أطت بهم أرحامهم فلم يطع
ثائرة الغيط ولم يشف الغلل
ومنها أنا ما رأينا شجاعا جوادا قط ، كان عبد الله بن الزبير شجاعا وكان أبخل الناس ن ، وكانالزبير أبوه شجاعا وكان شحيحا ، قال له عمر : لو وليتها لظلت تلاطم الناس في البطحاء على الصاع والمد ، وأراد علي عليه السلام أن يحجر على عبد الله بن جعفر لتبذيره المال ، فاحتال لنفسه ، فشارك الزبير في أمواله وتجاراته ، فقال عليه السلام ، أما إنه قد لاذ بملاذ ، ولم يحجر عليه ، وكان طلحة شجاعا وكان شحيحا ، أمسك عن الإنفاق حتى خلف من الأموال ما لا يأتي عليه الحضر ، وكان عبد الملك شجاعا وكان شحيحا ، يضرب به المثل في الشح ، وسمي رشح الجر لبخله ، وقد علمت حال أمير المؤمنين عليه السلام في الشجاعة والسخاء كيف هيي ، وهذا من أعاجيبه أيضا عليه السلام . | قال الرضي رحمه الله : وربما جاء في أثناء هذا الاختيار اللفظ المردد ، والمعنى المكرر ، والعذر في ذلك أن روايات كلامه تختلف اختلافا شديدا ، فربما اتفق الكلام المختار فيء رواية فنقل على وجهه ، ثم وجد بعد ذلك في رواية أخرى موضوعا غير وضعه الأول ، إما بزيادة مختارة ، أو بلفظ أحسن عبارة ، فتقتضي الحال أن يعاد ، استظهارا للاختيار ، وغيرة على عقائل الكلام ، وربما بعد العهد أيضا بما اختير أولا ، فأعيد بعضه سهوا ونسيانا ، لا قصدا أو اعتمادا ، ولا أدعي مع ذلك أنني أحيط بأقطار جميع كلامه عليه السلام ، حتى لا يشد عني منه شاذ ، ولا يند ناد ، بل لا أبعد أن يكون القاصر عني فوق الواقع إلي ، والحاصل في ربقتي دون الخارج من يدي ، وما علي إلا بذل الجهد ، وبلاغة الوسع ، وعلى الله سبحانه نهج السبيل ، وإرشاد الدليل . | ورأيت من بعد تسميه هذا لالكتاب بنهج البلاغة ، إذ كان يفتح للناظر فيه أبوابها ، ويقرب عليه طلابها ، وفيه حاجة العالم والمتعلم ، وبغية البليغ والزاهد ، ويمضي في أثنائه من عجيب الكلام في التوحيد والعدل ، وتنزيه الله سبحانه وتعالى من شبه الخلق ، ما هو بلال كل غلة ، وشفاء كل علة ، وجلاء كل شبهة ، ومن الله استمد التوفيق والعصمة ، وأتنجز التسديد والمعونة ، واستعيذه من خطأ الجنان قبل خطأ اللسان ومن زلة الكلم قبل زلة القدم ، وهو حسبي ونعم الوكيل . | الشرح : في أثناء هذا الاختيار : تضاعيفه ، واحدها ثني كعذق وأعذاق ، والغيرة بالفتح والكسر خطأ . وعقائل الكلام : كرائمه ، وعقيلة الحي : كريمته ، وكذلك عقيلة الدود ، والأقطار : الجوانب ، واحدها قطر . والناد : المنفرد ، ند البعير يند . الربقة : عروة الحبل يجعل فيها رأس البهيمة . وقوله : وقوله ' وعلى الله نهج السبيل ' أي إبانته وإيضاحه ، نهجت له نهجا ، وأما اسم الكتاب فنهج البلاغة ، والنهج هنا ليس بمصدر ، بل هو اسم للطريق الواضح نفسه ، والطلاب ، بكسر الطاء : الطلب ، والبغية : ما ينبغي . وبلال كل غلة ، بكسر الباء : ما يبل به الصدى : ومنه قوله : انصحوا الرحم ببلالها ، أي صلوها بصلتها وندوها ، قال أوس :
كأني خلوت الشعر حين مدحته
صفا صخرة صماء يبس بلالها
وإنما استعاذ من خطأ الجنان قبل خطأ اللسان ، لأن خطأ الجنان أعظم وأفحش من خطأ اللسان ، ألا ترى أن اعتقاد الكفر بالقلب أعظم عقابا من أن يكفر الإنسان بلسانه وهو غير معتقد للكفر بقلبه ، وإنما استعاذ من زلة الكلم قبل زلة القدم ، لأنه أراد زلة القدم الحقيقية ، ولا ريب أن زلة القدم أهون وأسهل ، لأن العاثر يستقيل من عثرته ، وذا الزلة تجده ينهض من صرعته ، وأمة الزلة باللسان فقد لا تستقال عثرتها ، ولا ينهض صريعها ، وطالما كانت لا شوى لها ، قال أبو تمام :
يا زلة ما وقيتم شر مصرعها
وزلة الرأي تنسي زلة القدم
Page 40