فقطعت سالمة كلامها قائلة: «لا أعدها إلا تحت أمرك، وإذا شئت أن تعتبريها ابنة لك كان ذلك من بعض فضلك.» فهمت القهرمانة بالوقوف وهي لبدانتها لا تستطيع النهوض إلا بالاعتماد على يديها والتوكؤ كأنها تحمل حملا أثقل كاهلها، فلما قاربت الوقوف، قالت: «هي ابنتي وأعز من ابنتي، ولذلك فإني عهدت برعايتها إلى أحب أهل هذا الخباء للأمير عبد الرحمن.» وأشارت إلى ميمونة.
فأتمت ميمونة عبارتها قائلة: «كوني مطمئنة يا سالمة، فإن مريم عندنا كأنها في رعايتك ومن يستطيع أن يرى هذا الوجه ولا يحبه ويتعشقه، ولا يغرك مجيئها إلينا باسم الضيفة، فان الأمير لا يلبث أن يراها حتى يتعلق بها ويود استبقاءها عنده، فيزيد بذلك سرورنا ونفرح ببقائها بيننا.» قالت ذلك ونظرت إلى مريم وابتسمت.
فلما سمعت مريم ذلك بدت البغتة في وجهها، وخشيت أن يصح قولها فتخسر حبيبها وتضيع آمالها فتصاعد الدم إلى وجهها حتى اصطبغ وأطرقت، فظنت ميمونة أنها أطرقت حياء على عادة الفتيات إذا خوطبن بمثل ذلك.
فقطعت القهرمانة الحديث بقولها: «هلم بنا الآن إلى النوم، فقد مضى معظم الليل.» وصفقت فخالط صوت التصفيق خشخشة الأساور والدمالج، وجاء أحد الخصيان فقالت له: «أعد غرفة خاصة بالضيفتين.»
فقالت ميمونة للقهرمانة: «اجعليها بقرب غرفتي إن لم تكن هي نفسها؛ لأني قد استأنست بالحبيبة مريم وهي استأنست بي.» فأشارت القهرمانة إلى الخصي أن يفعل.
الفصل السابع عشر
العقد
وبعد قليل عاد الغلام وقال إنه أعد كل شيء، فانصرفن جميعا وسارت سالمة ومريم في أثر الغلام نحو الغرفة، وقبل أن تصلا إليها سمعتا صهيل فرس اختلج له قلب مريم اختلاجا سريعا؛ لأنه يشبه صهيل جواد هانئ، فلم تتمالك أن سألت والدتها قائلة: «كأني أسمع صهيل فرس الأمير هانئ، فهل هو هنا؟»
قالت: «لقد جاء معي إلى هذا المكان، وكنت أحسبه قد عاد فور وصوله؛ لأنه سائر في مهمة ذات بال تتعلق بأسقف بوردو، فالظاهر أنه في شغل مؤقت هنا، ثم ينصرف.»
فتوسمت مريم من بقائه هناك خيرا، ودلها قلبها على أنه إنما بقي لمشاهدتها، فانشغل خاطرها في ذلك الأمر، وظهر الارتباك على وجهها ولو تفرست أمها فيها لرأت في عينيها ارتباكا وتفكيرا وقلقا، ولكنها لم تنتبه لشيء من ذلك لانشغالها بأمر نفسها واستعدادها للمسير في الغد إلى بوردو.
Unknown page