Sharh Al-Wasatiyyah - Yusuf Al-Ghafis
شرح الواسطية - يوسف الغفيص
Genres
وجه نفي المصنف للقياس
قد يقول قائل: إن المصنف هنا نفى القياس، مع أنه لم يذكر في الكتاب أو السنة نفي القياس.
فيقال كجواب مجمل: إن المصنف إنما نفى القياس المقيد، ولا شك أن هذا النفي على هذا التقييد نفي صحيح.
وأما الجواب المفصل فنقول: إن متأخري أهل السنة يقولون: إن القياس ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: قياس الشمول.
الثاني: قياس التمثيل.
الثالث: قياس الأولى.
فقياس التمثيل: هو ما يعطى فيه الفرع حكم الأصل.
فيقال عندهم: إن قياس التمثيل والشمول مما ينزه الباري عنه، فلا يستعمل في حق الله تعالى قياس الشمول ولا قياس التمثيل.
وقياس الشمول: هو ما يستوي فيه جميع أفراده بمعنى العموم.
وقياس التمثيل: هو ما يعطى حكم الأصل للفرع، وهو المستعمل في الجملة عند الفقهاء.
قالوا: ولكن يستعمل في حق الله قياس الأولى، وهو المذكور في مثل قول الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾ [النحل:٦٠].
وقبل أن نبين مراد أهل السنة بقياس الأولى، ونذكر القاعدة المشهورة التي ذكرها ابن تيمية وجماعة تحت مسألة قياس الأولى المضاف إلى الله، نقول: التحقيق أن استعمال لفظ القياس، مضافًا إلى الله غلط من جهة الأصل؛ لأن هذا اللفظ في اللغة يعني اشتراكًا إضافيًا بين المقيس والمقيس عليه، فإنه فرع عن الإضافات والتخصيصات والتقييدات، أي: فرع عن الجمل؛ ومن هنا يقال: إنه ليس مناسبًا في حق الباري ﷾، فإنه باعتبار أصل اللغة يفيد قدرًا من التشبيه الذي لا يليق بالله ﷾.
فإن قال قائل: قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾ [النحل:٦٠] قيل: نعم، ولكن الله ﷾ لم يذكر لفظ القياس في مثل هذا المورد، والمثل الأعلى هو غير القياس وإن وافق جملةً مما يسميه أهل المنطق والاصطلاح بقياس الأولى، فإننا نسميه المثل الأعلى، ولا يصح أن نسميه من باب القياس، ولا سيما إذا أضيف إلى الله ﷾.
فمحصل هذا: أن لفظ القياس لا يجوز إضافته إلى الله ﷾ ولا تقريره في مورد الأسماء والصفات ابتداءً، لكن إذا تُكلِّم مع المخالفين، فإنه لا بأس هنا أن يُتكلَّم مع أهل الاصطلاح من باب البيان باصطلاحهم، فيقال: إن ما ذكرتموه مسمى بقياس الأولى نثبته على أنه المثل الأعلى.
وأما من فسر (المثل الأعلى) في الآية القرآنية بأنه: القياس الأعلى، فهذا ليس بصحيح، وإنما المثل بمعنى الوصف، وليس بمعنى القياس الأعلى أو القياس الأولى.
ومن هنا لا ينبغي أن يذكر في تقرير معتقد أهل السنة والجماعة أنهم يثبتون في حق الباري قياس الأولى؛ لأن هذا اللفظ فيه غلط من أصل اللغة، وإنما يقال: إن أهل السنة والجماعة يقولون: إن الرب لا يقاس بخلقه.
وأما ما يسميه هؤلاء بقياس الأولى فإن المناسب منه هو ما سماه القرآن بالمثل الأعلى.
ولك أن تقول: إن المثل الأعلى المذكور في القرآن أخص مما يسميه أهل المنطق والاصطلاح بقياس الأولى، فلما لم يكن بينهما تطابق امتنع أن يطلق هذا الاسم الشرعي على هذا الاسم الاصطلاحي، باعتبار أن الاسم الاصطلاحي أوسع في المراد من الاسم الشرعي.
ولكن إذا ذكر القول مع المخالفين، قيل: ما يسمى بقياس الأولى هو من حيث معناه المناسب ثابت، ولكن اللفظ يُتردد فيه.
وهنا قاعدة ينبغي لطالب العلم السلفي والسني -وللمسلم عمومًا- أن يفقهها: وهي أن ما يصح في مورد الرد -سواء كان الرد على مخالف من المسلمين أو كان الرد على أحد من ملل الكفر- لا يستلزم أن يكون صحيحًا في مورد التقرير، فإن ذكر العقيدة إما أن يكون تقريرًا ابتداءً للمسلمين، وإما أن يكون من باب الرد، فما صح في مقام الرد على المخالف لا يلزم بالضرورة أن يكون صحيحًا -أو على أقل تقدير مناسبًا- لمقام التقرير.
وهذا يبين: أن مقام التقرير أضيق من مقام الرد، فما يقع فيه كثيرون من نقل ما استعمله بعض أهل السنة في مقام الرد إلى مقام التقرير ليس مناسبًا.
ولهذا ما ذكرت مسألة القياس -قياس الأولى وما يتعلق بها- إلا في مقام الرد على المخالفين في مسألة القياس، أما في أصل تقرير السلف والمتقدمين فليس لهذا الاسم مورد من جهة التقرير، فينبغي دائمًا أن تبنى العقيدة عند المسلمين على مقام التقرير القرآني أو النبوي، وأما مقام الرد فإنه يتوسع في شأنه عند الأئمة.
5 / 7