Sharh Diwan Mutanabbi
شرح ديوان المتنبي
Genres
على أنا لا نبخس الناس أشياءهم، ولا ننكر خصائص الطبائع البشرية وما قد يعروها الخطرة بعد الخطرة: من الفتور والانتكاس، وانغلاق الذهن، وتبلد الحس، وإظلام البصيرة، وغئور الروح، وخمود الذكاء، حتى لقد يخفى أحيانا على العليم الألمعي وجه الصواب وهو منه على حبل الذراع وطرف الثمام - كما يقولون - فيعتسف الطريق، ويتخبط تخبط العشواء ...
وهذا ابن جني - الإمام العالم المجتهد الثبت الثقة، بل فيلسوف اللغة العربية، العليم بخصائصها، الطب البصير بدقائقها - تراه في شرحه على المتنبي على الرغم من ذلك، ومن أنه كان معاصرا للمتنبي - متعصبا له محاميا عنه، وكان إذا سأل المتنبي سائل عن معنى بيت من أبياته يقول: اسألوا الشارح - يعني ابن جني - وكان ابن جني يراجع المتنبي في كثير من شعره ويستوضحه المعنى الذي يغزوه، وبرغم ذلك تراه في كثير من المواضع - كما قال الواحدي - وقد تبلد حماره، ولج به عثاره.
وهكذا تتبعت جميع من تعرض للمتنبي بالشرح أو النقد - كابن فورجه، والعروضي، والتبريزي، وابن وكيع، وابن القطاع، وابن الأفليلى - فوجدت لهم جميعا بجانب حسناتهم سيئات، وإلى سدادهم زلات وهفوات.
وهذا حقا من غريب طبائع البشر؛ فسبحان من تفرد بالكمال!
ولقد وجدت ذلك من نفسي؛ مع أن الطريق معبد، والمادة متوافرة؛ فقد أكون - في بعض الأوقات - مستجما، نشيطا، مهزوزا، مرهف الطبع، مصقول الذهن، صافي الحس، منبسط النفس؛ فأشرح ما أشرح - من قوافي المتنبي - فآتي بما أرضى به عن نفسي، ويعروني له من الطرب ما يستخفني، وأكون في أوقات أخرى منقبض النفس، مظلم الحس، مغلق الذهن، فدما، بليدا، لا أكاد أذهن شيئا، وأكون مضطرا إلى العمل؛ فأشرح - وأنا على هذه الحال - بعض الأبيات، ثم أعود في وقت أكون فيه على جمام من نفسي إلى ما شرحت، وأنظر ماذا قلت، فأدهش: كيف يصدر هذا من رجل له بقية من فهم؟ وأتهم نفسي، حتى لا أكاد أصدق أن شيئا من هذا ند به القلم ...
ثم لا تنس اختلاف القرائح والأفهام والنزعات، وأن هذا ينزع في تفكيره نزعة لغوية، وذاك نزعة نحوية، وذلك نزعة فلسفية منطقية، وآخر قد تأثر بالأدب والفن وحسن التخيل، وأن هذا أصح تمييزا من ذاك، وأنفذ بصيرة، وأبعد مدارك، وأصفى نفسا، وألطف حسا، وأكثر ألمعية، إذا أذنت أذناه شيئا شاءهما ذهنه. فإذا هم أراغوا تأويل بيت من أبيات المعاني الدقاق: تشعبت آراؤهم، وذهب كل في تأويله مذهبا قد يباين مذهب الآخر، تبعا لتباين قرائحهم ومحصولاتهم، كما قال المتنبي:
ولكن تأخذ الآذان منه
على قدر القرائح والعلوم
وإليك شيئا يحور إليه سر هذا التباين الذي نرى بين الشراح في تأويلاتهم لمثل شعر أبي الطيب. ذلك أن المتنبي كان رجلا ماكرا باقعة داهية، فكان من دهائه يعمد إلى بعض المعاني التي سبق إليها، فيحاول أن يبعد بها عن أصلها ويعميها على الناظر فيها ويريغها ويديرها عن ذلك حتى لا يفطن إلى أن غيره أبو عذر هذا المعنى، فيلجأ إلى التعمية والجمجمة والتعقيد والإبهام؛ لأن تلك طريقته - كما سنبينه - فيجيء البيت متنافر اللحمة متناثر التعبير، لا يشف ظاهره عن باطنه، ولا يتجاوب أوله وآخره، حتى لكأنه ضرب من الرقى، فيظن بعض الشراح أن هناك معنى دقيقا عميقا فيكد ذهنه، ويجهد فكره، ويسافر في طلب المعنى أميالا، وهو لا يفوت أطراف بنانه، وينضي إليه رواحل ذهنه وهو على حبل ذراعه، فيعتسف ويشتط وينحرف عن جادة الصواب، كما قال المتنبي:
أبلغ ما يطلب النجاح به الط
Unknown page