العصور الحديثة على التأريخ للملوك، وأصحاب الجاه والسلطان، حتى كاد التاريخ في تلك الأيام يقتصر على الحكام والأعيان.
فإذا ما ولد طفل في قصر اهتم به المؤرخون منذ مولده -بل ربما قبل مولده- وأفاضوا في نسبه وحسبه، وعظيم مواهبه.
أما إذا كان مغمورًا، فإن إنسانًا واحدًا لا يكاد يشعر بقدومه، ولم يتعرض له كاتب أو مؤرخ.
فإذا أصاب من الدنيا نصيبًا حاول المؤرخون عندئذ سد الثغرة التي أحاطت بنشأته، فإذا أعوزتهم الحقائق لجئوا إلى نسج الخيال والأساطير.
وإن الناظر في كتب التاريخ في تلك العصور ليأخذه العجب حتى يرى معظمها ينصب على "وفيات الأعيان" و"تاريخ الملوك" أما الشعوب، أما عامة الناس فليس لهم فيها نصيب، وليس فيهم من يهم المؤرخ، أو يعني الكاتب، وإن وجد من المؤرخين في تلك الحقبة من يتعرض لواحد من المواطنين، فإنما يكون ذلك تلميحًا بقدر ما يحتاج إليه الموضوع الذي يتحدث فيه.
ولم يتورع بعض المؤرخين عن الجهر بذلك.
وها هوذا أبو المحاسن يقول في معرض حديثه عن أحد الأفراد (١):
"وقد أضربنا عن شرح ما حدث له؛ لأنه لم يكن من أعيان الناس لتشكر أفعاله أو تذم".
وأغلب الظن أن ابن مالك حرم في طفولته من كل عطف
_________
(١) بدائع الزهور ٢/ ٢٤٤.
1 / 12