اختاف في دلالة النهي على فساد المنهي عنه على مذاهب سنذكرها إن شاء الله تعالى، وهذا الخلاف إنما هو في الأمور الشرعية إذا نهي عنها، وذلك نحو: الواجب إذا نهي عنه في بعض المواضع، كصلاة الحائض، والمندوب كصوم يوم النحر، فإن الصوم في الجملة مندوب إليه، ونهي عنه في نحو ذلك اليوم، والمباح كبيع الحاضر البادي، فإن البيع في الجملة مباح، ونهي عنه في مثل هذه الصورة، وليس الخلاف في النهي عن الأمور الغير الشرعية، كالنهي عن الزنا وشرب الخمر وأكل الميتة ونحو ذلك، فإن هذه الأمور قبل النهي لم يرد فيها شرع، فحالته قبل التحريم ليست بشرعية، وكذا ليس الخلاف في أن النهي لا يستفاد منه فساد المنهي عنه أصلا، فإن القائلين بأن النهي لا يدل على فساد المنهي عنه يعترفون بأنه يدل على ذلك في بعض الصور، وأن القائلين يدل على فساد المنهي عنه؛ يسلمون أنه في بعض الصور لا يدل على ذلك، وإنما الخلاف في أنه: هل الأصل هو الدلالة على فساد المنهي عنه؟ أم لا؟، حاصل المقام أن القائلين بأن النهي لا يدل على فساد المنهي عنه إنما ينفون دلالة على ذلك عند عدم القرينة الدالة على ذلك، فأما إذا قامت قرينة على شيء من أفراد النهي أنه يدل على فساد ذلك المنهي عنه؛ فإنهم يسلمون دلالته على ذلك لتلك القرينة، ويجعلونه كالمستثنى من قاعدة النهي، وكذا القائلون بأن النهي يدل على فساد المنهي عنه؛ فإنه يقولون بذلك عند عدم المانع عن دلالته على ما ذكر، فإن وجد المانع لذلك في شيء من أفراد النهي سلموا أن ذلك الفرد بعينه لا يدل على فساد المنهي عنه، لذلك المانع، وجعلوه كحكم المستثنى من قاعدتهم في النهي، هذا تحرير المقام، فاشدد به يدك، فإنه مهم جدا، ولا تكاد تجده، فإن قيل: إن جعل النهي عن الزنا لا يدل على فساد المنهي عنه لكون الزنا لم يرد فيه قبل النهي شرع غير مسلم لأمرين:
? أحدهما: أن أصحابنا رحمهم الله تعالى يحرمون تزويج المزني بها لمن زنى بها، وما ذلك إلا لأنه نهي عن الزنا بها؛ ففسد عليه.
? وثانيهما: أن الزنا محرم في جميع الشرائع؛ فهو أمر شرعي، فالنهي عنه في شريعتنا نهي عن أمر مشروع.
قلنا عن الأول: إن أصحابنا رحمهم الله تعالى إنما حرموا نكاح المزنية على من زنا بها لدلة غير النهي عن الزنا، كحديث عائشة والبراء بن عازب وغيرها.
وعن الثاني: إن تحريم الزنا في الشرائع لا ينافي أنه قبل وجود الشرائع ليس فيه حكم شرعي، حاصل الجواب أن مرادنا بقولنا: أن النهي عن الزنا نهي عن أمر غير شرعي، هو أن الزنا لم يرد فيه قبل النهي عن حكم شرعين سواء كان النهي عنه في شرعنا فقط، أو في جميع الشرائع، فظهر أن الزنا قبل إنزال الشرائع ليس فيه حكم شرعي كغيره من سائر الأشياء، وهذا القول فيما أشبه الزنا من المناهي، وإذا تحرر لك المقام كما ترى؛ فارجع إلى استماع حكاية المذاهب التي وعدنا بذكرها آنفا.
Page 72