128

Sharh Lum'at al-I'tiqad - Nasser al-Aql

شرح لمعة الاعتقاد - ناصر العقل

Genres

ضوابط في موقف المؤمن من الغيبيات
إذًا هذه الأمور داخلة في باب الإيمان بالغيب، وداخلة في باب السمعيات، وداخلة في باب الأخبار، يعني ما أخبر الله به وما أخبر به النبي ﷺ فيما صح عنه.
والسمعيات أي: ما سُمع من الوحي في كتاب الله أو ما صح عن رسول الله ﷺ، والغيب لأنها غائبة عن مدركات العقل وكل هذه الأمور تُضبط بالضوابط التالية.
أولًا: أنه يجب الإيمان -بمعنى الجزم والتسليم- بكل ما أخبر به النبي ﷺ، وصح به النقل عنه، سواء في القرآن أو في صحيح السنة.
ثانيًا: أن هذه الأمور يجب الإيمان بها سواء ما شاهدناه وما غاب عنا.
فما شاهدناه هو كالأمور التي تحققت بعد موت النبي ﷺ، فقد جاء عن النبي ﷺ وجاء أيضًا في القرآن أمور كثيرة شاهدناها فيما بعد في الواقع، سواء كانت من أشراط الساعة أو مما أخبر الله به من الأمور الغيبية التي تحقق أكثرها.
وما غاب عنا هو كالأمور التي لم تحدث بعد من أشراط الساعة ونحوها، أو من الأمور التي تتعلق باليوم الآخر، والتي لا يمكن لأحد أن يطّلع عليها إلا إذا قامت قيامته الصغرى، أو قامت القيامة الكبرى للجميع ومما أخبر به النبي ﷺ خبره بفتح فارس والروم، وخبره بأنها ستخرج نار وهي نار الحرة التي أحرقت ما كان شرق المدينة، وخيره عن المتنبئين الكذّابين حيث ذكر بعضهم بأسمائهم وبعضهم بأوصافهم إلى آخره.
ثالثًا: أن نعلم أن ما ورد حق وصدق.
معنى (حق) أنه سيحدث وسيكون على ما أخبر به النبي ﷺ، فليس خبر الله ﷿ وخبر النبي ﷺ عن الأمور الغيبية مجرد توهمات أو تخيلات أو أمثال تضرب إنما هي حق وصدق لا بد أن تكون وأن تقع، سواء أدركت هذا عقولنا أو لم تدركه.
رابعًا: أنه لا بد من الإيمان بهذه الأمور سواء في ذلك ما عقلناه أو جهلناه.
(ما عقلناه) أي: ما فهمناه، وأدركته عقولنا بأي نوع من أنواع الإدراك، كالتسليم الفطري والبدهيات العقلية، التي يسلم بها العقل السليم، فمثلًا البعث تعقله عقول أكثر الناس الذين هم على الفطرة السليمة جملة لا تفصيلًا فالعقول السليمة والفطر المستقيمة تدرك ضرورة البعث حتى لو لم تعرف تفاصيله، فكل عاقل ينظر إلى هذه الحياة الدنيا وما فيها من مصائب وابتلاء، وما فيها من أحوال الناس، وتفاوت هذه الأحوال من تفاضل بعضهم البعض وما يحدث بينهم من تظالم، وما يحدث بينهم من فروق في الحظوظ وفي الأعمار والأرزاق والأقدار، وأن بعضهم يموت في هذه الدنيا ولم يستكمل نصيبه وقد يموت مظلومًا، وآخر قد استكمل نصيبه وهو يموت ظالمًا، فكل عقل يدرك أنه لا بد من حياة أخرى يكون فيها مقتضى العدل والمساواة بين الخلق، فهذا مما عقلناه، أي: فهمته العقول.
أو يُفهم أنه يُمكن أن يكون حسب مدارك العقول، فإن العقول تتفاوت، فبعض المسائل الغيبية إذا وردت على بعض الناس قالوا: هذا ممكن أن يكون، وإذا وردت على ناس آخرين قالوا: هذا أمر لا يدركه عقل.
إذًا: من أدرك أو استطاع أن يسلم بمبدأ هذا الذي ورد، أو من لم يستطع كلهم يجب أن يكونوا على مستوى واحد من الإيمان، وهو التسليم بأن ذلك حق وصدق سواء فهمناه أو جهلناه.
وغالب أمور الغيب مما هو مجهول، والذي يُعقل منها يُعقل إجمالًا لا تفصيلًا، ولو عُقلت تفصيلًا ما كانت من أمور الغيب، لا سيما الكيفيات فإنها لا يمكن أن تُعقل، إنما تُعقل بمعنى أن يُدرك العاقل بأنها يمكن أن تكون بمقتضى حكمة الله ﷿ وقدرته.
قوله: (ولم نطلع على حقيقة معناه)، يعني على الكيفية، ذلك أن الحقيقة على نوعين: حقيقة بمعنى ثبوت الشيء والإقرار به، فهذا يجب أن يؤمن به كل مسلم، وكل ما ورد من الغيبيات فله حقيقة، ويجب أن نجزم أن له حقيقة وليس تخييلًا أو أمثالًا تُضرب، أو توهمات أو ألغازًا، إنما هي حقائق، فهذا الجانب من الحقيقة يجب أن نؤمن به.
وجانب آخر من الحقيقة وهو الكيفية، فهذا مما لا تدركه العقول إذًا بعض أهل العلم ينفي الحقيقة ويقصد به نفي الكيفية، وبعضهم يثبت الحقيقة ويقصد به الإيمان بأصل الشيء، وأنه على معنى صحيح على مراد الله ﷿، وأن الله ﷿ ما أخبرنا بأمر إلا وهو حق، وليس مجرد خيالات ولا ألغاز ولا تصويرات وهمية كما يظن كثير من الفلاسفة والعقلانيين.

5 / 11