واعلم أن جميع ما ذكرته من أحكام النهي إنما هي ثابتة له عند عدم الدليل الصارف عن إرادتها أو إرادة بعضها، فإن دل الدليل على شيء من ذلك صرف النهي إليه، ولذا ورد النهي لغير التحريم، فمن ذلك التكريه، نحو: { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } (البقرة: 267)، والمراد بالخبيث الرديء، والمراد بالإنفاق التصدق والإرشاد، نحو: { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } (المائدة: 101)، والفرق بينه وبين الكراهية هو أن المفسدة المطلوب درؤها في الإفساد دنيوية، وفي الكراهية أخروية، نظير ما مر في الفرق بين الإرشاد والندب في الأمر والدعاء، نحو: { لا تزغ قلوبنا } (آل عمران: 8)، وبيان العاقبة نحو: { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء } (آل عمران: 169)، أي عاقبة الجهاد الحياة، لا الموت، والتقليل والاحتقار، ومثل لهما بقوله تعالى: { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم } (طه: 131)، أي فهو قليل وحقير، بخلاف ما عند الله، والإياس
نحو: { لا تعتذروا اليوم } (التحريم: 7)، قال البدر رحمه الله تعالى: " واختلف في نهي الله تعالى، هل فيه تأديب؟ أم كله زجر؟ والأصح قول ابن عباس: أنه زجر كله، وزعم بعض أنه كالأمر، وأما نهي الرسول - صلى الله عليه وسلم - ففيه التأديب والزجر"، انتهى، وإذا تأملت المقام مع ما مر من تمثيلها للنهي في الإشارة وغيره عرفت أن نهي الله يرد لغير الزجر أيضا، ثم إن البدر عفا الله عنه قد مثل لمجيء صيغة النهي للإرشاد وغيره بآيات قرآنية، فلينظر الجمع بين ما صححه هاهنا وبين ما مثل به هنالك، والله أعلم.
ويرد النهي لغير الدوام إذا دل دليل على ذلك، وذلك نحو قول القائل: لا تخرج فإن الأسد على الباب، فالتعليل بكون الأسد على الباب دليل قاض بأن النهي عن الخروج إنما هو لأجل هذه العلة، وأنه إذا زالت العلة ارتفع النهي، ومنه نهي الحائض عن الصلاة، حاصل ما في المقام أن النهي هاهنا اقتضى الدوام بحسب التعليل ليس إلا، وكذا القول في النهي المقيد بشرط، نحو: لا تصعد السطح إن كان فيه فلان، أو وقت نحو: لا تصم يوم النحر، فإن النهي في الصورتين يقتضي تكرار الكف عن المهني عنه عند حصول القيد، ولا يقتضيه عند عدمه، هذا مذهب الجمهور، واحتجوا بأن النهي يقتضي بوضعه الدوام؛ فالتقييد بالشرط لا يخرجه عن وضعه الأصلي، أي لا يكفي أن يكون دليلا يصرف النهي عما وضع له إلى غيره، وذهب أبو عبد الله البصري، وصححه الحاكم إلى أن النهي المقيد يفيد المرة الواحدة، ولا يفيد الدوام، فإذا قال القائل: لا تصعد السطح إن كان فلان فيه، لم يفد ذلك في كل مرة يكون ذلك الفلان فيه، بل إذا ترك مرة فقد امتثل.
Page 69