Sharh Bab Tawhid al-Rububiyyah min Fatawa Ibn Taymiyyah
شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية
Genres
حقيقة المعدومات
قال رحمه الله تعالى: [وهذه المعدومات الممتنعة ليست شيئًا باتفاق العقلاء مع ثبوتها في العلم، فظهر أنه قد ثبت في العلم ما لا يوجد وما يمتنع أن يوجد؛ إذ العلم واسع، فإذا توسع المتوسع وقال: المعدوم شيء في العلم، أو موجود في العلم، أو ثابت في العلم فهذا صحيح، أما أنه في نفسه شيء فهذا باطل، وبهذا تزول الشبهة الحاصلة في هذه المسألة].
نعود إلى معنى العلم هنا؛ لأن كلام الشيخ في الحقيقة مشكل، لو أُخذ على ظاهره لقلنا: هذا باطل، لكن السياق يدل على قصد الشيخ، فمثلًا قوله: (وهذه المعدومات) إلى آخره، ثم قوله في السطر الثاني صفحة (١٤٦): (ويعلم أحدنا ما لم يكن لو كان كيف سيكون) هذا معناه علم الخيال وليس علم الحقيقة، فنحن لا نعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، أو أن في العبارة خللًا وسقطًا؛ لأن هذا التعبير يقال في حق الله ﷿، الله هو الذي يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، فإما أن يكون في العبارة سقط، أو أن الشيخ قصد العلم التخيلي، ونقارنه بنفس الصفحة التي نحن فيها (١٥٥).
وقوله: (إذا توسع المتوسع وقال: المعدوم شيء في العلم) يعني: في التخيل، فأنت عندما تقول كلمة في تعبيرك عن المعدوم تدل على مفهوم معيّن، هذا المفهوم سماه الشيخ علمًا لا حقيقة، يعني: علم خيالي، أن تتخيل ما معنى كلمة معدوم وما معنى كلمة موجود؛ لأنها عبارات تعبّر عنها، ويؤيد هذا قوله: (أما أنه في نفسه شيء) يعني: المعدوم (فهذا باطل).
وأما كونك تعلم معنى كلمة معدوم ومعنى كلمة موجود فلا شك أنك ما عبّرت عنها إلا لأن في ذهنك عنها خيالًا، وتعلم عنها مفهومًا، فالشيخ يقصد المفهوم لا الحقيقة، والمفاهيم لا حجر لها، فالإنسان إذا تكلم عن الخيالات فهم لها مفاهيم خيالية في ذهنه، فهذه تسمى تخيلات أو تسمى تصورات، لكن ليست حقائق إلا إذا كانت تنطبق على معلوم بالحواس أو معلوم بخبر الله وخبر رسوله ﷺ.
أما الأمثلة التي أوردها بعد ذلك في الآيات فقصده أنه سيعلم أن هناك مآلًا، مثل قوله ﷾: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ [الأنعام:٢٨] نحن نعلم أن الكفار لو ردوا إلى هذه الدنيا لعادوا إلى كفرهم.
إذًا: السياق يدل على معنى كلام الشيخ، لكن لو أخذنا العبارة بدون السياق ففيها إشكال، يعني: كيف نقول: إن أحدًا يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون؟ يعني بمعنى أنه يعلم خبر الله ﷿؟ لكن هذا بالخبر ليس بعلمنا نحن، وهو راجع إلى خبر الله ليس إلى علمنا، فالموضوع فيه لبس؛ ولذلك أنا وضعت كلمة (معنى) (فيعلم معنى ما لم يكن لو كان كيف يكون) من هنا تستقيم العبارة، والاستدلال لها يدل على مقصود الشيخ، فالشيخ كأنه يقول: إنه ما لم يكن إذا تخيلناه علمنا كيف يكون، إما بما يتعلق بخيالاتنا، وإما بما أُخبرنا عنه من أمور المستقبل وأمور الماضي، مما ورد فيه، فإنا نتخيل كيف يكون، لكن لا نعلم الكيفية.
فالمقصود الحقيقة المتخيلة أو الحقيقة المتصورة، فإن كان مما نعبّر نحن عنه في خيالنا فهذا خيال، وإن كان مما نفهمه من كلام الله ﷿ في أمر الغيب فهذا تصور للحقيقة، أما كيفية الحقيقة فلا نعلمها إلا إذا صارت.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والذي عليه أهل السنة والجماعة وعامة عقلاء بني آدم من جميع الأصناف أن المعدوم ليس في نفسه شيء، وأن ثبوته ووجوده وحصوله شيء واحد، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع القديم، قال الله تعالى لزكريا: ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾ [مريم:٩] فأخبر أنه لم يك شيئًا.
وقال تعالى: ﴿أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا﴾ [مريم:٦٧].
وقال تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطور:٣٥].
فأنكر عليهم اعتقاد أن يكونوا خلقوا من غير شيء خلقهم أم خلقوا هم أنفسهم؛ ولهذا قال جبير بن مطعم ﵁: لما سمعت رسول الله ﷺ قرأ هذه السورة أحسست بفؤادي قد انصدع.
ولو كان المعدوم شيئًا لم يتم الإنكار، إذا جاز أن يقال: ما خلقوا إلا من شيء، لكن هو معدوم فيكون الخالق لهم شيئًا معدومًا، وقال تعالى: ﴿فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [مريم:٦٠]، ولو كان المعدوم شيئًا لكان التقدير: لا يظلمون موجودًا ولا معدومًا، والمعدوم لا يتصور أن يظلموه، فإنه ليس لهم.
وأما قوله: ﴿إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ [الحج:١] فهو إخبار عن الزلزلة الواقعة أنها شيء عظيم، ليس إخبارًا عن الزلزلة في هذه الحال؛ ولهذا قال: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ﴾ [الحج:٢]، ولو أريد به الساعة لكان المراد به أنها شيء عظيم في العلم والتقدير.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَ
7 / 6