درة الغواص
قال الشيخ الأجل الرئيس أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري. رحمه الله تعالى: "أما بعد حمد لله الذي عم عباده بوظائف العوارف، وخص من شاء منهم بلطائف المعارف، والصلاة على نبيه محمد العاقب، وعلى آله وأصحابه أولي المناقب". فإني رأيت كثيرًا ممن تسنموا أسنمة الرتب، وتوسموا بسمة الأدب، قد ضاهوا العامة في بعض ما يفرط عن كلامهم، وترعف به مراعف أقلامهم، مما إذا عثر
ــ
قال ﵀: أما بعد حمد لله الذي عم عباده بوظائف العوارف.
العوارف: جمع عارفة، وهي كالعرف، والمعروف بمعنى الإحسان، ومن لطائف "أبي علي الباخرزي":
(ملئت "زورن" من سادة ... لهم نفوس بالعلا عارفات)
(ما أغتدي إلا ومن عندهم ... عارفة عندي بل عارفات)
(قد بقي الفخر بهم والندى ... في الناس، والبخل مع العار فات)
فإن قلت: هل يكون هذا حمدًا وهو لم يحمد، وإنما ذكر أنه سبق منه الحمد؟ . قلت: نعم فإن الإخبار عن الحمد حمد، ولذا جوزوا في جملة الحمد أن تكون خبرية
1 / 38
عليه، وأثر عن المعزو إليه خفض قدر العلية، ووصم ذا الحلية، فدعاني ألأنف لنباهة أخطارهم، والعكف بإطابة أخبارهم إلى أن أدرأ عنهم الشبه، وأبين ما التبس عليهم
ــ
وإنشائية، والخطبة قد يتأخر وضعها عن الكتاب فيجوز أن يكون المصنف حمد لله بلفظه أولًا، ثم ذكره هنا لأن خطبة الكتاب كالعنوان الذي يتأخر كتابته كما قال "الغزي" في قصيدة له:
(وافي زمانك آخرًا وتقدمت ... بك همة في كفها قصب الندى)
(فغدوت كالعنوان يكتب آخرًا ... وبه كان القراءة يبتدى)
(وخص من شاء منهم بطائف المعارف، (والصلاة على نبيه محمد العاقب) أصل معنى الصلاة الانعطاف الجسماني لأنها مأخوذة من الصلوين على ما حُقق في شروح "الكشاف"، ثم استعمل في الرحمة والدعاء لما فيها من التعطف المعنوي، ولذا عدي بعلي، كما يقال: تعطفت عليه، فلا ترد عليه أن تعدي الدعاء بعلى للمضرة فكيف تكون الصلاة بمعنى الدعاء؟ ولا حاجة إلى أن يقال: لا يلزم من كون لفظة بمعنى لفظة أن تتعدى تعديتها. (ومحمد) مفعل من الحمد والتكرير فيه للتكثير والمبالغة، وهو من اسم المفعول للتفاؤل. وفي السير أنه قيل لجده [عبد المطلب]: لم سميت ابنك محمدًا وليس من أسماء آبائك؟ فقال: رجوت أن يحمد في السماء والأرض. وفي شرح "الهادي" أخطأ من قال إنه مرتجل. وفيه نظر.
1 / 39
واشتبه لألتحق بمن زكا أكل غرسه، وأحب لأخيه ما يحب لنفسه، فألفت هذا الكتاب تبصرة لمن تبصر، وتذكرة لمن أراد أن يتذكر، وسميته: "درة الغواص في أوهام الخواص" وها [أنا] قد أودعته من النخب ك لبان، ومن النكت ما لا
ــ
(والعاقب) بمعني آخر الأنبياء - كما في "الصحاح" - وفي الحديث الصحيح المروي في "الشمائل" وغيره أنه ﷺ قال: "إن لي أسماء، أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي لا نبي بعدي اهـ. وفي شرح "الشفاء": العاقب الآتي عقيب الأنبياء، وليس بعده نبي. وقال "ابن الأعرابي": معناه من يخلف في الخير من كان قبله، ومنه عقب الرجل لولده، وظاهر الحديث مؤيد للأول. لكن في دلالته [عليه] بحسب اللغة خفاء، ويوجه بأن من تعقب قومًا يكون آخرهم، فلا يكون بعده أحد منهم، تفسير له يلازمه، أو هو
1 / 40
يوجد منتظمًا في كتاب. هذا إلى لمعته به من النوادر اللائقة بمواضعها، والحكايات الواقعة في مواقعها، فإن حلي بعين الناظر فيه والدارس، وأحلاه محل القادح لدى القابس، وإلا فعلى الله تعالى أجر المجتهد، وهو حسبي وعليه أعتمد.
ــ
من التعريف العهدي. وإنما خصه المصنف بالذكر لأنه مأثور مع ما فيه من الإشارة إلى أن موضوع كتابه التعقيب على من قبله، ولو فسر به الحديث صح، ويكون معناه الناسخ لشرع من قبله والمكمل لسائر الشرائع. وكان الأولى أن يقول المصنف: الصلاة والسلام لأن إفراد أحدهما عن الآخرة مكروه عند كثير من العلماء، للأمر بذلك في آية: ﴿صلوا عليه وسلموا﴾. فإن قلت: ما تصنع في حديث التشهد الوارد فيه "اللهم صل على محمد كما صليت على إبراهيم" بدون سلام؟ قلت: أجاب عنه "النووي" في شرح "مسلم" بأنه اكتفى بذكره مقدمًا في قوله: "السلام عليك أيها النبي" فتأمل. (وعلى آله وصحبه أولي المناقب) في "الحواشي": آله مرغوب عنه؛ لأن الإضمار يرد الكلم إلى أصولها كثيرًا. وأصل أهل؛ بدليل قولهم في تصغيره: أهيل، فالوجه على أهله إلى أن يظهر فيقول: آل محمد. اهـ. أقول: هذا مذهب "الكسائي" و"الزبيدي"، وهو مردود لأن إضافته إلى الضمير سمعت عن العرب نظمًا ونثرًا. قال
1 / 41
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
"عبد المطلب": وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك. وما ذكره غير مطرد؛ ألا تراك تقول: يده ودمه وهنه بغير رد؟ وقال "ابن السيد" - في شرح "أدب الكاتب": هذا المذهب لا قياس يعضده ولا سماع يؤيده، وفي "كامل المبرد" عن معاوية في قصته: فيجتمع عليك من آلك، وكذا ورد في كثير من شعر العرب، كقول "خفاف السلمي":
(أنا الفارس الحامي حقيقة والدي ... وآلي كما تحمي حقيقة آلكا)
1 / 42
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ومثله كثير اهـ. وقال أيضًا في شرح "سقط الزند": كان "الكسائي" يقول: لا يضاف آل الذي يراد به الأهل إلى المضمرات ولا إلى البلاد، فكان لا يجيز صلى الله على محمد وآله، ولا يجيز آل البصرة وآل الكوفة ويقول في جميع ذلك أهل. وحكى "الدينوري: في شرحه "لإصلاح المنطق" أن من العرب من يضيف ألا إلى المضمرات، فأما إضافته إلى البلاد فلا أحفظه في قول غير "المعري":
(ولم يك آل خيبر آل خير)
وفي "سر الصناعة لابن جني": آل مخصوص بالإضافة إلى الأشرف والأخص دون الشائع الأعم حتى لا يقال آلا في نحو قولهم: آل القرآن آل الله وآل الكعبة ﴿وقال رجل من آل فرعون﴾ وكون أصل آل أهل قول لأهل اللغة وقيل: أصله أول كما بين في محله
1 / 43
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وكون آل لا يضاف إلا إلى مذكر عاقل شريف أكثري لا كلي، لقول "الفرزدق":
(يموت ولم يمنن على طلاقه ... سوى زبد التقريب من آل أعوجا)
وقول "عمر بن أبي ربيعة": (أمن آل نعم أنت غاد فمبكر)
فأضافه لأعوج وهو اسم فرس ولنغم وهو علم امرأة.
(والأصحاب) جمع صاحب أو صحب المخفف منه والفرق بينه وبين الآل مشهور.
(فإني رأيت كثيرًا ممن تسنموا أسنمة الرتب. وتوسموا بسمة الأدب قد ضاهوا العامة في بعض ما يفرط من كلامهم وترعف به مراعف أقلامهم). رعفت الأقلام تقاطر مدادها من الرعاف، وفي كتاب الكتاب "لأبي القاسم البغدادي": إذا قطر المداد من رأس القلم، قيل: رعف يرعف وهو راعف فإذا كثر مداده فقطر قيل أرعف القلم إرعافًا وهو مرعف، ويقال استمدد ولا ترعف أي لا تكثر المداد حتى يقطر اهـ، والمراعف [جمع مرعف] وهو ما يحصل منه الرعاف كأنه
1 / 44
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
محل له يقال: رعف الرجل وأنفه بفتح الراء والعين في اللغة الفصيحة، وجاء بضم العين كحسن في لغة ضعيفة. وأنكرها "الأصمعي"، وأما رعف بضم الراء وكسر العين فعامية ملحونة كما في "الفائق" وأصل معناه السبق يقال: فرس راعف أي سابق ويصح أن يراد به هنا ما تسبق به أقلامهم وهو المناسب لقوله (يفرط) لأن الفرط السبق ويكنى بهما عن الخطأ والزلة كما يقال فرط منه كذا وسبق قلمه. وفي "الأساس" من المجاز رعف أنفه أي سبق دمه والرعاف الدم السابق، وفلان يرعف أنفه علي غضبًا إذا اشتد غضبه، وما أحسن مراعف أقلامهم ومقاطرها اهـ. فإن قلت: المعروف في الرعاف رعاف الأنف ولا يتبادر منه غيره فكيف يكون مجازًا والتبادر علامة الحقيقة؟ قلت: ما ذكرته بحسب اللغة ثم صار حقيقة في ذلك في عرف التخاطب فلا غبار عليه. (مما إذا عثر عليه) أي عرف واطلع عليه، [ولما] كان كل عاثر ينظر إلى موضع اطلعت على ما خفي منه كما قاله "المطرزي" فهو مجاز بحسب الأصل ثم اشتهر حتى صار كالحقيقة في الاطلاع. (والعلية) بزنة فتية جمع علي أشراف الناس. (لألتحق بمن زكا أكل غرسه). الأكل بضم الهمزة المأكول، وزكا بمعنى نما وزاد والمراد طابت ونمت آثاره فانتفع بها
1 / 45
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الناس وهو استعارة. (وأحب لأخيه ما يجب لنفسه) من كونه على الحق والصواب. وهذا إشارة لما ورد في الحديث الصحيح: "لا يكمل إسلام المرء حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". (فإن حلي بعين الناظر والدارس) أي أعجبه واعتد به قولهم حلي فلان بعيني بالكسرة. [وفي عيني] وفي صدري يحلى بالفتح حلاوة إذا سرك وأعجبك. (وأحلاه محل القادح لدى القابس). القادح من يقدح الزند وهو معروف والقابس من يأخذ جذوة ونحوها من نار غيره، أي إن اعتقد أنه مما يستفاد منه ويستضاء بأنواره وهذا تمثيل لذلك بأخذ المقتبس الضياء من قادح الزند. وفي القادح لطف هنا لأن القدح يكون بمعنى الطعن والدخل، وأما قدح الميل في العين المعروف في كتب الكحل والطب فاصطلاح لهم وعليه قول بعض المتأخرين:
(إذا انصب ماء اليأس في مقلة الرجا ... فليس لها عند اللبيب سوى القدح)
وقال "ابن الحاجب": يقال أقبسته علمًا وقبسته نارًا فاقتبس، وقيل اللغتان معًا، وجواب الشرط هنا مقدر نحو حمدت الله أو سررت بذلك ونحوه مما يليق بالمقام. [وإلا فعلى الله أجر المجتهد وهو حسبي وعليه أعتمد].
1 / 46
ما أحصاه المؤلف من أوهام
[١] (قولهم في سائر):
فمن أوهامهم الفاضحة وأغلاطهم الواضحة أنهم يقولون: قدم سائر الحاج واستوفى سائر الخراج، فيستعملون "سائر" بمعنى الجميع وهو في كلام العرب بمعنى الباقي، ومنه قيل لما يبقى في الإناء: سؤر.
ــ
(يقولون قدم سائر الحاج) - الحاج هنا اسم جمع بمعنى الحجاج ولذا صح إضافة سائر إليه ويكون مفردًا. وفي "الصحاح" الحاضر الحي العظيم يقال: حاضر حي وهو جمع كما يقال سامر للسمار وحاج للحجاج اهـ (فيستعملون سائرًا بمعنى الجميع وهو كلام العرب بمعنى الباقي) الكلام على سائر من ثلاثة أوجه: اشتقاقه، وإطلاقه على الجميع، وعمومه لكل باق قل أو كثر وضده.
(الأول): اختلف في اشتقاقه فقيل من السؤر وهو ما بقي في الإناء فعينه همزة، وقال "أبو علي الفارسي": هو معتل العين من سار يسير ومعناه جماعة يسير فيها هذا الاسم ويطلق عليها، ورد كونه من السؤر من وجهين:
أحدهما أن السؤر بمعنى البقية، والبقية تقتضي الأقل، والسائر يقتضي الأكثر.
والثاني: أنهم حذفوا عينه في قوله: "فهي أدماء سارها"، وإنما ذلك لكونها لما
1 / 47
والدليل على صحة ذلك أن النبي ﵇ قال "لغيلان" حين أسلم وعنده عشرة نسوة "اختر أربعًا منهن وفارق سائرهن" أي من بقي بعد الأربع اللائي تختارهن، ولما وقع سائر في هذا الموطن بمعنى الباقي الأكثر منع بعضهم من
ــ
اعتلت بالقلب اعتلت بالحذف، ولو كانت عينه همزة [في الأصل] لم يجز حذفها، كذا نقله "ابن بري" عنه. وفيه أنه لا يلزم من الاشتقاق إلا الملاقاة في أصل المعنى لا المساواة من كل الوجوه ولما يلزمه على هذا من الجمع بين إعلالين.
(الثاني): أنكر قوم إطلاقه على الجميع بناء على أنه من السؤر وهو البقية، وأجازه "أبو علي" ومن تبعه، إما بناء على أنه من سار يسير كما سمعته آنفًا واستدلوا عليه بأبيات منها قول "ابن الرقاع":
(وحجرا وزبانًا واربد ملقط ... توفي فليغفر له سائر الذنب)
وقول "ابن أحمر": (فلن تعدموا من سائر الناس راعيًا
1 / 48
استعماله بمعنى الباقي الأقل. والصحيح أنه يستعمل في كل باق أو كثر لإجماع أهل اللغة على أن معنى الحديث إذا شربتم فأسئروا أي أبقوا في الإناء بقية ماء،
ــ
في أبيات أخر لا يخلو بعضها من نظر، أو أنه لا مانع من كون الباقي جميعًا باعتبار آخر، لكونه جميع ما بقي أو ترك ونحوه، فتجوز به عن مطلق الجميع وهذا أسهل مما مر.
الثالث: ظن قوم أنه مختص بالأكثر استدلالًا بما وقع في حديث "غيلان" حين أسلم وعنده عشر نسوة فقال له النبي ﷺ: اختر أربعًا [منهن] وفارق سائرهن وارتضاه "أبو علي"وابن دريد" وقالوا: سائر معظمه واستدلوا بقول "مضرس":
(فما حسن أن يعذر المرء نفسه ... وليس له من سائر الناس عاذر)
وسيأتي ما في كلام المصنف من الإشارة إلى رده. (قال لغيلان حين أسلم إلى آخره). "غيلان بن سلمة" الثقفي الصحابي وهو الذي أسلم وعنده عشر نسوة فأمره رسول الله ﷺ أن يمسك أربعًا ويفارق سائرهن. فقال فقهاء الحجاز: يختار أربعًا. وقال فقهاء العراق: بل يمسك التي تزوج أولًا ثم التي تليها إلى الرابعة. واحتج فقهاء الحجاز بأن رسول الله ﷺ، لم يستفصل أيتهن تزوج أولًا وترك الاستفصال دليل على أنه مخير، حتى قال أهل
1 / 49
لأن المراد به أن يشرب الأقل ويبقى الأكثر، وإنما ندب للتأدب بذلك لأن الإكثار من المطعم والمشرب منبأة عن النهم وملأمة عند العرب، ومنه ما جاء في حديث "أم زرع" عن التي ذمت زوجها فقالت: "إن أكل لف وإن شرب اشتف" أي تناهى في الشرب إلى أن يستأصل الشفافة وهي ما يبقى من الشراب في الإناء،
ــ
الأصول: ترك الاستفصال في حكايات [وقائع]- الأحوال مع الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال كما في "الروض الأنف" وله تفصيل ليس هذا محله. (والصحيح أنه يستعمل في كل باق أو كثر لإجماع أهل اللغة على أن معنى الحديث إذا شربتم فأسئروا أي أبقوا في الإناء بقية ماء [لأن المراد به أن يشرب الأقل ويبقي الأكثر]. اعترض عليه "ابن هشام" وغيره بأنه كلام مختل لأنه يقتضي كون سائر من السؤر، وكون معنى أسئروا أبقوا الأقل يقتضي أن يكون سائر للأقل ولم يقل به أحد، وإنما قيل إنه للجميع أو للأكثر، فهذا لا يدل له ولا لغيره. والذي خيل له أنه قد ثبت بقوله [ﷺ]: "وفارق سائرهن" أنه يستعمل للأكثر وباشتقاقه من أسئروا أنه يستعمل للأقل وهذا خلف؛ لأن ما اشتق من شيء لا يخرج عن معناه، والجواب أن المدعي أن سائرا بمعنى البقية وأنها من السؤر بمعنى البقية أيضًا وإطلاقها على الكثير لا نزاع فيه. ومحل النزاع الإطلاق على القليل. فاستشهد عليه بإطلاق السؤر على القليل ولم يتعرض لإقامة دليل على أن السؤر يستعمل بمعنى الكثير، وقد ثبت عن "أبي
1 / 50
ومما يدل على أن سائرًا بمعنى باق ما أنشده سيبويه:
(ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه ... وسائره باد إلى الشمس أجمع)
ويشهد بذلك أيضًا قول "الشنفري":
ــ
علي" اختصاصه بالقليل. اهـ. وهذا غريب منه فإنه نص على أن السؤر في الحديث شامل للقليل والكثير بإجماع أهل اللغة. نعم قول "أبي علي" يبطل إجماعه ولو استند في ذلك إلى سماع كان أقوى لما في دليله مما لا يخفى، مع أن أخذه من السؤر غير متعين، واعلم أن "ابن السيد" قال في شرح "السقط" قال النحويون: سائر لا تضاف إلا إلى شيء قد تقدم ذكر بعضه كقولك رأيت فرسك وسائر الخيل [ولو قلت: رأيت حمارك وسائر الخيل] لم يجز لأنه لم يتقدم للخيل ذكر؛ ولكن إن قلت: رأيت حمارك وسائر الدواب جاز، ويخالف هنا قول "المعري":
(كم جاوزن من بلد بعيد ... وسائر نطقنا هيد وهاد)
1 / 51
(ولا تقبروني إن قبري محرم ... عليكم ولكن أبشري أم عامر)
(إذا احتملت رأسي وفي الرأس أكثري ... وغودر عند الملتقي ثم سائري)
فعني كل شاعر بلفظ سائر ما بقي من جثمانه بعد إبانة رأسه وقد اشتملت
ــ
لأنه لم يتقدم للنطق ذكر، وإنما جاز هذا لأنه جعل سائرًا بمعنى الأكثر والأعظم فكأنه قال: وأكثر نطقنا إلى آخره، وإذا كان أكثره هذا علم أن أقله بخلافه، فهذا كلام محمول على المعنى اهـ. (وإنما نذب إلى التأدب بذلك لأن الإكثار من المطعم والمشرب منبأة عن النهم) المراد بكونه منبأة أنه يدل عليه كما يقال: الولد مبخلة مجبنة، وسيأتي تحقيقه، والنهم الحرص على المطعم والمشرب، وهذا وجه وجيه، وفيه وجه آخر وهو أن قعر الإناء لا يخلو من قذى كدر فتركه أبعد من الكدر كما قيل:
(العمر كالكأس تستحلى أوائله ... لكنه ربما مجت أواخره)
(ما جاء في حديث "أم زرع" عن التي ذمت زوجها: فقالت إن أكل لف وإن شرب اشتف إلى آخره) يستأصلها بمعنى يفنيها، وأصله أخذ الشيء بأصله ثم كنى به عن أخذ الجميع. وحديث "أم زرع" حديث صحيح مشهور وقد ذكر بطوله في الشمائل [مرويًا] عن "عائشة" ﵂. وفيه أن إحدى عشرة امرأة تعاهدن على أن لا يكتمن شيئًا من أخبار أزواجهن، فقالت كل واحدة منهن ما قالت من مدح أو ذم على ما فصل فيه، فقالت السادسة: زوجي إن أكل لف وإن شرب اشتف وإن اضطجع التف، ولا يولج الكف ليعلم [البث]. ورمته بالشر وقلة الشفقة عليها، وأنه إذا رآها عليلة لم يدخل يده في ثوبها ليجسها فيتوجع لما بها كما جرت العادة كذا في
1 / 52
هذه الأبيات على ما يقتضي الكشف عنه لئلا يحتضن هذا الكتاب ما يلتبس شيء منه. أما قول الشاعر الأول:
(ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه)
فإنه أراد به مدخل رأسه الظل، فقلب الكلام، كما يقال: فأدخلت الخاتم في إصبعي، وحقيقته إدخال في الخاتم وقلب الكلام
ــ
"الفائق" - واللف أكل الأخلاط من الطعام، والاشتفاف شرب ما في الإناء كله، والبث الحزن. قيل [وهو] يحتمل الذم كما قلناه، وإليه ذهب المصنف، ويحتمل المدح أيضًا، بأن يراد أنه لا يمنع حق العيال ولا يدخر لغد شيئًا ولا يسأل عن حزنها ومرضها المانع له عن مضاجعتها. وهو بعيد. وفي "شرح مسلم للنووي": اللف في الطعام الإكثار منه مع التخليط من صنوفه حتى لا يبقى شيئًا، والاشتفاف في الشرب أن يستوعب جميع ما في الإناء، مأخوذ من الشفافة - بضم الشين - وهو ما بقي في الإناء من الشراب، فإذا شربها قيل: اشتفها وتشافها، وقولها: لا يولج الكف إلى آخره. قال "أبو عبيدة": أحسب أنه كان بجسدها عيب بجسدها أو داء تكتئب به لأن البث الحزن. فكان لا يدخل يده في ثوبها ليمس ذلك فيشق عليها فوصفته بالمروءة وكرم الخلق. وقال "الهروي" قال "ابن الأعرابي": هذا ذم له، أرادت وإن اضطجع ورقد التف في
1 / 53
من سنن العرب المأثورة، وتصاريف لغتها المشهورة ومنه في القرآن ﴿ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة﴾ لأن تقديره ما إن العصبة لتنوء بمفاتيحه أي تنهض بها على تثاقل.
ــ
ثيابه في ناحية ولم يضاجعها ليعلم ما عندها من محبته. قال: ولا بث هناك إلا محبتها الدنو من زوجها، وقال آخرون: أرادت أنه لايتفقد أموري ومصالحي. وقال "ابن الأنباري": رد "ابن قتيبة" على "أبي تأويله لهذا الحرف وقال: كيف تمدحه وقد ذمته في صدر الكلام؟ ولهذا نسب الحديث إليها وقال ﷺ لعائشة حين حدثها بهذه القصة: كنت لك كأبي زرع لأم زرع، وهذا الحديث مشهور، وقد صنف القاضي "عياض" في شرح هذا الحديث تأليفًا مستقلًا، واسم أم زرع "عاتكة" والزرع: الولد:
(ترى الثور فيها يدخل الظل رأسه ... سائره باد إلى الشمس جمع)
1 / 54
وأما قول "الشنفري": ولكن أبشري أم عامر، فقد اختلف في تفسيره فقيل إنه التفت عن خطاب قومه إلى خطاب الضبع فبشرها بالتحكيم فيه إذا قتل ولم يقبر، وأم عامر كنية الضبع، والالتفات في المخاطبة نوع من أنواع البلاغة وأسلوب من أساليب الفصاحة وقد نطق القرآن به في قوله تعالى: ﴿يوسف أعرض عن هذا استغفري لذنبك﴾ فحول الخطاب عن يوسف ﵇ إلى امرأة العزيز.
ــ
حمله المصنف على القلب ولم يتركه على ظاهره ويجعل الإضافة على معنى في بدون قلب تبعًا "السيبويه"، فأصله مدخل رأسه الظل، والرأس مفعول أول فقلب كما في قولهم: أدخلت الخاتم في إصبعي، وفي شرح الكتاب "للشلوبيين" إن قيل ما دعاه إلى مفعول، فكان أصل قولك مدخل رأسه دخل رأسه في الظل، ثم نقلها بهمزة فصير الفاعل مفعولا، فقيل: أدخل رأسه الظل، وقدم المفعول الثاني وذلك جائز، وصاغ من الفعل اسم فاعل وأضافه إلى الذي يليه كما في الآية. والجواب: أنه ليس مثله لأنه لا يصل إلى الظل إلا بعد إسقاط حرف الجر، [والمفعول المسقط منه حرف الجر لا] يقام مقام الفاعل مع الذي يصل إليه بنفسه، ولا يضاف إليه مع وجوده بخلاف ما في الآية، لأن الفعل يصل إليه ابتداء بنصبه وإن كان أحدهما فاعلًا معنى فهو الأولى أن يضاف إليه وأن يقام مقام الفاعل. لكن هذا العمل في العمل في الأخير جائز بخلاف ما في البيت [فلذا حمله المصنف
1 / 55
وقيل: بل الخطاب كله لقومه، فكأنه قال: لا تقبروني إذا قتلت، ولكن اتركوني للتي يقال لها: أبشري أم عامر، فجعل هذه الجملة لقبًا لها.
ــ
على القلب اهـ]. والمراد بالثور الثور الوحشي وضمير فيها للفلاة، أو هاجر مر ذكرها والظل ظل كناسه، أي يدخل رأسه فيه لشدة الحر وبترك بقية جسمه في الشمس، وباد بمعنى ظاهر وأجمع توكيد لسائر، ثم ذكر بيتين للشنفري وهما:
(فلا تقبروني إن قبري محرم ... عليكم ولكن أبشري أم عامر)
(إذا احتملت رأسي وفي الرأس أكثري ... وغودر عند الملتقى ثم سائري)
وتمامه:
(هنالك لا أرجو حياة تسرني ... سجين الليالي مبسلا بالجرائر
قبرت الإنسان: دفنته، وأقبرته: جعلت له موضع قبر. يريد أنه يقتل ويترك بالعراء، لا شقيق ولا حميم عنده، لأن عشيرته خذلته وأسلمته للجرائر، فخاطبهم بذلك مظهرا الاستغناء عنهم حيًا وميتًا. فرفع نفسه عن الاستناد لهم. وثم بفتح الثاء المثلثة إشارة إلى المعركة، وروي بضمها على أنها عاطفة على الضمير المرفوع بدون تأكيد على ضعف فيه، أو هو معطوف على راسي، والأول أجود. وهناك إشارة إلى الوقت الذي يدنو فيه الأجل، لا لما بعد القتل، وهو ظرف لأرجو. وسجيس الليالي بمعنى امتداد، ولذا استعمل في التأبيد، فيقال: سجيس الليالي أي دائمًا، وأبسلوا بمعنى أسلموا. قاله "المرزوقي".
1 / 56
وأوردها على وجه الحكاية، كما قيل "لثابت بن جابر الفهمي" تأبط شرًا، بأخذه سيفا تحت إبطه، وإنما لقبت الضبع بذلك لأن من عادة من يروم اصطيادها من وجارها أن يقول لها حين يحتفر عنها: أبشري أم عامر، خامري أم عامر،
ــ
[وإذا احتملت رأسي ظرف لتقبروني، أو للخبر المقدر، أو لأبشري]، وسيأتي لهذا تتمة ومنه في القرآن ﴿ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة﴾ أولى القوة لأن تقديره ما إن العصبة لتنوء بمفاتحه أي تنهض بها على تثاقل. قال "ابن عباس": تنوء بالعصبة أي تثقلهم، أما سمعت قول "امرئ القيس":
(تمشي فتثقلها عجيزتها ... مشي الضعيف ينوء بالوسق؟ والمفاتح جمع مفتح بالكسر، اسم آله يفتح به، وقيل خزائنه، وقياس واحده لمفتح بالفتح، وكونه من القلب بناء على تفسير تنوء بتنهض كما ذهب إليه بعض أهل ناء به إذا أثقله حتى أماله، وقرى: لينوء بالياء لاكتسابه التذكير من المضاف
1 / 57