أي حكم الأمر المعرف بأنه: طلب فعل غير كف لا على وجه الدعاء، هو الوجوب وضعا وشرعا ما لم تصرفه عن معنى الوجوب قرينة، فإنه وإن كان شاملا في ذاته للوجوب والندب، لأن كلا منهما مطلوب، فالوجوب إنما تعين بأدلة خارجة عن ذات الطلب، منها قوله تعالى لإبليس حين امتنع من السجود: { مالك ألا تسجد إذ أمرتك } وكان الأمر مطلقا عن القرائن، وهو قوله تعالى: { إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس } فأنكر عليه ربنا عز وجل ترك السجود، ولو لم يكن الأمر للوجوب عند عدم القرائن، لكان لإبليس العذر في ترك السجود؛ لجواز أن يقول في جوابه أن هذا الأمر ندب وتاركه لا يعصي، لكنه لم يكن له عذر بتركه، بدليل الإنكار عليه، وتعقيب ذلك بالطرد واللعن، فدل على أن الأمر للوجوب ما لم تصرفه قرينة، ومنها قوله تعالى: { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } ووجه الاستدلال من الآية، أنه تعالى هدد تاركي الأمر، بإصابة الفتنة والعذاب الأليم، ولا يكون هذا التهديد إلا عن ترك الواجب، ومنها قوله تعالى: { وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون } وجه الاستدلال منها، أنه تعالى ذمهم وسماهم مجرمين، بترك الركوع المأمورين به، والأمر في الآية مطلق عن القرائن كما ترى، فثبت المطلوب، ومنها أن تارك المأمور به عاص، بدليل: {أفعصيت أمري}، {لا يعصون الله ما أمرهم} والعاصي يستحق العذاب، بدليل: {ومن يعص الله ورسوله يدخله نارا خالدا فيها} قال البدر رحمه الله: (فإن قلت) أن الآية خاصة بالكفار، قلت النص عام يختص بالكفار انتهى، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام لأبي سعيد الخدري، وقد دعاه وهو في الصلاة: (ما منعك أن لا تستجيب وقد قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم) ووجه الاستدلال من الحديث أنه صلى الله عليه وسلم، أنكر على أبي سعيد ترك الاستجابة مع ذلك الأمر الوارد في الآية، ولا ينكر عليه إلا لتركه ما يجب عليه، لاسيما وهو يصلي، مع قوله تعالى: { ولا تبطلوا أعمالكم } فلو لم تكن الاستجابة لله وللرسول أوجب من الصلاة التي فيها أبو سعيد، لما أمره صلى الله عليه وسلم أن يتركها ويستجيب، ومنها أنه شاع الاستلال بالأمر على الوجوب من الصحابة ومن بعدهم، ولم يظهر من أحدهم إنكار ذلك، والشياع من غير إنكار، ممن يعتد به إجماع قولي إن قالوا به جميعا، أو سكوتي إن قاله البعض وسكت الباقون والكل حجة، فثبت المطلوب، وهو ظان الأمر المطلق للوجوب بالكتاب والسنة والإجماع، قال البدر الشماخي بعد ما ذكر هذه الأدلة: ليس خاصا بصيغة أفعل، بل يجري في أمرتكم وغيرها انتهى، وهو الذي قررته سابقا والحمد لله، (فإن قامت) قرينة تمنع الأمر من إرادة الوجوب، صرف إلى الندب ما تقتضيه القرينة من المعاني مجازا، كما صرف إلى الندب في قوله تعالى: { فكاتبوهن إن علمتم فيهم خيرا } وكما صرف إلى الإباحة، في قوله تعالى: { كلوا من الطيبات } وكما صرف إلى الإرشاد، في قوله تعالى: { وأشهدوا إذا تبايعتم } والفرق بين الإرشاد والندب، أن المصلحة في الندب أخروية، وفي الإرشاد دنيوية، وكما صرف لإرادة الامتثال، في قولك لآخر عند العطش، اسقني ماء، وكما صرف إلى الإذن، في قولك لمن طرق الباب أدخل، وكما صرف إلى التأديب، في قوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن أبي مسلمة، وهو دون البلوغ، ويده تطيش في الصحفة كل مما يليك، وكما صرف الامتنان في قوله تعالى: { كلوا مما رزقكم الله } وكما صرف للتهديد في قوله تعالى: { اعملوا ما شئتم } والقرائن في الكل ظاهرة، وأما العلاقة فقال البناني: هي بين الوجوب والندب والإرشاد، المشابهة المعنوية لاشتراكهما في الطلب، وبينه وبين الإباحة الإذن، وهي مشابهة معنوية أيضا، وكذا بينه وبين الامتنان، وبينه وبين إرادة الامتثال، وأما بينه وبين التهديد فالمضادة؛ لأن المهدد عليه حرام أو مكروه انتهى، وعزاه لابن القاسم، وقال ابن السبكي: وعندي أن المهدد عليه لا يكون إلا حراما، كيف وهو مقترن بذكر الوعيد انتهى، قال البناني: والظاهر ما قاله ابن السبكي، فإن المكروه لا يستحق تهديدا انتهى، وما قدمت لك من أن الأمر حقيقة في الوجوب، مجازا في غيره، هو ما عليه الجمهور، (وقال) أبو علي وأبو هاشم والقاضي عبد الجبار: لا يقتضي الوجوب إلا لقرينة تقتضي ذلك، وإنما هو حقيقة في الندب، (وقال) أبو القاسم البلخي، والشيخ أبو عبد الله البصري، وأكثر فقهاء قومنا: بأنه للوجوب شرعا فقط، لا من جهة اللغة، فأصل وضعه عندهم للندب، وقيل: بل موضوع في اللغة للطلب المشترك بين الوجوب والندب، وهو الطلب المفيد استحقاق الثواب، من دون النظر إلى استحقاق العقاب بتركه، وعدم الاستحقاق، فهذا هو المشترك بينهما، وأما مع معرفة أن لا عقاب بتركه، فهو الطيب المختص بالندب، ومع معرفة استحقاقه، هو المختص بالوجوب، وقيل: بل مشترك بين الوجوب والندب، وتوقف الأشعري، وأبو بكر الباقلاني في كونه للطلب المشترك، أو مشتركا بين الوجوب والندب، وهذا معنى قول الناظم، وقيل: للندب إلى آخره، وفيه أقوال أخر لم يذكرها المصنف، أحدها: أنه مشترك بين الندب والوجوب والإباحة، وثانيها:
Page 40