعضها في بعض، بحيث تؤكد ما بينها جميعا من صلة تجعل منها ومن الفنان معها حقيقة واحدة.

إن مصور الشرق لا يفترض - كما يفترض زميله في الغرب - أنه «متفرج» على الطبيعة، يشهدها كما يشهد النظارة ما يدور على المسرح، وهو كذلك لا يفترض - كما يفترض زميله في الغرب - أن للأشياء الفلانية خصائص معينة درسها وقرأ عنها؛ كلا، بل يدنو الفنان الشرقي من الطبيعة وذهنه خال من كل افتراض سابق عن حقائق الأشياء كما تقع له في ذوقه المباشر، فوازن مثلا بين المصور الشرقي والمصور الغربي إذا ما أراد كل منهما أن يصور الطبيعة وهي متلفعة بغشاء من ضباب؛ فعندئذ تدرك من صورة الفنان الغربي ما يؤكد لك أنه رسم مشهده وهو على وعي بأن الضباب غلالة عارضة جاءت فكست الشجر والنهر والجبل؛ وذلك لأنه دخل ساحة الطبيعة مزودا بعلم سابق عن مقومات المنظر الثابتة الدائمة وزوائده التي جاءت عارضة فحالت بينه وبين «حقائق» الطبيعة كما قد عرفها من قبل؛ وأما الفنان الشرقي فيدخل محراب الطبيعة متحررا من كل علم سابق، ليتقبلها بكرا؛ وبذلك لا يفرق بين جبل ثابت وضباب عارض، فكلها عندئذ طبيعة واحدة موحدة، لا مبرر لتجزئتها قطعة قطعة وشيئا شيئا، فليس التوحيد من وجهة نظره هو الوهم، بل الوهم هو تجزئة ما قد جاءه موحدا، فلا شجر عنده ولا حجر، ولا نهر ولا جبل، ثم لا ضباب يكسو هذه الأشياء أو لا يكسوها، بل إن هذه العناصر كلها خيوط من نسيج واحد. يدرك الإنسان وحدانيته لا بعقله الذي يحلل، بل يدركها بالمجابهة الروحية المباشرة، يدركها باللقطة الوجدانية الواحدة؛ وتلك هي الصوفية الشرقية بأدق معانيها وأصدقها؛ فهي صوفية لا تلغي الواقع ولا تنسخه، لكن تمحو ما يفرق - في رؤية العين - أجزاءه بعضها عن بعض، إنها صوفية تعتمد في إدراكها للحق على العيان المباشر، على البصيرة النافذة، لا على الدراسة النظرية التي تحلل الكل إلى أجزائه لتنظر إلى كل جزء على حدة بعد تجريده مما يتشابك معه في نسيج واحد.

إن في الفن الشرقي بساطة قد تخطئها عين الغربي فلا ترى أسرارها، ومكمن السر هو في اتحاد الفنان بالطبيعة التي يصورها اتحادا لا يتذوقه إلا من طعم الثقافة الشرقية وتنفس هواءها، فلقد قيل عن فنان شرقي صور قصبات الخيزران على لوحته: إنه قد نسي نفسه حتى تحول إلى خيزرانة، بحيث لم يعد يرى في نفسه إلا قصبات من خيزران، وهكذا يخيل إليك إذا نفذت بعين الناقد الخبير خلال الفن الشرقي إلى سره الدفين؛ يخيل إليك أن الفنان إذا ما صور حصانا أو طائرا أو فراشة أو نهرا، قد تحول هو نفسه إلى هذه الأشياء التي يرسمها، فهو لا يرسمها من ظواهرها كما تبدو لعين الإنسان المنتفع بها، بل يتحد معها بروحه ليرسمها من الباطن، فينفذ إلى صميم ما يتصدى لتصويره؛ وبعبارة أخرى، لا يظل الفنان أثناء ممارسته لفنه إنسانا من البشر مستقلا بجسده قائما بذاته متميزا مما حوله، بل يصبح وكأنه جزء من الكل الشامل، وما الكل الشامل عنده سوى الواحد الأحد الذي إن تعددت آياته جيادا وطيورا وأشجارا وأنهارا، فهو في جوهره لا يتعدد؛ وهذا الجوهر هو ما ينشده العابد، وهو كذلك ما يراه الفنان.

الفصل السابع

إنه بفضل هذه النظرة الدينية الصوفية الفنية التي ينظر بها الشرقي إلى الأشياء، يستطيع إدراك الوحدة التي تشتمل الكون على اختلاف ظواهره وتعدد كائناته، فلئن كانت الحواس والعقل معا من شأنها أن تجزئ الأشياء وتجرد العناصر بحيث تجعل من كل عنصر حقيقة قائمة وحدها، فإن الحدس عند من يستطيعه (وأعني بكلمة «الحدس» معناها الفلسفي، وهو اللقانة أو البصيرة) هو الوسيلة إلى إدراك الوحدة في الشيء الواحد، أو في الكون الواحد حسبما تكون الحال؛ فهذه الزهرة التي أمامي الآن لون وشكل وأريج وعود وأوراق، لكنها مع هذه التجزئة زهرة واحدة ذات كيان واحد وروح واحد، وكذلك قل في الكون كله؛ فهذه أنجم لا يحصيها العد، تقع على أبعاد لا يحصيها الحساب، وهذه ألوف الألوف من الكائنات على جرم واحد، هو الأرض التي نعيش عليها، فإن أسلمت نفسك إلى حواسك وعقلك، قلت عن الكثير إنه كثير، لكن أصحاب النظرة الحدسية لا يسلمون أنفسهم إلى حواسهم وعقولهم وحدها، بل يلجئون إلى تلك البصيرة النافذة عندهم، فيرون بها وراء الكثرة وحدة واحدة؛ ومثل هذه الوحدانية في إدراك الإنسان للكون هو الطابع المميز لنظرة الشرقي بصفة عامة، وهو نفسه الطابع المميز لنظرة الفنان، ولست بحاجة إلى القول بأن من أهل الغرب فلاسفة كثيرين - منهم «برجسون» مثلا - قد دعوا إلى هذه النظرة الحدسية النافذة إلى جوهر الحقيقة، لكننا هنا نطلق الأحكام على وجه الإجمال الغالب.

وإذا أراد القارئ أن يفهم المقصود بتوحيد الكثرة في كون واحد حين ينظر إليها بالحدس لا بالعقل، فلينظر إلى ذات نفسه من باطن، فماذا يرى؟ إنه في ظاهر الأمر يدرك سلسلة من خواطر تمر أمام انتباهه عابرة، فلو كان أمينا في وصف ما قد رآه، لقال عن نفسه إنه في الحقيقة مؤلف من حالات كثيرة، وليس أمامه برهان واحد يدل على أنه - رغم هذه الحالات الكثيرة - إنسان «واحد»، لكني على يقين من غضبه وثورته على من يصفه بهذا التعدد والتفكك، وسيصر على أنه - رغم ظاهر الأمر - حقيقة واحدة ونفس واحدة وذات واحدة، فكيف أدرك هذه الوحدانية في نفسه مع أن الإدراك العقلي لا يجد من نفسه إلا حالات جزئية تظل تتعاقب؟ أدركها بما يسمونه «الحدس»؛ وبهذا الحدس نفسه يدعوك المتصوفة أن تنظر إلى العالم بكثرته، فإذا هو أمامك واحد أحد أنت جزء منه مندمج فيه.

نعم، إن صاحب النظرة الفنية - كصاحب النظرة العلمية - يعلم أن لون الزهرة شيء غير شكلها، وهذان يختلفان عن أريجها، لكنه يضيف إلى ذلك علما أعلى وأوفى، وهو أن الزهرة - على اختلاف صفاتها من لون وشكل وأريج - حقيقة واحدة عند الوعي الذي يدركها في جملتها إدراكا مباشرا، وكذلك يعلم صاحب النظرة الفنية - كما يعلم صاحب النظرة العلمية - أن الفرد الواحد من الإنسان سلسلة من حالات وخواطر ومشاعر متباينات متعاقبات، لكنه يضيف إلى ذلك علما أعلى وأوفى، وهو أن هذه الكثرة ليس من شأنها أن تفتت وحدانية الذات الفردية الواحدة، وهو كذلك يعلم - كما يعلم زميله - أن الذات المدركة شيء غير الموضوع المدرك، لكنه يضيف إلى ذلك علما أعلى وأوفى، وهو أن الذات والموضوع كليهما حقيقة واحدة عند الحدس المباشر .

هذه الوحدانية الضاربة في صميم الحقيقة الكونية - رغم ما يبدو للحواس الظاهرة وللعقل التحليلي من تباين واختلاف، ومن تجزؤ وتعدد - هي سر الشرق وروحه، بها نادت دياناته المنزلة وغير المنزلة على السواء، أفيكون غريبا بعد ذلك أن تجيء ثقافة الشرق الأصيلة داعية إلى الإخاء بين الإنسان والإنسان حينا، وإلى الإخاء بين الإنسان والحيوان حينا آخر، بل إلى الإخاء بين الكائنات الحية والجوامد حينا ثالثا:

خفف الوطء ما أظن أديم ال

أرض إلا من هذه الأجساد

وما أجمل ما يقوله حكيم صوفي من الشرق إلى تلميذه: «أن ضع الكوب مقلوبا، فوهته إلى أسفل، وقاعه إلى أعلى، تنحصر بداخل الكوب بضعة من هواء، تحيط بها جدران الكوب فتعزلها عن بقية الهواء، لكن ارفع الكوب تزل الحواجز الفاصلة بين هواء الداخل وهواء الخارج ... وهكذا يا بني، قد ترى نفسك معزولة عن بقية الكون بين جدران جسدك فتظنها فردا مستقلا قائما بذاته، لكن أزل هذه الجدران الحاجزة تجدها جزءا من كل شامل عظيم.»

وبديهي أن هذا الكون الواحد المتصل الدافق السيال، الذي إن استطاعت الحواس الظاهرة أن تتبين فيه صنوفا من تباين الأجزاء، فاللقانة اللدنية المباشرة وحدها هي التي تدرك وحدانيته واتصاله. أقول إنه من البديهي أن هذا الكون الواحد محال على من يدرك وحدانيته بحدسه أن ينقل إلى الآخرين إدراكه هذا عن طريق اللغة. ولا بد لمن يريد أن يدرك هذه الوحدانية الكونية من تذوقها بوجدانه هو، فإذا حاول مدركها أن يصفها لغيره بألفاظ اللغة ليفهمها، فما ذلك إلا على سبيل التقريب والإيحاء؛ ومن هنا جاءت الكتب الأساسية في ثقافة الشرق الأصيلة أقرب إلى الإيماء والإيحاء والتلميح، منها إلى التحليل الدقيق المستفيض. وأي غرابة في ذلك؟ إن هذا الضرب من الإيحاء هو جوهر الفن كله، فقد ينشئ لك الموسيقي معزوفة يقول لك عنها - مثلا - إنها «الفجر»، أو إنها «الغسق»، لكن الأذن العارية وحدها لا تجد فيها فجرا ولا غسقا، والمراد هو أن توحي لك المعزوفة بما قد خبرته أنت بذاتك ساعة الفجر أو ساعة الغسق، إن نقل الخبرة الوجدانية بذاتها من صاحبها إلى غيره ممن لم يكابدها ولم يكابد شبيها لها؛ أمر محال، فليس أمل الشاعر إذا ما بث حزنه أو فرحه في قصيدة، هو أن ينقل إليك هذا الفرح أو ذلك الحزن بعينه وبذاته، بل أمله هو أن يكتب لك الألفاظ على نحو يرجى منه أن يوحي لك وأن يثير فيك خبرات ذاتية لك، قد تشبه من قريب أو من بعيد ما جاشت به نفس الشاعر، ومن هنا كثرة التأويلات للقطعة الفنية الواحدة. نعم، إنه لا أمل ولا رجاء في أن تجيء كلمات الفنان مطابقة لوجدانه، كما تجيء أوصاف العلم لظواهر الطبيعة مطابقة لتلك الظواهر، وإن شئت فقارن بين لوعة الحزين من جهة وبين وصف تلك اللوعة في كلمات، أو قارن صبابة العاشق الولهان بالألفاظ التي تساق وصفا لها، وهل كلمة «النار» تلسع قارئها كالنار نفسها؟ كلا، فإدراك الصوفي للكون لا وسيلة إلى نقله بكلمات اللغة إلى من لم يعان الخبرة الصوفية معاناة ذاتية مباشرة؛ فاللغة قد تكون صالحة لنقل المدركات المجردة، وقد تكون صالحة لوصف الحوادث والأشياء كما تجري وكما تقع في الطبيعة الخارجية، لكنها يستحيل عليها استحالة قاطعة أن تنقل الخبرة الذاتية الباطنية كما يهتز بها وجدان صاحبها؛ ولهذا كان الفرق البعيد في أداء اللغة لأغراضها بين أن يكتب بها كتاب علمي وأن يعبر بها عن خفقات الأفئدة ونبضات القلوب، والثقافة الغربية - على وجه الإجمال - هي من النوع الأول، والثقافة الشرقية من النوع الثاني.

الفصل الثامن

روح الشرق وسره هما في إدراك الجوهر الكوني الواحد المتصل الذي لا تجزئة فيه ولا تباين، ولكن أين عساك أن توجه النظر لترى هذا الجوهر، ألست مضطرا أن تلتمسه في هذه الزهرة، أو في هذا الجبل، أو في هذا العصفور؟ وإذا ركزت انتباهك في جزئية واحدة من هذه الأشياء لتستشف وراءها روح الكون الواحد، أفمستطيع أنت أن تجرد نفسك عن هذه الجزئية التي وقفت عندها متأملا؟ الجواب هو بالإيجاب؛ لو وهبك الله روح الفنان الأصيل، فما روح الفن في صميمها سوى قدرة الفنان على إدراك الحقيقة الكبرى خلال الجزئيات التي يقع عليها بحسه؛ فالفن مزيج متداخل مما هو جزئي ظاهر للعين باد للحواس، وما هو خبيء خفي مستعص على إدراك الحواس، فإذا قال شاعر في هذه الزهرة شعرا، أو إذا رسمها مصور فنان، فهو لا يقف عندها محاكيا ورقة بورقة وعودا بعود، وإلا لأغنت عنه آلة التصوير، بل إنه ليمزج بين خصائصها المميزة الفريدة من جهة، وبين ما توحي له من المعاني التي تكمن وراءها مما هو بطبيعته مفارق للحس، وما دمت قد سرحت مع الفنان بوجدانك فيما وراء الزهرة المصورة، فلا سدود عندئذ ولا حدود، بل ستظل غارقا في بحر الوجدان حتى ينتهي بك آخر الأمر إلى اللامتناهي واللامحدود، إلى الحق الواحد الذي هو جوهر الوجود.

إنه إذا اجتمع رجلان: أحدهما يقف من الطبيعة الخارجية وقفة العلماء، يلاحظ ظواهرها بحواسه المجردة أو بمناظيره المقربة والمكبرة، بحيث لا يجاوز هذه الظواهر ولا يسمح لأحد أن يجاوزها حتى لا يضرب في الغيب المجهول؛ والآخر يقف من الطبيعة وقفة المتصوف الفنان، يترك الظاهر ليلتمس الباطن ويجاوز عالم الشهادة ليغوص في عالم الغيب، أقول إنه إذا اجتمع رجلان بهذه المميزات لكل منهما، فلا رجاء ولا أمل في أن يلتقيا على رأي؛ لأن كلا منهما يجول في عالم غير العالم الذي يجول فيه زميله، وإذا لم يهبهما الله شيئا من سعة الصدر ورحابة الأفق، لكان الراجح أن يضيق كل منهما بزميله، ذلك إن لم يجعل من زميله موضع هزء وسخرية، فلا سبيل إلى تفاهم بينهما إلا إذا اتفقا بادئ ذي بدء على أي العالمين هو المقصود المنشود؟ أما أن يلتمس أحدهما حقائق الأشياء عن طريق حواسه الظاهرة من بصر وسمع وما إليهما، ثم عن طريق العقل المنطقي الذي يستخرج من هذه الظواهر المحسة قوانينها، على حين يلتمس الآخر حقيقة الأشياء فيما هو دائم ثابت وراء تلك الظواهر؛ فعندئذ لا تكون بينهما نقطة التقاء في وجهة النظر، وهذا الانفراج والتفاوت بين النظرتين هو الذي شهدناه مدى قرنين أو ثلاثة في التاريخ الحديث بين الغرب والشرق؛ فللأول منهما نظرة تدرك الجزئيات العابرة لتكون منها علما، فتدرك هذه اللمعة من الضوء تجيء وتذهب، وهذا اللون القرمزي من الزهرة يظهر ويختفي، وهذا الصوت يطرق الأذن ثم يفنى؛ وللثاني منهما نظرة أخرى، نظرة تلتمس شيئا لا يتحقق في هذه اللمعة وحدها، ولا في هذا اللون القرمزي وحده، ولا في ذلك الصوت المسموع، ولكنه يتحقق فيها جميعا على حد سواء، الأول منهما يهزأ من زميله الملغز الحالم، وكذلك يهزأ الثاني من زميله الأول لتفاهة إدراكه، ولغروره الصبياني الذي يرضى ويقنع بالعوابر الزائلات. ألا إن سر الشرق وروحه - أو إن شئت فقل: إن سر الفن وروحه - هو في الغوص وراء هذه الجزئيات العابرة كأنها الموجات الصغار تضطرب على سطح المحيط.

فليس الخلود وليس الدوام وليس السكون إلا للجوهر الذي تكون تلك الحالات الظاهرة الطارئة حالاته، وسبيل إدراك الجوهر الخالد هو الحدس النافذ، هو حدس المتصوف وبصيرة الفنان، وإنها لنظرة تنتهي بصاحبها إلى الاعتقاد الجازم بفناء الجوانب الحسية الزائلة من شخص الإنسان ومن الطبيعة على السواء؛ فكل صفة لأي كائن تعلم عنها أنها صفة خاصة بهذه اللحظة من حياة ذلك الكائن، أو خاصة بهذا الظرف المعين الذي يحيط به، هي صفة زائلة وإدراكها لذاتها لا يعني شيئا، ولا يغني عن الحق شيئا، والمهم هو أن ندركها لنستشف وراءها جوهرا لا يقتصر وجوده على هذه اللحظة المعينة، ولا على هذا الظرف الموقوت، وهو الجوهر الذي لا تعرف طبيعته تمايزا ولا تباينا بين أجزائه؛ لأنه متجانس متصل لا تجزئة فيه ولا كثرة ولا تعدد، هذا الجوهر الذي يتبدى من الأشياء ألوانا وأشكالا، هو وحده الذي يفلت من قبضة الموت، هو وحده الباقي، هو «وجه ربك» الذي يبقى بعد أن تفنى الأرض وما عليها.

هذا هو الشرق وطريقة إدراكه للوجود والموجود، وهو يرتب على هذا المبدأ فلسفته في الحياة؛ فيستحيل - مثلا - على شرقي أن يجعل مثله الأعلى في الأخلاق متعة الجسد؛ لأن متعة الجسد بطبيعتها صائرة إلى زوال سريع. والعبرة هنا «بالمثل الأعلى» لا بطرائق العيش الفعلية، فقد يحدث للشرقي أن يغوص في المتعة الجسدية إلى أذنيه، لكنه يحس في ضميره أنه ضال عن جادة الطريق، على حين قد تجد في الغرب فلسفات أخلاقية بأسرها - كفلسفة «بنتام» و«مل» - تجعل المنفعة والمتعة مبدأ خلقيا صريحا، ولو كانت المتعة مما يدوم دواما لا يطرأ عليه التغير والتحول - كما هي الحال في جنة الفردوس - لما كان فيها عند الشرقي من بأس، لكنها في هذه الدنيا متغيرة متحولة، شأنها شأن سائر الظواهر الجزئية الفردية العابرة؛ ولذلك ازدراها الشرقي في مثله العليا وغض عنها البصر.

الفصل التاسع

تلتقي ديانات الشرق الأقصى كلها في وجهة نظر واحدة، مؤداها هو هذا الذي أسلفناه؛ فللكون روح واحد أزلي أبدي، تنبثق منه هذه الكائنات الأفراد لتقيم على السطح الظاهر حينا ثم تعود فتندمج - كما كانت - في ذلك الروح الواحد الخالد، وإن هذه الكائنات التي تمر كأنها الظلال لهي من التنوع والكثرة بحيث يجوز لنا أن نتصور الجوهر الكوني أما ولودا، ما تنفك تخرج من جوفها ألوف الألوف من الصور، ثم لا تلبث أن تعيد ما أخرجته إلى جوفها من جديد؛ إنها تخرج الفضيلة والرذيلة معا، والجمال والقبح، والتقوى والفجور، من جوفها يخرج الغضب والجشع والفتك والإجرام، ومن جوفها كذلك يخرج صفاء القديسين ونقاء الأطهار، لكن جانب الفضيلة هذا إنما يخرج ليكون صورة معبرة عن روح العالم وهو في سكونه وصمته؛ لأن السكينة والصمت هما من الكون جانبه الأبدي الذي لا تفسده العواطف والانفعالات والكدح العابث المغرور.

وروح العالم إذ يعبر عن نفسه في كلتا الصورتين: صورة الطمع والجشع والتناحر والقتال، وصورة العفة والترفع والسكينة والصمت والتأمل؛ إنما يهيئ للإنسان بذلك سبيلا لتحقيق حريته بمعناها الصحيح، فليست الحرية الحقيقية هي أن تقر الكائن البشري كما هو برغباته وشهواته، ثم تضع في يديه وسائل العلم ليستغلها في استخدام الطبيعة لصالحه، بل الحرية بمعناها الصحيح هي في اندماج الإنسان بروحه في روح العالم ليصبح جزءا من مصدر الإمكانات التي بوسعها أن تكون أي شيء على وجه التعين والتحديد؛ الحرية بمعناها الصحيح هي أن تخرج عن كيانك هذا الجزئي الفردي الذي تحددت صفاته وخصائصه، ودخل في نطاق الأشياء التي تحققت بالفعل، ولم يعد في حدود المستطاع أن يصيبها تبدل وتغير وحذف وإضافة؛ الحرية الصحيحة هي أن تخرج من كيانك الفردي المفروغ من صياغته على نحو محدد معلوم، لتدخل في نطاق اللامحدود واللامتعين، فتصبح جزءا من الأم الولود التي تلد صنوف الكائنات، فتتجدد لك حرية الاختيار في أن تكون شيئا لم يتم بعد صياغته.

كثيرا ما يتهم الغربيون أهل الشرق بأنهم قد فرضوا على أنفسهم الأغلال التي تحد من حريتهم، باعتقادهم في القدر المحدد المرسوم، مع أننا لو تعقبنا النظرة العلمية الغربية والنظرة الشرقية الصوفية إلى أصولهما، لتبين أن مغلول الحرية هو صاحب النظرة الأولى، أليس العلم عند أصحاب النظرة العلمية منتهيا بهم إلى معرفة العالم معرفة كاملة؟ وإذا كان الأمر كذلك، أفلا يكون معنى هذا هو أن العالم قد خرج كله إلى دنيا التحقق الفعلي، فتحددت صفاته وخصائصه، وما علينا بعد ذلك إلا أن نرفع النقاب عن هذه الخصائص والصفات لنحيط بكل شيء علما؟ أين إذن تكون الحرية في تغيير ما هو كائن بالفعل؟ وأما وجهة النظر الأخرى فهي - على خلاف ذلك - ترى إمكان أن يعود الأفراد إلى الانغماس في المصدر اللامحدود اللامتعين، وإمكان أن يصدر عن هذا المصدر سيل آخر من الكائنات التي لا سبيل إلى تحديد صفاتها قبل صدورها؛ وإذن فهنالك الاحتمال دائما بأن ينشأ عن الجوهر الكوني مخلوق جديد مبتكر. وكما أن الكون كله فيه هذان الجانبان: جانب المصدر المبدع الخلاق في خلوده وثباته، وجانب المخلوقات الجزئية التي تم تكوينها على صور معلومة، فكذلك في الإنسان الواحد هذان الجانبان: ففيه جانب سلوكي جزئي هو هذه الحياة العملية التي يحياها ويسعى فيها نحو تحقيق رغباته وشهواته وآماله، وجانب السكون والصمت والتأمل، ولو استطاع الإنسان أن ينجو من تيار الحياة العملية المضطربة ليخلد إلى ذات نفسه في سكينة وتأمل، لاستطاع أن يحقق لنفسه الحرية بمعناها القويم.

هذه وجهة للنظر تجعل الإنسانية والطبيعة كلتيهما تسيران في طريق مفتوح قابل للتغير الذي قد تقتضيه الحكمة، وأما أن ننظر إلى العالم وكأنما هو شيء قد كمل واكتمل على قوانين معينة لا سبيل إلى تبديلها، فهو بمثابة أن نضع الغل في أيدينا؛ فقد يستقل المسافر الغربي في مدينة شرقية سيارة ساعة معينة، حاسبا حسابه بأنه سيبلغ جهته المقصودة في كذا من الدقائق، وكم تكون دهشته حين يسأل السائق الشرقي: ألا تكفينا عشر دقائق لنقطع المسافة إلى المكان الفلاني؟ فيجيبه السائق الشرقي بما معناه: «إن شاء الله.» لأن الشرقي في صميمه يحس أن مجرى الأمور معرض للتغير، ولا يدعي حسابه حسابا دقيقا إلا جاهل؛ فأي هاتين النظرتين تتمشى مع الحرية الحقيقة وأيهما تناقضها؟ أيكون الغربي مؤمنا بالحرية الكونية حين يزعم أن الأمور دقيقها وجليلها قد رسمت رسما لا سبيل إلى تغييره وتحويره؟ أم يكون الشرقي مؤمنا بالقدر المغلق المقفل حين يتصور أن الأمور تحتمل أن تجري على غير ما حسب لها الحاسبون؟ ... الفرق بين الرجلين هو هذا: رجل يعطي الحرية للإنسان الفرد ويسلبها من الكون في مجموعه، وآخر يعطي الحرية للكون في مجموعه بما فيه الإنسان نفسه باعتباره جزءا منه، ويسلبها من الإنسان الفرد من حيث هو فرد منعزل مستقل عن الكون العظيم.

ومن فلاسفة الغرب من يذهبون مذهبا قريب الشبه بهذه الفلسفة الشرقية، وعلى رأسهم «سبينوزا» بمذهبه المعروف، الذي يأخذ فيه بأن في الكون حقيقة شاملة يسميها «جوهرا»، وهذا الجوهر أزلي أبدي ثابت، يتبدى في هذه الأشياء الكثيرة التي تقع لنا تحت الحس، وهي كلها أعراض زائلة فانية؛ فأنت وجسدك وعشيرتك ونوعك الإنساني وأرضك التي تعيش عليها إن هي إلا أعراض زائلة، تنم عن حقيقة خالدة كامنة فيها، فقد يزول الشيء الجزئي ويفنى، وأما الحقيقة التي تتمثل فيه فباقية لا تخضع لزوال أو فناء.

ومن رأيه أن للطبيعة الكبرى مظهرين: فهي طابعة من ناحية ومنطبعة من ناحية أخرى؛ أي أنها فعالة منشئة خالقة من ناحية، وهي منفعلة مخلوقة من ناحية أخرى؛ فأما هذا الجانب المنفعل المنطبع المخلوق فهو الدنيا وما تحوي من غابات وهواء وماء وجبال وحقول وسائر الأشياء الحسية التي لا تقع تحت الحصر، فهي كلها أشياء من إنتاج الجانب الطابع الفعال المنشئ الخلاق؛ وهكذا تجد في الكون قوة تخلق وهي «الجوهر»، وأشياء مخلوقة وهي «الأعراض»، فإذا سألت عن الإنسان حرا أو مقيدا؟ أجبناك بأنه الاثنان معا من وجهتين للنظر مختلفتين، فهو حر إذا اعتبرته جزءا من الكون الطابع الفعال، وهو لا شك جزء منه؛ لأنه ليس خارجه ولا مفارقا له، ولكنه أيضا مقيد إذا اعتبرته أحد الأعراض التي جاءت نتيجة محتومة للجوهر الكوني؛ إذ لا سبيل أمام هذه الأعراض المنطبعة المنفعلة المخلوقة إلا أن تسيرها في مجراها المرسوم.

وكذلك هناك شبه قوي بين فلسفة «شوبنهور» وبين هذه الفلسفة الشرقية، حتى لقد قيل إن «شوبنهور» قد استقى فلسفته من هذا المصدر الشرقي الزاخر؛ فمما يقوله «شوبنهور»: «إن الأحياء كافة أجزاء من حقيقة واحدة، ولكن وجودها الفردي في زمان ومكان يظهرها بمظهر الكائنات المنفصلة؛ فالزمان والمكان هما أصل الانفصال الفردي الذي تنقسم به الحياة إلى كائنات عضوية متميزة تبدو كأنها أشتات متفرقة في أمكنة مختلفة، وفي فترات من الزمان متباعدة، فليس الزمان والمكان إلا نقابا وهميا يخفي عن أعيننا اتحاد الأشياء، والواقع أن ليس هناك إلا نوع واحد وإلا حياة واحدة؛ ومهمة الفلسفة عنده هي أن توضح للإنسان في جلاء أن ليس الفرد إلا الظاهرة لحقيقة وراءها، لا الحقيقة في ذاتها، وأن تبين له أن ثمة صورة دائمة ثابتة نراها من خلال التغير المتصل في دنيا الجزئيات والأفراد.»

يقول «شوبنهور»: «إن من لا يستطيع أن ينظر إلى الأحياء والأشياء جميعا وفي كل عصور التاريخ بحيث يراها أشباحا وأوهاما، فليست لديه ملكة الفلسفة ... إن فلسفة التاريخ الصحيحة هي إدراكنا لوجود ثابت لا يتغير، وإن بدا كما تراه متغيرا تغيرا لا نهاية له في الحوادث المتشابكة ؛ فهو يتابع اليوم نفس الأغراض التي كان بالأمس ينشدها، والتي سيظل ينشدها إلى الأبد، فعلى فيلسوف التاريخ أن يتعرف - بناء على هذا - تلك الصفة الواحدة في كل الحوادث ... وعليه أن يرى أن الإنسانية هي هي في كل مكان، على الرغم مما توجبه الظروف الخاصة من أوجه الخلاف في العادات والأخلاق والأزياء.»

الفصل العاشر

وما دمنا بسبيل مقارنات سريعة بين الفلسفة الشرقية وبعض فلسفات الغرب، فلا بد أن نقف وقفة عند مقارنة كثيرا ما تتردد على أقلام الكتاب، وهي المقارنة بين «بوذا» من ناحية و«هيوم» من ناحية أخرى؛ إذ إن كليهما يتفقان في نقطة رئيسية هامة، وهي تفكك مجرى المعرفة إلى حالات مفردة متتابعة.

ففي الحق إن هناك شبها قويا بين خطوتين من خطوات التفكير في كلتا الحالتين؛ فمن ناحية نرى «بوذا» (حوالي 600ق.م) قد أعلن عن رأيه المعين في المعرفة، ثم جاء تلاميذه فأخرجوا النتيجة المنطقية التي تترتب على هذا الرأي مما لم يفصح عنه «بوذا» نفسه؛ ومن ناحية أخرى نرى «باركلي» الفيلسوف الإنجليزي في القرن الثامن عشر (1685-1753) قد أبدى كذلك رأيه المعين في المعرفة، الذي هو شبيه برأي «بوذا»، ثم جاء من بعده «هيوم» في الفلسفة الإنجليزية (1711-1776) فأخرج من الرأي نتائجه المنطقية كما قد فعل تلاميذ «بوذا»، بحيث انتهى الأمر في الحالتين إلى نقطة واحدة وقفت عندها الفلسفة الإنجليزية، لكن الفلسفة الشرقية مضت في السير بعدها، فكان في هذا المضي موضع الخلاف بين فلاسفة الغرب وفلاسفة الشرق.

في كلتا الحالتين - «بوذا» ومن بعده الأتباع يكملونه، و«باركلي» ومن بعده «هيوم» يتممه - يبدأ البادئ بقوله: إن حقيقة الشيء المدرك هي كيفية وقوعه على الذات المدركة، فحقيقة هذه الشجرة التي أنظر إليها هي انطباعها على عيني، وحقيقة القلم الذي أحسه الآن بين أصابعي هي ضغطته على أصابعي مضافة إلى انطباع صورته اللونية على عيني؛ وهكذا حقائق الأشياء هي نفسها معطياتها الحسية المباشرة؛ وإذن فما لم يكن هنالك ذات تدرك فلن يكون هنالك شيء يدرك، هذا إلى أنه ما دامت الحاسة - كالبصر واللمس - لا تدرك إلا شيئا جزئيا معينا حاضرا ماثلا أمامها الآن، فكل إدراكاتنا إذن هي من قبيل الجزئيات، وما المدرك الكلي العام (مثل قولي «شجرة» و«قلم» على إطلاقهما) إلا إحدى الجزئيات التي أدركتها الحاسة فيما مضى، جعلناها ممثلة لبقية أفراد نوعها، كما يمثل مثلث واحد مثلا بقية المثلثات ... هكذا يقول «باركلي»، فيجيء من بعده «هيوم» ليطبق المنطق نفسه على الذات المدركة، فإذا هي وهم ليس له وجود؛ لأنه ما دام الإدراك لا يكون إلا لجزئيات حسية معينة، من لمعات الضوء التي تنطبع بها العين إلى نبرات الصوت التي تنطبع بها الأذن، ثم لما كانت «الذات» التي نفرض وجودها ونزعم لها أنها هي التي تدرك تلك الجزئيات المتتابعة دون أن تكون هي نفسها واحدة منها، أقول إنه لما كانت «الذات» ليست انطباعا جزئيا من بين شتى الانطباعات التي تتعاقب مع تعاقب اللحظات؛ إذن فليست «الذات» موجودة بين الموجودات التي يمكن للإنسان معرفتها؛ لأن كل ما لدى الإنسان من معرفة هو خرزات مفردات من انطباعات تنطبع بها هذه الحاسة أو تلك، وأما «الذات» التي هي بمثابة الخيط الذي يربط الخرزات في عقد واحد، فلا وجود لها ... هكذا تطور الرأي من «باركلي» الذي جعل الشيء المادي المعين - كهذه الشجرة مثلا - مجرد إدراك الذات له، ولا حقيقة له غير ذاك؛ إلى «هيوم» الذي مضى بالرأي إلى نتيجته، وهي أن الذات المزعومة نفسها - بناء على الأساس نفسه - وهم ليس له وجود. وهكذا أيضا كان تتابع الرأي بين «بوذا» وأتباعه؛ ف «بوذا» يذهب إلى أن حقيقة كل موجود هي وقع ذلك الموجود على الذات المدركة له، ثم يجيء شراحه فينفون وجود الذات على الأساس نفسه الذي انتفت به الحقائق المادية الخارجية. «بوذا» في الشرق و«باركلي» في الغرب، كلاهما قد جعل الحقيقة ذاتية، فليس لشيء - كائنا ما كان - وجود إلا بمقدار إدراكنا الذاتي له؛ وبهذا فلا عالم إلا ما تدركه ذات الإنسان؛ وهكذا تتبخر الحقائق المادية الصلبة فتصبح لا شيء سوى حالات عقلية ذاتية عند الإنسان المدرك، وأتباع «بوذا» في الشرق و«هيوم» في الغرب كلاهما قد انتزعا نفس النتيجة من نفس المقدمة، والنتيجة هي أنه إذا لم يكن ثمة وجود لشيء إلا إذا انطبعت به الذات، ثم إذا كانت الذات ليست من بين ما ننطبع به؛ إذن فهي اسم على غير مسمى، فلا موضوع في الخارج ولا ذات في الداخل، وكل ما هنالك هو انطباعات فرادى تتتابع واحدة في إثر واحدة.

إلى هذا الحد يسير المذهبان: الشرقي والغربي، في طريق واحدة من النفي والإنكار، لكن الفلسفة الشرقية تمضي في طريق الإنكار والنفي خطوة أخرى لتبلغ المنتهى. وها أنا ذا أوضح للقارئ خطوات هذا النفي واحدة بعد واحدة، كما قد سارت فيها الفلسفة البوذية، بل الفلسفة الشرقية كلها:

هبني واقفا في زمالة فيلسوف شرقي أمام شجرة معينة، ثم سألني الزميل الفيلسوف: ماذا ترى؟ فأجبته بما يوحي إلي به إدراك السليقة الفطرية، قائلا: أرى شجرة قائمة خارج كياني، وهي قائمة هناك سواء أكنت أنا شاخصا إليها ببصري أم لم أكن؟ ها هنا يخطو بي الفيلسوف أول خطوة في طريق النفي والإنكار، قائلا: لا، ليست الشجرة قائمة خارج ذاتك؛ إذ كيف يتاح لك أن تخرج من إهابك وتنسلخ من جلدك وحواسك لتتحقق من وجودها أو عدم وجودها خارج نفسك؟ إن كل ما تعلمه هو أن لديك انطباعا ذاتيا بصورتها، ولا حيلة لك بعد هذا في معرفة إن كان لهذه الصورة الذاتية أصل خارجي أو لم يكن، وبهذا الإنكار ضاع الوجود المادي للشجرة وباتت عدما، وتحولت إلى وجود ذاتي صرف.

ثم يخطو بي الفيلسوف خطوة ثانية، فيسألني: ماذا عندك الآن؟ وأجيبه: عندي ذات مدركة وعليها انطباع لصورة شجرة. فيردني عن هذا قائلا: هل أدركت فيما أدركت «ذاتا» قائمة بنفسها كأنما هي موجود مستقل ذو كيان خاص؟ فأجيبه: كلا، لم أدرك مثل هذه الذات. فيقول: إذن فلا وجود لذات قائمة بنفسها في كيانك، فليس في وسعك أن تجاوز حدود مدركاتك الجزئية التي تشغل انتباهك واحدة بعد واحدة في لحظات الزمن المتعاقبة، لترى إن كان وراءها «ذات» تمسك بها وتعيها أو لم يكن؟ فكل محصولك هو خواطر وانطباعات، وبهذا يضيع الوجود المستقل للذات، ويصبح الموجود كله حالات عقلية أو حالات نفسية أو ذاتية مفككة فرادى.

إلى هنا ينتهي شوط الإنكار والنفي عند فلاسفة الغرب («باركلي» و«هيوم»)، ومن هنا تبدأ مرحلة جديدة من النفي عند «بوذا» وأتباعه، فماذا لو جردت نفسي من هذه الإدراكات الجزئية نفسها؟ إنها عابرة وإنها زائلة؛ فهذه لمعة من الضوء تظهر وتختفي، وهذه نبرة من الصوت تسمع ثم تزول، وتلك لمسة بالأصابع تحس ثم تفنى، فلننفضها جميعا، لننفض هذه الموجات الصغيرة التي يضطرب بها السطح ثم ننظر فيما يبقى ... إنه لا شيء، إنه لعدم، إنه «النرفانا». هكذا يمضي البوذي في نفيه، وها هنا يقف الغربي مشدوها كأنما هذا «العدم» الذي انتهينا إليه، ليس نتيجة تلزم عن كل تأمل يبدأ بالتجريد ثم يمضي في شوطه حتى نهايته.

لكن وجه الاختلاف بين الفيلسوف الغربي وزميله الشرقي في هذا، هو أن العدم عند الأول سلبي محض، وأما عند الثاني فهو عدم إيجابي؛ أي أن العدم عنده هو الوجود المجرد، يوصف بصفات سالبة، فتصفه بأنه ليس كذا وليس كيت، ولكنك لا تدري ماذا تقول عنه على سبيل الإيجاب؛ لأنك إن فعلت تورطت في صفات ما هو متحدد متعين؛ وبالتالي جعلت له حدودا وقيودا، وهو ليس كذلك؛ ولهذا كله يرى البوذي استحالة أن يتحدث عنه المتحدث؛ لأن أقل ما يقال عن الحديث أنه كلمات مفككة ذات ترتيب نحوي معين، وفي هذا شيء من القواعد التي تحد وتقيد، وإنما أمر إدراكه متروك للشهود المباشر حيث لا يجدي التعبير اللفظي ولا يفيدنا استدلال عقلي مجرد، إنه الوجود الخالص المتصل الواحد الذي تمارسه ممارسة مباشرة وتذوقه ذوقا مباشرا، ولا يكون ذلك إلا بالفناء فيه؛ وفناء الذات المدركة في الموضوع المدرك هو في الصميم من نظرة الفنان.

الفصل الحادي عشر

ذلك هو الشرق الأقصى الموحد للوجود بكل ما فيه ومن فيه، توحيدا اهتدى إليه بلمسة وجدانية مباشرة غمست كل شيء في خضم واحد، تطفو عليه الأفراد آنا ثم تختفي، وقد تعاود الظهور لتختفي مرة أخرى، وهكذا دواليك. ولا تسأل فيلسوف الشرق الأقصى: ما برهانك على ذلك، وأين الحجة والدليل؟ لأنه لا برهان عنده ولا حجة ولا دليل؛ إذ ليست هذه الوسائل وسائله في الإدراك، وهل تسأل المفتون بجمال البحر وروعة الشفق ولألاء النجوم: أين برهانك على فتنتك؟ كلا، فالإدراك الجمالي للأشياء أمر ذاتي مباشر، وإما أن تكون لك العين التي ترى أو لا تكون، وتلك هي بداية المطاف ونهايته على السواء.

ولهذا قال القائلون: إن اليونان هم أول من عرف التاريخ من قوم لهم عقل الفيلسوف المنطقي بالمعنى الدقيق، فلقد يقول فيلسوفهم شيئا يشبه في توحيد الوجود ما يقوله متصوف الشرق الأقصى، لكنه يعطيك ما يظنه الدليل والبرهان على هيئة مقدمات المنطق ونتائجه؛ وهكذا ترى الطرفين المتطرفين: فتأمل حدسي في طرف، وتدليل عقلي في طرف آخر، وهما الطرفان اللذان يشطران الحضارة البشرية - فيما يتوهم بعضهم - شطرين: فحضارة شرقية في ناحية، وحضارة غربية في ناحية أخرى، حتى لقد قيل عن هذين الطرفين المتباعدين إنهما لا يلتقيان ولن يلتقيا في أمة واحدة، أو في رجل واحد.

لكن الطرفين قد اجتمعا في «هذا الشرق الأوسط» العبقري العجيب؛ ففي شخصه اجتمع تأمل المتصوف وتحليل العالم وصناعة العامل، حتى لقد قال «وايتهد» إن حضارة الغرب كلها ترتد إلى أصول ثلاثة: اليونان وفلسطين ومصر؛ فمن اليونان فلسفة، ومن فلسطين دين، ومن مصر علم وصناعة.

ولقد اجتمع كثير من هذه العناصر دفعة واحدة في شوارع الإسكندرية القديمة - كما يقول «إنج» - إذ التقى رجال العلم بأصحاب النظرة الصوفية وأصحاب المهارة العملية في آن معا، وحين انتقل مركز الثقافة من أثينا إلى الإسكندرية لم تكن النقلة تغييرا في المكان وكفى، بل كانت تغييرا في منهج التفكير كذلك، حتى جاز لمؤرخي الفكر أن يفرقوا بين مرحلتين يطلقون عليهما اسمين مختلفين وإن يكونا قريبين، هما «الهلينية» و«الهلنستية»؛ فالكلمة الأولى اسم لفلسفة اليونان الخالصة ، والكلمة الثانية اسم لتلك الفلسفة نفسها حين امتزجت في الإسكندرية - كما يقول «وايتهد» أيضا - بالتراث الديني والتراث العلمي والتراث الصناعي العملي؛ فقد أدى هذا المزيج إلى ضرب من الثقافة، فيه تأمل المتأمل وتحليل العالم؛ فهي إذن ثقافة لها عبقرية الشرق وعبقرية الغرب مجتمعين.

جاءت الأفلاطونية من أثينا إلى الإسكندرية، فانطبعت بالطابع الشرقي الصوفي على يدي «أفلوطين» (ولد سنة 205 ميلادية)، وهو من أبناء أسيوط وتعلم في الإسكندرية؛ فنشأ ما يسمى في تاريخ الفلسفة بالأفلاطونية الجديدة، وقد كان لها بالغ الأثر فيما بعد على فلاسفة المسلمين الذين أطلقوا عليها أحيانا اسم مذهب الإسكندرانيين.

تقول الأفلاطونية الجديدة إن هذا العالم كثير الظواهر دائم التغير، وهو لم يوجد بنفسه بل لا بد له من علة سابقة هي السبب في وجوده، وهذا الذي صدر عنه العالم «واحد» غير متعدد، لا تدركه العقول، وهو أزلي أبدي قائم بنفسه ولا تحده الحدود، خلق الخلق ولم يحل فيما خلق، بل ظل قائما بنفسه على خلقه، ليس هو ذاتا ولا صفة، هو الإرادة المطلقة لا يخرج شيء عن إرادته، هو علة العلل ولا علة له، وهو في كل مكان ولا مكان له، ولما كان الشبه منقطعا بينه وبين الأشياء، لم نستطع أن نصفه إلا بصفات سلبية؛ فهو ليس مادة، وهو ليس حركة، وليس سكونا، وليس هو في زمان ولا مكان، وليس هو صفة لأنه سابق لكل الصفات، ولو أضيفت إليه صفة ما لكان ذلك تشبيها له بشيء من مخلوقاته، وبعبارة أخرى لكان ذلك تحديدا له؛ وهو لا متناه وغير محدود، فلسنا نعلم عن طبيعة هذا «الواحد» شيئا إلا أنه يخالف كل شيء ويسمو على كل شيء. ولأنه فوق العالم ولأنه غير مقيد بحدود، لم يتم خلقه للعالم عن طريق اتصاله المباشر بمخلوقاته؛ لأنه لو اتصل بخلقه اتصالا مباشرا لاقتضى ذلك أن يمسه وأن ينزل إلى مستواه. وكذلك هو «واحد» ومخلوقاته متعددة كثيرة، وخروج الكثرة من هذه الوحدة تحتاج إلى تفسير؛ فلكي يفسر «أفلوطين» عملية الخلق دون أن ينزل بالله الخالق إلى مستوى خلقه، ودون أن يجعل الكثرة قد خرجت من وحدته، ودون أن يجعل تغير الأشياء وتباينها قد صدر عن حقيقته الواحدة التي لا تغير فيها ولا تباين؛ قال: إن تفكير الله في ذاته وفي كماله قد نشأ عنه فيض، وهذا الفيض هو العالم المخلوق، فكما ينبعث من الشمس ضوءها فكذلك انبعث من الله خلقه إشراقا وفيضا.

ولما كانت الكائنات قد انبثقت على هذا النحو من طبيعة الله دون أن يتحرك هو لها أو يتغير، كانت هذه الكائنات تميل بفطرتها إلى العودة إلى أصلها ومبعثها الذي كانت صدرت عنه؛ ومن ثم فكل كائن يحاول الوصول إليه، أما ذلك المصدر نفسه فمستقر في نفسه مكتف بذاته، على أن هذه الكائنات التي صدرت عن الله تكون سلما نازلا من درجات الكمال؛ فكل شيء أقل كمالا مما فوقه، ويستمر التناقص في الكمال حتى ينعدم الكمال في آخر درجات السلم انعداما تاما، حيث يتلاشى النور في الظلام؛ فأقرب شيء إلى الله هو العقل، وأقرب شيء إلى العقل هو النفس، ولهذه النفس درجات تتناقص كمالا حتى تنتهي آخر الأمر إلى الطبيعة المادية؛ فالأمر كله شبيه - كما قلنا - بانبثاق الضوء من مصدره، كلما بعد عن المصدر ضعف حتى يصير ظلاما، وهذا الظلام في ترتيب الكائنات هو المادة.

فالمادة هي بمثابة الضوء السلبي إذا صح هذا التعبير؛ فهي مصدر التعدد، وهي علة الشر كله لأنها عدم (انعدام الضوء)، والعدم هو أشد درجات النقص، والنقص هو الشر بعينه، وغاية الحياة هي أن تتحرر من ربقة المادة، وأول خطوة لذلك هي التحرر من سلطان الجسم المادي بما فيه من حواس، وبما لهذه الحواس من شهوات، لكن هذه الخطوة الأولى لا تؤدي بصاحبها إلا إلى أدنى مراتب الفضيلة والخير، وتليها خطوة ثانية هي أن يفكر الإنسان ويتأمل، ثم خطوة ثالثة هي أن يسمو الإنسان بنفسه فوق مرتبة التفكير والتأمل ليصل إلى منزلة العلم اللدني أو العلم الذاتي المباشر، وما هذه الخطوات كلها إلا إعداد للدرجة الأخيرة، وهي أن يذوب في الله بالهيام والذهول والغيبوبة والوجد؛ عندئذ تتحد النفس بالله الواحد، فلا يقال عن الإنسان في هذه الدرجة إنه يفكر في الله، أو إنه ينظر إلى الله؛ لأن كل هذه العبارات تدل على الانفصال أو على وجود شيئين، إنما يتحد بالله اتحادا تاما، ويفنى في ذاته فناء كاملا، وهي الحالة التي عبر عنها «الحلاج» - المتصوف المسلم - بقوله:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا

نحن روحان حللنا بدنا

فإذا أبصرتني أبصرته

وإذا أبصرته أبصرتنا

وهل بنا حاجة إلى القول بأن هذا الشرق الأوسط في روحانيته، منذ أقدم عصوره، هو الذي اختاره الله ليكون مهبط وحيه إلى موسى وعيسى ومحمد

صلى الله عليه وسلم ؟ فلئن كان عرف الكتاب في الغرب قد جرى على تسمية الحضارة الغربية باسم الحضارة المسيحية آنا، والحضارة المسيحية اليهودية آنا آخر، فمن أين جاءتهم الديانتان؟ إنهما جاءتا من مهدهما ومهبط وحيهما؛ الشرق الأوسط. وأقل ما يقال في ذلك هو أنه إن كان من خصائص العقيدتين أن تطبعا العقل بطابع معين في الفكر والعمل، فيستحيل أن يكون ذلك الطابع غريبا على أهل الشرق الأوسط الذين تلقوهما وآمنوا بهما قبل أن ينقلوهما إلى بلاد الغرب.

لقد كانت الإسكندرية حامية للمسيحية في قرونها الأولى، وفيها بدأ اللاهوت المسيحي لأول مرة ينسق بين العقيدة من جهة والعقل الفلسفي من جهة أخرى؛ مما رسم الطريق أمام أوروبا المسيحية بعد ذلك طوال العصور الوسطى، وذلك دليل على اجتماع أمرين لأهل هذه البلاد كما زعمنا: القلب والعقل معا، الإيمان والعلم، اللمسة المباشرة ومعها عملية التحليل العقلي، وإنا لنذكر من آباء الكنيسة الإسكندريين رجلا واحدا هو حسبنا دليلا على هذا الذي نقوله، هو «أوريجن» (185-254)، وهو معاصر ل «أفلوطين» الذي أسلفنا لك ذكره منذ حين، وقد بذل «أوريجن» جهدا في تثبيت العقيدة المسيحية عندما كانت لا تزال تتعرض لهجمات المنكرين، ومن أهم ما قاله وأيده بالأدلة هو أن الفلسفة اليونانية القائمة على العقل المنطقي الصرف، والأناجيل القائمة على الإلهام والوحي الصرف، إنما يتطابقان ولا يتعارضان، مما يبين أن العقل والنقل يسيران معا ولا يتناقضان، ولا يخفى أن هذا هو الأساس الذي قامت عليه فلسفة العصور الوسطى كلها في الشرق الأوسط الإسلامي وفي الغرب المسيحي على السواء؛ إذ أخذ الفلاسفة في كل منهما يحاولون البرهان على أن الوحي الديني ونتاج العقل الفلسفي اليوناني ينتهيان آخر الأمر إلى نتيجة واحدة.

على أن «أوريجن» حين قال ذلك عن الأناجيل، لم يفته أن يؤكد بأن صحة ما قد ورد فيها ليس مترتبا على صدق الفلسفة اليونانية، بل «الإنجيل يحمل برهان نفسه بنفسه، وهو أقدس من أي برهان أقامه فن الجدل اليوناني»؛ وهكذا يتمثل في الرجل الواحد إيمانه بعقيدته واهتداؤه بعقله في آن واحد، وذلك هو ما أقول عنه إنه روح الشرق الأوسط في شتى عصوره.

الفصل الثاني عشر

سأضع الرأي الذي أعرضه في هذه الرسالة وضعا موجزا واضحا قبل أن أمضي في الحديث: هنالك طرفان من وجهات النظر؛ طرف يتمثل في الشرق الأقصى، مؤداه أن ينظر الإنسان إلى الوجود الكوني نظرة حدسية مباشرة، فإذا الإنسان جزء من الكون العظيم، وهذه نظرة الفنان الخالص؛ وطرف آخر يتمثل في الغرب، مؤداه أن ينظر الإنسان إلى الوجود نظرة عقلية تحلل وتقارن وتستدل، وهذه نظرة العلم الخالص؛ وبين الطرفين وسط يجمع بين الطابعين، وهو الشرق الأوسط، الذي يدل تاريخ ثقافته على مزج بين إيمان البصيرة ومشاهدة البصر، بين خفقة القلب وتحليل العقل، بين الدين والعلم، بين الفن والعمل.

لقد عرض كثير من الكتاب الغربيين للفوارق التي تميز الغربي من الشرقي في تفكيره ووجهة نظره إلى العالم من حوله، لكنني أراهم لا يلتفتون إلى الفارق بين الشرق الأقصى والشرق الأوسط من جهة، والفارق بين الشرق الأوسط والغرب من جهة أخرى، والرأي الذي أعرضه هو أن الفارق الأول هو في أن الشرقين الأقصى والأوسط يتشابهان في النظرة الحدسية - نظرة الفنان - ثم يختلفان في أن الشرق الأوسط يضيف إليها نظرة علمية عملية؛ والفارق الثاني - بين الشرق الأوسط والغرب - هو في أنهما يتشابهان في النظرة العقلية العلمية العملية، ثم يختلفان في أن الشرق الأوسط يضيف إليها نظرة حدسية.

في هذا الضوء نستطيع أن نرى وجه الخطأ في آراء بعض المستشرقين الذين تصدوا لتحليل العقلية العربية ووصفها، ووجه الخطأ دائما هو أنهم نظروا من جانب واحد إلى عقلية هي بطبيعتها ذات جانبين.

يقول «ليون جوتييه» في كتابه «تمهيد لدراسة الفلسفة الإسلامية» ص66:

يختلف الآريون عن الساميين اختلافا أصيلا في المناشط البشرية كافة، من أدنى الأمور كالطعام والثياب إلى أعلاها كالنظم الاجتماعية والسياسية؛ فالعقل «السامي» ... يترك الأشياء مفرقة ومفككة كما يصادفها، وكل ما يفعله إزاءها هو أن يقفز قفزات مباغتة من شيء إلى شيء بغير ربط ينسقها معا، بما يراه فيها من تدرج؛ على حين أن العقل الآري يركب الأشياء المختلفة تركيبا يعتمد على روابط متدرجة تجعلها وثيقة العرى بعضها مع بعض، حتى ليصبح الانتقال من شيء إلى شيء أمرا طبيعيا.

والانتقال المباغت من جزئية واحدة إلى جزئية أخرى، هو هو بعينه ما يطبع نظرة الفنان إلى ما حوله من أشياء، لو أخذت هذه النظرة من سطحها الظاهر؛ ذلك لأنه لا مندوحة للفنان عن الوقوف أمام هذه الزهرة اليوم وأمام ذلك الغدير غدا، إنه لا مندوحة له في اللحظة الفنية من الفناء في جزئية واحدة هي التي يجعلها مدار نتاجه الفني، على أنه قد يغوص داخل هذه الجزئية الواحدة ليبرز حقيقتها الباطنة إبرازا يبين لصاحب النظرة النقدية النافذة روابط القربى بينها وبين سائر أجزاء الطبيعة من جهة، وبينها وبين ذات الفنان نفسه من جهة أخرى، فإذا كان العقل «السامي» - كما يقول «جوتييه» - يقفز من جزئية إلى جزئية؛ فذلك لأنه فنان، ووجه الخطأ عند «جوتييه» هو أنه حصر النظر في هذا الجانب وحده بحيث فاته الجانب الآخر من عقلية الشرق الأوسط، وهو الجانب العقلي العلمي الذي ظهر في مناهج فلاسفتهم وعلمائهم كما سنذكر في إيجاز بعد قليل.

وكذلك يقول «دنكان ماكدونالد» في كتابه «تطور الفقه ونظرية الحكم عند المسلمين» (ص125-126):

ليست الحياة بأسرها في نظر الساميين إلا موكبا طويلا، يبدأ من المحيط العظيم لينتهي إلى المحيط العظيم مرة أخرى ... فليس في العالم من حق سوى الله، فمنه نشأنا وإليه نعود، وما على الإنسان إلا أن يخشى الله ويعبده، أما هذه الدنيا فخادعة، تسخر ممن يركنون إليها، تلك هي النغمة السائدة في الفكر الإسلامي، وهي الإيمان الذي يرتد إليه السامي آخر الأمر دائما.

وهذا القول صواب كل الصواب بالنسبة إلى الشرق الأقصى، لكنه صواب بعض الصواب بالنسبة إلى الشرق الأوسط.

وما دمنا بصدد تقسيم الأمم على أساس طبائعها، تقسيما يصيب حينا ويخطئ حينا، فجدير بنا أن نذكر رأيا للشهرستاني لا نراه موفقا فيه كل التوفيق، وذلك حين يقول إن كبار الأمم أربع: العرب والعجم والروم والهند، ثم يزاوج بين أمة وأمة، فيذكر: «أن العرب والهند يتقاربان على مذهب واحد، وأكثر ميلهم إلى تقرير خواص الأشياء، والحكم بأحكام الماهيات والحقائق، واستعمال الأمور الروحانية؛ والروم والعجم يتقاربان على مذهب واحد، وأكثر ميلهم إلى تقرير طبائع الأشياء، والحكم بأحكام الكيفيات والكميات، واستعمال الأمور الجسمانية» (ص3 من الملل والنحل، طبعة ليبتسك).

فها هنا قد وقع الشهرستاني على مميز أصيل يميز بين وجهتين للنظر؛ إحداهما تمس في الأشياء جوهرها الباطن، وأخرى تنظر إليها من صفاتها الظاهرة كيفا وكما، لكنه قد فاته - فيما أعتقد - إمكان التقاء النظرتين في أمة واحدة، ولو قسمنا الأمم الأربع التي ذكرها في الفقرة السابقة بناء على الرأي الذي بسطه، لجعلنا الهند من القسم الأول، والروم من القسم الثاني، والعرب والعجم بين بين، تجتمع فيهما النظرتان معا.

الفصل الثالث عشر

إنني أعتقد أن التفكير الفلسفي في أمة من الأمم مفتاح هام لفهم طبيعتها، فليس من المصادفات العارضة أن نرى الفلسفة الفرنسية عقلية، والفلسفة الإنجليزية تجريبية حسية، والفلسفة الألمانية ميتافيزيقية مثالية، والفلسفة الأمريكية براجماتية عملية ... فماذا نرى في الفلسفة الإسلامية مما يدلنا على طابع الشرق الأوسط؟

نرى المشكلات المعروضة للبحث هي مشكلات دينية، لكن طريق معالجتها طريقة عقلية منطقية، فلا فرق إطلاقا بين فلاسفة الشرق الإسلامي من جهة وفلاسفة الغرب المسيحي (في العصور الوسطى) من جهة أخرى، لا في نوع المشكلات ولا في منهج البحث، اللهم إلا أن الفريق الأول مسلم يختار مشكلاته من العقيدة الإسلامية، والفريق الثاني مسيحي يختار مشكلاته من العقيدة المسيحية، لكن كل فريق من الفريقين يلتمس للعقيدة أساسا من العقل، مستعينا في ذلك بأدوات من الفلسفة اليونانية، وبالمنطق الأرسطي على وجه الخصوص.

فهؤلاء هم المعتزلة من فرق المتكلمين: فريق يصطنع منهج العقل في تأويل ما أرادوا تأويله من مسائل العقيدة، فافرض مثلا أن المسألة المطروحة للبحث هي حرية إرادة الإنسان التي معناها أن الإنسان هو الذي يخلق أفعاله ولذلك فهو مسئول عنها، ففي استطاعته أن يفعلها وأن يتركها حينما يشاء، فكيف كانوا يقيمون الدليل العقلي على هذه الحرية الإنسانية التي آمنوا بها؟ إنك لتراهم ينهجون في ذلك النهج الذي يضع المقدمات ويستدل النتائج، وهو نهج العقل والعلم، فيقولون: إن سلوك الإنسان في حياته ليس كله من صنف واحد؛ فهنالك حركات للجسد نشعر فيها بأننا مضطرون إليها، وأخرى نشعر فيها بأن زمامها في أيدينا، فمن النوع الأول حركة المرتعش من البرد مثلا، ومن النوع الثاني حركة من يرفع ذراعه ليؤدي بها عملا يريده، فلو كان الإنسان مجبرا لا سلطان له على مسلكه لما كان هذا الفرق بين النوعين من السلوك، هذا إلى أنه لو لم يكن الإنسان خالق أفعاله الإرادية، لما كلفه الله أن يعمل كذا ويترك كذا من الأعمال، ولما كان هناك معنى للثواب والعقاب، بل لما كان هناك أية فائدة في إرسال الأنبياء لإصلاح الناس؛ إذ كيف يصلحون الناس إذا كان الناس لا يملكون من أمرهم شيئا؟ وإذا كان الله هو الذي خلق للإنسان أفعاله، فكيف يغضب من بعض ما خلق؟

فانظر إلى مثل هذا الحجاج وقارنه بنوع الكتابة الواردة في أسفار الشرق الأقصى، تجد منطقا عقليا في الأول، وعبارة وجدانية في الثانية، فإذا تذكرنا أن المسألة المعروضة هي مسألة دينية أقرها الإنسان بوجدانه أولا، ثم جاء المعتزلة فأيدوها بالبرهان؛ جاز لنا أن نقول إن الوجدان والعقل في مثل هذا يجتمعان .

وهؤلاء هم فريق «الفلاسفة » المسلمين، تقرأ لهم فترى منهجا عقليا منطقيا كهذا الذي رأيته عند المعتزلة، فانظر إلى الكندي مثلا يشرح العقل الإنساني وقواه، فيحلله تحليلا منطقيا ويقول إن له درجات أربعا: ثلاث منها فطرية في النفس ولا تكون النفس نفسا إلا بها، وأما الرابعة فقد جاءت إليها من خارج، وهي مستقلة عنها وتستطيع أن تفارقها لتقوم بذاتها، ومن ثلاث القوى الفطرية واحدة موجودة بالقوة كما يوجد فن الكتابة عند من تعلم كيف يكتب، وثانية تخرج ما كان موجودا بالقوة ليكون موجودا بالفعل، كما يخرج الكاتب فن الكتابة من حالة الكمون إلى حالة الظهور حين يكتب شيئا معينا، وثالثة هي الذكاء المتضمن في عملية الإخراج السالفة، وأما العقل الذي يأتي إلى الإنسان من خارج نفسه فهو هبة من الله يفيضها على الإنسان، وهو وإن حرك الجسد فليس جزءا منه، أعني أنه لا يعتمد في علمه على تحصيل الحواس.

أو انظر إليه وهو يحلل الحركة إلى ستة أنواع: اثنتان تكونان في المادة نفسها، فهي إما حركة تسير بالمادة نحو التكوين والإنشاء، وإما حركة تسير بها نحو التحلل والفساد؛ واثنتان تكونان في كمية الشيء، فهي إما حركة تسير به نحو الزيادة، وإما حركة تسير به نحو النقصان؛ وحركة خامسة تطرأ على كيفيات الشيء حين تغير صفاته فيكون أصفر بعد أن كان أخضر مثلا؛ وسادسة تطرأ على وضع الشيء فيكون هنا الآن ثم يصبح هناك، والزمان عنده هو حقيقة متصلة بالحركة، فلولا حركة الأجرام والأجسام لما استطعنا أن نقول عن شيء إنه بعد كذا أو قبل كذا من الأشياء ... وأما المكان فهو السطح الملامس لجسم ما، فإذا أزيح الجسم لم يبطل المكان؛ لأن المكان الذي سيمتلئ في الحال بجسم آخر كهواء أو ماء، يكون له نفس السطح الملامس الذي كان يحيط بالجسم الأول، أي أن المكان ليس في ذاته جسما، ولكنه السطح الذي يمس ظاهر الجسم ويحيط به.

فماذا ترى في مثل هذا التحليل؟ أتراه دالا على نظرة عقلية منطقية تحليلية، أم تراه تعبيرا فيه اللمسة الجمالية وحدها؟

ثم انظر إلى الفارابي كيف كان يتناول مسائله، انظر إليه مثلا يقيم البرهان المنطقي على وجود الله فيقول: إن كل موجود جاء بعد أن لم يكن لا بد أن يكون قد سبقته علة هي التي سببت وجوده، وهذه العلة لا بد أن تكون بدورها نتيجة لسبب سابق لها، وهكذا حتى تصل إلى علة أولى لم تسبقها علة أخرى، لكنها هي التي سببت نفسها؛ إذ بغير هذا الفرض سنظل ننسب كل علة إلى أخرى سابقة لها إلى ما لا نهاية، وهذا التسلسل في العلل إلى غير نهاية شيء مستحيل على العقل أن يقبله. وهذه العلة الأولى هي الله، ومعرفته هي الغاية من الفلسفة؛ وذلك بديهي لأنك تقصد من الفلسفة أن تفهم الوجود، ولا سبيل إلى هذا الفهم إن لم تعلم علة ظواهره، فإذا عرفت الله معرفة صحيحة، فقد عرفت علة العلل؛ وبذلك تفهم الأشياء. غير أن الله لا يمكن تعريفه؛ لأن تعريف الشيء يكون بذكر الجنس والفصل، أي بذكر جنسه الذي ينتمي إليه، وبذكر الصفة الذاتية التي تفصل النوع الذي تعرفه عن سائر الأنواع التي تدخل معه تحت ذلك الجنس، ولما كان الله لا يقع تحت جنس، وليس هو نوعا من الأنواع حتى نذكر الصفة التي تفصله عن تلك الأنواع التي تقع معه في مرتبة واحدة، فليس يمكن تعريفه؛ فكيف إذن نعرفه إذا لم نستطع تعريفه؟ نعرفه بصفاته: فهو واحد، وهو كامل، وهو قادر ... إلى آخر الصفات التي تصفه تعالى.

فالوجود ضربان: وجود واجب، أي أنه لا يمكن في حكم العقل ألا يكون؛ ووجود ممكن، أي أن العقل يتصور إمكان وجوده وإمكان عدم وجوده. والله واجب الوجود؛ لأن العقل يستحيل أن يتصور سلسلة من العلل بغير علة أولى، وكل شيء آخر غير الله هو ممكن الوجود؛ لأن العقل يتصور وجوده وعدم وجوده على السواء؛ وعلى ذلك تكون الأشياء كلها مفتقرة إلى أسباب تعلل وجودها، والله وحده هو الذي لا سبب لوجوده غير نفسه.

فماذا ترى في مثل هذا السياق؟ أتراه صادرا عن عقل منطقي، أم تراه تعبيرا عن شعور ووجدان؟ أتراه محكم الحلقات نتائج ومقدمات، أم تراه قفزا من قول إلى قول بغير صلة ولا رباط؟

هذه لمحات قصار سراع نستشهد بها على أن عقلية الشرق الأوسط لها من الطابع المنطقي ما للعقل الغربي سواء بسواء، يضاف إليها قلب المتدين ووجدان الفنان.

الفصل الرابع عشر

ذلك أنه إلى جانب الفلسفة الإسلامية القائمة على منطق العقل، ترى جماعة المتصوفة المسلمين يلجئون لمعرفة الحق إلى شيء غير العقل ومنطقه؛ إذ يلجئون إلى الحدس المباشر، أي إنهم يلجئون إلى دمج أنفسهم في الحق دمجا يتيح لهم أن يشهدوه شهودا مباشرا وأن يتذوقوه، وهذه - كما أسلفنا لك القول في مواضع كثيرة - هي نفسها وسيلة الفنان في الإدراك، فهذا هو «ذو النون» المصري المتصوف (توفي 859م) يقول في عبارة صريحة: «إن المعرفة الحقيقية بالله ... ليست من علوم البرهان والنظر، التي هي علوم الحكماء والمتكلمين والبلغاء، ولكنها معرفة صفات الوحدانية التي لأولياء الله خاصة؛ لأنهم هم الذين يشاهدون الله بقلوبهم، فيكشف لهم ما لا يكشفه لغيرهم من عباده.» وكذلك يقول: «المعرفة الحقيقية بالله هي أن ينير الله قلبك بنور المعرفة الخالص ...» «والعارفون بالله فانون عن أنفسهم، لا قوام لهم بذواتهم، وإنما قوامهم من حيث ذواتهم بالله، فهم يتحركون بحركة الله، وينطقون عن الله بما يجريه على ألسنتهم، وينظرون بنور الله في أبصارهم.» وهكذا ترى «ذا النون» - جريا على سنة المتصوفة جميعا - يجعل الإدراك دمجا للذات العارفة في الموضوع المعروف، فلا يكون هنالك إلا حق واحد، فيه اتحد الإنسان بالله؛ إذ تفنى ذاتية الإنسان بزوال صفاته البشرية جميعا، بحيث لا يكون له بعدئذ بقاء إلا بما قد أفنى نفسه فيه من صفات الله؛ وتلك حالة شديدة الشبه بحالة «النرفانا» التي حدثناك عنها حين حدثناك عن الشرق الأقصى، فقلنا إن الفرد الناظر بحدسه المباشر إلى محيطه الكوني، إنما ينمحي فيه انمحاء تاما، فينمحي تبعا لذلك وهمه بأن له وجودا حقيقيا خاصا به.

ولمن شاء كذلك أن يقرأ «تائية» عمر بن الفارض (ولد بالقاهرة 1182م، وتوفي بها 1235م)، التي ترقى إلى أن تكون آية من آيات الأدب الصوفي في العالم كله؛ فهو في هذه القصيدة العصماء يتكلم بلسان الصوفي الذي وصل إلى مقام «الاتحاد»، وفيها يصف فناء ذاته في محبوبه (الذات الإلهية) بأنها حالة تتجرد فيها النفس من رغباتها وميولها وبواعثها، بحيث تتعطل إرادتها وتموت، فإذا ماتت الإرادة أصبحت النفس طوع الإرادة الإلهية تحركها كيف تشاء، وهذا هو حب الله لها، ولكن المحب والمحبوب يكونان شيئا واحدا، فيتحد العابد والمعبود، والعاشق والمعشوق في شخصية واحدة:

كلانا مصل واحد ساجد إلى

حقيقته بالجمع في كل سجدة

وما كان لي صلى سواي ولم تكن

صلاتي لغيري في أدا كل ركعة •••

فلا حي إلا من حياتي حياته

وطوع مرادي كل نفس مريدة

ولا قائل إلا بلفظي محدث

ولا ناظر إلا بناظر مقلتي

ولا منصت إلا بسمعي سامع

ولا باطش إلا بأزلي وشدتي

ولا ناطق غيري ولا ناظر ولا

سميع سوائي من جميع الخليقة

وهكذا عبر ابن الفارض عن الحالة الصوفية «التي يفنى فيها العبد عن صفاته البشرية ليتحقق وجوده بصفات الربوبية.»

ثم اقرأ قولة الحلاج المشهورة «أنا الحق»، التي صاغ بها مذهبه في وحدة الوجود صياغة مختصرة واضحة، فهو يرى أن الإنسان إذا ما طهر نفسه وصفاها بأنواع الرياضة والمجاهدة والزهد، وجد حقيقة الصورة الإلهية التي طبعها الله فيه؛ لأن الله خلق الإنسان على صورته، وهو في ذلك يقول: تجلى الحق لنفسه في الأزل، قبل أن يخلق الخلق، وقبل أن يعلم الخلق، وجرى له في حضرة أحديته مع نفسه حديث لا كلام فيه ولا حروف، وشاهد سبحات ذاته في ذاته، وفي الأزل - حيث كان الحق ولا شيء معه - نظر إلى ذاته فأحبها وأثنى على نفسه، فكان هذا تجليا لذاته في ذاته في صورة المحبة المنزهة عن كل وصف وكل حد، وكانت هذه المحبة علة الوجود والسبب في الكثرة الوجودية، ثم شاء الحق سبحانه أن يرى ذلك الحب الذاتي ماثلا في صورة خارجية يشاهدها ويخاطبها، فنظر في الأزل، وأخرج من العدم صورة من نفسه لها كل صفاته وأسمائه وهي آدم الذي جعله الله صورته أبد الدهر، ولما خلق الله آدم على هذا النحو عظمه ومجده واختاره لنفسه، وكان من حيث ظهور الحق بصورته فيه وبه هو هو.

ونختم حديثنا عن الجانب الصوفي من الثقافة الإسلامية بكلمة عن أبي حامد الغزالي، الذي كثيرا ما قال المسلمون عنه: «لو كان بعد النبي محمد نبي لكان الغزالي ذلك النبي.» وكلنا يعلم كيف بدا له في سن الصبا أن يترك الأخذ بالعقائد والآراء تقليدا لسواه، وكيف أخذ يبحث عن الطريق الحقيقي لتحصيل العلم اليقيني، فلما أعجزه ذلك وقع في غمرة من الشك، حتى اعتراه المرض إلى أن أنقذه الله من ضلاله، وقذف بنوره في قلبه، فاستعاد قواه، وبدأ يفكر من جديد ويبحث من جديد، فكان أن هداه الله إلى كتب الصوفية فوجد فيها طلبته، كما وجد في طريقتهم سبيلا إلى الحق واليقين.

أخذه الشك فنازعته نفسه وتجاذبته العوامل المختلفة بين أن يضحي بجاهه العريض وشهرته الواسعة - إذ كان أستاذ العلوم الدينية بالمدرسة النظامية ببغداد - وبين أن يخرج عن كل هذا إلى حياة الزهد والعزلة بعدما أيقن أن «نيته في التدريس غير خالصة لوجه الله ... وأن كل ما فيه من العلم والعمل رياء وتخييل»، فأدى به طول التردد وحدة الصراع النفسي إلى المرض، فالتجأ إلى الله، فأجابه الله وسهل على قلبه الإعراض عن الجاه والمال والأهل والولد والأصحاب، فترك بغداد وعاش عيشة العزلة عشر سنوات تعلم في أثنائها التصوف لا عن طريق العلم والكتب فحسب، بل عن طريق العمل أيضا، وأخيرا عاد إلى طوس مسقط رأسه بخراسان، بعد أن استأنف التدريس مدة يسيرة ومات بها عام 1111م.

يحكي لنا الغزالي ذلك عن نفسه في كتابه «المنقذ من الضلال»، وهو في هذا الكتاب يميز بين مرحلتين من مراحل الطريق الذي وصل به إلى الله، أما المرحلة الأولى - وهي مرحلة الكشف الإلهي الذي نجاه الله به من غائلة الشك - فيقول فيها: «فأعضل هذا الداء ودام قريبا من شهرين، أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال لا بحكم النطق والمقال، حتى شفى الله تعالى ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضرورات العقلية مقبولة موثوقا بها على أمن ويقين، ولم يكن كل ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف؛ فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المجردة، فقد ضيق رحمة الله الواسعة.» والجملة الأخيرة من هذا النص هي خلاصة ما نريد أن نجعله علامة مميزة لثقافة الشرق الأوسط كلها، وهي أن ثمة طريقين للإدراك لا طريقا واحدا، أحدهما هو الأدلة العقلية المجردة، وذلك هو أساس العلم، والثاني هو اللمسة الذاتية المباشرة، وذلك هو أساس الإيمان وأساس التصوف وأساس الفن على حد سواء.

وأما المرحلة الثانية من مراحل توبته، ففيها يقول إنه بعد أن استعرض أقوال المتكلمين والفلاسفة: «أقبلت بهمتي على طريق الصوفية، وعلمت أن طريقتهم إنما تتم بعلم وعمل، وكان حاصل علمهم قطع عقبات النفس، والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى وتحليته بذكر الله، وكان العلم أيسر علي من العمل، فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم ... وغير ذلك من كلام مشايخهم، حتى اطلعت على كنه مقاصدهم العلمية، وحصلت ما يمكن أن يحصل من طريقهم بالتعلم والسماع، وظهر لي أن أخص خواصهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم، بل بالذوق والحال، وتبدل الصفات، فكم من الفرق بين أن يعلم حد الصحة وحد الشبع وأسبابهما وشروطهما، وبين أن يكون «الجسم» صحيحا وشبعان، وبين أن يعرف حد السكر وبين أن يكون سكران، بل السكران لا يعرف حد السكر وعلمه وهو سكران وما معه من علمه شيء، والصاحي يعرف حد السكر وأركانه وما معه شيء من السكر ... فعلمت يقينا أنهم (أي الصوفية) أرباب أحوال لا أصحاب أقوال، وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم فقد حصلته، ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع وبالعلم، بل بالذوق والسلوك ...»

هذه التفرقة التي وصفها الغزالي وصفا ينبض بالتجربة الوجدانية الحية، بين العلم العقلي بشيء وأن يحيا الإنسان ذلك الشيء حياة حقيقية، هي نفسها التفرقة بين نظرة العالم من جهة ونظرة الفنان من جهة أخرى، وقد تمثلت الأولى على الأغلب في ثقافة الغرب، وتمثلت الثانية على الأغلب في ثقافة الشرق الأقصى، وتجاورت النظرتان في الشرق الأوسط.

الفصل الخامس عشر

هما إذن نظرتان ينظر الإنسان بأي منهما إلى نفسه وإلى العالم، أو ينظر بكلتيهما، بهذه مرة وبتلك أخرى؛ ذلك أن الإنسان إذ يقف إزاء الحقيقة الخارجية، فإما أن ينظر إليها خلال ذاته فيشبهها بنفسه تشبيها يدمج الطرفين في كائن واحد، وتلك هي وقفة الفنان والمتصوف ومن لف لفهما؛ وإما أن ينظر إليها وكأنه متفرج يتابع ما يجري أمامه على مسرح الحوادث فيصفه وصفا يصلح لنفسه ولغيره من الناس على حد سواء، بل إنه ليشبه نفسه هذه المرة بما يرى بحيث يجعل من نفسه حدثا من الأحداث يلاحظ ويوصف كما تلاحظ سائر الأحداث وتوصف؛ وتلك هي نظرة العالم ومن يجري مجراه في التفكير؛ وثالث الفروض أن يجمع المرء بين النظرتين ليفرق بهما بين أمرين، فإن كان موضوع النظر وجدانا ينبض به قلبه إزاء الكون، نظر إليه بالنظرة الأولى فكان فنانا أو متصوفا، وإن كان موضوع النظر ظواهر الأشياء الخارجية، نظر إليه بالنظرة الثانية فكان عالما أو ذا نزعة علمية، وبديهي أن كل إنسان ينظر بالنظرتين معا حسبما يكون موضوع النظر، لكن أحد الأطراف قد يغلب عند فرد بالقياس إليه عند فرد آخر، فمن الناس من يجعل معظم النظر إلى ذاته ومنها ينتقل إلى سواها ليصبه على غرارها، ومنهم من يجعل معظم النظر إلى عالم الأشياء الخارجية ومنها ينتقل إلى ذاته ليفهمها على نحو ما قد فهم تلك الأشياء، ثم من الناس من يتعادل عنده الطرفان أو يكادان، ولقد زعمنا لك أن النظرة الأولى هي طابع الشرق الأقصى، وأن النظرة الثانية هي طابع الغرب، وأما تآلف النظرتين فهو مميز تميزت به ثقافة الشرق الأوسط .

ونزيد هذه التفرقة توضيحا فنقول إنه محال على الإنسان - مهما تكن نظرته إلى نفسه وإلى العالم الخارجي - أن يقف عند مدركاته المباشرة كما تأتي مجزأة على لحظات الزمن المتتابعة وموزعة على نقاط المكان المتفرقة، فالعين تتلقى لمعة من الضوء هنا ولمعة من الضوء هناك، والأذن تسمع رنة من الصوت الآن ورنة بعد لحظة، والأصابع تلمس هذا هنا وذلك هناك وهلم جرا؛ فهل نقف عند كل واحدة من تلك الانطباعات كأنما هي حقيقة مستقلة قائمة بذاتها؟ ذلك ما أقول عنه إنه محال على الإنسان أن يقتنع به، وإلا لوجد نفسه أمام خضم هائل من الجزئيات المتفرقات التي لا ينتظمها عقد ولا ينسقها بناء؛ إذن فماذا هو صانع إزاءها، إنه يجاوزها إلى مبدأ أعم يطويها تحت جناحه، وها هنا يكون الاختلاف الأصيل بين نظرة ونظرة، وبين ثقافة وثقافة؛ فمن الناس من ينتهي إلى مبدأ شامل يضم هذه الجزئيات المتفرقة الفرادى، ثم يقول عن ذلك المبدأ إنه هو الحق الثابت الدائم الأزلي الأبدي الخالد. لماذا؟ لأنه يقول إنه قد عاينه معاينة ببصيرته، وشاهده شهودا بوجدانه، ولا سبيل إلى الشك فيما تعاينه على هذا النحو وتشاهده، ولكن من الناس أيضا من ينتهي إلى مبدأ شامل يدرج تحته هذه الجزئيات الحسية المتفرقة، غير أنه لا يدعي لهذا المبدأ سوى أنه فرض يفترضه ويعرضه للتحقيق وإثبات الصدق، بما يشاهده وبما يجريه من تجارب، ووسيلته إلى ذلك هي أن ينتزع من هذا الفرض المفروض نتائجه التي تترتب عليه، ثم يعود إلى عالم المحسات لينظر: هل هذه النتائج صادقة على الواقع أو غير صادقة؟ فإن كانت الأولى ظل محتفظا بالمبدأ الذي افترضه لنفسه ليفسر به الجزئيات المتفرقة، وأما إن كانت الثانية فهو لا يتردد في التنكر لفرضه وإنكاره، ليحل محله مبدأ آخر يفترضه لتفسير وقائع العالم المحسوس كما تقع لبصره وسمعه؛ ولهذا تجد تاريخ المعرفة عند هذا الفريق الثاني متغيرا متبدلا، يفرغ من مرحلة ليبدأ في سيره مرحلة جديدة؛ لأنه يرفض مبدأ كان قد افترضه ثم ثبت له بطلانه فنبذه ليفرض مبدأ آخر، على حين تجد تاريخ المعرفة عند الفريق الأول على كثير جدا من الثبات والدوام، وفيم يكون التغير إذا كان المبدأ الأول المأخوذ به متصفا بالثبات والدوام؟

إن الفريقين من الناس حين يجاوزان حدود الجزئيات المحسة لينصرف كل منهما إلى المبدأ العام الشامل، يكونان عندئذ على اختلاف في طبيعة ذلك المبدأ وكنهه، فأما أحدهما فيرى نفسه إزاء حقيقة أدركها إدراكا ناصعا لأنه شاهدها بروحه - إن صح هذا التعبير - لكنه في الوقت نفسه لا يستطيع التعبير عنها بكلمات مستقيمة المعنى كهذه الكلمات والعبارات التي يتفاهم بها الناس في حياتهم اليومية وفي أمور معاشهم؛ لذلك تراه يلجأ إلى العبارات والكلمات التي تومئ وتوحي، لا التي تصف وتحدد، ومن هذا القبيل تجد جميع الكتب والأسفار الدينية والصوفية في الثقافة الشرقية، وتلك هي لغة الفن. وأما الفريق الآخر فيرى نفسه إزاء حقيقة يفرضها لنفسه فرضا لكي يستنبط منها النتائج؛ ولذلك فهو مضطر أن يسوق تلك الحقيقة في عبارة محددة دقيقة، ومن هذا القبيل تجد جميع الكتب العلمية في ثقافة الغرب، وتلك هي لغة العلم النظري، حتى لتبلغ بها الدقة والتحديد أن تستغني عن الكلمات المألوفة في لغة الحديث الجارية - لما يحيط بها من غموض - برموز ترمز بها إلى المعنى المحدد المراد على سبيل الاصطلاح الذي لا يحتمل اللبس.

الشرق والغرب كلاهما متفق على أن العين ترى والأذن تسمع، لكن ما هذا الذي تراه الأعين وتسمعه الآذان؟ يجيبك الشرقي: إنه آيات يتبدى فيها الواحد الأبدي ويتجلى، ليصبح بآياته مرئيا مسموعا، لكنه هو وحده الخالد الباقي، وأما هذه الآيات الدالة على وجوده فإلى زوال سريع أو بطيء على حد سواء. ويجيبك الغربي: إنه ظواهر يرتبط بعضها ببعض على صور مطردة، فإذا نحن كشفنا عن هذا الاطراد فقد كشفنا عن القوانين التي تسير الأشياء على سننها ... هكذا يجيب كل من الفريقين، فإذا سألت صاحب الجواب الأول: ما برهانك؟ لم يكن لديه برهان يقدمه سوى أن تروض نفسك رياضة حتى تستطيع أن تدرك ما قد أدركه؛ فليس الإدراك الوجداني مما تقام عليه البراهين، لكنه يمارس ويعانى، ويختبر بالنفس، وهل يستطيع محب أن ينقل إليك لوعة قلبه بالبرهان؟ ... أما إذا سألت صاحب الجواب الثاني: ما برهانك على أن قانون الجاذبية مثلا يفسر كل الظواهر الفلانية؟ وجدت عنده ما يقوله على سبيل البرهان.

ثقافة الشرق هي من قبيل ما يستطيع صاحبه أن يقطع بيقينه لأنه قد أحسه بقلبه، وثقافة الغرب هي من قبيل ما يطلب على صدقه البرهان لأنه قائم على التفكير النظري والمنطق العقلي، فإن تكلم الأول جاء كلامه مرتعشا بهزة الوجدان الشاعر، وإذا تكلم الثاني جاءت عبارته باردة في رمزها؛ لأن حرارة العاطفة عندئذ تشينها وتعيبها. كلام الأول ناطق بما تضطرب به النفس من داخل، وكلام الثاني رامز إلى ما يشار إليه من ظواهر الخارج.

وهذا الفارق نفسه كائن بين الفن هنا والفن هناك - على وجه العموم - لأن الفن الشرقي في شتى عصوره وفي جميع أصقاعه لم يكن يراد به أن يصور الحقيقة الجزئية الخارجية تصويرا يستهدف التمثيل الدقيق لكل تفصيلات الشيء المصور، وإن شئت فانظر إلى التصوير المصري القديم الذي هو أقرب إلى التخطيط الذي قلما يراعي قواعد المنظور - عن عمد لا عن جهل من الفنان - أو انظر إلى التصوير الهندي للآلهة والإلهات ذوات الأذرع الكثيرة والرءوس المتعددة وما إليها؛ ذلك لأن الفنان الشرقي يرسم الحقيقة كما تقع في وعيه، لا كما هي قائمة في الطبيعة الخارجية، وأما زميله الغربي - لو استثنينا الثورة الفنية الحديثة في الأعوام الستين أو السبعين الأخيرة - فقد كان يراعي أن تجيء الصورة وكأنها - بأبعادها الثلاثة - تمثال منحوت في الحجر؛ وذلك لأنه أراد دائما أن تجيء الصورة مطابقة للمصور حتى لتقول في غير عناء: هذه صورة لذلك الشخص أو ذلك الشيء ... وما دلالة ذلك فيما نحن بصدد الحديث عنه؟ دلالته أن الثقافة الشرقية بشتى نواحيها من دين وفن وفلسفة تعبيرات تخرج ما تضطرب به النفس من وجدان، على حين أن الثقافة الغربية بجميع ألوانها من علم وفلسفة وفن لا تخلو أبدا من الرمز إلى ما هو كائن خارج النفس الإنسانية بكل ما فيها من جيشان.

فكأنما الفنان الشرقي حين يصور لك شيئا، فإنما يريد لك أن تقف عند المادة المعروضة لذاتها وفي ذاتها؛ لأنها هي نفسها الحق كله، وأما الفنان الغربي - وأعيدها مرة أخرى أنني أستثني الثورة الأخيرة في الفن العربي - فيعرض لك أثره الفني لا لتستمتع به في ذاته ولذاته، بل لتنقل بعد ذلك من الأثر إلى المؤثر، من الصورة إلى المصور، من الرمز إلى المرموز إليه، كأن الصورة الفنية عنده ضرب من الكلام العلمي الذي يقال ليدل على أشياء تقع خارج الكلام نفسه؛ فهي ليست مكتفية بذاتها لأنها ليست هي الحق كله، إنما يكملها الطرف الآخر الخارجي الذي جاءت الصورة لتصوره وتشير إليه، فلو توسعنا في القول بحيث نقول إن الرمز - كائنا ما كان - إذا أريد به أن يشير إلى مرموز إليه، كانت المنفعة هي أساس استخدامه، وأما إذا أريد به أن يكون نهاية في ذاته ولا يرمز إلى شيء سواه، كانت النشوة الجمالية هي أساس استخدامه. أقول إننا إذا أطلقنا القول على هذا النحو الواسع، جاز لنا أن نقول إن ثقافة الغربي هي ثقافة المنتفع، وثقافة الشرقي الأصيلة هي ثقافة المخمور بعاطفته المنتشي بوجدانه، فالأولى هي ثقافة العالم، والثانية هي ثقافة الفنان.

وإن خير وسيلة تدرك بها الفرق الشاسع بين الثقافتين، هي أن تقلب النظر في نماذج تمثل كلا منهما: فقارن مثلا بين رجل يقول وهو يتحدث عن حقائق الكون: «إن الأجسام تتجاذب بنسبة تطرد مع حاصل ضرب كتلتي الجسمين المتجاذبين، وبنسبة عكسية مع مربع المسافة بينهما.» أو يقول: «إن ضغط الغاز مضروبا في حجمه يساوي مقدارا ثابتا إذا ظلت درجة الحرارة على حالها.» وهكذا قارن هذه الأقوال وأمثالها بأقوال الحكيم الشرقي وهو يعلم تلميذه حقيقة الكون:

إذا قطعت هذه الشجرة عند جذورها، فإنها تقطر لأنها حية، وإذا قطعتها عند وسطها، فإنها تقطر لأنها حية، وإذا قطعتها عند قمتها، فإنها تقطر لأنها حية ... أما إن خرجت الحياة من أحد فروعها فإنه يذوي ... فاعلم كذلك أن هذا الجسد مائت ولا ريب إذا خرج منه الواحد الحي، ولكن الواحد الحي لا يموت، ومن جوهره الدقيق جاء الوجود، إنه الحق، إنه الروح، إنه أنت.

وفي درس آخر يقول الحكيم نفسه إلى تلميذه:

الحكيم :

ضع هذه القطعة من الملح في الماء وعد إلي غدا.

التلميذ :

قد وضعتها ...

الحكيم :

ائت لي بالملح الذي وضعته في الماء بالأمس.

التلميذ :

لست أراه.

الحكيم :

ذق الماء، كيف مذاقه؟

التلميذ :

إنه مالح.

الحكيم :

دع الماء وتعال فاجلس إلى جواري ... إن الملح موجود ولست تراه، كذلك لست ترى الموجود ها هنا في دخيلة أجسامنا، ولكنه مع ذلك موجود، ومن وجود هذا الجوهر الدقيق جاء الوجود؛ إنه الحق، إنه الروح، إنه أنت.

كذلك يتكلم العالم، وهكذا يتكلم الفنان.

الفصل السادس عشر

تاريخ الفكر في الغرب - إلا أقله - هو تاريخ العقل النظري، وتاريخ الفكر في الشرق - إلا أقله - هو تاريخ الإدراك الصوفي والحاسة الجمالية؛ فللغرب نزعة عقلية منطقية علمية إلا ريثما يثور على نفسه، وللشرق نزعة روحانية تصوفية فنية إلا ريثما يثور على نفسه، والنزعتان تتجاوران متكاملتين في الشرق الأوسط، فلئن أخطأ من قال عن الشرق والغرب إنهما شيء واحد، فكذلك أخطأ من قال عنهما إنهما نقيضان لا يلتقيان في رقعة واحدة؛ لأنهما قد اجتمعا في الشرق الأوسط، وكذلك هما مجتمعان في كرة أرضية واحدة، والأصوب أن يقال إنهما نزعتان متكاملتان في كل فرد، ثم في كل أمة بنسب تختلف في فرد عنها في فرد آخر، وفي أمة عنها في أمة أخرى، بل إن النسبة بينهما في الفرد الواحد وفي الأمة الواحدة لتختلف في مرحلة من العمر عنها في مرحلة أخرى، فإذا ما أسرفت أمة في ميلها نحو منطق العلم مثلا، كان الأرجح أن يجيئها من يذكرها بأنه لا بد للإنسان من دفء العاطفة، وكذلك حين تسرف أمة في حياتها العاطفية، يغلب أن يظهر من بنيها من يحاول إلجامها بشكائم العقل ومنطقه.

ففي الغرب الذي يتميز بالعقل النظري أكثر مما يتميز بالحدس المباشر، الذي يرى الحقيقة رأسا بغير وساطة الأدلة وخطوات الاستنباط، في هذا الغرب نفسه من الفلاسفة من ينهضون للحد من سلطان العقل لكي يتاح للإدراك الحدسي - أو إن شئت فقل الإدراك الوجداني - أن يدرك من الحقائق ما ليس في وسع العقل أن يدركه، ونسوق لذلك مثلا «هنري برجسون»، الذي راعه أن يلقي الناس بزمامهم إلى العقل دون غيره، فينتهوا إلى إثبات ما يثبته العقل وإنكار ما ينكره، على حين أنه يصلح لشيء ولا يصلح لشيء آخر، ولا بد من وسيلة إدراكية أخرى ندرك بها بواطن الأمور ما دام العقل مقتصرا في إدراكه على ظواهرها، وهذه الوسيلة الأخرى هي «الحدس» المباشر.

فبالحدس يدرك الإنسان الكل جملة واحدة، وبالعقل يدرك الأجزاء وما بينها من علاقات، بالحدس يدرك ماهية الشيء وجوهره من حيث هو كائن موجود لذاته وبذاته، وبالعقل يدرك أوجه الشبه وأوجه الاختلاف بينه وبين سائر الأشياء. نعم، إن في مقدور العقل أن يفهم الحقائق الساكنة، أعني الأشياء التي تتصف بالقصور الذاتي، والتي تدوم على حالة واحدة بعينها، أما الحياة في تيارها الجارف السيال ففوق مستطاع العقل إدراكها، في مقدور العقل أن يتناول مركبا فيحلله إلى أجزائه ثم يركبه وهكذا، ما دامت أجزاء المركب باقية على حالها بغير زيادة تضاف إليها ولا نقص يأخذ منها، ولكن الحياة ليست على هذا السكون وهذا الثبات، بل هي دائبة السير على مر الزمن، وتظل تضيف إلى نفسها في كل لحظة جزءا جديدا؛ لأن كل لحظة زمنية فيها الماضي كله مضافا إليه هذه اللحظة الجديدة، فإن أراد العقل أن يفهم الحياة أو مر الزمان، أفلتت منه هذه الإضافات التي تستجد في كل لحظة، ولو كان العقل قادرا على فهم الحقيقة كلها كاملة منذ الأزل لكان معنى ذلك أن الحقيقة بدأت كاملة منذ الأزل، وليس الأمر كذلك في حالة الحياة مثلا، وهي التي تزيد - كما قلنا - على مر الزمن.

فهل كتب على الإنسان أن يفهم الحياة وأن يفهم غير الحياة من الحقائق التي ما تنفك نامية مترقية ما دام عقله لا يدرك إلا ما هو ثابت على حالة واحدة؟ هل كتب عليه ألا يرى الحياة إلا في صورها الظاهرة التي تتبدى في سلوك الكائنات الحية حركات في المكان، فلا يتاح له أن يخرج إليها في محرابها ليراها وهي في نشاطها المبدع الخلاق؟ ألا إنه لو كان العقل هو وحده أداة المعرفة، ولا أداة لنا سواه، فسيظل سر الحياة مغلقا خافيا على البشر إلى أبد الآبدين. لكن لا، إن سيال الحياة الذي يأبى أن يكشف عن سره لذكاء العقل، إنما يسفر عن نفسه للبصيرة، أو الحدس أو اللقانة أو ما شئت أن تسمي هذه الملكة التي تتيح لصاحبها أن يواجه الحقيقة مواجهة مباشرة لا تستنبط كما يفعل العقل ولا تستدل.

إن كمال الإنسان مرهون بأن يسير الحدس مع العقل جنبا إلى جنب، فبالعقل يفهم البيئة المادية المحيطة به فهما يعينه على العيش، وبالحدس يدرك ما خفي عن العقل من حقائق كر الحياة وحرية الإدارة وما إليها. إن مجال العقل هو العلوم التي تستند إلى الملاحظة والتجربة، ثم استخراج القوانين الطبيعية التي تمكننا من الانتفاع بالظواهر على النحو الذي نريد. وأما مجال الإدراك الحدسي فهو الفلسفة؛ لأنها إذ تترك للعلم بحث الظواهر، تحاول هي أن تنفذ إلى البواطن، فالعلم مثلا يعامل الجسم الحي كما يعالج الجماد، ومهما بلغ من التوفيق في فهم المادة، فلن يكتب له النجاح في فهم معنى الحياة عن طريق الدراسة البيولوجية؛ لأن البيولوجيا - كسائر العلوم الطبيعية - تعنى بظواهر الأشياء، وها هنا يبدأ واجب الفلسفة؛ فعليها أن تبحث في الكائن الحي دون أن تبتغي لنفسها غاية عملية، وأن يكون الحدس وسيلتها إلى الإدراك، ولا يجوز لها أن تصطنع طريقة العقل في البحث؛ لأن هذا من طبيعته لا يبحث إلا في المادة الجامدة، ذلك هو ميدانه، وكل امتداد له خارج ميدان المادة الميتة هو توسع في اختصاصه غير مشروع، فلم يخلق العقل ليفكر في أي شيء من شأنه الحركة والتغير كالحياة المتطورة مثلا ؛ لأنه إزاء الحقيقة النامية عاجز؛ إذ من شأنه أن يجزئ موضوع بحثه ليبحث في كل جزء على حدة، ولو أراد عالم أن يحلل كائنا حيا إلى أجزائه ليعود فيركبه كائنا حيا من جديد، كما يحلل قطعة من الخشب مثلا إلى عناصرها ثم يركبها خشبا مرة أخرى، لوجد نفسه إزاء كومة من أشلاء هيهات أن تعود كما كانت كائنا حيا. كلا، ليس العقل ومنهجه هو ما يسعفنا إذا ما أردنا أن نفهم الحقيقة المتطورة المتغيرة المترقية، وكيف يستطيع ذلك وهو نفسه أداة خلقتها الحياة في ظروف معينة ليعمل في حدود معينة؟ إنه إن حاول ذلك كان كالجزء الذي يزعم أنه أعم من الكل وأشمل، وكالحصاة التي تقذفها أمواه البحر على الشاطئ، تريد أن تصور الموجة التي حملتها إلى هناك ...

هكذا يتحدث فيلسوف من الغرب إلى ذويه، وقد سقناه مثلا لما زعمناه، وهو أن غلبة التفكير العقلي النظري على ثقافة الغرب لا تنفي أن يظهر الفيلسوف الذي يحاول أن يوازن الميزان.

الفصل السابع عشر

أما بعد، فإن لكاتب هذه الرسالة مذهبا في الفلسفة يتابعه وينتصر له، ولا يدخر وسعا في عرضه وتأييده، وخلاصته في أسطر قلائل هي أن الإنسان إذا ما تكلم فإنما يقع كلامه في أحد صنفين: فإما هو كلام يساق للتعبير عن خطرات النفس ومكنون الضمير، أو هو كلام يقال ليشار به إلى الطبيعة الخارجية كما تتبدى للحواس، فإن كانت الأولى كان الكلام من قبيل الفن، مهما يكن مضمونه؛ لأنه عندئذ سيجري مجرى الفن من حيث هو تعبير ذاتي قاله قائله ليبسط به ما قد أحسه بوجدانه، فإن وافقه الناس على ما قد ورد فيه كان خيرا، وإلا فلا سبيل إلى إقناع الناس به إذا هم لم يجدوا من أنفسهم ما يحملهم على قبوله. وأما إن كانت الثانية، فإن الكلام عندئذ بمثابة القضايا العلمية التي يتحتم على قائلها أن يبين لسامعها كيف يكون إثبات صدق تلك القضايا على الطبيعة كما يراها المتكلم والسامع من وجهة نظر واحدة.

وما دمنا قد فرقنا بين الكلام الذي يكون فنا أو كالفن، والكلام الذي يكون علما أو كالعلم، فقد أضحى الطريق أمامنا واضحا كلما نشب بين الناس اختلاف في الرأي أو ما يشبه الاختلاف؛ لأننا قبل أن نحاج من يعارضنا في قول نقوله، سنتبين بادئ ذي بدء ما طبيعة هذا القول الذي نحاج فيه؛ أهو من قبيل التعبيرات الذاتية التي يكون الإدراك الحدسي أساسها ومدارها؟ أم هو من قبيل العبارات العلمية الموضوعية التي تكون الحواس والعقل مصدرها وعمادها؟ فإن كانت الأولى بطل الحجاج من أساسه؛ لأن الحجاج لا يكون لشيء أساسه الذوق، وإنما يكون الحجاج فيما يقال على سند من الحواس والعقل؛ لأن المتعارضين ها هنا سيقيسان صدق القول والبطلان بمعيار مشترك.

ولقد قلتها كثيرا وها أنا ذا أقولها مرة أخرى، وهي أن التفرقة بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي ليس معناها المفاضلة، بل معناها هو كما يدل عليه اسمها: التفرقة بين شيئين مختلفين، لا بل إنني لو كنت أفاضل بين الحياتين: حياة الفنان الذي يعبر عن نفسه، وحياة العالم الذي يهمل نفسه ليصف الطبيعة الخارجية؛ لما ترددت لحظة في أن أحيا حياة الفنان الذي يدير نشاطه حول ذاته وما تنطوي عليه، لكن الأمر ليس أمر مفاضلة، بل هو أمر تمييز وتفرقة بين نوعين من المعرفة: معرفة تصور الباطن ولا تصلح للمحاجة والمناقشة، فإما أن نستحسنها فنقبلها، أو أن نستقبحها فنعرض عنها؛ ومعرفة تصور الخارج، وهذه وحدها هي التي يصح أن يناقش فيها ويجادل؛ لأنها هي وحدها التي يجوز لنا أن نصفها بالحق أو بالبطلان.

فإذا كنا قد أصررنا وألححنا في مواضع كثيرة أخرى غير هذه الرسالة الصغيرة، بأن الكلام الذي يريد به صاحبه أن ينبئ عن الحقيقة الخارجية لا بد أن يجيء ومعه إمكان تحقيقه بمراجعته على المحسات الخارجية التي يدعي أنه ينبئ عنها، وإلا فهو كلام خلو من المعنى؛ أقول إننا إذا كنا قد ألححنا في توكيد هذا المذهب، فما أرانا إلا أن نقول ما يتفق مع البداهة والإدراك الفطري السليم .

اختر لنفسك إزاء نفسك وإزاء الكون الموقف الذي ترتضيه، لكن كن على وعي بما قد اخترت لنفسك راضيا: فإما أن يكون ركونك في قولك على حدسك، وبذلك تكون فنانا في طبيعتك؛ أو أن تستقي علمك من حواسك وعقلك المنطقي، وبذلك تكون عالما في طبيعتك؛ ولك بطبيعة الحال أن تكون فنانا في نظرتك حينا وعالما حينا آخر، على شرط أن تكون في كل حين مسئولا عما تفعل، فعند الوقفة الفنية تكون مسئولا أمام قواعد النقد الفني، وعند الوقفة العلمية تكون مسئولا أمام قواعد الاختبار العلمي؛ والخطأ كل الخطأ، بل الخطر كل الخطر هو أن تعبر عن ذات نفسك أنت إزاء الأشياء ثم تدعي أنك تنبئ الناس عن حقائق مما يصح أن يناقشوك فيه.

ولقد حاولت أن أبين في هذه الرسالة أن الشرق الأقصى قد وقف إزاء الكون وقفة الفنان الذي يستند إلى حدسه، وأن الغرب قد وقف إزاءه وقفة العالم الذي يرتكن إلى حسه وعقله، وأن ثقافة الشرق الأوسط قد جمعت الوقفتين جنبا إلى جنب؛ فنرى الدين والعلم معا متجاورين، بل ترى الدين نفسه يناقش بمنطق العلم، فتندمج النظرتان في موضوع واحد؛ فلا جناح على من يلتمس حقيقة الوجود في جوهره غير المنظور، نافذا إليه بحدسه، ما دام هو على علم بأنه عندئذ إنما يحتكم إلى الذوق والوجدان، ثم لا جناح على من يلتمس حقيقة الوجود في ظواهره المنظورة، ناظرا إليها بحواسه، ومستدلا من شواهد الحس نتائج يستنبطها العقل بوسائل المنطق، ما دام هو على علم بأنه عندئذ إنما يقتصر على الجانب المحس الذي هو ميدان العلوم، أما أن نخلط بين الأمرين، فنتكلم عن الوجود بلغة الذوق والوجدان، ثم نزعم أننا نرضي منطق العقل، أو نتكلم بلغة الحس والاستنباط مما يدركه الحس، ثم نزعم أننا قد شملنا بالقول كل مجال للحديث؛ فذلك هو الخلط الذي يباعد في الرأي بين الناس إلى حيث لا سبيل إلى التقاء.

Unknown page