ثم اعلم أنما قدمته لك من أن حكم النهي: التحريم إلا لدليل يصرفه عن ذلك هو مذهب الجمهور، وقال قوم: هو حقيقة في التكريه عند الإطلاق، ولا يدل على غيره إلا بقرينة، والمراد بالتكريه هاهنا كراهة التنزيه لا كراهة التحريم، فقوله في النظم: "كراهة التنزيه" احتراز مما قد يتوهم من اصطلاح الحنفية في المكروه، من أنه مشترك بين المكروه كراهة تحريم، وبين المكروه كراهة تنزيه على حسب ما يأتي في الحكم. قال صاحب المنهاج: "وأظن أهل هذا القول-أي بأن النهي حقيقة في التكريه- هم القائلون بأن صيغة الأمر في أصل وضعه للندب فقط، ولا يفيد الوجوب إلا لقرينة، وقال قوم بالوقف" قال صاحب المنهاج: "وهم المتوقفون في لفظ الأمر"، أقول: وسبب توقفهم هو أنهم زعموا أن النهي محتمل للتحريم وللتكريه ولغيرهما، ولا دليل يعين واحدا من هذه الاحتمالات دون الآخر؛ فوجب التوقف، وقال قوم: هو مشترك بين التحريم والتكريه، بمعنى أنه وضع لكل واحد منهما على حدة؛ فاستعماله في كل واحدة منهما حقيقة، ولا يحمل على واحد منهما حقيقة، ولا يحمل على واحد منهما على الإطلاق إلا بقرينة، فإن وردت قرينة تدل على إرادة أحد الحكمين حكم عليه و إلا فالوقف، وأرجح الأقوال كلها هو ما قدمته لك آنفا، وبما ذكرته من الأدلة عليه، تعرف تضعيف ما عداه من الأقوال، والله أعلم.
ولما فرغ من بيان حقيقة النهي، وبيان حكمه، أخذ في بيان ما يدل عليه النهي التزاما فقال:
والنهي ليس يستدل منه على فساد ما نهينا عنه
وقيل يستدل والبعض يدل أن كان ذا النهي لذاته جعل
وإن يكن لصفة فيه فلا له بوطء حائض قد مثلا
Page 71