Sharh Mushkil
شرح المشكل من شعر المتنبي
اي أن الضرب الضرب إذا قرع الهام لم تعده نصره، إذ في الإمكان أن يموت صاحبُها، وأن لا يمُوت. فإذا وصل إلى اللبة، هلك لا محالة، فيحنئذ يُعتدُّ بالنصر. وضرب الغيب مثلًا للشك في النصر، والقدوم للتيقن. وكذلك الغائب مشكوك فيه، والحضر متُيقن.
) حقرْت الرُّدينياتِ حتى طضرحتها ... وحتى كان السيف للرُّمِح شاتمُ (
الرُّدينيات: الرماح، منسوبة إلى مرأة تسمى رُدينة، كانت تُركب فيها الأسنة.
يقول: إنما أحبتُ لقاء العدو على قُربٍ معانقةً ومصافحة، لجرأتك وشجاعتك، ولم ترض لن تستعمل في قتاله الرمح، لان ذلك مُشعرٌ بالجبن، لان القتال به إنما هو على بُعد، فاطرحته واستعملت السيف مكانه قال:
) وحتى كأن السيف للرُّمح شَاتِم (
اي لكأنك قد رأيت السيف قد عير الرمح بالضعف والتقضف وقلة الغناء، فَهَان عليك الرمح لذلك، ألا تراه يقول بعد هذا:
ومَنْ طَلب الفتح الجليل فإنما ... مَفَاتيحُه البيضُ الخِفافُ الصوارِمُ
ومن كلام بعض العرب: الرمح أخُوك وربما خانك. وقال عمرو بن معْدِ يكرب في السيف:
خليلي لم أخنُه ولم يَخُنى ... على الصمصامَِة السيف السلامُ
وله ايضا:
) أراع كذا كُل الأنام همامُ ... وسح لهُ رُسل الملوكِ غمامُ (
كذا في موضع نصب صفةٌ لمصدر محذوف. اي راع روعًا مثل هذا:
) وسح له رُسل الملوك غَمام (
اي تقاطوا عليه، وقد جاءوه تترى من كل أوب، حتى كأن غمامًا سحهم عليه لكثرتهم، اي صبهم، فُرسل الملوك: منصوب على المفعول به، لان سح فعل متعد.
) وَرُب جوابٍ عن كتابٍ بَعَثَتَهُ ... وعنوانهُ للناظرين قتامُ (
يعني جيشًا أجاب به عن كتاب، فأنبأهم قتامُه عنه، كما يُنبء عن الكتاب عنوانه.
) تضيقُ به البيداء من قبل نشره ... ومافُض بالبيداء منهُ ختامُ (
اي انه يملأ البيداء، وهو مجتمع قبل انتشاره، فكيف به إذا انبت وانبعث.
) حُروفُ هِجاء الناس فيه ثلاثةٌ ... جوادٌ ورُمحٌ ذابلٌ وحُسامُ (
اي لا يشاهد فيه إلا هذه النواع، كما لا يشاهد في الكتاب إلا حروفه.
وله ايضا:
) بلادٌ إذا زار الحسان بغيرها ... حَصَى تربها ثقبنهُ للمخانق (
بلاد: اي هي بلاد، يعني) الثوية (وهي الكوفة وحصاها وهو ذلك الذي يعرف بالفرومي، وهو شفاف حسن. يقول: فإذا زير به النساء في غيرها من البلاد استحسنه فثقبنه ووضعنه في مُخانقهن. وليس الحصى هو الزائر في الحقيقة لان الزيارة إنما هي لمن يعقل، والحس جماد. وإنما أراد زير به الحسن فاتسع بأن جعل الفعل له. وواحد المخانق مخنقة، سميت بذلك، لأنها توضع في موضع الخق من الحلق.
) وأغيدُ يهوى نفسه كل عاقلٍ ... عفيف ويهوى جسمه كل فاسقِ (
اي أنه كامل الحُسن خلقًا وخُلقًا، فحسنه حُسنان رُوحاني، وهو حسن الخُلُق، وجسماني وهو حُسن خلْقه، فأوجب ذلك أن يعشقه العفيف والفاسق، فالعفيف يهوى نفسه، ولها الحسن الخُلُقي، والفاسق يهوي جسمه، وله الحسن الخلقي. ولو اتزن له أن يقول:) كل عفيف (ولم يذكر العاقل؛ لكان أذهب في التقابل لان العفة ضد العقل. وإنما يقابل العاقلُ الأحمق؛ فلا معنى لقوله) كل عاقل (، ولكن لما كانت العفة للجزء المعتدل، وكان الجزء المعتدل يوصف بالقعل، حسُن أن يذكر العقل مع العفة، وإلا فوجه التقابل ما ذكرت لك. وقوله:) وأغيد (: عطفٌ على قوله:) مليحةٌ (من قوله:
) سقتنى بها القُطرُ بلىَّ مَلِيحةٌ (
وإن شئت رفعت أغيد على الابتداء، وخبره مضمر. كأنك قلت: وثمّ أغيدُ.
) يُحدثُ عما بين عادٍ وبينه ... وصُدغاهُ في خدى غُلامٍ مُراهقِ (
ويُروى:) يحدث ما بين القرون وبينه (. وهي الأمم الخاليه. اي أن هذا الأغيد حافظ واع حسن الحديث، جيد السياق له، فهو يحدث عن الأوائل، ويخبر بأخبار القدماء، وإن كان حديث السن.
وقوله:
) وصُدغاهُ في خدى غلامٍ مُراهِقِ (
كناية عن حداثته وفُتُوته. ويعنى بالصدغ: ما سال من الشعر على خده. وهذه الكناية، وإن كانت حسنة، فإن فيها تكلفًا، كان أقرب من ذلك لو اتزن له أن يقول: وهو مُراهق. فكان يعنى من قوله:
) وصدغاه في خدىْ غلام مراهق (
ولكنه تكلف ذلك، لحفظ إعراب القافية.
1 / 72