Sharh Diwan Mutanabbi
شرح ديوان المتنبي
Genres
ويروي المعري في رسالة الغفران: أنه لما حصل في بني عدي، وحاول أن يخرج فيهم، قالوا له - وقد تبينوا دعواه: ها هنا ناقة صعبة، فإن قدرت على ركوبها أقررنا أنك مرسل، وأنه مضى إلى تلك الناقة وهي رائحة في الإبل فتحيل، حتى وثب على ظهرها فنفرت ساعة، وتنكرت برهة، ثم سكن نفارها، ومشت مشى الممسحة، وأنه ورد الحلة وهو راكب عليها، فعجبوا له كل العجب، وصار ذلك من دلائله عندهم.
وروى كذلك: أنه كان في ديوان اللاذقية، وأن بعض الكتاب انقلبت على يده سكين الأقلام، فجرحته جرحا مفرطا، فتفل عليها أبو الطيب من ريقه وشد عليها، وقال للمجروح: لا تحلها في يومك، وعد له أياما وليالي، فقبل الكاتب ذلك وبرئ الجرح، فصاروا يعتقدون فيه النبوة، ويقولون: إنه كمحيي الأموات.
وفي الصبح المنبي: أن أبا الطيب قدم اللاذقية بعد نيف وعشرين وثلاثمائة فأكرمه معاذ، ثم قال له: والله إنك لشاب خطير تصلح لمنادمة ملك كبير. فقال : ويحك! أتدري ما تقول؟ أنا نبي مرسل؛ ثم تلا عليه جملة من قرآنه - وهو مائة وأربع عشرة عبرة - ثم أراه معجزة، فمنع المطر عن بقعة وقف فيها، فأصاب المطر ما حولها ولم تصبها قطرة، فبايعه معاذ، وعمت بيعته كل مدينة في الشام، ثم إنه لما شاع ذكره، وخرج بأرض سلمية من عمل حمص قبض عليه ابن علي الهاشمي، وأمر النجار بأن يجعل في رجليه وعنقه قرمتين من خشب الصفصاف، وقد كتب أبو الطيب من حبسه إلى الوالي:
بيدي أيها الأمير الأريب ... ... ... إلخ
تلك بعض الروايات التي ألصقت بأبي الطيب دعوى النبوة، وهي روايات واضحة الكذب واهية الأسانيد؛ فأما أولاها: فدعوى النبوة فيها مقحمة إقحاما تسبقها وتعقبها دعوى العلوية، فكأنما صح في ذهن جمهرة الرواة أنه تنبأ فجعلوا في رواياتهم مصداق ما سمعوه وصح في أذهانهم، وأما الثانية: فهي رواية عن خلق يتحدثون، وهذه مقطوع ببطلانها مقضي بكذبها، فأحاديث الخلق دائما مزوقة الجوانب موشاة الحواشي، بالكذب القصصي الشيق، واما رواية المعري: فهي حديث خرافة أيضا، لا تقرر شيئا، إلا أنه قام بالمعجزات وأن الناس صدقوا به، وذلك شيء بعيد الحدوث، بل مستحيله أيضا؛ فلو أن المتنبي تنبأ فعلا فمن المقطوع به أن أحدا من الناس لم يؤمن بنبوته، وأما رواية معاذ فناطقة بالكذب الصريح والتلفيق البين؛ لأن فيه قرآنا ومعجزات وتصديقا بدعوته، وحديثا مفككا يناقض أوله آخره.
والذي يسهل على التصديق ويدخل في نطاق الواقع من أيسر سبيل أن أبا الطيب لقب بالمتنبي؛ لبعض أبيات من شعره، ولتعاليه وتعاظمه، ففي الديوان قطعة جاء قبلها «وعذله أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل اللاذقي على ما كان قد شاهد من تهوره فقال:
أيا عبد الإله معاذ إني
خفي عنك في الهيجا مقامي»
وليس في هذه القطعة إلا المخاطرة ومصاولة الخطوب في سبيل ما يطمح إليه من المجد والسؤدد، وليس فيها ذكر لدعوى النبوة أو إشارة إلى خارق المعجزات التي حفلت بها الرواية السابقة.
ويقول الثعالبي: إنه بلغ من كبر نفسه وبعد همته أنه دعا قوما من رائشي نبله، على الحداثة في سنه، والغضاضة من عوده، وحين كاد يتم أمر دعوته، تأدى خبره إلى والي البلدة، ورفع إليه ما هم به من الخروج، فأمر بحبسه وتقييده.
Unknown page