Sharh al-Wasiyya al-Kubra by Ibn Taymiyyah - Al-Rajhi
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية - الراجحي
Genres
وسطية المؤمنين في المسيح بين شذوذ اليهود وغلو النصارى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومن ذلك: أن المؤمنين توسطوا في المسيح فلم يقولوا: هو الله، ولا ابن الله، ولا ثالث ثلاثة كما تقول النصارى، ولا كفروا به وقالوا على مريم بهتانًا عظيمًا، حتى جعلوه ولد بغية كما زعمت اليهود، بل قالوا: هذا عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، وروح منه].
وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، وهكذا حال الأمة الوسط، وهو حال مؤمني هذه الأمة، فقد توسطوا بين الأمم السابقة في المسيح عيسى بن مريم ﵊، ويسمى المسيح؛ لأنه يمسح الأرض، وأما الدجال فيسمى مسيحًا؛ لأن عينه اليمنى ممسوحة كأنها عنبة طافية، فأهل الحق من هذه الأمة توسطوا في المسيح فلم يقولوا: هو الله، ولا ابن الله، ولا ثالث ثلاثة كما تقوله النصارى، ولا كفروا وقالوا على مريم بهتانًا عظيمًا حتى جعلوه ولد بغي كما زعمت اليهود، بل قالوا الحق: إن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته التي ألقاها إلى مريم؛ لأن الله خلقه بكلمة ألقاها إلى مريم العذراء البتول، وروح منه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذلك المؤمنون وسط في شرائع دين الله، فلم يحرموا على الله أن ينسخ ما شاء، ويمحو ما شاء ويثبت كما قالته اليهود، كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ [البقرة:١٤٢].
وبقوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾ [البقرة:٩١]].
أي: أن المؤمنين لم يحرموا على الله ما حرمه اليهود، حيث حرموا على الله أن ينسخ ما يشاء، ويمحو ما يشاء، كما حكى الله عنهم ذلك بقوله حينما حولت القبلة: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة:١٤٢].
إذ أنه لما حولت القبلة استنكروا، ومعلوم أن النبي ﷺ لما قدم المدينة وجه إلى بيت المقدس للصلاة ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، ثم وجهه الله إلى الكعبة، وقد كان يقلب وجهه في السماء، ويحب أن يوجه إلى الكعبة فأنزل الله: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة:١٤٤].
وقال سبحانه: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾ [البقرة:٩١]، هذه حال اليهود الذين آمنوا بما أنزل الله عليهم فحسب وقالوا: يكفينا ما أنزل إلينا من التوراة، ويكفرون بما وراءه مما سواه، وهو الحق مصدقًا لما معهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا جوزوا لأكابر علمائهم وعبادهم أن يغيروا دين الله فيأمروا بما شاءوا، وينهوا عما شاءوا كما يفعله النصارى، كما ذكر الله ذلك عنهم بقوله: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة:٣١] قال عدي بن حاتم ﵁: (قلت: يا رسول الله! ما عبدوهم! قال: ما عبدوهم، ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم)].
وفيه: بيان لطريق أهل الحق واعتقادهم، حيث لا يجوزون لأكابرهم وعلمائهم وعبادهم ولا لأحد أن يغير دين الله، فيأمر بما يشاء، وينهى عما يشاء كما تفعل النصارى؛ لأن النصارى حرفوا كتاب الله الذي أنزله الله على عيسى، وهو إنجيل واحد، فكثرت الأناجيل حتى بلغت أربعين إنجيلًا، كل هذا من وضع النصارى، فالنصارى جوزوا لأكابرهم وأحبارهم وعلمائهم أن يأمروا بما شاءوا، وينهوا عما شاءوا كما ذكر الله عن ذلك بقوله: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾ [التوبة:٣١]، والأحبار: هم العلماء، والرهبان: هم العباد، ولما نزلت هذه الآية في النصارى حيث اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، وكان قد أسلم عدي بن حاتم ﵁ سمع النبي ﷺ يقرأ هذه الآية: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة:٣١] فقال: يا رسول الله! ما عبدوهم! وفي لفظ: (لسنا نعبدهم، فقال له النبي ﷺ: أليسوا يحرمون ما أحل الله وتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتكم إياهم).
فبين أن عبادتهم: طاعتهم في التحليل والتحريم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [والمؤمنون قالوا: لله الخلق والأمر، فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره، ﴿ِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ [البقرة:٢٨٥]، فأطاعوا كلما أمر الله به، وقالوا: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ [المائدة:١].
وأما المخلوق فليس له أن يبدل أمر الخالق تعالى ولو كان عظيمًا].
فهو سبحانه له الخلق فلا خالق غيره، وله الأمر فلا آمر غيره، فالخلق خلقه والأمر أمره ﷾، والمراد بالأمر: كلامه ﷾ الذي أنزله إلى خلقه من الكتب المبينة للأوامر والنواهي، فالمؤمنون قالوا: لله الخلق والأمر، بخلاف أهل الاشتراط فإنهم لا يجعلون الأمر لله، بل يشرعون لأنفسهم شرائع من عند أنفسهم، يقول المؤلف: فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره، أي: كما لا يخلق إلا الله فلا يأمر إلا الله، بل يقولون: سمعنا وأطعنا، بخلاف أهل الكتاب فإنه أخبر أنهم قالوا: سمعنا وعصينا، أما أهل الإيمان فأطاعوا كلما أمر الله به وامتثلوه وقالوا: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ [المائدة:١].
وأما المخلوق فليس له أن يبدل أمر الخالق تعالى، ولو كان عظيمًا؛ إذ المخلوق مأمور مربوب مقهور مجبر ليس له أن يبدل أمر الله ولو كان عظيمًا.
3 / 7