قالت: «أرجو قبل الشروع في الحديث أن تأمر باستقدام رفيقتي وصديقتي ميمونة التي تحملت العذاب من أجلي، فإنها خارج هذا الفسطاط.» وأشارت بأصبعها إلى الخارج.
وكان الأميران قد علما بأنهما ضلا معا، فلم يستغربا كلامها، فصفق عبد الرحمن فدخل الغلام فأمره أن يدخل المرأة الواقفة في الخارج، وبعد هنيهة دخلت ميمونة وهي تتظاهر بالحياء والدعة، فأشار إليها عبد الرحمن أن تجلس على طنفسة في أحد جوانب الفسطاط وهو يتبسم لها اعترافا بحسن صنيعها، ثم حول وجهه إلى مريم للاستماع إلى حديثها وكان هانئ لا يزال واقفا، فأشار إليه عبد الرحمن أن يجلس بجانبه فجلس، وأصاخ الأميران بأذنيهما لسماع القصة.
فبدأت مريم تقص حديثها منذ جاءها الرسول يلتمس ذهابها إلى الأمير هانئ، وكيف أن ميمونة عرضت نفسها لخدمتها، وكيف آنستها وأعانتها حتى وصلتا معا إلى القصر المهجور وما كان من مجيء بسطام وما أبداه من الوحشية، وكيف عرضت ميمونة نفسها للخطر دفاعا عن مريم، فلما ذكرت مريم ذلك تحولت الأنظار إلى ميمونة، فتظاهرت بالحياء والإطراق، أما هانئ فإنه أحس منذ سمع اسم بسطام بارتعاد من شدة الغيرة، والتفت إلى الأمير عبد الرحمن وهمس في أذنه قائلا: «يا ليتني قتلته في هذا الصباح.»
أما مريم فإنها استمرت في حديثها، فقالت: «فلما سمع بسطام دفاع هذه الصديقة عني أمر رجاله فقبضوا عليها، وأوثقوها وساقوها إلى إحدى الغرف وهي تصيح وتستغيث، فلما يئست من نجاتها توسلت إلى ذلك الوحش الكاسر أن يرفق بي، إني لا أنسى تلك الاستغاثة وإن كان بسطام لم يعبأ بها، فإنه لما خلا بي في ذلك القصر المهجور حدثته نفسه بأمور كثيرة وطال الجدال بيني وبينه، وفيما نحن في ذلك جاء بعض فرسان هذا الجند للبحث عن الأمير هانئ هناك، فعلمت منهم أن الإفرنج هاجموكم وهانئ غائب، وأن العرب في ضعف بسبب ذلك فأصبحت في قلق لأسباب لا تجهلونها، أما بسطام فإنه لم يبال بضياع جند العرب كله، ولما سمع توبيخي له على ذلك انتهرني وعرض بذكر الأمير (وأشارت إلى هانئ) واتهمه بالجبن وأنه فر من المعركة خوفا من الموت؛ لأني قلت له: «ألا تزال تزعم أن هانئا غلام لا شأن له وقد رأينا الجند لا يستطيعون شيئا بدونه ولم نسمعهم يذكرون بسطاما ولا سواه؟» فلما سمع هانئ ذلك الثناء حول نظره عن مريم حياء.
أما مريم فأتمت حديثها قائلة: «فوقع كلامي على بسطام وقوع الصاعقة، ولم يتمالك أن هجم علي ويده على قبضة سيفه يهم أن يجرده وأن يضربني به، فصحت فيه: «اخسأ يا نذل الرجال إن مثلك لا يليق أن يسمى أميرا، فبدلا من أن تجرد حسامك على فتاة، اذهب لنجدة إخوانك، وقد علمت ما هم فيه من الضنك، وجرده على أعدائك ولو كان هانئ في مكانك ما فعل غير ذلك.»
فلم يزده هذا الكلام إلا حنقا، وكنت أظنه يخجل من نفسه ويرتد عن غيه، فقال ويده لا تزال على قبضة السيف: «لو كان هانئ رجلا ما تخلف عن ميدان الحرب في مثل هذا اليوم، ولكنه جبان.» ولم يتم كلامه حتى جرد سيفه، وهم بإطلاقه علي فلما رأيت ذلك منه وتبينت الغدر في عينه تناسيت ضعف النساء وشددت عزيمتي، وعزمت على الفتك به التماسا للسرعة في الخروج من بين يديه؛ لأنظر في أمر هذا الجند؛ لأن نجاحه يهمني كثيرا كما تعلمون، ثم أمسكت نفسي وعدت إلى الملاطفة، فقلت له: «لا تخيفني بسيفك، ولا يغرنك أني فتاة فإني لا أخشى السيوف ارجع عن عزمك واتركني وشأني، وذلك خير لك.» وقبضت على زنده وهززته، فأكبر أن يصغي لنصحي فتخلص من يدي، وكان قد أنزل السيف فعاد وشهره، وأوهمني أنه مطلقه على عنقي فتراجعت لأخلو من الضربة، فظن أنني خفت فتبعني وسيفه يكاد يقع على رأسي، فلم أعد أستطيع صبرا على ذلك فصحت فيه: «نصحتك فاقبل نصيحتي يا بسطام.» قلت له ذلك وهو يحاول أن يقبض على ثوبي ليتمكن من ضربي؛ لأنه كان يتوقع فراري، ولكنني بدلا من الفرار هجمت عليه وأمسكت يمناه بيساري ومددت يمناي إلى منطقته، واستللت خنجره وغمدته في صدره، وقلت له: «أبيت إلا أن تموت قتيلا وأن تدنس يدي بدمك.» فغاص الخنجر إلى قبضته فخر على الأرض وسقط السيف من يده، فالتقطت السيف ولم أنظر إلى وجهه؛ لأني قتلته مكرهة، وأسرعت إلى الجواد الأدهم فركبته والتففت بالعباءة، وجعلت الخوذة على رأسي، وهمزت الجواد نحو المعركة لأوهم الناس أني الأمير هانئ تشجيعا لفرسانه، فإذا ترتب على عملي هذا نجاح فإنما الفضل لذلك الاسم المبارك.»
الفصل الثالث والثلاثون
الإخلاص
فلما ذكرت مريم أنها قتلت بسطاما، صاح الأمير عبد الرحمن: «بسطاما؟»
قالت: «نعم قتلته وقد قصصت عليك السبب الذي دعاني إلى قتله، فإما أن تعذرني فيه أو تقتلني بسببه فإني بين يديك.»
Unknown page